ولكن الشيخ حين أراد أن يؤدي هذا المعنى المظلم لم يؤده كما هو، وإنما دار حوله، واتخذ الخيال إليه سبيلا، فجعل الموت الذي يرغب فيه الحكيم صعب المرام كالمجد الذي يرغب فيه الطموح، كلاهما لا ينال إلا بعد الجهد، ولا يبلغ إلى بعد تكلف المشقات، ولكن كليهما يعقب الظافر به غبطة وطمأنينة ورضا.
قدم الشاعر بهذا الخيال بين يدي هذا المعنى على أنه وسيلة إليه وتمهيد له، ثم ألقى هذا المعنى نفسه في البيت الثالث، موجزا، متقنا، دقيقا، صريحا، مرسلا إرسال الأمثال. ثم عاد إلى الخيال فاستنبط منه دليلا يؤيد هذا المعنى، ويوضحه ويجلوه، وضرب هذا الدليل مثلا يفهمه الذكي والغبي، ويسيغه الفيلسوف وغير الفيلسوف، وهو هذا الراعي الذي ينهض بأعباء صناعته ما أتيحت له الحياء، فهو يحتمل أثقالها على اختلافها وتباينها، منها المادي ومنها المعنوي؛ وقد رمز الشيخ لهذه الأثقال بهذا القعب الذي يقوم الراعي وهو في يده فارغا أو ممتلئا، فهو يحمل نفسه أولا، ويحمل القعب ثانيا، فإذا مات وثوى في قبره لم ينهض بعمل، ولم يحتمل ثقلا ولا عبئا، ولم يقم وفي يده قعب أو شيء آخر غير القعب. فهذا المعنى الذي أدي في هذه الأبيات الأربعة يعجب لصحته واستقامته، ولهذا الخيال الذي يسبقه فيمهد له، والذي يتلوه فيزيد الاقتناع به والاطمئنان إليه.
وأما أسلوب هذا الشعر وهذا النظم فقد وقفت عند انحرافه عن مذهب الشعراء المجودين، وانصرافه إلى مذهب الفلاسفة المحققين. ألست تراه في البيت الأول يعرض الأمر على أنه قضية فلسفية، يقيم عليها الحجة، ويقارع دونها بالبرهان، ويصطنع في ذلك ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين، ويتكلف في إخضاعها لهذا الوزن الطويل بعض المشقة والجهد؟ فانظر إلى قوله: «يدل على فضل الممات». وانظر إلى قوله: «كونه إراحة جسم». ثم انظر إلى البيت الثاني فستراه ألقي كما يلقى الدليل، واصطنعت فيه أساليب الاستدلال، ثم انظر إلى البيت الثالث فسترى الشاعر قد ألقاه إليك هادئا مطمئنا واثقا؛ لأنه هيأك لتلقيه، وأعدك لفهمه وقبوله، ثم انظر إلى البيت الأخير فسترى أن الشاعر قد ضربه لك مثلا يتم به اقتناعك، ويمحو به ما عسى أن يبقى في نفسك من تردد أو شك. وقد يذهب الشعراء المجودون مذهب الاستدلال أحيانا، ولكنهم يلمون به إلماما خفيفا، ويأخذون منه بمقدار يسير، ويستعينون عليه بتخير اللفظ وتجويده، والارتقاء بالأسلوب عما ألف أصحاب المناظرة والجدل. فأما صاحبنا فلا يحفل من هذا بشيء، وإنما الذي يعنيه أن يصحح معناه ويقومه، ويؤديه إليك في لفظ صحيح واضح مستقيم، ولا عليه أن ينحرف اللفظ والأسلوب عما ألف أصحاب الصناعة والتجويد.
معناه آثر عنده من لفظه، والصواب أحب إليه من التزويق، فسواء عليه إذا حقق الفكرة وحصلها في نفسه وفي نفسك أن تخطئه الصورة الرائعة الرائقة. وأما لفظه فقد وقفت منه عند ما بينت لك آنفا، ولكني وقفت منه بنوع خاص عند هذه القوافي الأربع التي لم تشترك في الحرف الأخير فحسب، ولكنها اشتركت فيه وفي الحرف الذي يسبقه، فهي لم تشترك في الباء وحدها، وإنما اشتركت في الباء والعين: «صعب»، و«رعب»، و«شعب»، و«قعب». وقد كنت أعلم أن بعض الشعراء قد يوفقون أحيانا إلى تقفية قصائدهم على حرفين، يبلغون ذلك عفوا، وفي غير جهد، أو يبلغون ذلك عن إرادة وتعمد، وإطالة للكد، وإعمال للفكر؛ ولكني فيما قرأت من هذا الشعر القليل لم ألاحظ قط أن القافية تسلطت على الشعر، فحكمته ودبرت أمره، ونسقت لفظه وأسلوبه ومعناه كما تفعل في هذه الأبيات.
فما أشك في أنك تقرأ قصيدة كثير:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
فلا تتردد في أن الشاعر قد تعمد التزام اللام والتاء، ولكنك في الوقت نفسه لا تشعر بأن كثيرا قد لقي في ذلك جهدا، أو احتمل فيه عناء، وإنما يخيل إليك أنه دعا الألفاظ فاستجابت له، وأهاب بها فأسرعت إليه. وأوضح من ذلك وأظهر أنك لا تحس في بيت من أبيات هذه القصيدة أن القافية هي التي نظمت البيت ودبرت أمره، ووضعت بعض ألفاظه بإزاء بعض، وأجرته على الأسلوب الذي جرى عليه، وإنما تشعر بأن البيت قد نظم، فألفت ألفاظه، واطرد أسلوبه، ومضى حتى انتهى إلى قافيته انتهاء هادئا مطمئنا مريحا. تشعر بأن البيت هو الذي دعا القافية، لا بأن القافية هي التي دعت البيت. فإذا قرأت هذه الأبيات الأربعة لم تجد لهذا الشعور في نفسك أثرا، وإنما أحسست إحساسا قويا أن كلمة «صعب»، هي التي نظمت البيت الأول، وألفت ألفاظه، واختارت له هذا الأسلوب، وأن الشاعر قد وجد هذه الكلمة أولا، ثم نظم لها البيت بعد ذلك، وكذلك «الرعب» و«الشعب» و«القعب».
تحس أن الشاعر قد أراد كلمات تنتهي بعين وباء، فاجتمعت له هذه الكلمات الأربع، فلما اجتمعت له التمس معنى ينظم فيه شعرا على أن تكون هذه الكلمات قوافي لهذا الشعر. وما زال يلتمس المعاني حتى وجد معناه هذا فأخذ يمده ويوسعه، ويدور حوله، ويمهد له، حتى تحققت له هذه الصور الأربع، وهي أن الموت مريح، فيجب أن تكون الطريق إليه صعبة، وأن المجد عسير، فيجب أن تقاسى الشدائد المخوفة في سبيله، وأن افتراق الأجسام لا يهيئها لاحتمال الثقل، وإنما تتهيأ له إذا اجتمعت أجزاؤها، وأن الدليل على ذلك أن الراعي يستريح من الرعي وأثقاله إذا مات ، ويشقى بالرعي ومتاعبه إذا عاش.
فالصورة الأولى تتفق مع كلمة صعب، والصورة الثانية تأتلف مع كلمة الرعب، والصورة الثالثة تلائم كلمة الشعب، وأي شيء يوافق الراعي إلا القعب، وأي شيء يوافق القعب إلا الراعي؟
صفحه نامشخص