مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
ژانرها
melody
يحتل مكانة مساوية له، أما في الشعوب الغربية فإن أهمية الإيقاع تتضاءل إلى حد ما، وتبرز أهمية اللحن، بينما يضاف عنصر جديد هو التآلف الصوتي أو الهارمونية.
ففي الشعوب الزنجية تنتشر آلات الإيقاع انتشارا كبيرا، بل هي في كثير من الأحيان تقوم وحدها بوظيفة الأداء الموسيقي المتكامل (فضلا عما يؤديه الإيقاع في حياة الغابة من وظائف أخرى غير الوظيفة الموسيقية؛ إذ يستخدم في التحذير والاتصال والاستنفار للقتال ... إلخ). وحتى إذا ظهر في هذه الموسيقى لحن فإن الغرض منه يكون عادة تأكيد الإيقاع وإظهار مواضع القوة والضعف في دقاته، وربما ظهر اللحن من قلب الآلات الإيقاعية ذاتها، نتيجة لاختلاف خصائصها الصوتية، من حيث ارتفاع الصوت أو انخفاضه، وضيقه أو اتساعه.
ويتميز الإيقاع الزنجي بتغلغل جذوره في الأصول العضوية والحيوية للإنسان؛ فهو ليس إيقاعا عقليا أو لحنيا كإيقاع الموسيقى الغربية. إنه وثيق الصلة بالحركات الجسمية التي تؤدى في الطقوس وفي العمل وفي مختلف الوظائف الحيوية، وفي أعمال الحرب والهجوم والدفاع. وكما يتأثر الإيقاع بالحياة فإنه يؤثر من جانبه في الحياة؛ إذ إنه يثير استجابات جسمية قوية، وقد يصل تأثيره إلى حد النشوة التي ينسى فيها المرء فرديته ويندمج في الكل، أو في الطبيعة، اندماجا كاملا؛ فالإيقاع الزنجي منبه للحواس ومثير للخيال، وهو يجعل من الفرد مجرد عضو في جماعة تتملكها كلها النشوة المتدفقة. والحق أن المرء لن يكون مغاليا إذا قال إن الجنس الزنجي يمثل، في عالمنا الحديث، مستودعا للقوى الحيوية الأصيلة التي خبت جذوتها إلى حد بعيد في بقية الأجناس، وحسبنا على ذلك دليلان: امتيازهم في الموسيقى الإيقاعية، ولا سيما موسيقى الجاز، وتفوقهم المذهل في الألعاب الرياضية التي تقتضي جهدا وطاقة جسمية جبارة؛ فاقتراب هذا الجنس من المنابع الأصيلة للطبيعة يشهد بأنه لا يزال يختزن من طاقة الحياة قدرا كبيرا، وبأنه أقرب الأجناس البشرية إلى ذلك الينبوع المتدفق الذي يشارك به الإنسان في الطبيعة، ويندمج في مجراها النابض بالحياة.
ويمكن القول إن انتشار موسيقى الجاز في كثير من المجتمعات الغربية الحديثة إنما هو رد فعل على الابتعاد المفرط عن الأصول الحيوية - ذلك الابتعاد الذي حتمته حياة الإنسان المدنية، والبيئة الحضرية المصطنعة التي تسود المجتمعات المتقدمة في التصنيع؛ فليس من قبيل المصادفات أن يكون الجاز أوسع انتشارا في أمثال هذه البيئات. وإذا كان التفسير الشائع لموسيقى الجاز هو أنها موسيقى سهلة، سطحية، خفيفة، تصلح للعامل المرهق المكدود ليسري بها عن نفسه في وقت فراغه بعد يوم عمل شاق؛ فإن هذا ليس إلا جزءا من التعليل الكامن؛ إذ إن هذه الموسيقى هي في الوقت نفسه محاولة لتنبيه الحيوية والحس اللذين أصبحا خاملين في إنسان المجتمع الصناعي، وهي رد فعل على المبالغة في المعقولية المنظمة التي تباعد بين الإنسان وبين تلك الجذور الضاربة في أعماق الحياة.
