هذا الكتاب «معك» في هذه الطبعة الجديدة
شكر
مقدمة
معك
متفرقات
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم «معك» في صور
هوامش
هذا الكتاب «معك» في هذه الطبعة الجديدة
شكر
مقدمة
صفحه نامشخص
معك
متفرقات
تذييل: تأملات حول نص، وحياة، وعالم «معك» في صور
هوامش
معك
معك
تأليف
سوزان طه حسين
ترجمة
بدر الدين عرودكي
صفحه نامشخص
مراجعة
محمود أمين العالم
هذا الكتاب
قبل نيف وثلاثين عاما، قام جاك بيرك، المستعرب وأستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري للعالم العربي في الكوليج دو فرانس، بتخصيص سنتين من درسه الأسبوعي لدراسة طه حسين ودوره في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. كانت سنتان قد مضتا على وفاة طه حسين، وكان - وقد ارتبط بعلاقة صداقة حميمة معه - يرتبط أيضا بالعلاقة نفسها مع زوجة طه حسين «سوزان» ومع ابنه «مؤنس»، الذي كان يعمل في اليونسكو ويعيش في باريس على الدوام. وقد كان يبدي في كل مناسبة إعجابه بهذه العلاقة الفريدة من نوعها التي ربطت طه حسين بزوجته: مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوروبية في ثقافتها وانتمائها ... علاقة استمرت أكثر من خمسين عاما نسجها حب عميق واحترام لا يقل عنه عمقا. وكان أكثر ما يثير إعجابه فيها أن هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حرية العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. ولم يكن ذلك أمرا شديد الندرة، بل فريدا في وقته وفي مجتمعه. فاقترح عليها في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به بعد وفاة طه حسين، أن تكتب تجربتها هذه لتقدم طه حسين تحت أضواء لم يسبق أن سلطت عليه من قبل، ولا يسع أحدا أن يقوم بذلك سواها. وأكاد أظن أنه أوحى لها بأنهما ما داما كانا يقومان برحلتهما السنوية التي تقودهما في بداية صيف كل سنة من شواطئ الإسكندرية إلى شواطئ أوروبا الإيطالية أو الفرنسية، فلتقم على صفحات كتاب بمثل هذه الرحلة، تقول خلالها طه الإنسان والأب والزوج وحياته وعلاقتها معه وعلاقته معها، مستعرضة معاركه وهمومه وأحلامه وأهدافه كاتبا ومناضلا سياسيا وصحفيا ومربيا وجامعيا وأكاديميا ووزيرا ... وأخبرها أنها إن كتبت هذا الكتاب فسيقترح عليها أن يقوم بترجمته كاتب سوري لكي يؤكد على البعد العربي لمشروع طه حسين الثقافي، وكنت من اقترح بيرك اختياره لهذه المهمة، وأن يقوم بمراجعة الترجمة كاتب مصري تقدمي لكي يؤكد على البعد المستقبلي لهذا المشروع، وكان اختياره قد وقع على الصديق الأستاذ محمود أمين العالم.
ولقد جاء الكتاب فريدا من نوعه شكلا ومضمونا كما كان يقال في لغة النقد الأدبي الكلاسيكية! فلا هو رواية على امتلاكه كثيرا من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية، ولا هو رسالة حب حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو، أخيرا، يوميات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب؛ تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محددة ... وأجرؤ على القول إن فيه من كل شكل من هذه الأشكال عناصر صنعت فرادته فعلا وجماله فعلا وخصوصيته فعلا.
كان هم السيدة سوزان طه حسين أن تتم ترجمة الكتاب وأن ينشر بأسرع وقت ممكن؛ لتتمكن من رؤيته يقرأ في مصر وفيما وراء مصر في العالم العربي. ولم تكن تلقي بالا إلى نشره بالفرنسية؛ فقد قررت أن القارئ الفرنسي لن يحفل بمثل هذا الكتاب، وإنما القارئ العربي هو الأولى به. ومن ثم فقد وضعت ذات يوم بين يدي نص المخطوط مضروبا على الآلة الكاتبة ومصححا بخط يدها ...
ذات يوم ...
فقد ضرب لي مؤنس طه حسين موعدا بعد ظهيرة يوم من الأسبوع، لا أذكر تاريخه، للقاء والدته في بيته بباريس. كنت أهاب اللقاء. ها أنا ذا وقد عشت سنين إطلالتي على الحياة غارقا في كتب العقاد ومسرحيات توفيق الحكيم وروايات وكتب طه حسين؛ هذا الثلاثي الكبير الذي ملأ الحياة الأدبية والفكرية في مصر، بل وفي العالم العربي على امتداد عشرات السنين في القرن الماضي ، أقول ها أنا ذا وقد راسلت العقاد وراسلني وحفظت رسالته إلي عن ظهر قلب ولا أزال، دون أن ألتقي به؛ ها أنا وقد التقيت توفيق الحكيم في باريس بفضل مبادرة المفكر والأستاذ والصديق أنور عبد الملك وفي داره الباريسية، وقضيت بصحبته ثلاث ساعات لا تنسى أمطرته خلالها بكل ما تراكم في رأسي من تساؤلات وملاحظات حول ما كتبه من روايات ومسرحيات وما أبداه من آراء؛ ها أنا ذا أجد نفسي في حضرة المرأة التي أحبها طه حسين، والمرأة التي رافقت طه حسين في همومه وهواجسه ومعاركه وأفراحه ورضاه وغضبه، حتى اللحظة الأخيرة ... ها أنا ذا في حضرة هذه السيدة التي لم يكتب لي أن ألتقي زوجها - بل سمعته ذات يوم عن بعد وهو يلقي محاضرة على مدرج جامعة دمشق، الذي كان حافلا عن بكرة أبيه بكل ما كانت دمشق وقتئذ تضمه من رواد في الأدب وفي التاريخ وفي الإسلاميات وفي النقد - تستقبلني بابتسامة مبتهجة. وأعترف ساذجا بتأثري من هذا اللقاء الذي يتاح لي مع أقرب الناس إلى عميد الأدب العربي الذي كان يبدو لي مقيما في سماء عسيرة المنال. لكن مؤنس ما لبث أن أعلمني أن زوجته هي أيضا حفيدة أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي حفظنا - تلامذة وطلبة - أشعاره عن ظهر قلب، نحن السوريين، والدمشقيون منهم خصوصا، عندما انبرى في قصيدته الرائعة يغني دمشق إثر قصف الفرنسيين لها عقابا لأهلها على مطالبتهم بالاستقلال. أعترف أنني كنت كالطفل الصغير، مبهورا أمام هذه الأسرة الصغيرة التي رحل عنها من كان سببها وسبب وجودي في دارها الباريسية، تتزاحم في رأسي الذكريات والكتب والمقالات التي كنت أتابعها منذ أن وعيت على القراءة ووقعت على اسمه بين الأسماء التي أغنت قرننا الماضي ومنحته من المعاني ما نفتقد الكثير منها هذه الأيام.
