الفصل الرابع
أقام أبو العلاء في سجنه الفلسفي هذا نحو خمسين عاما، أو استكشف ذات يوم أثناء إقامته ببغداد،
1
أو أثناء عودته منها، أو بعد أن استقر في المعرة أنه مقيم في هذا السجن منذ رشد وبلا لذات التفكير وآلامه. فجعل منذ استكشف سجنه الفلسفي هذا يبلوه من جميع نواحيه، ويختبره على أي وضع من أوضاعه، ولا يرى من هذا البلاء والاختبار إلا شرا متصلا، وألما مقيما.
وقد كان يدركه التعب، ويبلغ منه الإعياء، فيستسلم إلى القنوط، ويستريح إلى اليأس حينا، ثم لا يلبث أن يسترد رجاءه، أو قل أن يسترد نشاطه، فيستأنف البحث والدرس، ويعاود الابتلاء والاختبار، ويحاول الصعود بعقله إلى السماء، فيرد عنها مدحورا.
وربما أتيح لأبي العلاء بين حين وحين شيء من التواضع فاستراح إلى ما يستريح إليه غيره من الناس، وعرف قدر نفسه أو قل قدر عقله، وأمل في روح الله ورحمته. وكان مثله في ذلك مثل الرجل الذي دفع إلى سفر غير قاصد في طريق طويلة طويلة لا ينتهي طولها، عسيرة عسيرة لا يسهل عسرها، قد سلطت عليها الشمس أشعتها الملتهبة المحرقة، فضرمت من حوله كل شيء، وجعلت الأرض التي يمشي عليها نارا لا يطاق مسها، والهواء الذي يتنفسه جحيما لا يطاق تنسمه. وهو مع ذلك مدفوع مدفوع لا يستطيع أن يرجع أدراجه؛ لأن من ورائه قوة لا تني عن دفعه، ولا يستطيع أن يقوم في مكانه ليستريح؛ لأن هذه القوة تدفعه دائما؛ ولأنه لا يجد الراحة في أي مكان يلم به. نار مهلكة تأخذه من كل وجه، وقوة عنيفة تدفعه إلى أمام، وأمل ضئيل نحيل يسبقه شيئا، ثم يقف له ويدعوه إلى نفسه، حتى إذا دنا منه، أو خيل إليه أنه دنا منه وثب هذا الأمل الضئيل النحيل وثبة أو وثبتين، ثم وقف لهذا المسافر المسكين يدعوه إلى نفسه مغريا له، ملحا عليه. وإنه لفي هذا السفر المتصل والعذاب الأليم، وإذا شجرات خضر قد بدون له مورقات مزهرات، لهن ظل رطب مريح، يجري بينهن غدير من ماء عذب صاف بارد، ينقع الغلة، ويشفي الظمأ، فيسرع المسكين إلى هذه الشجرات فيستظل بظلها حينا، ويشعر بشيء من النعيم لحظة، وينشد في نغمة حزينة - ولكن فيها اطمئنانا لا يخلو من قلق - هذه الأبيات:
صنوف هذي الحياة يجمعها
طول انتباه ورقدة وسنه
دنياك لو حاورتك ناطقة
خاطبت منها بليغة لسنه
صفحه نامشخص