إن البحث في العمران لم يكن في القديم إلا من هم بعض الحكماء، ولم يبن على قواعد راهنة إلا في هذا العصر وقريبا من هذا العهد، وعما قليل سيصير درس سننه من أول الضروريات للإنسان؛ لأن ارتقاء الإنسان في التمدن له نتيجتان لازمتان، وقد طالما عدهما الناس متناقضتين، وهما نمو الحياة الشخصية ونمو الحياة الاجتماعية معا. فقد كان الاعتقاد سابقا أن ما يبذله الفرد في مصلحة الجمهور إنما يبذله من مصلحة نفسه وبالعكس، ولم يكن يظن أن بين المصلحتين ارتباطا شديدا؛ ولذلك كانت شرائع البشر في القديم أشد انحرافا لجانب الاستبداد، وأقل احتراما لجانب العدل في التعاون والاشتراك في المنفعة، ولم تنجل هذه الحقيقة كما ينبغي إلا في هذا العصر؛ أي بعد أن رسخت معارف البشر في العلوم الطبيعية، وانجلى لهم بها ارتباط سنة هذا الكون، فرأوا اتفاقا حيث كان سواهم يرى انفصالا. فرأوا مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجمهور وبالعكس ارتباطا شديدا، حيث لا تتم حياة الواحد إلا بحياة الآخر؛ لأنهم رأوا السنن الفاعلة في الاجتماع نفس السنن الفاعلة في الأفراد.
ولذلك قالوا: إن الاجتماع لا تتم معرفة طبيعته وسننه إلا بمعرفة طبيعة الأفراد وسننها، كما أن الجسم الحي لا تتم معرفة سننه إلا بمعرفة سنن الكريات الحية التي يتركب منها؛ لأن كل صفات الاجتماع في الخلق والأخلاق متصلة إليه من الأفراد التي تؤلفه، وكل صفات الأفراد كذلك متوارثة فيهم ومنتقلة إليهم من الاجتماع. فإذا استقرينا هذه السنن في تاريخ نشوئها إلى أصلها الطبيعي خالين من الغرض والتشيع، انتقل بنا البحث في الاجتماع من دائرة الشريعة والسياسة إلى دائرة علم الحياة، ودخلنا في قسم من العلم الاجتماعي يمكن تسميته تاريخ الاجتماعات الطبيعي؛ لأن البحث حينئذ لا يقتصر على الحكم الوازع والاجتماعات السياسية، بل يعم الاجتماعات البشرية كافة، حتى الاجتماعات الحيوانية أيضا.
ولا يخفى ما يترتب على معرفة ذلك من الفوائد للعمران؛ لأن الفائدة إنما تحصل للعمران إذا جرى الإنسان فيه على سننه لا على ضدها، والبحث فيه على هذه الصورة واجب؛ ليعلم أي السياستين أولى به؛ آلسياسة الحرة أم السياسة الاستبدادية؟ وذلك أول ما يعول عليه أصحاب العقول الحرة لتأييد آرائهم؛ لأن أصدق الأدلة التي يجب الاعتماد عليها هي من العلوم الطبيعية، ثم إذا استقرينا هذه السنن إلى أصلها أيضا انتقل البحث بنا ضرورة إلى العلوم الطبيعية؛ لأن السنن الفاعلة في الكريات الحية هي نفس السنن الفاعلة في جواهرها الفردة؛ ولذلك كان البحث في علم الاجتماع - تاج العلوم البشرية - من أعظم المباحث لمعرفة سر الحياة الكلية المستولية على عامة سنن الكون. •••
