أفتظنه لم يفعل هذا إلا لأنه أراد أن يروض نفسه على الجهد في الإنشاء؟ كلا! بل هو قد فعل هذا لذلك، وليسلي عن نفسه ألم الوحدة، ويهون عليها احتمال الفراغ، وليشعرها ويشعر الناس بأنه قد ملك اللغة، وسيطر عليها، فهو قادر على أن يسخرها لما يشاء، ويصرفها كما يريد، ويعبث بها إن أراد العبث، ويجد بها إن أراد الجد، بل ليعبث بها أثناء الجد في كثير من الأحيان!
فلم أكن إذن مسرفا ولا غاليا حين قلت: إن اللزوميات نتيجة الفراغ واللعب، أو نتيجة العمل الذي دعا إليه الفراغ، والجد الذي جر إليه اللعب. ولكن أبا العلاء لا يقف بعبثه الفلسفي البريء عند هذا الحد، وإنما يتجاوزه أحيانا إلى فنون أخرى من العبث ليست أقل منه تسلية وتلهية له ولنا، وليست أقل منه إثارة لرضائه عن نفسه، وإثارة لإعجابنا به. ويكفي أن أنبه الآن من هذا العبث على ألوان ثلاثة فيها تفكهة ممتعة حقا. فأولها: العبث بالنحو أو بالصرف إن شئت أو بهما جميعا. وأيسر الأمثلة لهذا العبث بيتاه المشهوران:
ما لي غدوت كقاف رؤبة قيدت
في الدهر لم يقدر لها إجراؤها
أعللت علة «قال» وهي قديمة
أعيا الأطبة كلهم إبراؤها
فقد أشار في البيت الأول إلى أرجوزة رؤبة القافية التي ألزم رويها السكون، ولا يمكن أن يتحول عنه إلى حركة ما، يشير إلى حياته التي طالت عليه وألزمته سجنيه أو سجونه الثلاثة. وأشار في البيت الثاني إلى اعتلال «قال»، وما يشبهها من الأفعال التي تنقلب واواتها وياءاتها في وسطها إلى الألفات، فلا يمكن أن تتحول عنها، ولا أن تبرأ منها. يريد أن حياته قد طالت عليه وثقلت، وألزمته سجونه، وما فيها من علل وآلام، ويفسر هذين الرمزين قوله بعد ذلك:
طال الثواء وقد أنى لمفاصلي
أن تستبد بضمها صحراؤها
فترت ولم تفتر لشرب مدامة
صفحه نامشخص