مباحث علمية واجتماعية

شبلی شمیل d. 1335 AH
128

مباحث علمية واجتماعية

مباحث علمية واجتماعية

ژانرها

لكم دينكم ولي دين .

وأنا أسمع من هنا معترضا يقول: ومن أين ننفق المال على مثل هذه الأعمال؟ والجواب أن الحكومة لو اهتمت لما وجدت الأمر ممتنعا. على أنه توجد طريقة، والغاية تبرر الواسطة، سهلة جدا، وهي أن تتكفل كل بلد وكل قرية وكل دسكرة بنفقة مدارسها، تؤخذ من مواردها المختلفة، وما نفقتها بالشيء الكثير إذا توزعت على هذا الوجه. وكنت أود أن أرى حكومة الإنكليز التي بيدها قياد البلاد تتصرف فيها كما تريد لما تريد تغفل أمر التعليم في بلادها مثلما هي متغافلة عنه في مصر، كيف كانت تقوم قيامة الشعب والجرائد عليها؟ وإنما هناك يوجد شعب يقوم، وجرائد يخشى بأسها، وهنا لا يوجد إلا حكومة إن أصابت مرة فقد تخطئ عشرين؛ إذ لا رقيب عليها تحسب له حسابا، لا من الشعب ولا من الجرائد، فلا هم لها إلا أن تأمن شر المعاهدات لقضاء اللبانات، فإذا أمنت ذلك نامت على أذنيها كما يقول المثل الفرنساوي. ولا أفهم كيف ينام الإنسان على أذنيه، والمراد أنها نامت مطمئنة البال من كل بلبال.

على أن اللوم كله ليس على الحكومة وحدها؛ فأعيان البلاد وأصحاب الثروة منهم خصوصا الجالسون في صدر القوم لا يسلمون من الملام؛ لتقاعدهم عن كل الأعمال العمومية التي ينفعون بها أبناء وطنهم، وتكسبهم الذكر الحسن. فإننا لم نسمع بمشروع نافع مدوا إليه يد المساعدة غير بناء زاوية في مسجد، وإقامة وليمة لأمير، وإحسان إلى فقير، والله غني عنهم، والأمير كذلك، والفقير واحد الفقراء. فأين المستشفيات التي تداوى بها الأسقام، وتخفف فيها مصائب العباد التي جلبوها؟ وأي أمير من أمراء مصر، وأي وزير من وزرائها ممن ينفقون عن سعة، وما ينفقون إلا مما جمعوا من عرق الأهالي، وقف شيئا من ماله لإقامة مستشفى وبناء مدرسة، تحديا بالإفرنج الذين يحبون تقليدهم في كل شيء، وفيهم من جمع الملايين، ولا نعرف له أثرا ينفع الجمهور، ينفق عليه من فضل ما جمع؟ فإذا كان هؤلاء الكبار الذين «يفهمون الصورة إيه»، كما يقال في اللغة الدارجة، لم يقدموا على هذه الأعمال؛ فهل ننتظر ذلك من فلان الشيخ وفلان العمدة من أصحاب الثروة الطائلة، الذي إذا افتخر فإنما يفتخر كما افتخر ذلك المتصدي للولاية بأن جده أكل حمل حمار من الخيار؟ يتباهى الواحد منهم بأنه يأكل خروفا على «وقعته»، ويجرع قربة ماء من «شربته»، فهل من رجل خطير ينهض في مقدمة القوم، والأهالي ينقادون لكبارهم، يسعى في جمع شيء من المال للشروع في هذه الأعمال، ويكون عونا للحكومة، فينال خالص الشكر، ويترك من بعده جميل الذكر؛ ليشكرهم المرضى بأفئدة عظم الجميل عندها عظيم ما قاسته من الأدواء، ويشكرهم الأطفال بألسنة تعلمت أن تقرأ ألف باء تاء ثاء؟

2

المقالة الحادية والأربعون

التعليم العملي

1

نحن قد تسرعنا بطلبنا قلب نظام التعليم - لا من نظري بحت إلى عملي بحت؛ فإن ذلك قد يعده بعضهم بدعة في الشرق وفي الغرب أيضا - بل من نظري غالب إلى عملي أغلب، ولكن الذي نسطره بملء الأسف بعد سبع وعشرين سنة من الاحتلال البريطاني، وبعد أكثر من مائة سنة من محمد على الكبير، هو أن المدارس الأميرية المصرية عوضا عن أن ترتقي من هذه الجهة في هذا الزمان الطويل، تقهقرت جدا عما كانت عليه يوم أسسها ذلك الرجل الفطري العظيم؛ فقد كان التعليم العملي فيها - وكل شيء نسبي - أوسع جدا منه اليوم، كان نظامها على عهد مؤسسها يقصد منه تخريج رجال عمليين، يكفون البلاد حاجتها ، ويشيدون استقلالها على أساس مكين. وما مات حتى أخذ ذلك النظام يتفكك، والغاية الحقيقية المقصودة منه تتحول، إلى أن أوشكت العلوم العملية أن تموت، وحتى بلغت العلوم النظرية أوج زهوتها اليوم. والمصري بحكم الفطرة غير محتاج إلى تقوية ملكة العلوم الجدلية؛ فإن قوة النطق فيه مستوفية النمو في كل مراكزها، وإنما هو محتاج ككل شرقي إلى تقوية مراكز قوى العمل.

ولم تكتف الحكومة المصرية بذلك، بل أدخلت في مدارسها نظاما هو في شرع كل منصف بدعة؛ فقد قررت تعليم العلوم الدينية فيها. وقد طرب لهذا القرار جمهور الأمة وأعضاء الجمعية العمومية، وسيصفق له البرلمان البريطاني بكلتا راحتيه، وأقامت مسجدا فيها للمسلم. والعدل يقضي بأن تبني كنيسة للمسيحي وكنيسا لليهودي، وهيكلا للبوذي، ومذبحا للمجوسي، فما من أحد من هؤلاء إلا وله في ذلك حق، والحكومة ممثلة الجميع، وتتقاضى مالها من الجميع، اللهم إلا أن يكون معطلا أو لا يملك فيها شروى نقير؛ فهذا يسقط حقه في الاعتراض، ويحق له إذا كان يملك قيد شبر يدفع عليه الشيء النزر، وحينئذ لا يبقى لزوم لتلك الجامعة الدينية الكبرى، ألا وهي مدرسة الأزهر؛ إذ تصير مدارس الحكومة معاهد دينية بحتة، ولعل قلة اهتمام الحكومة اليوم بذلك المعهد الديني الكبير توطئة لهذا التحويل.

على أن الحكومة لا تعدم نصيرا من متخرجي مدارسها إذا استمسكت بالتخصيص ولم تشأ التعميم، ولا شيء أسهل عليها من استحصال فتوى من مدرسة اللاهوت الاجتماعي التي بجانبها، تصدرها ب «ما» و«لأن»، وتنتهي فيها ب «حيث»، وتكون أطول وأعرض من فتاوى علماء الكلام في الاستحالة والوجود الواجب، تثبت هذا الحق، وتدفع عنها هذا الاعتراض، وتسفه رأي القائلين غير قولها، وربما عدتهم من المصدعين.

صفحه نامشخص