[مقدمة المؤلف]
رب يسر وأعن يا كريم
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بمواد العناية، ويسر لهم القيام بتفصيل مجملات أنبائه بتكثير أسباب الهداية، وألهمهم الاعتراف بعدم الإحاطة بحصر نعمائه التي لا تدرك لها غاية، وأعجزهم عن استيعاب شكر آلائه وإن اتسعت الدراية والرواية، أحمده وله الخلق والأمر على أن جعل الدنيا دار تخلية يتغلب فيها وضيع القدر على سلطان من هو كليلة القدر خير من ألف شهر، ولو شاء الله على سبيل القهر، لملكها بحذافيرها أهل السوابق والفخر، بحيث يقفون دائما حلولا منها في الصدر، ويستمر الطليق بها أبدا مغلولا تحت حكم الأسر، لكن أبى ربنا جل وعلا لعباده الفضلاء أن ينيلهم في الآخرة الدرجات العلا، حتى يعاملهم في الدنيا معاملة الاختبار والابتلاء: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا }[الملك:2].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة منوطة من اليقين بأقوى سلسلة، مشفوعة من التحقيق بأنوار أدلة غير مخجلة، صادرة عن اعتقاد راج أن يبلغ قائلها من كل مأمول، غاية السؤل، حتى يعلم ما يقول في رضى الرسول، والوصي وأولاده وزوجته البتول، ويؤيد بالتوفيق إلى التلفيق بين إقامة حجة الفاضل والاعتذار للمفضول، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، واسطة عقد النبوة المنظوم، ونافحة الألوة التي هي زينة المشموم، المستأثر بمؤاخاة أفضل الصحابة على العموم، علي أبي الأئمة الهداة الذين هم للبرية كالنجوم، صلوات الله عليهم أجمعين صلاة تتصل وتدوم، ما انتصر من ظالم لمظلوم، وسفحت عين عبرة للمستحق المحروم.
صفحه ۸۲
أما بعد: فإن أفضل القرب رعاية حقوق أهل الرتب، ولا نعلم رتبة لمخلوق أعلى من رتبة الملائكة ثم الأنبياء، ثم بعدهم رتبة أهل البيت الأصفياء، وقد استأثر الله بتولي ذكر ملائكته، وأنبيائه في كتابه المجيد، بما ليس عليه من مزيد، فما عسى أن يقول ذو مقول، وإن أوتي بلاغة قدامة وعبد الحميد.
وأما أهل بيت المصطفى، فقد ندبت الشريعة المطهرة إلى ذكرهم، ورعاية حقوقهم من وجوه ليس بها خفا، ومن رعاية حقوقهم مدارسة كتب مناقبهم ومطالعة تواريخ سيرهم، ولما كنت بحمد الله ممن اختار هذا المذهب الشريف له مذهبا، وجعله له ديدنا وأدبا، وآثر أن يكون أهله له حزبا منذ عقل قوله تعالى:{ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى }[الشورى:23].
وكانت محبتي لهم من أجل النعم التي يستدل بها المؤمن على رشده، وقد قال :((إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) أحببت أن أظهر ما قد عرفته من كثرة مطالعتي لفضائلهم في تأليف، وأجمع متفرقات ماحصل لي من غرر فواضلهم في تصنيف لطيف، ما ذلك جهلا مني بما وضعه أئمتنا وأشياعهم وغير أشياعهم في ذلك من الكثير الطيب، بل لأني أحببت أن يكون لي في الخير العميم نصيب، ولأن تخليد الإنسان ذكره في كتب الصالحين هو العمر الثاني، وقد عول عليه كثير من أهل هذه المعاني، قال أبو الطيب في ذلك:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما فاته وضروب العيش أشغال
وقال القاضي العلامة أحمد بن محمد الأرجاني وهو من الأدباء الفضلاء المفلقين:
صفحه ۸۳
لا تحسبن خلود الدهر ممتنعا
من ناط عرفا بعرفان فقد خلدا
يقاسم الدهر عيشا لا انقضاء له
من يقرن الفضل بالإفضال مجتهدا
الفكر والذكر لايتليهما شرف
إذا اللبيب على ركنيهما اعتمدا
فالفكر في سير الماضين يجعله
كأنه عاش فيهم تلكم المددا
والذكر في الأمم الباقين يجعله
كأنه غير مفقود إذا فقدا
وقد أشار مولانا السيد العلامة صارم الدين إلى هذا المعنى في أبيات أرسل بها إلي يحثني على تمام هذا الشرح، فقال من جملة ذلك ما هذا لفظه:
فاسمع لذلك يابن فند واعتبر
بالكائنات ولا علي تفند
وأضف إلى العمر الذي أوتيته
عمرا من العمر الذي لك أزيد
فالعمر يذهب عن قريب أمره
والذكر عمر آخر لا ينفد
وصل المزيد بحبل ما بينته
في شرح ما هو مطلق ومقيد
في متن شرحك ذلك الشرح الذي
شرح الصدور وأنت فيه مجود
وإذا بدا لك في الفريدة هفوة
فاستر علي ولا علي تبدد
فأنا المقصر في القريض ونظمه
لو أن قلبي لؤلؤ وزبرجد
هذا القول من قصيدة له عليه السلام تزيد على أربعين بيتا أرسل بها إلي، وقد وقف على أكثر مسودة شرحي لمنظومته.
