كان هذا كله ميسورا لولا أن أبا العلاء لم يكن مهيئا له؛ لأنه كما قال قد خلق إنسي الولادة وحشي الغريزة. كان طبعه يعده للعزلة، ويهيئه للانفراد، وجاءت هذه الآفة فأمدت هذا الطبع وقوته، وجعلت تأثيره في حياته أشد وأعظم مما لو أتيح له الإبصار. ذلك أن هذه الآفة نفسها هي مرتبة من مراتب العزلة، ومرحلة من مراحلها تميزه من الناس شيئا وأي شيء! وتفرق بينه وبينهم إلى حد وأي حد! بل هي تميزه من الطبيعة في كثير جدا من مظاهرها، فهو لا يراها، ولا يحقق صورها وأشكالها، وهي لا تبلغ نفسه من طريق مستقيمة، ولا تؤثر فيها تأثيرا مباشرا، وإنما هو يعرف منها شيئا قليلا، ويجعل منها أشياء كثيرة، وهي تصل إلى نفسه من طرق معوجة ملتوية، فتبلغها بعد مشقة وجهد، وتبلغها مشوهة ممسوخة، وتؤثر فيها بحكم هذا كله تأثيرا مخالفا لتأثيرها في نفوس غيرها من الناس.
هو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للطبيعة، ممتاز منها، قد ألقي بينه وبينها حجاب، وهو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للناس، ممتاز منهم قد قطعت بينه وبينهم الأسباب. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز لا عن أن يستمتع بجمال الطبيعة كما يستمتع به غيره من المبصرين، بل عن أن يلائم بين حياته وبين كثير من مظاهر الطبيعة على نحو ما يفعل المبصرون، لا يظفر من ذلك إلا ببعض ما يعينه الناس عليه، وييسرونه له . وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز كذلك عن أن يستمتع بالحياة الاجتماعية كما يستمتع بها المبصرون، وعن أن يلائم بين سيرته، وبين ما تقتضيه هذه الحياة الاجتماعية من الأوضاع والأشكال، وما تفرض من السنن والعادات، لا يبلغ أيسر ذلك إلا إذا أعانه الناس عليه، ويسروه له. وواضح أن الناس حين يعينون أمثاله على أمثال هذه المصاعب إنما يصدرون عن رفق به وعطف عليه وإحسان إليه. فإذا كان الرجل ذكي القلب أبي النفس وحشي الغريزة آذاه ذلك، وشق عليه، وآثرت نفسه الحرمان مع العزة، والإباء على الظفر مع التعرض للشفقة والرحمة والإحسان.
ومن هنا تقوى في نفس أبي العلاء عاطفتان كان لهما أعظم الأثر في حياته، وأعظم السيطرة عليها: عاطفة الحياء من جهة، وعاطفة سوء الظن من جهة أخرى، عاطفة الحياء؛ لأن ذكاء قلبه، وإباء نفسه، واعتداده بشخصيته، كل ذلك يحمله على أن يرغب أشد الرغبة في أن يكون كغيره من الناس في الملاءمة بين حياته وبين قوانين الطبيعة، وفي الملاءمة بين حياته وبين أوضاع الاجتماع، فإذا أحس من نفسه القصور عن ذلك أو التقصير فيه آلمه هذا الإحساس أشد الإيلام، وآذاه أشد الإيذاء. وهو من أجل ذلك لا يقدم على ما يحتاج إلى الإقدام عليه من شؤون حياته الظاهرة إلا مترددا أشد التردد، مضطربا أشد الاضطراب، مرتابا بنفسه وبالناس أشد الارتياب، مؤثرا الإحجام مع العافية على الإقدام الذي قد يعرضه لرحمة الراحمين، وسخرية الساخرين. وعاطفة سوء الظن؛ لأن الناس بالقياس إليه مجهولون أو كالمجهولين، يسمع أصواتهم ولا يراهم، ويحس أعمالهم ولا يراها، فيفهم من ذلك ما يستطيع ويعجزه من ذلك أكثره. وما دام عاجزا عن أن يلائم بين سيرته وبين ما يقتضيه نظام الاجتماع فهو سيئ الظن بسيرته، وبالاجتماع أيضا.
