Mabahith Al-Amr Criticized by Sheikh Al-Islam Ibn Taymiyyah in Majmoo' Al-Fatawa
مباحث الأمر التي انتقدها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى
ناشر
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
شماره نسخه
السنة السادسة والثلاثون
سال انتشار
العدد (١٢٣)
ژانرها
مُقَدّمَة
إِن الْحَمد لله نحمده، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، وَمن سيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.﴾ ١
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣
أما بعد فَإِن خير الحَدِيث كتاب الله، وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد ﷺ، وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار.
أهمية الْمَوْضُوع ثمَّ إِن علم أصُول الْفِقْه علم شَرْعِي أصيل، طيبَة ثَمَرَته، باسقة شجرته، وَقد بدأت أُصُوله كَسَائِر الْعُلُوم الإسلامية ببعثة البشير النذير والسراج الْمُنِير رَسُول رب الْعَالمين الْمَبْعُوث رَحْمَة للْعَالمين مُحَمَّد بن عبد الله ﷺ، وَقد قَامَ الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم بعد وَفَاة الرَّسُول ﷺ بأعباء الْفَتْوَى وَالْقَضَاء، وَكَانَ استنباطهم للْأَحْكَام مَبْنِيا على قَوَاعِد متينة، وأصول راسخة وَكَانَ ذَلِك مَعْرُوفا لَهُم لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى تدوين وتأليف، وَلَا زَالَ الْأَمر كَذَلِك إِلَى أَن تهيأت
_________
١ - سُورَة آل عمرَان آيَة رقم ١٠٢.
٢ - سُورَة النِّسَاء آيَة رقم ١.
٣ - سُورَة الْأَحْزَاب آيَة رقم ٧٠ - ٧١.
1 / 355
الْأَسْبَاب، وَقَامَت الْحَاجة الداعية إِلَى تدوين قَوَاعِد وأصول الاستنباط بعد اخْتِلَاط اللِّسَان الْعَرَبِيّ بِغَيْرِهِ من اللهجات، وَظُهُور أفكار وعلوم جَدِيدَة فِي الساحة الإسلامية مَبْنِيَّة على أسس غير إسلامية، فتصدى للتأليف فِيهِ الإِمَام الْكَبِير مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي، فَكتب الرسَالَة فِي أصُول الْفِقْه، على أسس صَحِيحَة، وطرق عِنْد أهل الشَّرْع مسلوكة، إِلَّا أَنه من أَسف شَدِيد تصدى أهل الأفكار المنحرفة والعقائد الْفَاسِدَة للتأليف فِيهِ بعد الإِمَام الشَّافِعِي ﵀ وأدخلوا فِي علم أصُول الْفِقْه مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَقد أدخلت الْفرق المنحرفة أُصُولهَا الْبَاطِلَة فِي كثير من عُلُوم الْإِسْلَام الْمَحْضَة، يَقُول شيخ الْإِسْلَام ﵀ عَن الْمُعْتَزلَة ومنكري الْحِكْمَة: “ثمَّ إِن كثيرا من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِير القرءان والْحَدِيث وَالْفِقْه فيبنون على تِلْكَ الْأُصُول الَّتِي لَهُم وَلَا يعرف حقائق أَقْوَالهم إِلَّا من عرف مأخذهم”١ وبسبب هَذَا كثر خلط الْعُلُوم الإسلامية ولاسيما علم أصُول الْفِقْه بالأصول الفلسفية، يَقُول شيخ الْإِسْلَام: “من لَهُ مَادَّة فلسفية من متكلمة الْمُسلمين كَابْن الْخَطِيب وَغَيره يَتَكَلَّمُونَ فِي أصُول الْفِقْه الَّذِي هُوَ علم إسلامي مَحْض فيبنونه على تِلْكَ الْأُصُول الفلسفية”٢، وَأول من أبرز الْمنطق فِي أصُول الْفِقْه وَخَصه بالمقدمة فِي هَذَا الْعلم أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ، يَقُول شيخ الْإِسْلَام: “وَأول من خلط منطقهم بأصول الْمُسلمين أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ”٣ “وَإِنَّمَا كثر اسْتِعْمَالهَا فِي زمن أبي حَامِد، فَإِنَّهُ أَدخل مُقَدّمَة من الْمنطق اليوناني فِي أول كِتَابه الْمُسْتَصْفى وَزعم أَنه لَا يَثِق بِعِلْمِهِ إِلَّا من عرف هَذَا الْمنطق”٤.
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/٢٠٣ - ٢٠٤.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٢/٨٦.
٣ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٩/٢٣١.
٤ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٩/١٨٤ - ١٨٥. وَانْظُر الْمُسْتَصْفى ١/٣٠ حَيْثُ قَالَ عَن الْمُقدمَة المنطقية “وَلَيْسَت هَذِه الْمُقدمَة من جملَة علم الْأُصُول وَلَا من مقدماته الْخَاصَّة بِهِ بل هِيَ مُقَدّمَة الْعُلُوم كلهَا وَمن لَا يُحِيط بهَا فَلَا ثِقَة لَهُ بِعُلُومِهِ أصلا”
1 / 356
وعندما أدخلت هَذِه الفلسفات وصناعة الْمنطق فِي الْعُلُوم الإسلامية انحرفت بِكَثِير مِنْهَا عَن جادة الصَّوَاب، ومعين الْكتاب وَالسّنة لذا تَجِد أَن “كثيرا من النَّاس يقْرَأ كتبا مصنفة فِي أصُول الدّين وأصول الْفِقْه بل فِي تَفْسِير القرءان والْحَدِيث وَلَا يجد فِيهَا القَوْل الْمُوَافق للْكتاب وَالسّنة الَّذِي عَلَيْهِ سلف الْأمة وأئمتها وَهُوَ الْمُوَافق لصحيح الْمَنْقُول وصريح الْمَعْقُول، بل يجد أقوالًا كلٌّ مِنْهَا فِيهِ نوع من الْفساد والتناقض، فيحار مَا الَّذِي يُؤمن بِهِ فِي هَذَا الْبَاب، وَمَا الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُول، وَمَا هُوَ الْحق والصدق، إِذْ لم يجد فِي تِلْكَ الْأَقْوَال مَا يحصل بِهِ ذَلِك”١ و“إِدْخَال صناعَة الْمنطق فِي الْعُلُوم الصَّحِيحَة يطول الْعبارَة، وَيبعد الْإِشَارَة، وَيجْعَل الْقَرِيب من الْعلم بَعيدا، واليسير مِنْهُ عسيرًا، وَلِهَذَا تَجِد من أدخلهُ فِي الْخلاف، وَالْكَلَام، وأصول الْفِقْه، وَغير ذَلِك، لم يفد إِلَّا كَثْرَة الْكَلَام والتشقيق مَعَ قلَّة الْعلم وَالتَّحْقِيق، فَعلم أَنه من أعظم حَشْو الْكَلَام، وَأبْعد الْأَشْيَاء عَن طَريقَة ذَوي الأحلام”٢
وَمَعَ إِدْخَال صناعَة الْمنطق والفلسفة فِي أصُول الْفِقْه أَدخل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا طائل تَحْتَهُ، بل ضَرَره أَكثر من نَفعه وَذَلِكَ لِكَثْرَة من كتب فِيهِ من الْمُتَكَلِّمين “وَأَكْثَرهم لَا خبْرَة لَهُم بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان، بل ينصر مقالات يَظُنهَا دين الْمُسلمين، بل إِجْمَاع الْمُسلمين، وَلَا يكون قد قَالَهَا أحد من السّلف، بل الثَّابِت عَن السّلف مُخَالف لَهَا”٣
وكل هَذَا جعل علم أصُول الْفِقْه فِي بعض مباحثه علما صَعب الْعبارَة معقد الْأَلْفَاظ بَعيدا عَن أصُول الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين فِي الْغَالِب، مِمَّا جعل كثيرا من
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/١٠٢.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٩/٢٤.