وتشبيه العمران بجسم حي قديم جدا؛ فالفلاسفة المتقدمون كأفلاطون وأرسطو شبهوه بحيوان كثير الرءوس، وفلاسفة القرن الثامن عشر كشكسبير وروسو وصفوا له أعضاء أيضا، ولكن هذه المشابهة مجازية عند أكثر المتقدمين، قياسية عند أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر، وتعتبر مشابهة بالمطابقة اليوم؛ فإن «سبنسر» الإنكليزي لا يفرق بين سنن الاجتماع وسنن الحياة، و«شفل» الألماني يصف الجسم الاجتماعي كأنه يصف حيوانا وصفا طبيعيا، فيصف الخلية الاجتماعية، أي العائلة، والأنسجة الاجتماعية وأعضاء الاجتماع وروح الاجتماع، و«جيجري» يجعل الاجتماعات بين الأحياء في كتاب له في الحيوان، ويصفها وصفا طبيعيا. وغيرهم ممن حذا حذوهم في هذا العصر كثير. فلنبحث معهم لنرى أولا: هل يصح تشبيه العمران بجسم حي؟ وهل السنن الفاعلة في الجسم الحي كالحيوان هي نفس السنن الفاعلة في العمران؟
فالجسم الحي مركب من أعضاء مختلفة، ولكل عضو من هذه الأعضاء عمل خاص ومشترك معا؛ أعني أن العضو الواحد يعمل غير ما يعمل الآخر، ويعمل له في آن واحد؛ فإن المعدة مثلا تعمل غير ما يعمل القلب ، والقلب غير ما يعمل الدماغ، وكل من الدماغ والقلب والمعدة لازم للآخر. وكذلك العمران، فإنه مركب أيضا من أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة؛ فالزارع يعمل غير ما يعمل الصانع، والصانع غير ما يعمل الوازع، وكل من الوازع والصانع والزارع لازم للآخر؛ فهو من هذا القبيل كالحي تماما. ولا تقتصر هذه المشابهة على الصفات الخاصة فقط، بل تتناول العامة أيضا؛ فقد قال سبنسر، وقوله حق: «إن القوى الكبرى في حيوان تام التركيب ثلاث، وهي: الغاذية، وأفعالها تهيئة الغذاء، وآلاتها المعدة والكبد وما يتلوهما. والمدبرة، وأفعالها تحصيل الغذاء، وآلاتها الدماغ والأعصاب وما يتلوها. والموزعة، وأفعالها توزيع الغذاء، وآلاتها القلب والشرايين وما يتلوها. وإن القوى الكبرى في العمران ثلاث كذلك، وهي: الصناعة، وأفعالها الاعتمال للمعاش. والحكومة، وأفعالها تحصيل أسباب هذا المعاش. والتجارة، وأفعالها توزيع هذا المعاش.» •••
ولقائل يقول: إذا كان هذا التركيب شرطا لازما للحياة، فهل يلزم منه أن تكون كل آلة مركبة حية؟ وهل الساعة حية؛ فإنها مركبة من آلات أو أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة كذلك؟ فعلى ذلك نجيب أن الفرق بين الآلات الطبيعية الحية والصناعية غير الحية هو أن الأولى ذات أعضاء، حتى في أهم أجزائها تعمل لحفظ الكل نظيرها، بخلاف الثانية؛ فإن أعضاءها نفسها غير مركبة من أعضاء مختلفة نظير تلك، ولا تفعل فيها نظير فعلها؛ أي إنها لا تعمل عملها من نفسها لحفظ الكل، بل بالضد من ذلك، فهي تميل دائما إلى إبطال هذا العمل. وهذا ما يمتاز به الحي عن غير الحي؛ ولذلك لم تكن الساعة حية، وأما العمران فحي؛ لأن كل عضو منه مركب من أعضاء أخرى تعمل نظيره لحفظ الكل كما في الجسم الحي، فكل حيوان مركب من حيوانات أخر أقل منه في التركيب. فإن الكريات الحية التي يتألف من مجموعها جسم كل حي، إنما هي أشخاص حية ذات حياة خاصة بها، ولها أميالها وشهواتها وأمراضها، كأنها أفراد البشر الذين يتألف من مجموعهم جسم العمران. والحيوانات الدنيا كالمفصلة والديدان يمكن تقسيمها إلى أجزاء تبقى حية بعد التقسيم كأنها مملكة تقسمت، بخلاف الآلات الصناعية. ورب معترض يقول: «إن ذلك لا يمكن في الحيوانات العليا.» فنجيب أن في إمكان بعض أجزاء هذه الحيوانات أن يبقى حيا بعد موت الحيوان كالأظفار والشعر، ويمكن فصلها كذلك من حيوان وإلصاقها بحيوان آخر حيث تبقى حية،