وكل هذا يضطر أبا العلاء إلى أن ينصرف إلى نفسه عن غيره من الأشياء والأحياء جميعا، هو مصروف عن غيره بحكم هذه الآفة، وبحكم ما تنشئ في نفسه من العواطف، وهو مضطر من جهة إلى أن يحلل سيرته مع الناس والطبيعة، ومضطر من جهة أخرى إلى أن يحلل ما يصل إليه من سيرة الناس والطبيعة معه ما وسعه التحليل.
وإذن فهو بحكم هذا كله فارغ لنفسه، عاكف عليها، متهم لها سيئ الظن بها. وحسبك بهذا كله مثيرا للتشاؤم، ومسبغا للكآبة على النفس، وصابغا للحياة بهذه الصبغة الشاحبة عادة، القاتمة في كثير من الأحيان! وقد كان أبو العلاء في حاجة شديدة إلى شيء من بلادة الحس وفتور الشعور يرده إلى الاعتدال في الحكم، والقصد في التقدير، ويصده عن الغلو في الارتياب بنفسه وبالطبيعة وبالناس، ولكنه لم يرزق من بلادة الحس شيئا، وكان شعوره أبعد شيء عن الفتور. فإذا أضفت إلى ذلك غريزته الوحشية، وكبرياءه العنيفة لم تعجب؛ لأنه دفع إلى هذه الطريق التي سلكها، وإنما عجبت؛ لأنه دفع إليها متأخرا بعد أن نيف على الثلاثين.
ومع ذلك فهل نحن واثقون بأنه دفع إليها متأخرا؟ أليس من الجائز، بل من الراجح أنه دفع إليها منذ آخر الصبى، ولكنه دفع إليها في رفق ويسر، ولم ينته إلى غايتها إلا بعد تردد واضطراب، ووقت طويل؟ إن رثاءه لأبيه يصور لنا حياته العقلية في أول أمرها، فنرى فيها أصول الاضطراب الفلسفي، ومظاهر هذا التشاؤم الذي لزمه طول حياته. وما باله لم يذهب مذهب غيره من الشعراء فيمدح السادة والأمراء، ويستمتع بما يجزلون من عطائه؟ لم يكن إقصاره عن ذلك لقصور في ملكته الشعرية، فقد كان شاعرا بارعا منذ آخر الصبى وأول الشباب، وله مدح رائع قاله في شبابه، ولو أنه عرضه على السادة والأمراء لفرحوا به، ولأثابوه عليه، ولأكبروه في أنفسهم، وآثروه بمودتهم، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه إنسي الولادة كغيره من الشعراء، ولكنه يمتاز منهم بهذه الغريزة الوحشية التي تصده عن الناس، وتنفره منهم، وبهذه الآفة التي زادته عنهم صدودا ومنهم نفورا، وبهذه الكبرياء التي ارتفعت به عن أن يظهر للناس حاجته إليهم أو انتظاره منهم المعروف. انظر إليه حين يمدح الإسفراييني في بغداد، ويستعينه على رد سفينته، كيف يطلب إليه ذلك في حياء وإباء، واعتداد بالنفس، وتصريح بعرفان الجميل إن فاز، وتسجيل للشكر والدعاء إن أدركه الإخفاق.
من أشد ما يملأ قلوبنا إشفاقا على أبي العلاء هذه الحرب العنيفة المتصلة التي ثارت بين طبيعته الإنسانية وغريزته الوحشية نحو ثلاثين عاما، والتي لم تنته إلا حين أزمع العودة من بغداد، وانتهت بانتصار الغريزة الوحشية على الطبيعة الإنسانية الاجتماعية. رجل من الناس ولد في بيئة متحضرة، وولدت معه ملكاته الاجتماعية كلها، فنشأ مستعدا كل الاستعداد ليكون فردا من الجماعة يشاركها في حياتها العامة والخاصة، ويأخذ بنصيبه مما يلم بها من سعادة، وما يصيبها من شقاء، فتأبى عليه غريزته الوحشية، وآفته هذه الطارئة إلا أن ينفرد من هذه الجماعة، ويشذ على ما ألفت من نظام. له ما لغيره من الغرائز الطبيعية والاجتماعية التي تدفعه إلى ألوان الحياة المختلفة دفعا شديدا، وتطالبه بتحصيل ما يحصل غيره من أنواع اللذات والنعيم، وهو خليق أن يجد في ذلك كما يجد فيه غيره من الناس، ولعل آفته هذه الطارئة أن تصور له الحياة ولذاتها على غير وجهها، وأن تخيلها إليه على غير حقيقتها، وأن تجعل تعلقه بها، وحرصه عليها أشد من تعلق غيره بها وحرصه عليها، وأن تجعل ألمه حين يرد عنها، وحسرته حين يحرم الظفر بها أشد مما يصيب غيره من الآلام والحسرات حين يكتب عليه الرد، ويقدر عليه الحرمان، ولكن غريزته تلك الوحشية، وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكظم هذه الغرائز كظما، ويكبتها كبتا، ويضطر جذوتها المضطرمة الملتظية إلى الانطفاء والخمود.