صفحه ۸۴
نعم، ولما كانت منظومته هذه الفريدة، وسيرته الجامعة المفيدة، المسماة (بجواهر الأخبار) من أجل ما نظم في عصرنا في هذا الشأن لما اشتملت عليه من الإحسان والإتقان، على الأسلوب الذي يعرفه من له أدنى عرفان، وسعي في هذا الميدان، ووقفت عليها وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه، أو حائم أوقفته على المنهل قدمه، دعاني الطرب إلى شرحها، وحملني ما بي من الجدب إلى تنوير صبحها، وفي عرض ذلك، وقد كنت حصلت نسخة منها أبياتها في العدد أقل من هذه، بلغني أنها ظهرت منه في صنعاء نسخة قد زاد فيها وحرر معانيها، فما شعرت إلا ورسول من الحضرة المؤيدة حضرة مولانا السيد الصدر، الحلاحل، والملك الأجل، الأنبل، الفاضل، الكامل، سلالة الأئمة الأكابر: محمد بن الناصر سلم إلي ذلك الرسول هذه المنظومة المتأخرة التي زيد فيها على المنظومة المتقدمة، وأعطاني الرسول كتابا مختوما، وقصيدة أخرى للسيد صارم الدين، [ففضضت] الكتاب، وهو بخط مولانا الملك المؤيد، فيه بعض البسط، يذكر فيه بعد السلام وذكر أعلام عامة وخاصة وفيه ما هذا لفظه:(نعم، صدر إليك أحاطك الله قصيدة عجيبة، نظمها السيد صارم الدين إبراهيم بن محمد في أيام الشبيبة ضاهى بها البسامة، وأودع كثيرا من معانيها نظامه، وكثر منه التعويل علينا بأن نتولى فتح مقفلها، وإيضاح مشكلها، وحل رموزها، واستخراج كنوزها، وصدرت إلينا منه قصيدة قالها في هذا المعنى قف عليها، وتفضل بالنيابة عنا، فأنت ألمعي الدراية، وأصمعي الرواية، ولك قريحة منقادة، وفطنة وقادة).انتهى.
صفحه ۸۵
فحينئذ صادف قصده إياي، وتوجيهه الرسم إلى قراي، شغفي بهذا الفن وحبي للدخول فيه، فجوبت كيف أمكن، ثم اعلم أن منظومة السيد هذه تفوق (البسامة) الذي أنشأها ابن عبدون وشرحي هذا بعون الله يأتي أبلغ من (أطواق الحمامة) شرح ابن بدرون وهما عالمان من علماء مغارب مصر، ووجه ترجيحي لكون متن منظومة السيد والشرح عليها يفوقان ما ذكرته هو أنهما انتظما إشادة معالم أهل بيت المصطفى، ونشر مناقب الأئمة منهم والخلفاء، والشيء يشرف بشرف معلومه، والكلام يحسن على قدر من توجه إليه بمنثوره ومنظومه، فجوبت على السيد صارم الدين، والمؤيد برب العالمين بجواب نثرا ونظما. وأخبرتهما أني قد امتثلت إشارة من إشارته غنم، وقوله عندي بمنزلة الحكم، إذ صادف ورود ذلك قلبا مني مائلا إلى الدخول في حفدة الشيعة بأدنى وسيلة وذريعة، وقلت مرتجلا مخاطبا للملك المؤيد:
أملت هوى قد كان من قبل مائلا
وهجت غراما كان من قبل حاصلا
وأشليت فهدا كي تصيد فلم ترم
ظبا وجرة حتى ولجن الحبايلا
وكان مطلع قصيدة السيد صارم الدين التي التمس من مولانا المؤيد بها أن يشرح منظومته قوله:
أيا ابن الخلائف من هاشم
وأولاهم بالفعال الحسن
وعددها ستة وثلاثون بيتا، فجوبت عليه على وزنها وعددها قلت:
لآل الحسين وآل الحسن
سكون العراق ومن باليمن
