أترى إلى اشتراكية أبي العلاء؟ إنه يستمدها من الحياة المادية والعقلية لعصره، يستمدها من الثورات التي اضطرب لها النظام الاجتماعي والسياسي أيام العباسيين، ولكنه لا يحكم فيها شهوته، فليست له شهوة، ولا يحكم فيها هواه؛ فليس له هوى، وإنما يحكم فيها عقله، فينتهي به العقل إلى هذا اليأس المريح المؤلم الذي يكون للفلاسفة والشعراء.
ينتهي به العقل إلى أن الجور واقع لا شك فيه، وإلى أن العدل أمل لا سبيل إليه، وإلى أن اليأس المريح على ما يثير من الآلام المحضة خير من الجهاد الذي لا يغني، والمغامرة التي لا تجدي. هو يلتقي مع المتنبي في الشعور بالجور، وفي أخذ هذا الشعور من المذاهب الاقتصادية والسياسية التي كانت شائعة في ذلك العصر، ولكنهما لا يكادان يلتقيان حتى يفترقا. فأما المتنبي فيغامر، ويخاطر حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه المغامرون المخاطرون، وأما أبو العلاء فيشرب كأس اليأس هذه التي تريحه وتريح منه.
وهنا نبلغ المسألة التي أثارها الأستاذ ماسينيون، والتي أشرت إليها في أول هذا الحديث، والتي قرأت اللزوميات من أجلها: وهي تأثر أبي العلاء بالإسماعيلية. وأظن أن الجواب على هذه المسألة يسير جدا، فأبو العلاء قد عرف كل ما أثاره المسلمون من خصومة عقلية أو سياسية أو اقتصادية، وأبو العلاء قد روى في هذا كله تروية الرجل الذي يصطنع الجد، ولا يحب الهزل، وأبو العلاء قد تأثر من غير شك بهذه المذاهب المختلفة تأثرا عقليا، فدرسها، وجادل فيها، ولكنه لم يستبق منها لنفسه إلا خلاصتها، وأدناها إلى مزاجه. فمن قال: إن أبا العلاء قد تأثر بالشيعة وبصاحب الزنج، وبالقرامطة خاصة، فشعر بأن الأرض قد ملئت جورا، وصور هذا الجور ورده إلى مصادره الاقتصادية والسياسية المختلفة، فقد قال حقا، ومن قال: إن أبا العلاء قد تجاوز هذا الحد في تأثره بأصحاب المذاهب الثائرة الساخطة، فرسم خطة عملية لرفع الجور، وانتظر إماما سيأتي، أو استجاب لإمام قائم، فقد أخطأ.
فليس أبو العلاء إسماعيليا، ولا قرمطيا، ولا شيعة بوجه عام، هو يؤمن بأن الأرض قد ملئت جورا، ولكنه يائس من أن يرفع هذا الجور صاحب الزنج في البصرة، وزعيم القرامطة في الأحساء، والأئمة القائمون من الفاطميين في القاهرة، والإمام الذي ينتظره أولئك أو هؤلاء من الذين كانوا ينتظرون الأئمة المغيبين.
إمامه مستقر في نفسه، يهديه حينا، ويجور به حينا آخر، ويسلك به هذه الطرق المعوجة الملتوية التي نراها في اللزوميات، ويحمله ألوان الجهد، ويكلفه ضروب العناء، ولكن أبا العلاء يحبه ويأنس إليه، ولا يرضى به بديلا.
وامض بعد ذلك في قراءة ما يأتي بعد هذه الأبيات، فسترى أبا العلاء يعرض عليك تشاؤمه مطمئنا له مستريحا إليه، حتى يقول:
وليت نفوسنا والحق آت
ذهبن كما أتين وما أحسنه
قدمنا والقوابل ضاحكات
وسرنا والمدامع ينبجسنه
صفحه نامشخص