له ذكاء ممتاز، وملكات متفوقة، وقدرة على الإجادة والبراعة فيما لا يجيد الناس فيه ولا يبرعون، وهو من أجل ذلك معتد بنفسه، مكبر لها؛ لأنه شاعر بامتيازها وتفوقها، وهو من أجل ذلك خليق أن يمتاز من الناس في الاستمتاع بالحياة كما امتاز منهم في الكفاية والبراعة، وهو من أجل ذلك خليق أن ينتظر من الناس أن يعرفوا له ذلك، ويمكنوه منه، فإن لم يفعلوا فهو خليق أن يكرههم عليه إكراها، وأن يفرض نفسه عليهم فرضا ، ولكن غريزته تلك الوحشية وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكبح نبوغه كبحا، ويأخذ نفسه بأعنف العنف وأقسى القسوة، لا ليردها إلى التواضع والاعتدال، بل ليحملها حملا على أن تنكر نفسها أشد الإنكار، وتجحد امتيازها أشد الجحود.
وهنا تستطيع أن توازن بين أبي العلاء وبين شاعرين نابهين حكيمين من شعراء المسلمين، كلاهما شاركه في التفوق والنبوغ والامتياز، وأحدهما شاركه في هذه الآفة الطارئة التي نغصت عليه الحياة: وهما: بشار، والمتنبي.
فأما أولهما: فقد كان كأبي العلاء، ذكي القلب إلى أبعد حدود الذكاء، دقيق الحس إلى أقصى غايات الدقة، قوي الشعور إلى أرقى مراتب القوة، غزير العلم واسع المعرفة، فصيح اللسان بارعا في الشعر، قادرا على التصرف فيه إلى حيث لم يسبقه شاعر عربي. وكان كأبي العلاء ضريرا مكفوفا، وكان كأبي العلاء فيلسوفا عميق الفلسفة، مفكرا دقيق التفكير، متشائما مسرفا في التشاؤم، سيئ الظن بالناس، سيئ الظن بالطبيعة، سيئ الظن بكل شيء. ولكنه مع ذلك قد سار في حياته الطويلة سيرة أقل ما توصف به أنها مناقضة كل المناقضة لسيرة أبي العلاء. إذا كانت سيرة أبي العلاء طهارة ونقاء، وبراءة من الإثم والعاب؛ فسيرة بشار هي العهارة والدنس، والتهالك على الإثم، والإغراق في العاب، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تواضعا، بل إسرافا في التواضع؛ فسيرة بشار هي الكبرياء، بل تجاوز الكبرياء إلى ما هو شر منها إلى التيه والغرور، وإذا كانت سيرة أبي العلاء زهدا في الدنيا، بل إعراضا عنها، بل بغضا لها؛ فسيرة بشار رغبة في الدنيا، بل تهالك عليها، بل فناء فيها، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تعذيبا لنفسه وجسمه، وأخذا لهما بأشد القوانين وأصرمها، وحملا لهما على أعنف المحامل وأخشنها، وصرفا لهما عن أيسر اللذات وأهونها؛ فسيرة بشار تنعيم لنفسه وجسمه، وإرسال لشهواتهما على سجيتها، وحمل لهما على أيسر المحامل وأوثرها، واقتحام بهما إلى أعظم حظ ممكن من اللذة، وأكبر قسط ممكن من النعيم. ومع ذلك فقد كان كل من الشاعرين مجبرا في أكثر أحيانه وأغلب أمره . وكان كل من الشاعرين ينكر التكليف أو يكاد ينكره. وكان كل من الشاعرين يجهر بأنه ليس مسؤولا عما يأتي في حياته من خير وشر، فما بال هذين الشاعرين اللذين اشتركا في هذه الآفة الطارئة كما اشتركا في التفوق والنبوغ قد سلكا هاتين الطريقين المتعاكستين؟
صفحه نامشخص