والمهم هو أن أبا العلاء لم تصرفه فلسفته العليا، ولا زهده في زخرف الحياة من جمال اللفظ وزينته، وعن تكلف هذه الزينة وذلك الجمال، وعن اتخاذهما وسيلة إلى اللهو البريء، والتسلية التي لا تعقب حسرة ولا ندما.
على أن عناية أبي العلاء بالألفاظ، واستعانته بها على قطع الوقت، واحتمال الحياة تثير فكرة أخرى لا تخلو من ظرف؛ لأنها تصور تناقضا شديدا، فقد كان مستقرا في هذه النفس الممتازة، وفي هذا العقل الغريب، وهو مستقر في أمثالها من نفوس الشعراء والكتاب الممتازين.
فهذا الرجل الحر الذي لم يعرف المسلمون من يشبهه فيما أباح لنفسه من حرية عقلية لا يستطيع أن يتمتع بها مسلم في هذا العصر الحديث؛ عصر الدستور، والديمقراطية، والحياة النيابية، هذا الرجل الحر في رأيه وتفكيره، وفيما تصور وفيما خيل إلى نفسه وإلى الناس، وفيما انتهى إليه من حكم، وفيما دعا إليه الناس من مذهب، هذا الرجل الذي تجاوز الحرية إلى الثورة قد فرض على نفسه قيودا محكمة وأغلالا ثقالا. وليس المهم أنه فرض على نفسه العزلة واجتناب الزواج والنسل، والإعراض عن لذات الحياة، والاكتفاء بأغلظ ما أتيح له من العيش، فهذه كلها قيود وأغلال تقتضيها فلسفته، فهي نتيجة عملية في السيرة لهذا النحو من التفكير الذي دفع الرجل إليه، وإنما المهم أنه حرر نفسه من القيود الدينية والاجتماعية والطبيعية أيضا، ثم فرض عليها هذه القيود الفنية التي ننظر إليها فنبتسم، والتي أقل ما توصف به أنها ساذجة، لا تلائم جد الفيلسوف ومرارته.
وما رأيك في رجل يحرم على نفسه طيبات الثمر والزهر، وألوان اللذات النقية البريئة، ثم يفرض على نفسه الجناس وأشباهه من ألوان البديع، ويفرضه على نفسه في الشعر والنثر، وفي أسفار ضخمة ودواوين طوال؟
هذه فكرة يحسن أن نروي فيها بعض الشيء؛ فقد نجد فيها ما يسلي، وقد نجد فيها ما يعظ؛ وقد نجد فيها ما يعجب حين نلاحظ أن بعض الفلاسفة قد يبلغون من كبر العقل وقوته، ومن حصافة الرأي ونفاذ البصيرة، ومن صرامة العزم ومرارة الجد ما شاء الله أن يبلغوا، ثم لا يمنعهم ذلك من أن يسلوا عن أنفسهم بألوان من العبث البريء ربما يحسدهم عليها الأطفال.
على أن التزام أبي العلاء ما التزم من القيود الفنية، وتعلقه بما تعلق به من زينة اللفظ، وإغراقه في ذلك، وتهالكه عليه لم ينتج له الخير الفني من جميع الوجوه.
فقد نسرف على أنفسنا، وعلى الفن الأدبي إن ظننا أن شعر اللزوميات جيد كله من هذه الناحية الفنية الخالصة؛ بل نسرف على أنفسنا وعلى الفن الأدبي إن ظننا أن كثرة هذا الشعر جيدة، وإنما المحقق أن الجيد من شعر اللزوميات قليل يمكن أن يستخلص في مجلد نحيف يجمع إلى الجمال الفني خلاصة الفلسفة العلائية كلها. ولولا أن أبا العلاء لم يكن يقصد إلى الفلسفة وحدها، وإنما كان يقصد إلى البراعة اللفظية، والاستعانة على الوقت، والتسلي عن الحياة وآلامها، لقد كان يستطيع أن يقول للناس ما أراد أن يقول، وأن يصور لهم ما أراد أن يصور من آرائه في الإلهيات والنبوات والحياة الاجتماعية في أيسر اللفظ وأقله، وأسرعه مدخلا إلى النفوس. ولكنه لم يرد شيئا من هذا، وإنما أراد أن ينظم شعرا على حروف المعجم كلها مضمومة ومفتوحة ومكسورة وساكنة، وأن يلتزم مع ذلك حرفا ثانيا أو حرفين آخرين. ولا بد له من أن يستوفي هذا الشرط مهما يكلفه ذلك من الجهد، ومهما يحمله ذلك من العناء؛ لأنه قد جعل ذلك غاية لنفسه وفنه، وأخذ نفسه بالوصول إلى هذه الغاية، فكان أول ما أنتج له هذا التكرار والإعادة اللذين ينتهيان بالقارئ إلى ملل وسأم لا سبيل إلى وصفهما، ولا إلى احتمالهما إلا أن يكون القارئ من الذين يتخذون البحث صناعة، أو من الذين قد ألفوا التشاؤم كما ألفه أبو العلاء، فهو لا يكره أن يبدئ فيه ويعيد.
فالذي يبغض هذا التكرار إلى النفس، ويثقله على الطبع أن أبا العلاء لا يكرر أشياء يحب الناس أن يسمعوها، أو يكلف الناس بأن يلموا بها بين حين وحين. وإنما هو يكرر أشياء بغيضة إلى النفس؛ لأنها تبغض إليها الحياة، وتصرفها عنها، وتوئسها منها. وقد يستحب الناس من ذلك، بل قد يجب على الناس أن يستحبوا من ذلك شيئا، يقومون به أخلاقهم، ويثقفون به عقولهم، ويروضون به نفوسهم على احتمال المكروه، والثبات للخطوب، ويردون به نفوسهم عما قد يدفعهم إليه النعيم أحيانا من البطر والأشر.
ولكن هذا شيء والإغراق في بغض الحياة وتبغيضها، وتصويرها في أبشع الصور وأقبح الأشكال شيء آخر، ولا سيما حين ينظم فيه ديوان يتألف من مجلدين ضخمين، وكتب منثورة لا نستطيع أن نحصي صحفها؛ لأن أيسرها قد وصل إلينا، وأكثرها قد حجب عنا، ولعله يكشف لنا كله أو بعضه في يوم من الأيام.
على أن التكرار ليس هو العيب الوحيد أو الظاهر الذي اضطر إليه أبو العلاء حين أخذ نفسه بهذه القيود الفنية، وإنما هناك عيب آخر ربما كان أشد منه خطرا، فقد نستطيع أن نعتذر عن أبي العلاء من هذا التكرار بأنه لا يستطيع أن يعطي إلا ما عنده، ولم يكن عنده إلا التشاؤم، فقد أعطانا من التشاؤم ما استطاع، وما ينبغي أن نكلف الشعراء فوق ما يطيقون، فأنت تظلم أبا نواس إن طلبت إليه التشاؤم، وتظلم أبا العلاء إن طلبت إليه الابتهاج. وأبو العلاء لم يفرض على الناس قراءة كتبه ودواوينه، وإنما تركها لهم يقبلون عليها أو يعرضون عنها، وليقرءوها كلها أو بعضها، وليأخذوا منها بما يحبون، وليرفضوا منها ما لا يحبون.
صفحه نامشخص