طمأنت السيدة سوزان القلقة من تقدمها في العمر؛ تخشى أن ترحل عن هذه الدنيا قبل أن ترى هذا الكتاب منشورا بالعربية، التي لم تتقنها على معايشتها عميد أدبها نصف قرن كامل. أصرت أن ينشره آنئذ الناشر الذي نشر كتب زوجها، لا الذي
1
صفحه نامشخص
كان يود لو فعل، وأراد بهذه المناسبة أن أتحدث باسمه إليها أسألها الموافقة.
وعدتها أن أنهي ترجمة الكتاب في أشهر معدودات. ولقد فعلت. وقام الأستاذ محمود أمين العالم بمراجعة الترجمة، وأشرف على متابعة النشر عن كثب الدكتور محمد حسن الزيات، زوج ابنتها ووزير الخارجية المصرية في ذلك الوقت، وصدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار المعارف في القاهرة، وأرسلت لي السيدة سوزان طه حسين أول نسخة منه سعيدة مبتهجة برؤيتها الكتاب منشورا.
فوجئت إذ وصلني الكتاب أن الغلاف لا يحمل اسم المترجم ولا المراجع، ولا كذلك صفحة العنوان الأولى. لكن الصفحة التالية كانت تحمل في أسفلها وببنط شديد الصغر اسمينا. لم ير الناشر وقتها ضرورة وضعهما، كما جرى العرف، على صفحة الغلاف الخارجي ولا على صفحة الغلاف الداخلي. وحين نشرت الفصول الأولى من الكتاب مقتطفات في العدد الأول من مجلة أكتوبر، تم أيضا تغييب اسمي المترجم والمراجع معا، حتى إن مجلة عربية أسبوعية كانت تصدر في باريس نوهت بذلك تحت عنوان طريف: «الوحدة السورية المصرية تعود من خلال تغييب اسم المترجم والمراجع في كتاب «معك» لسوزان طه حسين» أو شيء من هذا القبيل.
يقال: رب ضارة نافعة! والحق أن محاولة التغييب هذه دفعت القراء للبحث عن الاسمين. وما أكثر الذين كسبت صداقتهم في مصر وودهم بفضل هذه الترجمة، التي لم تجد - كما كان جاك بيرك يتمنى ومعه سوزان طه حسين - طريقها إلى قراء العربية في أقطار الوطن العربي في مشرقه ومغربه.
تلك قصة هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه مجددا بفضل رغبة العديد من الأصدقاء، وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي يتابع بجهد وأناة وبصيرة وسعة أفق ما كان طه حسين قد دعا إليه وبدأه: الانفتاح على العالم أجمع من خلال التواصل الثقافي والحضاري عبر الترجمات والتبادلات والحوارات. لا أريد أن أعلق عليه ولا على ما جاء فيه. للقارئ أن يعيد التعايش مع مرحلة من تاريخ مصر عبر حياة واحد من كبار أبنائها عاشها مفجرا كل لحظة من لحظاتها إبداعا ونتاجا ومشاركة حثيثة في هموم مجتمعها وهواجسه وتطلعاته وآماله. وللقارئ الشاب بوجه خاص أن ينعم النظر فيما سيقرأ: قصة وسيرة مثل في فن الحياة، يسعه إن شاء أن يبحث - ولو أعياه البحث - عن مثيل له في أيامنا هذه.
باريس-القاهرة، 18 نوفمبر 2008
د. بدر الدين عرودكي
سوزان طه حسين •••
معك
من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة»
صفحه نامشخص
سوزان وطه حسين (1915-1973) •••
تقديم
أمينة طه حسين (أوكادا) •••
الهوامش والتذييل
زينا ويجان وبرونو رونفار •••
ترجمة
بدر الدين عرودكي
«معك» في هذه الطبعة الجديدة
عندما أعلمتني مؤسسة هنداوي بالقاهرة عزمها على نشر كتاب سوزان طه حسين «معك» الذي سبق أن نشرته عام 1977 دار المعارف، ثم المركز القومي للترجمة عام 2008؛ كانت هناك طبعة فرنسية للكتاب قد صدرت للمرة الأولى بباريس في شهر أكتوبر 2011 (أي بعد سبعة وثلاثين عاما على صدور الطبعة العربية الأولى) سهر على إعدادها وإغنائها بهوامش تعريفية للقارئ الفرنسي، بالإضافة إلى ملحق واف عن مؤلفة الكتاب السيدة زينا ويجان والسيد برونو رونفار، ومقدمة كتبتها حفيدة طه حسين؛ السيدة أمينة طه حسين (أوكادا).
عندما طلب إلي مؤنس طه حسين - بناء على اقتراح من جاك بيرك - ترجمة مخطوط الكتاب إلى العربية، لم تكن سوزان طه حسين تهتم بنشره بالفرنسية. كانت تريد أن تقدم كتابها لقراء طه حسين العرب قبل كل شيء، ولم تكن تتخيل أن القارئ الفرنسي يمكن أن يهتم بما ستقوله عن حياة الرجل الاستثنائي الذي أحبته وسكنت إليه ودفنت في أرض مولده.
صفحه نامشخص
وكنت قد اطلعت على هذه الطبعة فور صدورها ورأيت في الهوامش التي أضيفت إليها، والتي تقدم مختلف الشخصيات العلمية والسياسية سواء في مصر أو في البلدان العربية والغربية الذين التقاهم طه حسين طوال حياته، أداة لا غنى عنها، لا للقارئ الفرنسي فحسب - وكان هو المستهدف بها - بل وللقارئ العربي أيضا الذي لا يقل حاجة في نظري عن حاجة القارئ الفرنسي؛ للإحاطة بسير حياة نخبة الشخصيات العلمية والأدبية والسياسية المصرية والأجنبية التي عرفها طه حسين وعرفته وقدرته حق قدره؛ ولهذا اقترحت على مؤسسة هنداوي أن تشمل الطبعة الجديدة للكتاب وهي تستعيد النص العربي الذي قمت بترجمته وقام الصديق المرحوم محمود أمين العالم بمراجعته، ما اشتملت عليه الطبعة الفرنسية من نصوص المقدمة والهوامش والتذييل.