٣ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/٣٣٤ - ٣٣٥.
1 / 357
طلبة الْعلم منصرفين عَنهُ زاهدين فِيهِ، وَمن أُلْزِم بِهِ رأى أَنه يدرس علما لَا ثَمَرَة لَهُ، وَأَنه حُمِّل حملا عَظِيما بِلَا فَائِدَة وَلِهَذَا وَغَيره كَانَ الْوَاجِب أَن يرجع بالعلوم الإسلامية عُمُوما، وبعلم أصُول الْفِقْه خُصُوصا إِلَى الصفاء السَّابِق وَأَن ترد إِلَى أُصُولهَا الثَّابِتَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّة المعتبرون المهديون “وَقد صُنِّف فِي الْإِسْلَام عُلُوم النَّحْو، واللغة، وَالْعرُوض، وَالْفِقْه، وأصوله، وَالْكَلَام، وَغير ذَلِك، وَلَيْسَ فِي أَئِمَّة هَذِه الْفُنُون من كَانَ يلْتَفت إِلَى الْمنطق، بل عامتهم كَانُوا قبل أَن يعرب هَذَا الْمنطق اليوناني، وَأما الْعُلُوم الموروثة عَن الْأَنْبِيَاء صرفا وَإِن كَانَ الْفِقْه وأصوله مُتَّصِلا بذلك فَهِيَ أجل وَأعظم من أَن يظنّ أَن لأَهْلهَا التفاتًا إِلَى الْمنطق، إِذْ لَيْسَ فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة من هَذِه الْأمة، الَّتِي هِيَ خير أمة أخرجت للنَّاس، وأفضلها الْقُرُون الثَّلَاثَة، من كَانَ يلْتَفت إِلَى الْمنطق أَو يعرج عَلَيْهِ، مَعَ أَنهم فِي تَحْقِيق الْعُلُوم وكمالها بالغاية الَّتِي لَا يدْرك أحد شأوها كَانُوا أعمق النَّاس علما، وَأَقلهمْ تكلفًا وأبرهم قلوبًا”١ “وَإِنَّمَا الْهدى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول الَّذِي قَالَ الله فِيهِ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ ٢ ٣.
“وَالصَّوَاب فِي جَمِيع مسَائِل النزاع مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف من الصَّحَابَة، وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان، وَقَوْلهمْ هُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْكتاب، وَالسّنة، وَالْعقل الصَّرِيح”٤.
فَيجب أَن يُعْرَضَ مَا دُوِّن فِي كتب أصُول الْفِقْه على الْكتاب وَالسّنة على ضوء فهم السّلف الصَّالح رضوَان الله عَلَيْهِم، كَمَا يعرض الذَّهَب على النَّار،
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٩/٢٣.
٢ - سُورَة الشورى آيَة رقم ٥٢ - ٥٣.
٣ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/١٠٢.
٤ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/٢٠٥.
1 / 358
ليبقى النافع الصافي ويرمى الضار فَإِن “مسَائِل النزاع الَّتِي تنَازع فِيهَا الْأمة فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع إِذا لم ترد إِلَى الله وَالرَّسُول لم يتَبَيَّن فِيهَا الْحق، بل يصير فِيهَا المتنازعون على غير بَيِّنَة من أَمرهم”١ و“من بنى الْكَلَام فِي الْعلم، وَالْأُصُول، وَالْفُرُوع، على الْكتاب، وَالسّنة، والْآثَار المأثورة عَن السَّابِقين، قد أصَاب طَرِيق النُّبُوَّة”٢.
وَمن أجل مَا تقدم عقدت الْعَزْم على أَن أبذل مَا أمكنني فِي محاولة الْمُشَاركَة فِي إِعَادَة هَذَا الْعلم الْأَصِيل إِلَى أصالته السلفية، وَبَيَان زيف مَا أُدْخِل فِيهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ ويضر وَلَا ينفع وَبعد طول بحث وَكَثْرَة الْكَشْف وَالسُّؤَال، وتدبر لأنجع الطّرق فِي ذَلِك، ظهر لي أَن خير وَسِيلَة لذَلِك نقل أَقْوَال الْعلمَاء النقاد، الَّذين سخروا حياتهم لنصرة الْكتاب وَالسّنة، وإبراز نصوصهم، وَرَأَيْت أَن أَكثر هَؤُلَاءِ الْعلمَاء تناولًا لمباحث أصُول الْفِقْه عرضا، ونقدًا، وتحليلًا وتقريرًا، شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية ﵀ فعزمت على إِخْرَاج موسوعة أصولية من كتب شيخ الْإِسْلَام بِحَيْثُ يكون متنها من كَلَامه ﵀ فَبَدَأت بِمَجْمُوع الْفَتَاوَى فَقَرَأته قِرَاءَة كَامِلَة مرَارًا، واستخرجت كل مَا يتَعَلَّق بأصول الْفِقْه فِي هَذَا الْمَجْمُوع الْمُبَارك وَقسمت ذَلِك إِلَى أَقسَام، أَولهَا قسم التعريفات الْأُصُولِيَّة وَهُوَ بحث قُدم لإحدى المجلات المحكمة لنشره فِيهَا.
وَأما الْقسم الثَّانِي فَهُوَ المباحث الْأُصُولِيَّة الَّتِي انتقدها شيخ الْإِسْلَام فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى وَهَذَا الْبَحْث الَّذِي بَين أَيْدِينَا باكورة هَذِه المباحث بعنوان “مبَاحث الْأَمر الْأُصُولِيَّة الَّتِي انتقدها شيخ الْإِسْلَام فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى” وستتلوه إِن شَاءَ الله بَقِيَّة المباحث وَهِي كلهَا بِحَمْد الله جاهزة للدَّفْع للنشر قَرِيبا بِإِذن الله تَعَالَى.
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٧/٣١١.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٠/٣٦٣.