وداد بقلبي إن تكمن الد
راري بأفلاكها ما كمن
وداد غذاني به والدي
ولدتني أمي به في اللبن
وقد جاء في مثل سائر
تداوله الناس طول الزمن
محال خروح هوى داخل
زمان اللبا قبل نشر الكفن فيا عاذلي عن هوى حيدر
وفاطمة الطهر لا تعذلن
صفحه ۸۶
فحبهما وذراريهما
عتادي ليوم ظهور الغبن
كما جاء عن سيد المرسلين
قد يحشر المرء في حزب من
ويا مرسلي من ربا صعدة
مهاجر يحيى إمام اليمن
وهاد العباد سبيل الرشاد
ونافي الفساد وحصر الدمن
إذا جئت صنعاء وبلغتها
فعفر جبينك ثم اسجدن
هنالك تلقى المنى والغنى
وتأمن في حرم المؤتمن
حليف العبادة خدن التقى
وغيث البرية رب المنن
أويس الأوان وقيس الزمان
وقس اللسان ومعن الزمن
وقل للمؤيد يا أوحد
شأوت الأفاضل في كل فن
فكل نبيل أخي درية
بكفيك مستسلم مرتهن
إذا صرح السيد الأحوذي
بقية أشياخ آل الحسن
ونبراس علم بني المصطفى
ومن حل في الحفظ أعلى الفنن
بأنك أعلم هذا الورى
بهدي الفروض وهدي السنن
وأدرى بأحوال أهل الكساء
ومن قام في حربهم أو سكن
وما قال إلا الذي أعلن
النحارير طرا به فاعلمن
فكيف بحقك يا سيدي
عددت هنا ورمي كالسمن
ونوهت باسمي ورشحتني
لما أنا فيه قصير الرسن
وما ابن اللبون وأنت الخبير
قد لز مع بازل في قرن
ويشبه قولك قول امرئ
لفرخ البغاث أتستنسرن
ولكن رسومك متبوعة
وذلك من ثقل حاذي ومن
لأبذل وسعي ومن طاقتي
ومن لم يطعك يبوء بالوهن
على ما أعانيه من ناصب
الهموم ومن خمدة في الفطن
بقدر اطلاعي وما أمكنن
طويل معاقرتي للوطن
فإن سد رميي فيما أتيت
وجئت بشيء عجيب حسن
فمن فضل ربي وتقويمكم
بني المصطفى لي بأغلى الثمن
وإن غير ذاك فمن خاطر
كليل ودهر كثير المحن
وملتمس منك إبلاغه
إذا مرسل منك حوليه عن
جزيل سلامي فشوقي إلى
دعاء له وبنيه ارجحن
وأما إجازة منظومة
فذلك رأس القصيد الأغن
عليك السلام سليل الإمام
كصوت الغمام إذا ما هتن [تنبيه] : ثم اعلم أن أكثر المسطور في شرحي هذا من حد قول الناظم:
صفحه ۸۷
وكان أول خطب بين أمته
حيف جرى من أبي بكر ومن عمر
صفحه ۸۸
إلى أن بلغت به سيرة الإمام المنصور بالله: عبد الله بن حمزة بن سليمان منقول من كتابه المسمى (بالشافي) وطريقي في الرواية له حصلت لي من جهة حي مولانا [الإمام العلامة الشامة في العترة الميامين، والعلامة] المتوكل على الله الملك الديان المطهر بن محمد بن سليمان مناولة، وإجازة بحق ما معه في هذا الكتاب -أعني (الشافي) وفي كتاب (البحر الزخار) وغيره من كتب أئمتنا عليهم السلام وشيعتهم، لأني وصلته إلى حصنة كوكبان في سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة، فأجاز لي جميع مصنفاته، ومسموعاته أصولها، وفروعها، ومن ذلك كتاب (الكشاف) لجار الله العلامة فخر خوارزم محمود بن عمر الزمخشري رضوان الله عليه، وكذلك (أصول الأحكام في حديث النبي -عليه السلام للإمام المتوكل على الله الرحمن أحمد بن سليمان، وكذلك