وقد رحب مؤلفا هذه النصوص، السيدة زينا ويجان وبرونو رونفار، بترجمتها إلى العربية مثلما رحب معهما حفيدات وأحفاد طه حسين بأن تكون الطبعة العربية الجديدة صنو الطبعة الفرنسية؛ احتفالا بالنص الأصلي للكتاب الذي استقبله القراء العرب أجمل استقبال منذ صدور طبعته الأولى عام 1977. ولا بد لي هنا من أن أشكر الجميع على تشجيعهم لي ومد يد المساعدة لتحقيق هذه الترجمة. والشكر موصول إلى السيدة شهرت العالم، ابنة الصديق المرحوم محمود أمين العالم، على حماسها وتشجيعها، وإلى الصديق سيد محمود الذي مد لي يد العون في أكثر من مناسبة كي يكتمل إعداد الكتاب في طبعته الجديدة على أحسن وجه.
باريس، 15 أغسطس 2014
د. بدر الدين عرودكي
شكر
نود قبل كل شيء التعبير عن امتناننا للأب رنيه فانسان غرانلوني، العامل في مكتبة معهد الدومينيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة، الذي تفضل فأعطانا صورة عن المخطوط المطبوع على الآلة الكاتبة من كتاب «معك» والمصحح بيد سوزان طه حسين.
كان لنا، بعد ذلك، شرف اللقاء عدة مرات مع حفيدات سوزان طه حسين: السيدة أمينة طه حسين (أوكادا)، والسيدة سوسن الزيات، وزوجها؛ الذين استعادوا من أجلنا ذكريات ثمينة، والذين شجعوا على الدوام مشروع عملنا. لا، بل إن السيدة أمينة طه حسين (أوكادا) ساعدتنا، فضلا عن ذلك، في وضع النص الفرنسي اعتمادا على نسختها المضروبة على الآلة الكاتبة الخاصة بجدتها الأصلح للقراءة والمتضمنة عددا من الهوامش المخطوطة التي تنطوي على تنويعات عدة في النص. وعهدت إلينا، فضلا عن ذلك، بالمخطوط المضروب على الآلة الكاتبة للجزأين الأولين من مذكرات أبيها، مؤنس-كلود طه حسين، اللذين كانا في نظرنا مصدرا هاما لا يقدر بثمن. وكان مؤنس-كلود، من ناحية أخرى، خلال لقاءاتنا قبل خمسة عشر عاما، قد تمنى وشجع على نشر كتاب «معك» بالفرنسية. وأخيرا، مها عون، الحفيدة الصغرى لسوزان وطه حسين، التي برهنت على كرم وثقة في تقاسم الوثائق، وهي تشرف اليوم على مشروع جميل من أجل تعريف الأجيال الجديدة على أفضل وجه بفكر ومبدعات طه حسين.
إننا نشكرهم على استقبالهم، وثقتهم، ودعمهم، أحر الشكر.
نشكر كذلك كل الأشخاص الذين تلقوا أو حملوا لنا شهاداتهم الشفهية أو المكتوبة أو أرسلوا لنا الوثائق وشجعونا بطريقة أو بأخرى على تحقيق مشروعنا؛ وخصوصا: السيدة مرغريت بوردي-كييري، السيدة إيرين فانوجليو، السيدة جاك حسون، السيدة عزة هيكل عامودي، السيدة الأستاذة كاترين مايور-جاوين، السيدة الأستاذة سامية ي. سبنسر والراهبة باتريك، ف م م، السيد برتو فارهي، السيد الأستاذ أوليفييه فور، السيد الأستاذ مجدي فرنسيس، السيد جاك كيرييل، السيد الأستاذ دانييل لانسون، السيد الأستاذ والسيدة جان إيف تادييه، السيد ميشيل تورنييه، السيد الأستاذ لوك ويللي- دوشوفيل، والسيد الأستاذ إيف بوليكان من الأكاديمية الفرنسية.
وأخيرا، ما كان لأبحاثنا الخاصة بأسرة وشباب سوزان طه حسين البورجونيين أن تؤتي أكلها لولا المساعدة القيمة للسيد جان كلود سوسنوفسكي، مدير مكتبة سيمور آن أوكسوا البلدية. نشكره بحرارة كما نشكر السيدة هيلين مارتان، موظفة الأرشيف، والسيدة فيفيين ميجيه، مديرة الأرشيف الإقليمي بإقليم هيرو، والسيد مدير ثانوية فينيلون؛ الذين أتاحوا لنا توضيح جزء من السيرة الدراسية لسوزان بريسو، بمدينة مونبلييه ثم بمدينة باريس.
صفحه نامشخص
زينا ويجان
برونو رونفار
مقدمة
أمينة طه حسين (أوكادا)
يوم 26 يوليو 1989 توفيت بالقاهرة سوزان طه حسين عن عمر ناهز أربعة وتسعين عاما، بعد حياة طويلة غنية - قضت منها خمسة وسبعين عاما في مصر. يذكر أبي، مؤنس كلود طه حسين، بكلمات مؤثرة في مذكراته، موت أمه:
لم تكن أمي تولي أية أهمية للجسد، «هذه الخرقة»، وكان لا يهمها أن يكون قبرها في هذا المكان أو ذاك من الأرض.