1 / 359
التَّمْهِيد
تَرْجَمَة موجزة لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية وَبَيَان منهجه فِي نقد المباحث الْأُصُولِيَّة إِجْمَالا
الْمطلب الأول: اسْمه، وَنسبه، وشهرته، ولقبه، وكنيته
...
الْمطلب الأول: اسْمه وَنسبه وشهرته ولقبه وكنيته
هُوَ أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم الْخضر ابْن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي.
الإِمَام، الْعَلامَة، الْفَقِيه، الْمُجْتَهد، النَّاقِد، الْمُفَسّر، البارع، الْحَافِظ، الْمُحدث الأصولي، عَلَم الزهاد، ونادرة الدَّهْر.
كَانَ ﵀ من أسرة علم وورع، فوالده الْعَلامَة الْمُفْتِي شهَاب الدّين
1 / 364
الْمطلب الثَّانِي: مولده، ونشأته
ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ، عَاشر ربيع الأول، سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران، وَقيل ثَانِي عشر ربيع الأول.
وعاش فِي حران بضع سِنِين، ثمَّ قدمت أسرته إِلَى دمشق فِرَارًا من التتار الَّذين استولوا على الْبِلَاد سنة سبع وَسِتِّينَ، وَأَقْبل على الْعُلُوم فِي صغره، وَختم القرءان، وَأخذ الْفِقْه وَالْأُصُول عَن وَالِده، وَعَن الشَّيْخ شمس الدّين بن أبي عمر، وَالشَّيْخ زين الدّين ابْن المنجا وبرع فِي ذَلِك، وَقَرَأَ فِي الْعَرَبيَّة أَيَّامًا على بن عبد الْقوي، ثمَّ أَخذ كتاب سِيبَوَيْهٍ فَتَأَمّله ففهمه، وَأَقْبل على تَفْسِير القرءان الْكَرِيم وبَرَّز فِيهِ، وَأحكم أصُول الْفِقْه، والفرائض والحساب، والجبر، والمقابلة، وَغير ذَلِك من الْعُلُوم، وَنظر فِي علم الْكَلَام، وبرز فِي ذَلِك على أَهله، ورد على كبارهم، وتأهل للْفَتْوَى، والتدريس، وَله دون الْعشْرين سنة، وَأفْتى من قبل الْعشْرين أَيْضا.
1 / 365
وأمده الله بِكَثْرَة الْكتب، وَسُرْعَة الْحِفْظ، وَقُوَّة الْإِدْرَاك، والفهم، وبطء النسْيَان حَتَّى قَالَ غير وَاحِد إِنَّه لم يكن يحفظ شَيْئا فينساه.
ثمَّ توفّي وَالِده وَكَانَ عمره إِحْدَى وَعشْرين سنة، فَقَامَ بوظائفه بعده، فدرَّس بدار الحَدِيث السكرية أول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، ثمَّ جلس عقب ذَلِك مَكَان وَالِده بالجامع لتفسير القرءان الْعَظِيم، وَكَانَ يُورد من حفظه فِي الْمجْلس نَحْو كراسين أَو أَكثر.
وَشرع الشَّيْخ فِي الْجمع، والتصنيف من دون الْعشْرين، وَلم يزل فِي علو وازدياد من الْعلم وَالْقدر إِلَى آخر عمره.
نشأته:
وَقد كَانَ مُنْذُ صغره ناشئًا على الطَّاعَة، والبصيرة فِي دينه، والبعد عَن الْمُحرمَات واسمع لَهُ يَحْكِي قَائِلا: “وَكنت فِي أَوَائِل عمري حضرت مَعَ جمَاعَة من أهل الزّهْد، وَالْعِبَادَة والإرادة فَكَانُوا من خِيَار أهل هَذِه الطَّبَقَة، فبتنا بمَكَان وَأَرَادُوا أَن يقيموا سَمَاعا، وَأَن أحضر مَعَهم فامتنعت من ذَلِك، فَجعلُوا لي مَكَانا مُنْفَردا قعدت فِيهِ، فَلَمَّا سمعُوا، وَحصل الوجد وَالْحَال صَار الشَّيْخ الْكَبِير يَهْتِف بِي فِي حَال وجده وَيَقُول: يَا فلَان قد جَاءَك نصيب عَظِيم تعال خُذ نصيبك، فَقلت فِي نَفسِي، ثمَّ أظهرته لَهُم لما اجْتَمَعنَا: - أَنْتُم فِي حل من هَذَا النَّصِيب، فَكل نصيب لَا يَأْتِي عَن طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله فَإِنِّي لَا آكل مِنْهُ شَيْئا، وَتبين لبَعض من كَانَ فيهم مِمَّن لَهُ معرفَة وَعلم أَنه كَانَ مَعَهم الشَّيَاطِين”١.
وَقد كَانَت نشأته ﵀ فِي تصونٍ تَامّ، وعفاف، وَتعبد، واقتصاد فِي الملبس والمأكل، فَنَشَأَ على جَانب كَبِير من الْخَوْف من الله تَعَالَى، زاهدًا، ورِعًا، ملازمًا لِلْعِبَادَةِ وتلاوة القرءان الْكَرِيم، وَكَانَ قد قطع جلّ وقته وزمانه فِي عبَادَة الله، وَلم تشغله شاغلة عَن عبَادَة ربه وَكَانَت بضاعته طوال عمره الْعلم ونصرة السّنة.
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٤١٨ - ٤١٩.
1 / 366
الْمطلب الثَّالِث: صِفَاته الخِلقية، والخُلُقية، والعلمية
صِفَاته الخِلْقية:
كَانَ الشَّيْخ أَبيض، أسود الرَّأْس واللحية، قَلِيل الشيب، شعره إِلَى شحمة أُذُنه كَأَن عَيْنَيْهِ لسانان ناطقان، تلوح نَضرة النَّعيم على وَجهه، ربعَة من الرِّجَال، بعيد مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ، جَهورِي الصَّوْت.
صِفَاته الخُلُقِيَّة:
كَانَ سَمحا كَرِيمًا بطبعه لَا يتصنع ذَلِك، وَكَانَ لَا يرد من سَأَلَهُ شَيْئا، وَكَانَ حَلِيمًا كثير الْعَفو عمَّن آذاه حَتَّى قَالَ “فَلَا أحب أَن ينتصر من أحد بِسَبَب كذبه عَليّ أَو ظلمه أَو عدوانه فَإِنِّي قد أحللت كل مُسلم وَأَنا أحب الْخَيْر لكل الْمُسلمين وَأُرِيد بِكُل مُؤمن من الْخَيْر مَا أحبه لنَفْسي، وَالَّذين كذبُوا أَو ظلمُوا فهم فِي حل من جهتي”
فقد كَانَ حَلِيمًا رَفِيقًا محبًا للخير لَا يروم انتقامًا بل يعْفُو عَن مخالفه وَإِن ظلمه.