كتاب (الشفاء في سنة المصطفى) للأمير الكبير فخر الدين الحسين بن محمد الهدوي، والإمام المطهر يروي ما ذكرته لك عن حي الإمام الذي نعش الله به الدين وأحيا المهدي لدين الله: أحمد بن يحيى قدس الله روحه في الجنة، بحق ما معه من أخيه السيد الأفضل العلامة: الهادي بن يحيى ومن شيخه عز الدين لسان المتكلمين: محمد بن يحيى بن محمد المذحجي وكان هذا الشيخ محمد بن يحيى من المتبحرين في علم الكلام، وهما يرويان علومهما عن حي الفقيه العلامة لسان المتكلمين: قاسم بن حميد المحلي وغيره، بحق روايته لذلك عن حي والده الفقيه الشهيد: حميد بن أحمد وهو يروي ذلك عن الإمام المنصور بالله، وهو يروي طرق كتابه (الشافي) وما حواه من العلوم معقولها، ومنقولها إلى مشائخه، الذين هم الفقيه الصدر العلامة: علي بن أحمد الأكوع والشيخ شرف الدين شحاك الملحدين، الحسن بن محمد الرصاص والشيخ الصدر العلامة، محي الدين، دعامة المسلمين، الذي له اسمان: حميد، ومحمد بن أحمد بن الوليد العيثمي القرشي والشيخ الأجل الصدر الأنبل، عفيف الدين حنظلة بن الحسن والفقيه الزاهد العابد، شمس الدين أحمد بن الحسن بن المبارك قرأ عليه وهو ينظر في كتابه كل هؤلاء، قالوا: أخبرنا القاضي العلامة حسنة الزمن، محيي ربوع اليمن، شحاك الملحدين، جمال الملة والدين: جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى رضي الله عنه وأرضاه.
صفحه ۸۹
قال: أخبرنا القاضي الإمام أحمد بن الحسن الكني أدام الله توفيقه، والكني هذا ذكر جميع مشائخه وسردهم، وعددهم إلى أن أوصل سند كل كتاب إلى مصنفه، ثم المصنفون سردوا ذكر أهل طرقهم وعددهم إلى أن أوصلوهم الصحابة -رضي الله عنهم-، وكل من الصحابة رفع حديثه إلى نبي الرحمة، وسراج الظلمة [صلى الله عليه وعلى آله] نحو ما ذكره المنصور بالله -عليه السلام- في مصنفه المسمى ب(الشافي) وما عينه المنصور بالله في كتابه المذكور من كتب الحديث غير ما صنفه أئمتنا، وشيعتهم مثل كتاب (الجمع بين الصحاح الستة) لرزين بن معاوية بن محمد بن عمار العبدري الأندلسي و(الجمع بين الصحيحين) لأبي عبد الله محمد بن نصرالحميدي وكذلك(مسند ابن حنبل) يرويه الإمام-عليه السلام- عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه أحمد بن حنبل وكذلك (مفردات الصحاح الستة) وكذلك يروي(مثالب بني العباس) من كتاب (الأغاني) ويذكر فيه من مخازيهم مما يذكره علماؤهم ومواليهم وكذلك(مخازي بني أمية) في (أطواق الحمامة شرح البسامة) كتاب و(كفاية الطالب) فلله الحمد الذي أظهر الحق على أعداء آل محمد في فضل آل محمد فلله الحجة البالغة.
قال: وكذلك مسموعات الإمام أبي سعد السمعاني، ومصنفات أبي بكر الفرغاني ومصنفات ابن سلفة.
قلت: واسمه أحمد بن محمد، حافظ الأسكندرية، أصله من أصبهان، نسب إلى جده سلفة -بكسر المهملة وفتح اللام-، مات سنة ست وسبعين وخمسمائة.