كنت مع ذلك قد قمت بزيارة رهبان كنيسة سان جوزيف، الحرم الكاثوليكي الرئيس بالقاهرة، واتفقنا أن ترقد أمي فيما كان يسمى المقبرة اللاتينية بالقاهرة القديمة. رافقناها إلى هناك ذات صباح حار في شهر يوليو (...) ترأس كاهن لم أكن أعرفه القداس - قداسا شديد البساطة - كانت ستحبه كما أظن. وخلال هذا الفرض الديني الوجيز، سيطر علي التأثر على نحو مفاجئ، كما لو أنه موجة تغمرني. وفي لمح البرق، استعدت ثانية حياة سوزان: كنا ندفن بالقاهرة، تحت وطأة حرارة الصيف المصري المرهقة، فرنسية ولدت قبل خمسة وتسعين عاما بمنطقة الكوت دور، وعاشت كل حياتها تقريبا في بلد أجنبي، عربي ومسلم، وكانت الرفيقة الرائعة خلال أكثر من ستين عاما لمصري أعمى صار أكبر كاتب عربي في القرن العشرين، اشتهر في بلده بسبب كل ما حققه في مجال التعليم والعلوم والثقافة، وأنشأ الجامعات والمعاهد العلمية عبر العالم، وكرم في الشرق مثلما كرم في الغرب. كانت على الدوام إلى جانبه، راعية، مخلصة، محبة. كانت قد واسته وشجعته حين كانت الأمور تسوء (ويعلم الله كم كانت تسوء!) وشاركته بكل تواضع نجاحاته وانتصاراته. كانت قد ساعدته على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق، وفي كل مكان. كانت حاضرة دوما حين كان بحاجة إليها، وقد قال هو نفسه إنه لولا زوجته لما كان شيئا.
1
كانت هذه المرأة التي عرفت مصيرا غير عادي، والتي كرست وجودها كله لزوجها، قد شرعت، بعد زمن قصير من رحيل هذا الأخير عام 1973، في تحرير كتاب من أجل ذكراه. يروي مؤنس طه حسين في «ذكرياتي» مولد هذا الكتاب الذي بدئ به في الوقت الذي كانت مؤلفته قد بلغت من العمر ثمانين عاما:
في العمر الذي أبلغه اليوم إذن؛ أي في التاسعة والسبعين عاما، إنما قررت أمي أن تكتب ذكرياتها؛ استجابة منها إلى إلحاح أصدقائها والمعجبين بأبي. نتج عن ذلك مؤلف كبير يقارب الثلاثمائة صفحة، كتبته بالفرنسية بالطبع وعنونته «معك». حتى ذلك الحين لم يكن ثمة ما هو خارق؛ فقد سبق لكثيرات من أرامل الرجال المشهورين أن فعلن مثلما فعلت سوزان.
صفحه نامشخص
لكن ما صار مثيرا للاهتمام هو أن أمي ، التي كما رأيناها لم تكن تمتلك قط ناصية اللغة العربية، أرادت أن ينشر كتابها باللغة العربية وبها وحدها؛ لأنها - كما شرحت - لم تكتبه إلا من أجل قراء وقارئات كتب زوجها في العالم العربي كله. فإليهم وإليهن إنما كانت تريد أن تتوجه وأن تكشف ربما عن جوانب جديدة ومجهولة من حياة هذا الرجل العظيم.
قضت سوزان سنتين كي تنهي هذا العمل، وهو عمل هائل في النهاية حين يكون موضوعه استعادة أكثر من خمسين سنة من حياة مشتركة، وهو عمل صعب بما أنه يعتمد بصورة شبه كلية على الذاكرة لا على الأرشيف والوثائق غير الموجودة أصلا. لقد أعجبني كثيرا أن تتمكن أمي في الثمانين من عمرها من إعادة بناء كل هذا الماضي الغزير في أدق تفاصيله. أحاول أن أفعل مثلها اليوم وأعرف من ثم، من خلال التجربة، كم يمكن لهذا أن يكون أحيانا أمرا عسيرا، مملا، بل ومثبطا. فسوزان التي كان نظرها رديئا بسبب إصابة عينيها بتكثف في العدسة، رغم العملية الجراحية الناجحة، والتي كانت كتابتها صعبة وشبه فوضوية؛ ملأت بصبر وبانتظام خلال أشهر وأشهر مئات الصفحات في وحدة تامة بالرامتان؛
2
حيث كانت تقيم منذ ذلك الوقت وحدها؛ إذ كانت المرأة التي تساعدها على إدارة هذا المنزل الواسع تنصرف نحو الساعة الخامسة بعد الظهر.
وعلى العكس مني، كانت سوزان تكتب باستمرار مع تعديلات، وتغييرات، وحذوفات، وإضافات، وتراجعات. لم يكن المخطوط الذي وضعته بين يدي الضاربتين على الآلة الكاتبة سهلا على التفكيك. ورغم أنها بلغت عمرا متقدما، وكانت قد ولدت بمصر واحتفظت منها بذكريات رائعة، فقد عكفت هذه الإنسانة على العمل بشجاعة وقامت بعمل ممتاز. كنت أرى النص وهو يطبع على الآلة الكاتبة بالتدريج. وكانت أمي عند تواجدها بباريس تراه أيضا، وهو ما لم يكن يتوقف عن أن يثير ضروب الفزع كلها لدي؛ إذ إنها كانت تزعم وهي تعيد قراءته أنها لا تزال تضيف عليه التصحيحات، والتغييرات، والتدقيقات، وما لا أدريه.
وأخيرا، تمت طباعة الصفحات الثلاثمائة على الآلة الكاتبة وصورتها في نسخ عدة .
بقيت المسألة الجوهرية: ترجمتها إلى اللغة العربية. كان علي أن أعثر على مترجم ... ومترجم جيد! توجهت نحو صديقي جاك بيرك، المستعرب الفرنسي الكبير، والأستاذ في الكوليج دو فرانس والمترجم الممتاز للقرآن. كان قد عرف أبي وأحبه كثيرا، بل وخصص له كتابا جميلا، «فيما وراء النيل».
3
كان إنسانا غير عادي على كل المستويات، ولن أجعل من نفسي هزأة إذ أقوم بالثناء عليه (...) عثر لي بسرعة على المترجم الذي كنت أبحث عنه (...)، وبعد عدة أشهر كانت الترجمة قد أنجزت وكانت ... ممتازة.