واسمع لَهُ ﵀ وَهُوَ يتحدث عَن مُخَالف لَهُ ناله من شَره الشَّيْء الْكثير، حَيْثُ يَقُول: “وَأَنا وَالله من أعظم النَّاس معاونة على إطفاء كل شَرّ فِيهَا وَفِي غَيرهَا، وَإِقَامَة كل خير، وَابْن مخلوف لَو عمل مهما عمل وَالله مَا أقدر على خير إِلَّا وأعمله مَعَه، وَلَا أعين عَلَيْهِ عدوه قطّ، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، هَذِه نيتي وعزمي، مَعَ علمي بِجَمِيعِ الْأُمُور فَإِنِّي أعلم أَن الشَّيْطَان ينزغ بَين الْمُؤمنِينَ، وَلنْ أكون عونًا للشَّيْطَان على إخْوَانِي الْمُسلمين” ١.
وَقَالَ أَيْضا “لَيْسَ غرضي فِي إِيذَاء أحد، وَلَا الانتقام مِنْهُ، وَلَا مؤاخذته، وَأَنا عافٍ عَمَّن ظَلَمَنِي” ٢.
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٧١.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٦٦.
1 / 367
وَكَانَ ﵀ صبورًا على من يكلمهُ، عادلًا فِي مُخَاطبَة مخالفيه، مُتبعا السّنة فِي مُعَاملَة وُلَاة الْأُمُور يَقُول ﵀ “النَّاس يعلمُونَ أَنِّي من أطول النَّاس روحًا وصبرًا على مُرِّ الْكَلَام، وَأعظم النَّاس عدلا فِي المخاطبة لأَقل النَّاس، داعٍ لولاة الْأُمُور”١.
وَكَانَ شجاعًا من أَشْجَع النَّاس وَأَقْوَاهُمْ قلبًا، مَا رأى النَّاس فِي عصره أحدا أثبت جأشًا مِنْهُ، وَلَا أعظم عناءً فِي جِهَاد الْعَدو وَكَانَ لَا يتْرك سَبِيلا من سبل الْجِهَاد إلاّ ولجه فَجَاهد بِقَلْبِه، وَلسَانه، وَيَده.
وَكَانَ ﵀ شَدِيد التَّمَسُّك بِدِينِهِ، مقدما حُرِّيَّته وَنَفسه وَمَاله فِي سَبِيل ذَلِك وَكَانَ لَا يُبَالِي بِمَا يلاقيه فِي سَبِيل الله شجاعًا فِي الْحق، مطمئن الْقلب، واثقًا بوعد الرب ﷾ يَقُول ﵀ “أَنا عَليّ أَي شَيْء أَخَاف إِن قتلت كنت من أفضل الشُّهَدَاء وَكَانَ عَليّ الرَّحْمَة والرضوان إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَانَ على من قتلني اللَّعْنَة الدائمة فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة، ليعلم كل من يُؤمن بِاللَّه وَرَسُوله أَنِّي إِن قتلت لأجل دين الله، وَإِن حبست فالحبس فِي حَقي من أعظم نعم الله عَليّ، وَوَاللَّه مَا أُطِيق أَن أشكر نعْمَة الله عَليّ فِي هَذَا الْحَبْس، وَلَيْسَ لي مَا أَخَاف النَّاس عَلَيْهِ لَا أقطاعي، وَلَا مدرستي، وَلَا مَالِي، وَلَا رياستي، وجاهي”٢.
وَكَانَ ﵀ حَرِيصًا على وحدة الْمُسلمين، وتأليف قُلُوبهم، والتقريب بَينهم وَإِزَالَة الوحشة الَّتِي تقع فِي قُلُوب الْمُخْتَلِفين، باذلًا فِي ذَلِك غَايَة طاقته، ومستفرغًا تَمام جهده يَقُول ﵀: “وَالنَّاس يعلمُونَ أَنه كَانَ بَين الحنبلية والأشعرية وَحْشَة ومنافرة، وَأَنا كنت من أعظم النَّاس تأليفًا لقلوب الْمُسلمين، وطلبًا لِاتِّفَاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنَا بِهِ من الِاعْتِصَام بِحَبل الله،
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٥١.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢١٥ - ٢١٦.
1 / 368
وَإِزَالَة عَامَّة مَا كَانَ فِي النُّفُوس من الوحشة وبينت لَهُم أَن الْأَشْعَرِيّ كَانَ من أجل الْمُتَكَلِّمين المنتسبين إِلَى الإِمَام أَحْمد ﵀ وَنَحْوه، المنتصرين لطريقته كَمَا يذكر الْأَشْعَرِيّ فِي كتبه١ ... وَلما أظهرت كَلَام الْأَشْعَرِيّ وَرَآهُ الحنبلية قَالُوا هَذَا خير من كَلَام الْمُوفق، وَفَرح الْمُسلمُونَ بِاتِّفَاق الْكَلِمَة”٢.
وَكَانَ ﵀ يُخَاطب النَّاس بِالَّتِي هِيَ أحسن، ويلين الْكَلَام للخصوم، إِلَّا فِي المواطن الَّتِي تَأمر فِيهَا الشَّرِيعَة بالإغلاظ قَالَ ﵀: “مَا ذكرْتُمْ من لين الْكَلَام والمخاطبة بِالَّتِي هِيَ أحسن، فَأنْتم تعلمُونَ أَنِّي من أَكثر النَّاس اسْتِعْمَالا لهَذَا، لَكِن كل شَيْء فِي مَوْضِعه حسن، وَحَيْثُ أَمر الله وَرَسُوله بالإغلاظ على الْمُتَكَلّم لبغيه، وعدوانه على الْكتاب، وَالسّنة فَنحْن مأمورون بمقابلته، وَلم نَكُنْ مأمورين أَن نخاطبه بِالَّتِي هِيَ أحسن”٣.
صِفَاته العلمية:
كَانَ ﵀ شَدِيد التَّمَسُّك بالأثر مُعظما لَهُ، وَمن أَشد النَّاس تَعْظِيمًا لرَسُول الله ﷺ، حَرِيصًا على اتِّبَاعه، باذلًا كل مَا يملكهُ فِي نصر مَا جَاءَ بِهِ، فَبنى علمه على نُصُوص الْكتاب، وَالسّنة، ونصوص سلف الْأمة، وَكَانَ فِي تأليفه ومناظراته مستحضرًا للأدلة من الْكتاب وَالسّنة، كَأَن الْكتاب وَالسّنة نصب عَيْنَيْهِ، وعَلى طرف لِسَانه، قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ: “برع فِي
_________
١ - وَهَذَا فِي المرحلة الثَّالِثَة من مراحل أبي الْحسن ﵀ حَيْثُ كَانَ ﵀ أَولا معتزليًا، ثمَّ ترك الاعتزال وَأَنْشَأَ مذهبا خَاصّا بِهِ، وَإِلَيْهِ ينتسب الأشاعرة من بعده إِلَى الْيَوْم، ثمَّ هداه الله إِلَى مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَقد أعلن تَوْبَته على الْمِنْبَر، وصنف فِي عقيدته الْأَخِيرَة كتبا من أشهرها كِتَابه الْإِبَانَة. انْظُر سير أَعْلَام النبلاء ١٥/٨٥.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٢٧ - ٢٢٩.
