أريدك في عز ولكنني أرى
على غير ما أرضى أرى العز قد ندا
فإن جرت في حكمي فما أنا جائر
فما أنا إلا باحث لم يجد بدا
جرى علماء الأخلاق اليوم مجرى أكثر الطبيعيين القائلين بالنشوء، فعدوا الإنسان الأدبي والعقلي كالإنسان الطبيعي ابن الفطرة وابن المكان وابن الزمان أيضا، فاعتبروه قابلا للارتقاء والانحطاط في آدابه وفي قواه العقلية، بحسب العوامل المختلفة التي تؤثر فيه من طبيعية وأدبية. والفطرة ليست بالحصر إلا استعدادا مكتسبا في الأصل من طبيعة المكان.
والشرقي، كما نريد به هنا, يدخل تحته الصيني والهندي والأفريقي والعربي والتركي والعجمي أيضا، وإن اختلفت مراكز البلاد التي يقطنها بعض اللاحقين بهذه الأجناس، مما يجعلهم في مركزهم الجغرافي واشتقاقهم الأنثروبولوجي أقرب إلى أهل الغرب منهم إلى أهل الشرق، إلا أنهم تجمعهم اليوم جامعة الوقوف والتقهقر في تاريخ العمران. ويطول بنا الشرح جدا لو أردنا استيفاء وصف كل من هذه الأجناس بحسب طبيعة بلاده وشرائعه وتعاليمه؛ لأنه وإن كان الجامع اليوم بين هذه الأجناس واحدا، وهو التقهقر الأدبي والعقلي، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم كثيرا في ذلك، ويختلفون كذلك في الأصل وقابليات العقل بحسب طبيعة البلاد، ويختلفون أيضا في مركزهم الاجتماعي بحسب شرائعهم وتعاليمهم.
ولا شك أن طبيعة البلاد أثرها في الإنسان شديد، كما ذهب إلى ذلك أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والبلدان، حيث قال في الفرق بين أهل آسيا وأوروبا ما خلاصته:
إن أهل آسيا تغلب عليهم السكينة ورقة الطباع، لما هم فيه من رغد العيش، بسبب خصب بلادهم واعتدال فصولهم؛ ولذلك لم يكن لهم شجاعة الرجال، ولا الصبر على المشقة، ولا الثبات في الأعمال، ولا علو الهمة، وطنيا كان أصلهم أم غريبا. ويغلب فيهم حب اللذات على كل شيء، بخلاف أهل أوروبا الذين هم معهم على طرفي نقيض من هذا القبيل؛ لصعوبة إقليمهم وقلة خصب بلادهم.
ولكن الاقتصار على هذا الأثر لا يكفي في مثل بحثنا؛ فإن الإنسان وإن يكن ابن المكان فهو ابن التربية والتعليم أيضا. وقد فطن إلى شيء من ذلك أبقراط نفسه حيث قابل بين حكومات أوروبا وحكومات آسيا، فقال إن أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا؛ بسبب طبيعة بلادهم، وبسبب نوع أحكامهم أيضا ، فإن أهل أوروبا تحكمهم شرائعهم، وأما أهل آسيا فتحكمهم ملوك، وشتان بين النجدة التي يقوم بها من يدافع عن نفسه، والنجدة التي يظهرها من يدافع عن غيره.
ولا ريب أن أثر العوامل الأدبية في الإنسان شديد جدا، وربما كان أشد من أثر العوامل الطبيعية، حتى ذهب الباحثون في طبائع الحيوان إلى أن الإنسان لم يتغير في بدنه كثيرا من يوم اتخذ الكساء واصطنع السلاح وبنى البيوت. يريدون أن يثبتوا بذلك أن الإنسان قادر على مقاومة الطبيعة بالصناعة. وأهم هذه العوامل العلم، قال لتري معقبا على أبقراط ما نصه: «إن أبقراط يقول إن طبيعة الإقليم والشرائع هي التي تجعل أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا. ومعلوم أنا رأينا، على تراخي الأيام، أن الفرس الذين غلبهم اليونان لم يقدر عليهم الرومان بعد ذلك، وأن اليونان ضعفوا جدا في عهد سقوط سلطتهم وذبول شوكتهم، وأن العرب أتاهم يوم كان لهم فيه نصر في الحروب مبين، وشرف ينطح السماك بروقيه، وعز يقلقل الجبال. فمثل هذه الأمثلة تكفي لأن تبين أن النجدة للحروب لا تختص بإقليم دون آخر. وكذلك يقال عن الأحكام؛ فإن النجدة لا تتوقف عليها، كما أنها لا تتوقف على الإقليم، بل على النظام وعلم الحرب؛ فإن نفرا قليلين منظمين من الأسوجيين ظهروا على الروس الكثيرين الغير المنظمين في موقعة بلتاوا، والإنكليز قد جندوا من الهنود جنودا شديدة البأس في سنين قليلة، وقد كان للمصريين على عهد محمد علي جنود باسلة. فالإقليم والحكومات أثرها في نجدة الحرب قليل، والنظام والعلم هما اللذان يفعلان كل شيء.» وهذا القول مع ما فيه من الانحياز إلى جانب دون آخر، كما أبنا ذلك في محله، صحيح باعتبار أن العلم من أقوى الوسائط المؤثرة في الإنسان والمغيرة له. ولنا مثال حديث في اليابان اليوم، وما أظهرته من النهضة الاجتماعية والحربية في سنين قليلة، حتى ظهرت على الصين التي تزيدها نحو عشرين ضعفا في عدد السكان بفضل العلم.
صفحه نامشخص