4
صفحه نامشخص
استراحت سوزان؛ فقد كانت تخشى، نظرا لعمرها، ألا ترى الكتاب منشورا. ولقد نشر بالقاهرة من قبل دار المعارف؛ أي الدار ذاتها التي نشرت معظم مؤلفات أبي. لاقى عنوان الكتاب نفسه الإعجاب. كل الذين وكل اللواتي في العالم العربي الواسع يحبون ويحببن الأدب، وبصورة أعم الثقافة، استقبلوا مذكرات أمي استقبالا ممتازا، ورأيت أمي تعبر عن رضاها للمرة الأولى في حياتها؛ إذ إنها في الحقيقة كانت كما رأينا صعبة، ونادرا ما كانت ترضى عن الآخرين، بل وأشد ندرة أن ترضى عن نفسها. كانت ها هنا قد حققت إنجازا حقيقيا. كان الناس جميعا يقولون ذلك لها ويهنئونها عليه. وعلى غرار أبي، لم يكن لديها أي غرور. كانت تتلقى التكريم والتهاني بابتسامة متواضعة، وذات مساء، أمكن لهذه المرأة التي كانت في بعض جوانب شخصيتها شرسة وتثير سخطي على نحو خاص، أن تمس أعماق القلب مني. إذ قالت لي:
أنت تفهم يا صغيري (كان لي من العمر عندئذ خمسة وخمسون عاما! لا بل كانت تناديني أحيانا «يا صبيي الصغير ...»)، أنت تفهم أنني كنت مدينة بهذا إلى أبيك.
غشيت عيناها وأضافت: «أنا مدينة له بأكثر من ذلك بكثير أيضا!»
5
وفي مكان آخر، يعود أبي مرتين إلى هذه القصة المؤثرة التي كتبت عند مغرب حياة:
حين أعطتني أمي بعد عدة سنوات كي أقرأ المذكرات التي عكفت تحت إلحاح عدد من أصدقائها على تحريرها، تأثرت من هذه القراءة التي كانت فيها امرأة في الثمانين من عمرها تصرخ بطريقة شجية الحب الخارق الذي عاشته خلال ما يقارب ستين عاما للزوج الذي أتت على فقدانه.
6
ثم بعد ذلك:
كانت حين تستعيد الماضي، تصير مثيرة للحماس: كانت ذاكرتها مذهلة، وبمجرد أن تتكلم عن أبي، تصير مثيرة للشجون (...) وكتاب ذكرياتها «معك» هو البرهان المؤثر على ذلك.
7
صفحه نامشخص
كان أبي وأخته، أمينة طه حسين-الزيات، قد تمنيا كلاهما أن يمكن لهذه الشهادة المؤثرة - التي، وهي تتجاوز كونها مجرد تاريخ عائلي، ترسم أيضا صورة دقيقة وحميمية لمصر فيما بين الحربين وحتى سنوات 1970 - أن تنشر بالفرنسية؛ اللغة التي حررتها سوزان بها. وهذا ما تحقق اليوم بفضل المبادرة الطيبة التي قام بها كل من السيدة زينا ويجان والسيد برونو رونفار اللذين عكفا بتصميم ودقة لا متناهية على قصة سوزان، وكذلك بفضل السيد رنو إسكاند الذي تفضل فنشر الكتاب لدى منشورات لوسير، بعد أن اغتنى بتعقيب مثير للمشاعر وبمجموعة كاملة من الهوامش الضرورية من أجل فهمه فهما صحيحا؛ أود أن يجدا ها هنا التعبير عن الامتنان الصادق والعميق من أحفاد سوزان وأبنائهم. ولكن، فيما وراء هذه الشهادة القيمة على مجتمع وحقبة مزدهرين ينتميان اليوم إلى الماضي، وفيما وراء التكريم المشروع لطه حسين الذي لا يزال مبدعه الواسع الموسوم بالإنسانية والعالمي على نحو شديد الذكاء - والذي لم يترجم للأسف بما فيه الكفاية إلى الفرنسية! - يقدم برهانا هائلا ومثلا على ما يمكن أن يكونه إسلام التنوير، كان أبي يتمنى بحماسة أن يكون التكريم كذلك موجها إلى ذكرى تلك التي تكشفت طوال حياتها امرأة وزوجة استثنائية؛ والتي يرسم بكلمات قليلة عند مغرب حياتها هذه الصورة المؤثرة: «أمي (...) على انحناء ظهرها بفعل العمر، قوية، عنيدة، وقورة، كما لو زادها نبلا أكثر من نصف قرن من الحب والإخلاص التام للرجل الذي عاشت معه حياتها.»
8
أمينة طه حسين (أوكادا)
سوزان طه حسين •••
معك
من فرنسا إلى مصر «قصة حب خارقة»
سوزان وطه حسين (1915-1973) •••
تقديم
أمينة طه حسين (أوكادا) •••
الهوامش والتذييل
صفحه نامشخص
زينا ويجان وبرونو رونفار •••
ترجمة
بدر الدين عرودكي
وأسير العمي في طريق لم يعرفوها ...
في مسالك لم يدروها أمشيهم ...
أجعل الظلمة أمامهم نورا.
أشعيا 42: 16
ألق نظارتيك ما أنت أعمى
نزار قباني
9
صفحه نامشخص
معك
إننا لا نحيا لنكون سعداء.
عندما قلت لي هذه الكلمات في عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدرك الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدا وإنما لأداء ما طلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحت أفكر: «لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء.» لكني كنت على خطأ؛ فلقد منحت الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تماما أنه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنك أساسا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يحظر علي الأمل بأن تكون هذه السعادة قد منحت لك الآن؟
موينا-ترانتان
1
اليوم، التاسع من يوليو 1975؛ أي بعد مضي ثمانية وخمسين عاما على اليوم الذي وحدنا فيه حياتينا، وبعد مضي ما يقرب من العامين على رحيلك عني، سأحاول أن أتحدث عنك ما دام قد طلب إلي ذلك. أولئك الذين يعرفون حياتك العامة، ويعرفون عن حياتك عالما وكاتبا أكثر مما أعرف عنها أنا نفسي، كتبوا وسيكتبون مؤلفات جميلة وعميقة عنك. أما أنا، فإنني أريد بكل بساطة أن أخلد للذكرى مستعيدة ذلك الحنان الهائل الذي لا يعوض؛ ولا شك أنك تدرك ذلك، أنت الذي كتبت لي ذات يوم: «لسنا معتادين على أن يتألم الواحد منا بمعزل عن الآخر.» لقد قضينا في قلب هذا الوادي، في قلب «الدولوميت
Dolomites »، أسابيع طويلة من الصيف خلال ثمانية أعوام؛ وقبل عامين، كنا نقضي فيه أيضا أسابيع أخرى. لقد أردت العودة إليه، لكنك لم تكن قادرا على المشي، وما كنت لأتركك وحدك قط. كان سكرتيرك يقرأ لك القرآن والتوراة، كتابان كانا دوما ضمن حقائبنا مع كتب أخرى كنا نحملها، نصوص قديمة أو مؤلفات حديثة. وكنت أترجم لك مقالات من صحيفة «كورييه دو لاسيرا
Corriere della Sera »؛ لأن الصحف الفرنسية لم تكن تصل إلى هذه البلدة الصغيرة، ولأنك لم تكن تعرف اللغة الإيطالية. أما في المساء، فقد كنا نتشبث بجهاز الترانزستور لنستمع إلى الأخبار من إذاعة مونت كارلو، أو إلى إذاعة فرنسا المحلية. وكنا نبحث بتلهف عن حفلة موسيقية جميلة؛ وما كان أشد فرحنا حين نستطيع التقاط مهرجان ستراسبورج أو نستمع إلى إحدى المسرحيات. ونادرا ما كنا نوفق إلى برنامج إذاعي من مصر.