٣ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٣٢.
1 / 369
تَفْسِير القرءان، وغاص فِي دَقِيق مَعَانِيه، بطبع سيال وخاطر إِلَى مواقع الْإِشْكَال ميال، واستنبط مِنْهُ أَشْيَاء لم يسْبق إِلَيْهَا، وبرع فِي الحَدِيث وَحفظه، فَقل من يحفظ مَا يحفظه معزوًا إِلَى أُصُوله، وصحابته مَعَ شدَّة استحضار لَهُ وَقت إِقَامَة الدَّلِيل، وفَاق النَّاس فِي معرفَة الْفِقْه، وَاخْتِلَاف الْمذَاهب، وفتاوى الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا أفتى لم يلْتَزم بِمذهب بل بِمَا يقوم دَلِيله عِنْده، وأتقن الْعَرَبيَّة أصولًا، وفروعًا وتعليلًا، واختلافًا، وَنظر فِي العقليات وَعرف أَقْوَال الْمُتَكَلِّمين، ورد عَلَيْهِم، وَنبهَ على أخطائهم، وحذر مِنْهُم، وَنصر السّنة بأوضح حجج وأبهر براهين”.
وَكَانَ ﵀ متواضعًا فِي تَعْلِيمه للنَّاس، يجلس تَحت كرسيه ويدع صدر الْمجْلس عِنْد جُلُوسه للتدريس، وَيجْرِي فِي درسه مجْرى السَّيْل، وَيصير مُنْذُ يتَكَلَّم إِلَى أَن يفرغ كالغائب عَن الْحَاضِرين مغمضًا عينه من غير تعجرف، وَلَا توقف، وَلَا لحن، وَإِذا فرغ من درسه فتح عَيْنَيْهِ، وَأَقْبل على النَّاس بِوَجْه طلق بشوش، وَخلق دمث، كَأَنَّهُ قد لَقِيَهُمْ حِينَئِذٍ.
وَكَانَ لَا يسأم مِمَّن يستفتيه، أَو يسْأَله، وَيقف مَعَه حَتَّى يكون هُوَ الَّذِي يُفَارِقهُ كَبِيرا أَو صَغِيرا، رجلا، أَو امْرَأَة، حرا، أَو عبدا، ويجيب السَّائِل ويفهمه بلطف وانبساط.
وَكَانَ ﵀ عَالما متعمقًا فِي علمه، متبصرًا بِالسنةِ، ذابًا عَنْهَا، مُحَاربًا لمخالفتها شَدِيد الاهتمام بِالْعلمِ بِمَا ينْهَى عَنهُ من الْمُنْكَرَات، تأصيلًا، وتفريعًا حَتَّى يَقُول ﵀: “أَنا أعلم كل بِدعَة حدثت فِي الْإِسْلَام، وَأول من ابتدعها، وَمَا كَانَ سَبَب ابتداعها”١.
وَكَانَ يَدْعُو إِلَى ذَلِك، ويحض عَلَيْهِ، وَينْهى عَن أَن يقدم الْإِنْسَان على
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/١٨٤.
1 / 370
إِنْكَار شَيْء بِلَا حجَّة وَلَا علم يَقُول ﵀: “وَمِمَّا يجب أَن يعلم أَن الَّذِي يُرِيد أَن يُنكر على النَّاس لَيْسَ لَهُ أَن يُنكر إِلَّا بِحجَّة وَبَيَان، إِذْ لَيْسَ لأحد أَن يلْزم أحدا بِشَيْء، وَلَا يحظر على أحد شَيْئا بِلَا حجَّة خَاصَّة، إِلَّا رَسُول الله ﷺ الْمبلغ عَن الله الَّذِي أوجب على الْخلق طَاعَته، فِيمَا أَدْرَكته عُقُولهمْ، وَمَا لم تُدْرِكهُ، وَخَبره مُصدق فِيمَا علمناه وَمَا لم نعلمهُ، أما غَيره إِذا قَالَ هَذَا صَوَاب أَو خطأ فَإِن لم يبين ذَلِك بِمَا يجب بِهِ اتِّبَاعه [لم يجب اتِّبَاعه] ١، فَأول دَرَجَات الْإِنْكَار أَن يكون الْمُنكر عَالما بِمَا يُنكره ... فَلَيْسَ لأحد من خلق الله كَائِنا من كَانَ أَن يبطل قولا أَو يحرم فعلا إِلَّا بسُلْطَان الْحجَّة”٢.
وَلم يكن ﵀ دَاعيا إِلَى مَذْهَب أحد من النَّاس فِي أصُول الدّين، بل كَانَ منافحًا عَن مَنْهَج السّلف دَاعيا إِلَيْهِ ومنتصرًا لَهُ، وَكَانَ يَقُول: “كلما كَانَ عهد الْإِنْسَان بالسلف أقرب كَانَ أعلم بالمعقول وَالْمَنْقُول”٣ وَيَقُول ﵀: “مَعَ أَنِّي فِي عمري إِلَى سَاعَتِي هَذِه لم أدع أحدا قطّ فِي أصُول الدّين إِلَى مَذْهَب حنبلي وَغير حنبلي، وَلَا انتصرت لذَلِك، وَلَا أذكرهُ فِي كَلَامي، وَلَا أذكر إِلَّا مَا اتّفق عَلَيْهِ سلف الْأمة وأئمتها، وَقد قلت لَهُم غير مرَّة أَنا أمْهل من يخالفني ثَلَاث سِنِين إِن جَاءَ بِحرف وَاحِد عَن أحد من أَئِمَّة الْقُرُون الثَّلَاثَة يُخَالف مَا قلته فَأَنا أقرّ بذلك، وَأما مَا أذكرهُ فأذكره عَن أَئِمَّة الْقُرُون الثَّلَاثَة بألفاظهم وألفاظ من نقل إِجْمَاعهم من عَامَّة الطوائف”٤.
وَكَانَ ﵀ مُتبعا للنصوص ومنهج السّلف الصَّالح رضوَان الله عَلَيْهِم
_________
١ - مَا بَين القوسين زِيَادَة من الباحث ليستقيم الْكَلَام.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٥٤.
٣ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٢٨.
٤ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٢٩.
1 / 371
فِي نِسْبَة معِين إِلَى تَكْفِير أَو تفسيق، ناهيًا عَن التسرع فِي ذَلِك، مطالبًا بالتثبت فِي ذَلِك وَاتِّبَاع الشُّرُوط الشَّرْعِيَّة فِيهِ يَقُول ﵀ “إِنِّي دَائِما وَمن جالسني يعلم ذَلِك مني أَنِّي من أعظم النَّاس نهيا عَن أَن ينْسب معِين إِلَى تَكْفِير، وتفسيق، ومعصية، إِلَّا إِذا علم أَنه قد قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة الرسالية الَّتِي من خالفها كَانَ كَافِرًا تَارَة، وفاسقًا أُخْرَى، وعاصيًا أُخْرَى، وَأَنِّي أقرر أَن الله غفر لهَذِهِ الْأمة خطأها، وَذَلِكَ يعم الْخَطَأ فِي الْمسَائِل الخبرية القولية، والمسائل العملية”١.
