وأبو العلاء يعرف أنه معوج، ويعرف أن فيه أمتا وانحرافا، ولكنه يعرف أن ذلك يعنيه هو ولا يعني غيره؛ وأنه يؤثر أن ينحطم على أن يقوم اعوجاجه وانحرافه. ثم هو في البيت الثالث يسجل ما بينه وبين الناس من الأمد البعيد، ويسجل أن الناس قد مضوا في طريقهم، وأنه قد مضى في طريقه، وكما أنه لم يكرههم على أن يعودوا إليه، فليس لهم أن يكرهوه على أن يعود إليهم. وثق أن أبا العلاء لا يريد بهذا رأيه الفلسفي وحده، وإنما يريد بهذا شخصيته كلها كاملة غير منقوصة، وموفورة غير مبتورة. يريد رأيه الفلسفي، أو قل آراءه الفلسفية، فهو لا يستطيع أن ينزل عن هذه الآراء إذا اقتنع بها؛ إلا أن يحوله عنها شك طارئ أو برهان جديد. ويجب أن يأتيه هذا الشك من نفسه لا من غيره، ويجب أن يأتيه هذا البرهان من عقله لا من عقل سواه. والناس أحرار في أن يشاركوه في هذه الآراء أو أن يخالفوه. ويريد سيرته العملية، فهو قد صمم على العزلة، وأعرض عن اللذات، وآثر خشونة العيش، لا يصرفه عن ذلك صارف حتى داعي الدعاة بما بذل من وعد ووعيد، ومن ترغيب وترهيب. والناس أحرار في أن يوافقوه على ذلك أو يخالفوه فيه.
ويريد مذهبه الفني هذا الذي يشتد فيه العوج والأمت؛ لأنه محسوس تدركه الأذن، وتشقى بما فيه من غريب قد ينبو عنه السمع، ومن قيد قد يزور عنه الذوق، ولكنه حريص عليه، كلف به، لن ينزل عنه ابتغاء مرضاتك، وهل ابتغى أبو العلاء مرضاة أحد؟ وهل نزل أبو العلاء عن شيء ليرضي أحدا؟ فخذ اللزوميات كما هي، فإن أعجبتك فذاك، وإن لم تعجبك فدعها، والتمس لذة نفسك ومتاعها فيما شئت من الكتب والدواوين. فأبو العلاء لم ينظمها لك، وإنما نظمها لنفسه، وهو عنها راض وبها مكتف.
ستقول: فإن هذه هي الكبرياء، بل هي الكبرياء الجامحة. فهذا صحيح، ولكن ماذا تريد أن تصنع وقد خلقت هذه الكبرياء مع أبي العلاء، وركبت في طبعه، لم يكتسبها وإن كانت حياته قد زادتها قوة ونموا. وكيف تريد ألا يكبر أبو العلاء عليك وعلى أمثالك من الناس، وهو الذي لم يستطع أن يكف كبرياءه عن أن ترقى به إلى ما لا يرقى الناس إلى أمثاله؟ فقد قدمت لك أن أبا العلاء شقي؛ لأنه لم يفهم حكمة الله، ولم يستطع أن يبلغ كنهها، ولم يستطع أن يرضى بهذا القصور، فلا تطالب أبا العلاء بالنزول عن كبريائه، ولكن أشفق عليه، وارث له من هذه الكبرياء. ثم عد بنا إلى البيت الثاني فسترى أن أبا العلاء خليق بكثير من الإشفاق الباسم:
وماذا يبتغي الجلساء عندي
أرادوا منطقي وأردت صمتي
فهل هذا حق؟ أما أن جلساء أبي العلاء أرادوا منطقه، فذلك شيء لا شك فيه. فهو لم يدعهم إلى نفسه، ولم يعرض عليهم علمه وأدبه، ولم يستقدمهم من أقطارهم النائية وبلادهم القاصية؛ هم أقبلوا عليه يلتمسون عنده العلم والأدب، ويلحون عليه في ذلك، ولكن أمن الحق أن أبا العلاء أراد الصمت؟ هذه هي المسألة التي أشك فيها أعظم الشك وأقواه. وأبو العلاء لا يضيق بالكلام في هذا البيت وحده، بل يضيق بالإملاء في بيت آخر فيقول:
أما لي فيما أرى راحة
يد الدهر من هذيان الأمالي
فلاحظ مسرعا هذا الجناس بين أول البيت وآخره، ثم عد إلى ما نحن فيه وأنبئني: أحق أن أبا العلاء كان يضيق بالكلام والإملاء؟ ومن الذي أكرهه على الكلام والإملاء؟ قد يمكن أن يكون إقبال الناس عليه، وإلحاحهم في التماس ما عنده من علم اللغة والأدب قد أكرهه على الدرس والإملاء. وقد يمكن أن يكون اتصال الناس به، وإلحاحهم عليه بالمنظوم والمنثور من الرسائل قد اضطره إلى تأليف هذه الرسالة أو تلك، وإلى نظم هذه القصيدة أو تلك من قصائد سقط الزند. ولكن من الذي اضطره إلى نظم اللزوميات، وإلى إملاء الفصول والغايات؟ لم يضطره إلى ذلك أحد، وإنما هو الذي اضطر نفسه إليه اضطرارا، وأخذها به أخذا؛ لأنه لم يكن يستطيع غير ذلك. كانت تجيش في نفسه الآراء والخواطر فلا يستطيع لها كتمانا ولا كظما، وكانت تعرض له المثل الفنية من النظم والنثر فلا يستطيع أن يكف نفسه عن محاكاتها، وعن تحقيقها، وإخراجها من القوة إلى الفعل. وإذا حقق هذا المثال أو ذاك من الشعر أو النثر في خلوته إلى نفسه فقد كان عاجزا كل العجز عن أن يحتفظ به في ذاكرته ليستمتع به وحيدا فريدا، وكان مضطرا كل الاضطرار إلى أن يجريه على لسانه، وأن يلقيه في أسماع الناس وفي قلوبهم، ويتمنى أن يذوقوه، ويسيغوه، ويعجبوا به لسبب يسير جدا، وهو أن أبا العلاء كان فيلسوفا، ولا بد للفيلسوف من أن يعلن رأيه، ويدعو إليه. وكان شاعرا ولا بد للشاعر من أن يتغنى، ومن أن يسمع الناس ما يضطرب به صوته من الغناء.
وكل الفلاسفة يؤثر الصمت فيما يقول، ولكنه مع ذلك لا يؤثره فيما يعمل؛ لأن قوة الرأي وقوة الحياة الاجتماعية أشد من إيثاره لنفسه. وكل الشعراء الذين يستحقون هذا الوصف ينظمون الشعر لأنفسهم، ويلتمسون فيه لذتهم ومتعتهم، ولكنهم لا ينعمون بهذا الشعر إلا إذا أذاعوه، ورجع إليهم صداه بعد أن يسمعه الناس. وأكبر الظن - بل المحقق - أن أبا العلاء لو أخذ الناس أمره بالجد، وخلوا بينه وبين ما أراد من العزلة والانقطاع لخرج إليهم أو لدعاهم إليه ليسمعوا منه شعره، وليأخذوا عنه فلسفته. ولكن الشاعر والفيلسوف وصاحب الفن طفل مهما يكبر! فهو يحب الصمت، ولكنه يقبل على الكلام ويغرق فيه، وهو يحب العزلة ولكنه في أثنائها متصل النفس بالناس، لا يستطيع أن يقطع بينها وبينهم الأسباب. واقرأ اللزوميات، وتتبع ما فيها من النقد الاجتماعي والسياسي، فسترى أن أبا العلاء لم ينقطع قط عن الناس انقطاعا تاما، وإنما عاش معهم، وتأثر بما تأثروا به، وراقبهم مراقبة متصلة دقيقة، فأنكر من أمرهم ما أنكر، وعرف من أمرهم ما عرف، واتخذ من هذا كله مادة لفلسفته وشعره، فسلى نفسه، ووعظ الناس.
صفحه نامشخص