وكانت تلك الأيام - الأخيرة تقريبا - شبيهة بأيام رحلاتنا الإيطالية الأخرى في تلك اللحظة من حياتك. لقد قمت بها جميعا مرة أخرى في العام الماضي. ففي يوم 21 يونيو 1974، كنت أصل «جاردون
Gardone »
صفحه نامشخص
2
بسيارة أجرة وأكتب:
عندما أستشعرك بالقرب مني فأنت على يساري، لكنك مع ذلك كنت دوما على يميني وكنت أتناول ذراعك اليسرى. ألأنني الآن أجلس مكانك في السيارة؟ ولكن ماذا عن الأمكنة الأخرى؟ أم أن ذلك مجرد وهم؟ إنني أدرك جيدا أني لم أعد أجلس بالقرب منك.
وصلت «جنوة
Gêne » صباح أول أمس وحيدة وحدة مطلقة. كان الجو جميلا. وكنت معك أنظر إلى هذا الجسر الرائع شديد الألفة، والذي سيكون مكان آخر وقفة لك على أرض أوروبا. ورحت تقول لي: «فيم رحيلنا؟! ألا يسعنا البقاء أيضا فترة أطول قليلا؟»
الأحد 23 يونيو
سأحاول بعد نصف ساعة أن أستمع إلى إذاعة مونت كارلو. فقد استطعت التقاطها منذ أول أمس، فألقى بي ذلك إلى قربك تماما! ثم، لا أدري أي جهاز كان يبث موسيقى بالغة الجمال لفرانز ليست، «سمفونية فاوست»، وأخيرا، وبما أن اليوم كان يوم جمعة، وكنت قد طلبت إلي أن ألتقط إذاعة لوزان، فقد بحثت عنها - ووجدتها - وكانت تبث «سمفونية براج».
أردت هذه الرحلة لأمشي معك، ولأعيش معك؛ لأعيش معك مرة أخرى الأسابيع الأخيرة. قالت لي ماري:
3 «ستواجهين محنة كبرى.» ربما. ولكن ما أهمية ذلك؟!
الإثنين 24 يونيو
صفحه نامشخص
كان جو السفينة فيكتوريا مختلفا جدا عن الجو الودي الذي كنت أجده في سفننا. وكنت أقول لنفسي وأنا أدخل الغرفة الصغيرة ذات السرير الواحد: ما مضى قد مضى. كان الاستقبال مزعجا. وحين تذكرت آخر مغادرة لنا للإسكندرية، اجتاحتني نوبة رهيبة من الضيق ، ورحت أنتحب بشدة بين ذراعي محمد الزيات؛
4
كان يبدو لي أنهم أخذوا ينتزعونك مني مرة أخرى. كانت وحدتي كلية، غير أن ذلك لم يكن هو ما يؤلمني وإنما هي القطيعة، وإنما هو هذا العالم الجديد الذي لم يعد لي مكان فيه.
ها هو ذا عيد القديس يوحنا، عيد فلورنسا وعيد بول السادس، الذي يسمى يوحنا المعمدان. إنني أذكر بأي اهتمام كنت تتابع فيه انتخابه - فقد كان أمس يوم الاحتفال السنوي الحادي عشر - وأذكر أنك كنت سعيدا لاختيار الكاردينال «مونتيني
Montini » الذي كنت تعرفه، ولقد احتفظت بالمودة لذلك الغلام من «سافواي
Savoy » الذي حمل إلينا ذلك الخبر.
يقلقني عجزي عن إعادتك إلى قربي ويقنطني. أعرف أنك تحيا، ولكن أين؟ وكيف؟ وأعرف أن بوسعي أن أخاطبك، وأن بوسعك أن تجيبني، لكنك تفلت مني، وتفلت من نفسك، آه! ما أبعدك يا صديقي! لا أكاد أستطيع التغلب على هذا الضيق الذي يثقل صدري منذ هذا الصباح. ولو أنني تركت نفسي لهواها لبكيت دون توقف. كنت في الحديقة بصحبة كتاب. ولم يغير ذلك من الأمر شيئا. ولقد ألقيت نظرة مكتئبة على الممشى الصغير الذي كنت قد هيأته لك لتجلس فيه عصر ذات يوم؛ كان ضيقا، وارف الظل مزهرا، وكنت أفكر أننا سنقضي فيه لحظات هادئة لكنك لم ترغب في النزول إليه.
25 يونيو
دوما هذه الرتابة. فالبحيرة المثقلة ساكنة الحركة. وكنت تأسف لأن خرير مياهها لا يصل سمعك في هذا الفندق. وأفكر في هذا الظلم الذي حرمك من فندق «السافواي
Savoy » ومن «كول
صفحه نامشخص
Colle »؛
5
لأن المال قوة عاتية!
28 يونيو
ثمانية أشهر مضت على رحيلك. السماء سوداء والمطر يهطل. والحق أن «جاردونيه» تشاركني حزني بصورة خارقة. على أن مديرة الفندق وضعت إلى جانب صورتك وردة رقيقة وشاحبة.
سأعيد القيام برحلاتنا كلها. سأتوقف حيث توقفنا. في غمرة أيام الإجازات أعتزل الناس ولا ألفظ إلا ما هو ضروري من الكلمات. لكم أتمنى أن أكون مجرد عابرة، بالمعنى المطلق لهذه الكلمة! ولو أنني استطعت ذلك لجعلت من نفسي خيالا لا يرى. وفي الصمت، أتجه نحوك بكل قواي. كل ما بقي مني يأتي إليك. وإنما لكي آتي إليك أكتب وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبي. •••
لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقا ذلك السبت 27 أكتوبر.