وَكَانَ ﵀ ذَا علم متبحر، مستظهرًا لأقوال السّلف الصَّالح رضوَان الله عَلَيْهِم والأدلة النقلية، والعقلية، وَهَذَا ظَاهر بَيِّن تَمام الْبَيَان فِي مَجْمُوع الْفَتَاوَى، وَمن ذَلِك أَنه ﵀ سُئِلَ عَن رجلَيْنِ تجادلا فِي الأحرف الَّتِي أنزلهَا الله على آدم، فَقَالَ أَحدهمَا: إِنَّهَا قديمَة، لَيْسَ لَهَا مُبْتَدأ، وشكلها ونقطها مُحدث، وَقَالَ الآخر: لَيست بِكَلَام الله، وَهِي مخلوقة، بشكلها، ونقطها، وَالْقَدِيم هُوَ الله وَكَلَامه مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود منزل غير مَخْلُوق وَلكنه كتب بهَا وسألا أَيهمَا أصوب قولا وَأَصَح اعتقادًا؟
فَأجَاب ﵀ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة من صفحة ٣٧ إِلَى نِهَايَة صفحة ١١٦ من المجلد الثَّانِي عشر من مَجْمُوع الْفَتَاوَى، وَتكلم عَن الْمَسْأَلَة تأصيلًا، وتقعيدًا، وتفريعًا وتدليلًا، وَنقل أَقْوَال سلف الْأمة وأئمتها بنصوصهم، حَتَّى يخيل للقارئ أَن شيخ الْإِسْلَام قد قضى فِي تحريرها أَيَّامًا عديدة، وراجع مئات الْكتب، وَإِذا بِهِ ﵀ يَقُول فِي آخر الْجَواب “وَلَكِن هَذَا الْجَواب كتب وَصَاحبه مستوفز فِي قعدة وَاحِدَة” ٢.
وَسُئِلَ فِي سُؤال آخر عَن قوم يَقُولُونَ “كَلَام النَّاس وَغَيرهم قديم ... وَلَا فرق بَين كَلَام الله وَكَلَامهم فِي الْقدَم إِلَّا من جِهَة الثَّوَاب، وَقَالَ قوم مِنْهُم بل
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ٣/٢٢٩.
٢ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٢/١١٦.
1 / 372
أَكْثَرهم أصوات الْحمير وَالْكلاب كَذَلِك، وَلما قرئَ عَلَيْهِم مَا نقل عَن الإِمَام أَحْمد ردا على قَوْلهم، تأولوا ذَلِك وَقَالُوا: إِن أَحْمد إِنَّمَا قَالَ ذَلِك خوفًا من النَّاس، فَهَل هَؤُلَاءِ مصيبون أَو مخطئون؟ وَهل يكفرون بالإصرار على ذَلِك أم لَا؟ وَهل الَّذِي نقل عَن الإِمَام أَحْمد حق كَمَا زَعَمُوا أم لَا؟
فَأجَاب ﵀ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة من صفحة ٣٢٣ إِلَى صفحة ٥٠١ من المجلد الثَّانِي عشر بِنَفس منهجه فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة، مَعَ ذكر الْمسَائِل المرتبطة بالسؤال، بترتيب عَجِيب وتتابع دَقِيق، ودقة فِي النَّقْل، وكل هَذَا فِي جلْسَة وَاحِدَة وَصَاحب الْفَتْوَى جَالس عِنْده عجلَان حَيْثُ قَالَ ﵀ “لَكِن هَذَا الْموضع فِيهِ اشْتِبَاه وإشكال، لَا تحْتَمل تحريره وَبسطه هَذِه الْفَتْوَى، لِأَن صَاحبهَا مستوفز عجلَان يُرِيد أَخذهَا” ١.
وَهَذَا تَمْثِيل فَقَط وَقَلِيل من كثير وغيض من فيض من الْمسَائِل الْمَعْرُوفَة عَن الشَّيْخ الَّتِي تدل على غزارة علمه وتمكنه من الْعُلُوم، واستحضاره للدلائل، ودقة نَقله، وَشدَّة حفظه لما أثر عَن السّلف فِي الْعُلُوم.
_________
١ - مَجْمُوع الْفَتَاوَى ١٢/٤١٦.
الْمطلب الرَّابِع: شُيُوخه وتلاميذه شُيُوخه: أولع الشَّيْخ بِطَلَب الْعلم من صغره، وأوقف حَيَاته على طلب الْعلم، فَسمع من كثير من الشُّيُوخ فَسمع من أَكثر من مِائَتي شيخ مِنْهُم: ١ - وَالِده، عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن تَيْمِية الْحَرَّانِي شهَاب الدّين (٦٢٧ - ٦٨٢ هـ) ٢. _________ ٢ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/١٦٦ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣١٠.
الْمطلب الرَّابِع: شُيُوخه وتلاميذه شُيُوخه: أولع الشَّيْخ بِطَلَب الْعلم من صغره، وأوقف حَيَاته على طلب الْعلم، فَسمع من كثير من الشُّيُوخ فَسمع من أَكثر من مِائَتي شيخ مِنْهُم: ١ - وَالِده، عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بن عبد الله بن تَيْمِية الْحَرَّانِي شهَاب الدّين (٦٢٧ - ٦٨٢ هـ) ٢. _________ ٢ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/١٦٦ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣١٠.
1 / 373
٢ - مُحَمَّد بن عبد الْقوي بن بدران الْمَقْدِسِي الصَّالِحِي الْحَنْبَلِيّ (٦٣٠ - ٦٩٩هـ (١.
٣ - عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي الصَّالِحِي (٥٩٧ - ٦٨٢ هـ (٢.
٤ - منجى بن عُثْمَان بن أسعد بن المنجى الدِّمَشْقِي الْحَنْبَلِيّ زين الدّين (٦٣١ - ٦٩٥هـ (٣.
٥ - عَبَّاس بن عمر بن عَبْدَانِ البعلي (ت ٦٨١ هـ (٤.
٦ - مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي سعد بن عَليّ الشَّيْبَانِيّ الْآمِدِيّ الْحَنْبَلِيّ (٦٣٣ - ٧٠٤هـ (٥.
٧ - أَحْمد بن عبد الدايم بن نعْمَة بن أَحْمد زين الدّين أَبُو الْعَبَّاس (٥٧٥ - ٦٦٨ هـ (٦.
تلاميذه:
عَاشَ الشَّيْخ باذلًا نَفسه فِي نشر الْعلم، وَقد أقبل على الْأَخْذ عَنهُ تلاميذ كَثِيرُونَ اشْتهر كثير مِنْهُم بِالْعلمِ والإمامة فِي الدّين وَمن هَؤُلَاءِ:
١ - الإِمَام، الْحَافِظ، مؤرخ الْإِسْلَام، شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الذَّهَبِيّ (ت ٧٤٨ هـ (٧.