1
فهي أشبه شيء بأمة أضيفت إلى أخرى. وإذا كانت الحيوانات العليا لا تستطيع أن تبقى حية بعد تقطيعها إلى حد معلوم، فذلك لأن اختصاص الأعمال فيها أتم منه في الحيوانات السافلة؛ فهي أشبه شيء باجتماعات بعض أنواع الحيوان التامة الانتظام كالنمل؛ فإن المتعود منها على تحصيل قوته بواسطة غيره يموت إذا فصل عن البعض الآخر. •••
وهذا التعاون بين أعضاء الأجسام الحية، بحيث إن الواحد يعمل لنفسه وللكل في آن واحد، جر معه قضيتين فاسدتين في حقيقة الحياة؛ إحداهما تتعلق بالسبب والأخرى بالغاية. أما الأولى فيفرض فيها أن كل جزء من الأجزاء الحية له فوق ميله الخاص قوة خاصة تتولى أمره بالنسبة إلى نفسه وإلى غيره، وهي القوة الحيوية التي عضدها رجال من أهل المكانة في العلم. والحق أنه لا يفهم بماذا تختلف هذه القوة عن سواها من القوى التي توهموا وجودها قديما، ككراهة الطبيعة للفراغ والقوة النابضة للشرايين، وغيرهما من القوى التي عدها القدماء أنيات مجردة مستقلة، حتى أبان العلم فساد ذلك؛ إذ لم ير فيها سوى أسباب طبيعية متصلة ومرتبطة بعضها ببعض. وأما الثانية وهي الغاية، فيفرض فيها على ما يظهر أن كل جزء من الحي موفق للكل بقوة عاقلة كائنة فيه أو خارجة عنه. فإن كان هذا هو المفروض حقيقة فالعلم اليوم في غنى عنه؛ لإمكان تعليل المطلوب بأوفى بيان على وجه لا يقتضي هذا الفرض، فإن هذا التعاون الذي فيه يخدم الواحد الكل والكل الواحد إنما هو نتيجة تفاعل متبادل بين الأعضاء، فالعضو الواحد لا يهتم بغيره، ولا يشتغل إلا لخير نفسه، وإنما خيره مرتبط بخير غيره.
والأمر بالحقيقة كذلك، فإنه لا شيء أطمع من الكريات الحية التي تؤلف الجسم الحي؛ إذ كل كرية تطلب كل شيء لنفسها وتجذبه إليها، والحياة ليست سوى اكتفاء هذه المطامع. فالناظر إلى النتيجة لا جرم يظن، في أول الأمر، أن كل كرية إنما اشتغلت لسواها، وهي في الواقع لم تشتغل إلا لنفسها بدون غاية سوى حفظ ذاتها، وهذا كائن ضرورة بحفظ سواها، ومرتبط به ارتباطا ميكانيكيا؛ ولذلك قال بعض الباحثين في العمران إنه ينبغي لكل واحد من البشر أن يشتغل لخير نفسه، فيشتغل لخير الكل. ولا يخفى أن تنازع البقاء، كما هو مذهب داروين، يجعل بين هذه الكريات التي هي بالحقيقة حيوانات صغيرة تنازعا شديدا، تكون نتيجته ملاشاة البعض العديم المناسبة، وحفظ البعض الآخر المناسب لحياة الكل بالانتخاب الطبيعي. فتأخذ الكريات بذلك صورا معلومة، وتؤلف حيوانا معلوما. وهكذا على مر العصور ليس فيها شيء ثابت ثبوتا مطلقا، بل كل شيء فيها في حال المصير. فالتعاون بين أعضاء الأحياء ليس قصدا، وإنما هو نتيجة لازمة فقط. •••
صفحه نامشخص