6
ومع ذلك، ففي نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق. كان يريد أن يتكلم، لكنه كان يتلفظ الكلمات بعسر شديد وهو يلهث. ناديت طبيبه والقلق يسيطر علي. لكني لم أعثر عليه، فركبني الغم. وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد إلى حالته الطبيعية. وفي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التي تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويورك في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، وكان الطبيب هو الذي قرأها له، مهنئا إياه بحرارة؛ غير أنه لم يجب إلا بإشارة من يده كنت أعرفها جيدا كأنها تقول: «وأية أهمية لذلك؟!» وكانت تعبر عن احتقاره الدائم، لا للثناء والتكريم، وإنما للأنوطة والأوسمة والنياشين.
وبعد أن حقنه الطبيب «بالكورتيجين
صفحه نامشخص
Cortygen » وأوصاه بتناول بعض المسكنات الخفيفة في الليل، غادرنا وهو يطمئنني أن مريضنا سوف يرتاح الآن. ثم غادرنا السكرتير بدوره في الساعة الثامنة والنصف، وكذلك الخدم. وبقيت بمفردي معه. كان يريد مني أن أجعله يستلقي على ظهره، وكان ذلك مستحيلا بسبب ظهره المسلخ. وأصغي - وما أكثر ما يؤلمني ذلك! - إلى صوته يتوسل إلي كصوت طفل صغير قائلا: «ألا تريدين؟ ألا تريدين؟»
وبعد قليل، قال: «إنهم يريدون بي شرا. هناك أناس أشرار.» - من الذي يريد بك شرا يا صغيري؟ من هو الشرير؟ - كل الناس ... - حتى أنا؟! - لا، ليس أنت.
ثم يقول بسخرية مريرة ذكرتني بسخريته في أيام مضت:
أية حماقة؟! هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟!
من المؤكد أنه كان يستعيد في تلك اللحظة العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به، والهزء بل والشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة لمرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك.
غير أنه لم يستمر، بل قال لي فقط، كعادته في كثير جدا من الأحيان: «أعطيني يدك.» وقبلها.
ثم جاءت الليلة الأخيرة. ناداني عدة مرات، لكنه كان يناديني على هذا النحو بلا مبرر منذ زمن طويل. ولما كنت مرهقة للغاية، فقد نمت، نمت ولم أستيقظ - وهذه الذكرى لن تكف عن تعذيبي.
نحو الساعة السادسة صباحا جعلته يشرب قليلا من الحليب، وتمتم: «بس ...» ونزلت أعد قهوتنا. ثم صعدت ثانية مع صينيتي ودنوت من سريره وناولته ملعقة من العسل بلعها ... وبدا لي بالغ الشحوب عندما استدرت إليه بعد أن وضعت الملعقة على الطاولة وهيأت البسكويت، لا تنفس ولا نبض. ففعلت ما كنت أفعله في لحظات غشيانه العديدة، لكني كنت أدرك أن ذلك كان بلا فائدة، فناديت الدكتور غالي،
7
ووصل بعد نصف ساعة.
صفحه نامشخص
وجلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وإن كنت هادئة هدوءا غريبا (ما أكثر ما كنت أتخيل هذه اللحظة المرعبة!) كنا معا، وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن أبكي - فقد جاءت الدموع بعد ذلك - ولم يكن أحد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا قبل الآخر. مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا. وفي هذا التوحد الأخير، وسط هذه الألفة الحميمة القصوى، أخذت أحدثه وأقبل تلك الجبهة التي كثيرا ما أحببتها؛ تلك الجبهة التي كانت من النبل ومن الجمال بحيث لم يجترح فيها السن ولا الألم أي غضون، ولم تنجح أية صعوبة في تكديرها ... جبهة كانت لا تزال تشع نورا، «يا صديقي، يا صديقي الحبيب.» وظللت كل صباح، حتى عندما لم نعد وحدنا، أقول وأكرر القول: «يا صديقي»؛ لأنه قبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء كان أفضل صديق لي، وكان - بالمعنى الذي أعطيه لهذه الكلمة - صديقي الوحيد.
ما كان من الممكن لهذه البرهة من العذوبة الغامرة أن تستمر. كانت ابنتي في نيويورك وكان ابني في باريس. ولا يمكنني أن أصف المساعدة والعزاء اللذين غمرني بهما أوائل الذين هرعوا إلي من الأقربين. إن ما غمرني به ذلك اليوم الدكتور غالي وجان فرنسيس
8
وسوسن الزيات
9
وزوجها وماري كحيل والأب قنواتي
10
كان فوق كل تصور وفوق كل تعبير. لقد حمل محمد شكري على كاهله أعباء كل الإجراءات. وعندما قلت له: «ذلك أنني وحيدة تماما.» أجابني بتلك الكلمات: «لا تقولي ذلك؛ فكل البلد من ورائك.» وكذلك بكلمات أخرى، عندما أخبروني بأنهم سيأخذون طه إلى المستشفى بعد الظهر؛ كلمات إن بدت في ظاهرها قاسية، فقد كانت في حقيقتها بالغة الجمال: «إنه لم يعد يخصك.»
أما القس الشاب الجديد لحي الزمالك،
11
صفحه نامشخص
فقد أرسل لي هذه الآيات من سفر أيوب:
أما أنا فقد علمت أن وليي حي
والآخر على الأرض يقوم
وبعد أن يفنى جلدي هذا
وبدون جسدي أرى الله. (الإصحاح التاسع عشر: 25-26)
لم يسبق له أن رأى طه، وكان قد قرأ في لبنان كتابه «الأيام» وتمنى من كل قلبه أن يتعرف عليه. وفكرت أن بوسعه أن يرى هذا الوجه حتى في سكون الموت؛ ولقد رآه.