٢ - الإِمَام، الْحَافِظ، شيخ الْإِسْلَام، مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب الزرعي
_________
١ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/٤٥٩ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣٤٢.
٢ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/١٠٧ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣٠٤.
٣ - انْظُر تَرْجَمته فِي ذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣٣٢ والمقصد الأرشد ٣/٤١.
٤ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/٢٧٧.
٥ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/٣٧٩ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٣٥٢.
٦ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ١/١٣٠ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٢٧٨.
٧ - انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة للأسنوي ١/٢٧٣.
1 / 374
الدِّمَشْقِي ابْن قيم الجوزية"مُحَمَّد بن أبي بكر الزرعي " [ابْن قيم الجوزية] (٦٩١ - ٧٥١ هـ) ١.
٣ - الإِمَام، الْحَافِظ، الْمُحدث، مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْهَادِي (٧٠٤ - ٧٤٤ هـ (٢.
٤ - ابْن قَاضِي الْجَبَل، أَحْمد بن الْحسن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن قدامَة الْمَقْدِسِي الصَّالِحِي (٦٩٣ - ٧٧١ هـ (٣.
٥ - عماد الدّين، أَبُو الْفِدَاء ابْن كثير،: - إِسْمَاعِيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن ذرع الْقرشِي الْبَصْرِيّ ثمَّ الدِّمَشْقِي (٦٧١ - ٧٧٤ هـ (٤.
٦ - الْحَافِظ، خَلِيل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي، الدِّمَشْقِي، الشَّافِعِي (٦٩٤ - ٧٦١ هـ (٥.
_________
١ - انْظُر تَرْجَمته فِي ذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٤٤٧ والدرر الكامنة ٤/٢١.
٢ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ٢/٣٦٠ وذيل طَبَقَات الْحَنَابِلَة ٢/٤٣٦.
٣ - انْظُر تَرْجَمته فِي الْمَقْصد الأرشد ١/٩٢.
٤ - انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الْمُفَسّرين للداودي ١/١١١.
٥ - انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة للأسنوي ٢/١٠٩.
الْمطلب الْخَامِس: جهاده وابتلاؤه كَانَ ﵀ فِي طَلِيعَة الْمُجَاهدين للتتار بِنَفسِهِ، وَكَانَ يحث السُّلْطَان والولاة على الْجِهَاد، ويبشرهم بنصر الله، ويحذرهم من مُخَالفَة أمره بترك الْجِهَاد، وَكَانَ يخْطب النَّاس ويحثهم على الْقِتَال، وبذل النَّفس والنفيس فِي جِهَاد أَعدَاء الله، كَمَا كَانَ يحارب الْبدع بشتى صورها وألوانها، وَيعْمل للْقَضَاء على مظاهرها، باذلًا كل وقته لبَيَان الْحق للْمُسلمين، والدعوة إِلَى العقيدة السلفية، المبنية على كتاب الله وَسنة نبيه ﷺ، وَإِلَى تحكيم الْأُصُول الشَّرْعِيَّة، فَكَانَ سَيْفا مسلولًا على الْمُخَالفين للسّنة وشجى فِي حلوق أهل الْأَهْوَاء المبتدعين وإمامًا قَائِما بِبَيَان الْحق ونصرة الدّين، ناصرًا للسّنة، وَإِن
الْمطلب الْخَامِس: جهاده وابتلاؤه كَانَ ﵀ فِي طَلِيعَة الْمُجَاهدين للتتار بِنَفسِهِ، وَكَانَ يحث السُّلْطَان والولاة على الْجِهَاد، ويبشرهم بنصر الله، ويحذرهم من مُخَالفَة أمره بترك الْجِهَاد، وَكَانَ يخْطب النَّاس ويحثهم على الْقِتَال، وبذل النَّفس والنفيس فِي جِهَاد أَعدَاء الله، كَمَا كَانَ يحارب الْبدع بشتى صورها وألوانها، وَيعْمل للْقَضَاء على مظاهرها، باذلًا كل وقته لبَيَان الْحق للْمُسلمين، والدعوة إِلَى العقيدة السلفية، المبنية على كتاب الله وَسنة نبيه ﷺ، وَإِلَى تحكيم الْأُصُول الشَّرْعِيَّة، فَكَانَ سَيْفا مسلولًا على الْمُخَالفين للسّنة وشجى فِي حلوق أهل الْأَهْوَاء المبتدعين وإمامًا قَائِما بِبَيَان الْحق ونصرة الدّين، ناصرًا للسّنة، وَإِن
1 / 375
خَالَفت مَا عَلَيْهِ النَّاس، مِمَّا أَصَابَهُ بمحن وشدائد يَقُول الذَّهَبِيّ ﵀: “وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة، والطريقة السلفية، وَاحْتج لَهَا ببراهين ومقدمات.... حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق من عُلَمَاء مصر وَالشَّام قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ، وبدَّعوه، وناظروه، وكابروه، وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يُمَارِي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده” وَقد كَانَ خصومه يكيدون لَهُ حَتَّى تمكنوا من جعل السُّلْطَان ونوابه يسألونه عَن معتقده فِي عدَّة مجَالِس، وَلَكِن الْحق أَبْلَج وَقد كَانَ كَمَا قَالَ عَنهُ الذَّهَبِيّ: “وَكم من نوبَة قد رَمَوْهُ من قَوس وَاحِدَة فينجيه الله” وَشاء الله أَن يَبْتَلِي الشَّيْخ فأوذي فِي ذَات الله من الْمُخَالفين، وأخيف فِي نصر السّنة الْمَحْضَة، وامتحن مرَارًا، وَاتفقَ أهل الْأَهْوَاء والبدع والشهوات على معاداته، وجُلُّ من عَادَاهُ تستروا باسم الْعلمَاء والزمرة الفاخرة، فتخرصوا عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ والبهتان، ونسبوا إِلَيْهِ مَا لم يقلهُ، وَمَا لم يَنْقُلهُ، وَمَا لم يُوجد لَهُ بِخَط، وَلَا سمع مِنْهُ فِي مجْلِس، فسجن بسببهم فِي قلعة مصر والقاهرة، والإسكندرية، وَفِي قلعة دمشق مرَّتَيْنِ، كل ذَلِك بِسَبَب تمسكه بنصوص الْكتاب وَالسّنة على فهم السّلف الصَّالح رضوَان الله عَلَيْهِم وَكَانَ رَحمَه لله ينشر دَعوته بَين النَّاس وَهُوَ فِي دَاخل سجنه حَتَّى كَانَ النَّاس يأْتونَ إِلَيْهِ من كل مَكَان يستفتونه، ويتلقون كلمة الْحق مِنْهُ، وَفِي آخر حَيَاته ﵀ سجن فِي قلعة دمشق حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين، وَهُوَ ثَابت على لحق الْمُبين، لَا يَشْتَرِي رَاحَة الدُّنْيَا بِشَيْء من الدّين فرحمه الله رَحْمَة وَاسِعَة، وَجعله من أهل الفردوس الْأَعْلَى.