صفحه ۹۰
قال الإمام المنصور بالله -عليه السلام-: وكذلك جميع مصنفات الغزالي له إلى الرواية لما فيها طرق بينة، والذي حمل الإمام على تعيين محفوظاته ومسموعاته، ومسنداته؛ لأن فقيها في عصره من شافعية اليمن أنشأ رسالة سماها (الخارقة) قدح فيها على المنصور، وسائر الزيدية، وقال: إنه يتولى الأولين من الزيدية دون المتأخرين؛ لأنه زعم أنهم خالفوا مذهب أسلافهم في العقائد، وفي أمور الصحابة، وصرح بأن الزيدية لا معرفة لهم بطرق رواية الحديث عن النبي ، فأجاب -عليه السلام- بكتاب (الشافي) وهو أربعة مجلدة كبار، احتوى المجلد الأول على ذكر أهل البيت -عليهم السلام- وذكر من عارضهم من بني أمية وبني العباس إلى وقت المنصور بالله؛ لأن فقيه الخارقة اختار الأئتمام بهم دون غيرهم من العترة الكرام، من غير مبالاة ولا احتشام فاحتاج المنصور بالله أن يذكر من تغلب على الملك من لدن معاوية بن أبي سفيان إلى وقت هذا الشافعي، فحقق له المنصور بالله معايبهم، وخروج أكثرهم عن حدود الدين فضلا عن أن يتسموا بإمرة المؤمنين مما هو موجود في السير، والتواريخ التي يستوي في الإطلاع عليها الموالف، والمخالف، والجاهل، والعارف، وكذلك ذكر أحوال من كان في عصرهم من أقمار العترة الأطهار وعترة النبي المختار، وكان المنصور كلما فرغ من ذكر المتعارضين من الفريقين، قال: فما تقول يا فقيه الخارقة، حلقتك الحالقة ؟ فصار هذا النبز لاصقا بهذا الفقيه؛ لأجل المقال الذي خرج من فيه، ولقد صدق الممثل الأول (رب كلمة تقول لصاحبها: دعني).
صفحه ۹۱
نعم، وما كان في شرح المنظومة مذكور من بعد الإمام المنصور بالله فإني نقلته من مظان الصحة، وقد عزوته في الأغلب إلى مكانه لفهم من يفهم الإشارة واللمحة، فليكن خاطر الواقف على نقلي هذا طيبا، وليصدق هذا النبأ، وقد كنت ذاكرت السيد صارم الدين، والمؤيد برب العالمين، وأخبرتهما أن المذكورين في المنظومة إن حاول الشارح استقصاء أخبار كل من ذكر فيها احتاج إلى مجلدات عدة وقطع مدة!!، يالك من مدة، وتطويل ذكر أهل النحل يؤدي إلى الملل، والاختصار يؤدي إلى الخلل، فوقع الإتفاق مني ومنهما على أن خير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها، فصممت على ذلك مستعينا بالله على أن يرزقني حسن القصد في سلوك تلك المسالك، ويصلح عملي، ويزكيه ويبارك إنه ولي ذلك، والقادر على ما هنالك، والتزمت أيضا أن لا أذكر شيئا من النقائض التي كانت تصدر في بعض الأحيان من بعض العترة إلى بعض، لأني إن فعلت [ذلك] عاد على نشري لمحاسنهم بالنقض، والتزمت أيضا أن أتابع الناظم في شرح كلامه، فإن بسط بسطت، وإن قبض قبضت، فهذه جملة [مباركة] صالحة، يقال معها: ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، ويقول من تدبرها ممن يعلم ويفهم: هذا السوار لمثل هذا المعصم، ولم أقل هذا الكلام لافتخار ولا لتعبث، بل لقوله تعالى:{وأما بنعمة ربك فحدث }[الضحى:11]، وقد توخيت مع ذلك التسوية في التعظيم؛ لأن أهل هذا البيت الكريم حسنيهم وحسينيهم، وأولهم وآخرهم حسب منازلهم إلى الوقت الذي ختمت فيه هذا الشرح، ولم أتعرض فيه إلى شرح كلمة لغوية، أو نحوية، أو أصولية كما قد يفعله بعض المصنفين، ولكني لما رأيت هذه المنظومة محتوية على فضائل لأمير المؤمنين علي -عليه السلام- كثيرة، وقد ذكر الفقيه العلامة: حميد بن أحمد -رحمه الله تعالى- في أول كتابه المسمى ب(بالحدائق الوردية) نكتا شافية، وبالمقصود وافية، وكان كتابه المذكور متداولا في أيدي كثير من أهل جهاتنا ومذهبنا، أحببت أن آتي في شرحي هذا بعوضها مما لم يطلع عليه كثير ممن اطلع على ذلك، فعمدت إلى جملة مباركة من تعداد فضائل هذا الإمام، ما وجدت أحسن منها ضمنها العلامة: عبد الحميد بن أبي الحديد في أول (شرح نهج البلاغة) هي في هذا الباب البغية المقصودة، والضالة المنشودة، يفهم حسن إيرادها هنا سليم الطبع، ويستمتع بنفعها صحيح البصر والسمع، وأفردت لها فصلا قدمته قبل الشروع، ثم ثنيت بفصل وجدته لأبي بكر الخوارزمي، حكى فيه جملة مما أصاب جماعة من أهل البيت وشيعتهم، يحسن منا لأجله التأسي بهم، وإليه الرجوع، فجاء هذان الفصلان كالشرح لكثير من ألفاظ المنظومة المذكورة، فليتأملها الواقف عليها ويعرف حق أهل البيت عليه ويتبرأ من عقوقهم، وتضييع حقوقهم، وقد فوضت جميع من وقف على مجموعي هذا من أفاضل الإخوان، العارفين بأساليب أهل هذا الشأن أن يصلح ما وجد فيه خللا، فجل من لا عيب فيه وعلا، وسميت هذا الشرح: (مآثر الأبرار في تفصيل مجملات جواهر الأخبار) و(اللواحق الندية للحدائق الوردية) لأنه يأتي جزءا ثالثا لذلك الكتاب.