أما في الشعوب الشرقية فإن للحن، إلى جانب الإيقاع، دورا عظيم الأهمية. وإذا كان من الصعب أن نجمع بين الشعوب العربية والهندية والصينية واليابانية في وحدة واحدة، ونصدر على موسيقاها حكما عاما، فإنا نستطيع مع ذلك أن نحكم بأن هذه الموسيقى إيقاعية ولحنية في أساسها، وأنها لا تلجأ إلى عنصر الهارمونية الذي يكاد يكون وقفا على الموسيقى الغربية منذ أوائل العصر الحديث أو أواخر العصر الوسيط.
وفي كثير من هذه الشعوب الشرقية يرتبط الإيقاع بالشعائر الدينية أوثق الارتباط، كما هي الحال في الهند وفي كثير من بلاد الشرق الأقصى، على حين أنه يرتبط عند بعضها بالرقص، كما هي الحال في الشرق العربي. وعلى حين أن الحركات الجسمية المصاحبة للإيقاع تتخذ في الحالة الأولى مظهرا روحيا صوفيا، فإنها في الحالة الثانية تتخذ مظهرا جسديا واضحا.
وأخيرا، ففي الشعوب الغربية يزداد الإيقاع خفاء وغموضا، ويندمج اندماجا وثيقا بالكل المعقد الذي يكونه اللحن والهارمونية. ومن هنا كان اصطباغه بطابع عقلاني يبعد به عن الحسية. ومع ذلك فإن موسيقيي الغرب يحاولون، كما قلنا، أن يزيدوا من حيوية موسيقاهم باقتباس الإيقاعات الزنجية، وزيادة تنويع مقاماتها بالاقتراب من المقامات الشرقية، حتى أصبح البحث عن التجديد غاية في ذاتها عند كثير من الموسيقيين المعاصرين أو أشباه المعاصرين. •••
وفي وسعنا أن نتناول المسألة السابقة من زاوية أخرى، هي زاوية الأهمية النسبية للإيقاع بين بقية عناصر الموسيقى؛ ذلك لأن الإيقاع يكون مع اللحن، وكذلك مع الهارمونية في الموسيقى الغربية، وحدة لا تنفصم. وإذا جاز لنا أن نمثل الإيقاع من حيث هو حركة حيوية بالخط ذي البعد الواحد، فإن اللحن يمثل بالمسطح ذي البعدين؛ إذ إن المسافات الصوتية، في ارتفاعها وانخفاضها، هي التي تحدد طبيعة اللحن، ومن ثم كان اللحن يتحدد على أساس نغمة القرار من جهة، والنغمة اللحنية التي تبتعد أو تقترب من نغمة القرار من جهة أخرى، وبهذا المعنى نقول إنه ذو بعدين. أما الهارمونية أو التآلف الصوتي فلها ثلاثة أبعاد؛ لأنها تضيف إلى اللحن عنصر العمق؛ أي تزامن الأصوات المتآلفة وتناغمها في الوقت الواحد. وإذا كان اللحن الإيقاعي يعتمد على القوة الحيوية الدينامية في الإنسان، فإن اللحن يعتمد على حساسيته النفسية، على حين أن التآلف والتوافق يحتاج، بالإضافة إلى العنصرين السابقين، إلى تصور ذهني للتناسب بين الأصوات؛ أي إن الإيقاع أقرب العناصر الموسيقية إلى الحيوية والجسمية والحياة العضوية، والهارمونية أبعدها عنها، وأقربها إلى حياة الإنسان الذهنية. الأول مرتبط أوثق الارتباط بالحركة المتوثبة، بينما الثاني - مأخوذا على حدة - أقرب إلى السكون. أما اللحن فهو في كلا الحالين وسط بين هذا وذاك، وهو على الدوام معتمد على حساسية الإنسان ومشاعره الوجدانية.
وأخيرا، فبوسعنا أن نقوم بالمقارنة السابقة من زاوية ثالثة، فنقول إن الأزمنة التي يكون للجسم الإنساني فيها قدره المعترف به هي تلك التي يزدهر فيها الإيقاع . وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى العصر اليوناني، الذي كانت فنونه تقدس جسم الإنسان وتصوره أبدع تصوير، وتكتشف عناصر الجمال والتوافق في تفاصيله وفي التناسق الذي يؤلفه؛ ففي هذا العصر كان للإيقاع المكانة العليا في الموسيقى، بل يمكن القول إن الإيقاع كان هو الدعامة التي تقوم عليها وحدة الفنون، من موسيقى ورقص ودراما، في العصر اليوناني.
صفحه نامشخص