الْمطلب السَّادِس: مؤلفاته بَارك الله للشَّيْخ فِي عمره، وأمده بتوفيقه، فصنف مصنفات عَظِيمَة، هِيَ أشهر من أَن تذكر، وَأعرف من أَن تنكر، حَتَّى قَالَ غير وَاحِد “إِنَّهَا سَارَتْ مسير الشَّمْس فِي الأقطار وامتلأت بهَا الْبِلَاد والأمصار، قد جَاوَزت حد الْكَثْرَة
الْمطلب السَّادِس: مؤلفاته بَارك الله للشَّيْخ فِي عمره، وأمده بتوفيقه، فصنف مصنفات عَظِيمَة، هِيَ أشهر من أَن تذكر، وَأعرف من أَن تنكر، حَتَّى قَالَ غير وَاحِد “إِنَّهَا سَارَتْ مسير الشَّمْس فِي الأقطار وامتلأت بهَا الْبِلَاد والأمصار، قد جَاوَزت حد الْكَثْرَة
1 / 376
فَلَا يُمكن أحد حصرها” وَلابْن الْقيم ﵀ رِسَالَة خَاصَّة فِي مؤلفات الشَّيْخ، ذكر فِيهَا وَاحِدًا وَأَرْبَعين وثلاثمائة كتاب وَمَعَ ذَلِك فقد فَاتَهُ من رسائل الشَّيْخ الْكثير.
وَمن مؤلفاته:
١ - منهاج السّنة النَّبَوِيَّة فِي نقد كَلَام الشِّيعَة والقدرية.
٢ - دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل.
٣ - الْجَواب الصَّحِيح لمن بدل دين الْمَسِيح.
٤ - اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم مُخَالفَة أَصْحَاب الْجَحِيم.
٥ - شرح الْعُمْدَة فِي الْفِقْه.
٦ - الْقَوَاعِد النورانية.
٧ - الْفَتْوَى الحمويّة.
٨ - العقيدة الواسطية.
٩ - بغية المرتاد.
١٠ - النبوات.
الْمطلب السَّابِع: وَفَاته وثناء الْعلمَاء عَلَيْهِ وَفَاته: مرض الشَّيْخ وَهُوَ فِي سجن قلعة دمشق بضعَة وَعشْرين يَوْمًا، وَلم يعلم أَكثر النَّاس بمرضه، ثمَّ توفّي فِي سحر لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة فَصلي عَلَيْهِ بالقلعة، ثمَّ حمل إِلَى جَامع دمشق وَصلى عَلَيْهِ، وشيعه أنَاس لَا يُحصونَ كَثْرَة وعددًا، وَلم تفتح الْأَسْوَاق الْمُعْتَادَة بِالْفَتْح أول ذَلِك النَّهَار، وَاجْتمعَ عِنْده خلق يَبْكُونَ وَأخْبرهمْ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا ختما فِي القلعة ثَمَانِينَ ختمة والحادية والثمانين انتهيا فِيهَا إِلَى قَوْله
الْمطلب السَّابِع: وَفَاته وثناء الْعلمَاء عَلَيْهِ وَفَاته: مرض الشَّيْخ وَهُوَ فِي سجن قلعة دمشق بضعَة وَعشْرين يَوْمًا، وَلم يعلم أَكثر النَّاس بمرضه، ثمَّ توفّي فِي سحر لَيْلَة الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة فَصلي عَلَيْهِ بالقلعة، ثمَّ حمل إِلَى جَامع دمشق وَصلى عَلَيْهِ، وشيعه أنَاس لَا يُحصونَ كَثْرَة وعددًا، وَلم تفتح الْأَسْوَاق الْمُعْتَادَة بِالْفَتْح أول ذَلِك النَّهَار، وَاجْتمعَ عِنْده خلق يَبْكُونَ وَأخْبرهمْ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا ختما فِي القلعة ثَمَانِينَ ختمة والحادية والثمانين انتهيا فِيهَا إِلَى قَوْله
1 / 377
تَعَالَى ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ ١ وحزر الرِّجَال فِي جنَازَته بستين ألفا أَو أَكثر، وَالنِّسَاء بِخَمْسَة عشر ألفا.
ثَنَاء الْعلمَاء عَلَيْهِ:
قَالَ الذَّهَبِيّ “قد قَرَأت بِخَط شَيخنَا الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني٢ مَا كتبه سنة بضع وَتِسْعين تَحت اسْم ابْن تَيْمِية: كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فنٍّ من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يعرف غير ذَلِك الْفَنّ، وَحكم أَن أحدا لَا يعرفهُ مثله”.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ عَنهُ: “يصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال: - كل حَدِيث لَا يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله”.
وَقَالَ أَيْضا: “فوَاللَّه مَا رمقت عَيْني أوسع علما، وَلَا أقوى ذكاءً من رجل يُقَال لَهُ ابْن تَيْمِية مَعَ الزّهْد فِي المأكل، والملبس، وَالنِّسَاء، وَمَعَ الْقيام بِالْحَقِّ وَالْجهَاد بِكُل مُمكن”٣.
وَحكى الذَّهَبِيّ عَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن دَقِيق الْعِيد٤ أَنه قَالَ للشَّيْخ
_________
١ - سُورَة الْقَمَر آيَة رقم ٥٤ - ٥٥.
٢ - هُوَ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن عبد الْكَرِيم الْأنْصَارِيّ، ابْن الزملكاني، ولد بِدِمَشْق فِي شَوَّال سنة ٦٦٧هـ، كَانَ عَالما، بليغًا، من أذكياء أهل زَمَانه، درس، وَأفْتى، وصنف، وَتخرج عَلَيْهِ تلاميذ كثر، توفّي فِي مصر سادس عشر من رَمَضَان سنة ٧٢٧هـ. انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة للأسنوي ١/٣١٠ - ٣١١.
٣ - زغل الْعلم ٣٨.
٤ - هُوَ مُحَمَّد بن عَليّ بن مُطِيع الْقشيرِي، الْمَعْرُوف بِابْن دَقِيق الْعِيد، ولد قَرِيبا من سَاحل يَنْبع وَأَبَوَاهُ متوجهان إِلَى الْحَج يَوْم السبت الْخَامِس وَالْعِشْرين من شعْبَان سنة ٦٢٥هـ، كَانَ جَامعا للعلوم الشَّرْعِيَّة والعقلية صَاحب نظم رائق، ونثر فائق من مؤلفاته الْإِلْمَام، وإحكام الْأَحْكَام شرح عُمْدَة الْأَحْكَام، توفّي فِي الْقَاهِرَة حادي عشر من صفر سنة ٧٠٢هـ. انْظُر تَرْجَمته فِي طَبَقَات الشَّافِعِيَّة للأسنوي ٢/١٠٢ - ١٠٤.
1 / 378