كان هذا الوجه جميلا، ولم يكن له - شأنه شأن جبهته - من العمر ثلاثة وثمانون عاما! وكانت ترتسم عليه هذه الابتسامة الرقيقة التي كنا نحبها. وكان الشعر الذي بقي كثيفا، يكاد يكون رماديا. أما الجسد، فقد كان يستسلم للراحة بهدوء. كل شيء كان يعبر عن الصفاء والسلام. ولن تنسى جان انفعالها عندما كانت تنتزع من إصبعه خاتم الزواج لتعطيني إياه؛ فقد انغلقت اليد التي بقيت لينة على كف صديقنا، كأنما لتقول لها: «إلى اللقاء.» ليس من الممكن أن يتصور المرء أنه كان ثمة احتضار. لا، فقد كان اليوم يوم أحد، اليوم الثالث من رمضان، ساعة الفجر - ساعة التجلي الإلهي - وإني لعلى ثقة من أن الله كان يصحبه على هذا النحو دون أن أستشعر ذلك؛ إذ ما شأني فيما يجري بينهما؟!
كان من الصعوبة بمكان على ولدي أن يحضرا. كانت مصر منتصرة، لكن الحرب لم تكن قد انتهت،
12
وكان المطار مغلقا. واستطاعت ابنتي وصهري الذي كان وزيرا للخارجية
صفحه نامشخص
13
وكان في الأمم المتحدة آنذاك، الوصول مساء الإثنين. وأعيد فتح المطار يوم الثلاثاء، ووصل ابني من عمله في باريس إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، وعلمت بعد ذلك أنه لم يجد سيارة يستأجرها، وكان الحزن والإجراءات الإدارية قد أنهكته، فقد أغمي عليه في المترو، الأمر الذي فوت عليه الطائرة التي كان يفترض أن يلقى فيها أخته وصهره. «مساء الخير يا أمي.» وألمح ابتسامة الحنان والشجاعة على الوجه المنهك الذي تجلى علي في منتصف الدرج حيث كنت أهرول للقائه.
لن أتحدث شيئا عن المأتم. فقد علقت عليه الصحف والإذاعة والتليفزيون مطولا. لكني سأقوم شيئا ما كان يمكن للصحافيين أن يعرفوه. فأمام المسجد، كنت وابنتي أمينة ننتظر في السيارة انطلاق أولئك الذين كانوا سيذهبون إلى المقبرة. وكان كثير من أهالي الحي في ذلك المكان ينتظرون أيضا في صمت عميق. وكان من بينهم، بالقرب منا، صف من الأطفال والراشدين. وكنت أكرر لنفسي: «إنه من أجلهم ما بذل طه من جهود كثيرة.»
14
وإليهم إنما كنت أود الحديث ذلك الصباح. ومددت يدي نحو أقربهم، فأذهلته حركتي في البداية ثم ما لبث أن نظر إلي بابتسامة جميلة وتناول يدي. وسرعان ما امتدت إلي الأيادي: عشرون، خمسون ... وفي تلك اللحظة انطلقت السيارة، فتراكضوا على مقربة من بابها وهي تنطلق، وكانت يدي لا تزال خارجها، لعلهم لو انتزعوها تلك اللحظة مني ما كنت لأحس أي ألم. •••
أول مرة التقينا فيها كانت في 12 مايو 1915 في مونبلييه
15 (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص).
16
لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمرا مماثلا. وكنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى. لقد عدت إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل؛ فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرسه اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: «سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك.»
كنا في غمرة الحرب. وكانت الجامعة المصرية تتصل بمبعوثيها بصعوبة؛ كان نسف البواخر يزداد؛ واستدعي المبعوثون إلى القاهرة. فيعود طه إلى مصر ويوشك أن يقع مريضا لشدة ما كان تعسا لعدم استطاعته متابعة دراسة كانت لا تزال في بدايتها. وأخيرا حصل مع آخرين على إذن بالعودة في عام 1916.
صفحه نامشخص
17
كنا، أمي وأختي وأنا، قد أقمنا في باريس.
18
وكنا نلتقي. وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان يبدو مهملا، ضائعا برغم حضور أخ له لم يكن للأسف معينا، وإنما كان مصدر هم متواصل بحيث إن أمي اقترحت عليه المجيء للسكن عندنا. وقبل، ولكن بعد كثير من التردد؛ لأنه وهو الذي لا يوقفه شيء عند اتخاذه القرارات الهامة، كان شديد الخجل في الحياة اليومية. لم يقبل إطلاقا أن يتناول وجباته معنا.
19
كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العمر تصحبه إلى السوربون. لكني شيئا فشيئا أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخرى إلى الجامعة من وقت إلى آخر حتى بت أصحبه غالبا. وكنت أقرأ له عندما يكون وحيدا. كنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدما عظيما في اللغة الفرنسية.
وذات يوم، يقول لي: «اغفري لي، لا بد من أن أقول لك ذلك؛ فأنا أحبك.» وصرخت، وقد أذهلتني المفاجأة، بفظاظة: «ولكني لا أحبك!» كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك. فقال بحزن: «آه، إنني أعرف ذلك جيدا، وأعرف جيدا كذلك أنه مستحيل.»
ويمضي زمن، ثم يأتي يوم آخر أقول فيه لأهلي إنني أريد الزواج من هذا الشاب. وكان ما كنت أنتظره من رد الفعل: «كيف؟! من أجنبي؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنك جننت تماما!»
ربما كان الأمر جنونا، لكني كنت قد اخترت حياة رائعة. اخترت! من يدري؟ لقد قالت لي صديقة عزيزة ذات يوم: «لقد كان عليك أن تضطلعي بهذه الرسالة.» وصديقة أخرى تقول لي منذ زمن ليس ببعيد: «أتذكرين يا ماري؟ لقد ملئت حياتك إلى أقصى حد.» نعم؛ لقد ملئت حياتي إلى أقصى حد. كان قد قال لي: «لعل ما بيننا يفوق الحب.» فيما يتعلق بي، كان هناك هذا الشيء الرائع: الفخر، واليقين من أنه ليس ثمة ما يدعو للخجل، ومن أنه ليس هناك على الإطلاق أية فكرة مريبة أو بشعة أو منحطة يمكن أن تأتي لتحقر أو لتثلم الكائن الذي أقاسمه حياته. آه! لم يكن دوما هادئ الطبع - على العكس من ذلك - لكن هذا أمر آخر.
وكان لا بد من النضال بالطبع بسبب ذلك القرار. وجاءني أكبر عون من عم لي كنت أكن له إعجابا عظيما؛ وكان هذا العم قسا.
صفحه نامشخص