صفحه ۹۳
اللهم، أذقني من الأهل والأحباب ثمرتي دعاء يستجاب، وثناء يستطاب، ومنك يا رحمان التقبل والغفران، ومجاورة النبي وآله في غرف الجنان، وبتمام هذه الجملة نشرع في الإتيان بالفصلين، ثم نأخذ في شرح المنظومة المباركة شيئا فشيئا، وبالله التوفيق والهداية، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
صفحه ۹۴
[الفصل الأول]
أما الفصل الأول فاعلم: أن ابن أبي الحديد ذكر نسب أمير المؤمنين ومولده، وموضع قبره، وكثيرا من أحواله، فلما وصل إلى ذكر فضائله، قال ما هذا لفظه: إنها قد بلغت من العظم، والجلالة، والانتشار، والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبد الله بن خاقان : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت على الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
صفحه ۹۵
قال: وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره[والتحريض عليه] ووضع المعايب والمثالب[له] ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموا [إذ كان] كالمسك كلما استتر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستتر بالراح وكضوء النهار إن حجبت عنه عينا [واحدة] أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرتها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من برع فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه -عليه السلام- اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدى، فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه -عليه السلام-.
صفحه ۹۶
وأما الأشعرية: فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي وأبو علي أحد مشائخ المعتزلة، والأشعرية منتمون إلى أستاذ المعتزلة، ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب -عليه السلام-.
وأما الإمامية والزيدية: فانتماؤهم إليه الظاهر، ومن العلوم علم الفقه وهو -عليه السلام- أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه.
أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة[رحمه الله].
وأما الشافعي رحمه الله[تعالى] فقرأ على محمد بن الحسن، فرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة.
وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر الصادق بن محمد الباقر وجعفر قرأ على أبيهعليه السلام وينتهي الأمر إلى علي -عليه السلام-، وأما مالك[بن أنس] فقرأ على ربيعة الرأي وقرأ ربيعة على عكرمة وقرأ عكرمة على ابن عباس وقرأ ابن عباس على علي[بن أبي طالب] -عليه السلام-.
وأما فقه الشيعة فمرجوعه إليه ظاهر، وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي -عليه السلام-.
أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل واحد[منهم] رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره[من الصحابة] وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر، وقوله: لا بقيت لمعضلة، وليس بها أبو الحسن.
صفحه ۹۷
وقوله: لا يفتين أحد في المسجد، وعلي حاضر، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه، وقد روت العامة والخاصة قوله : ((أقضاكم علي )) والقضاء: هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
وروى الكل أيضا أنه-عليه السلام- قال [له] وقد بعثه إلى اليمن قاضيا: ((اللهم أهد قلبه، وثبت لسانه )) قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين، وهو -عليه السلام- الذي أفتى في الحامل الزانية، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر وهو الذي قال على المنبر صار ثمنها تسعا وهذه مسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك فيمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالا.
ومن العلوم[علم] تفسير القرآن، وعنه أخذوا ومنه انتزع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك؛ لأن كثيره عنه، وعن ابن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون ، وقد صرح بذلك الشبلي والجنيدي وسري [السقطي] وأبو يزيد البسطامي، و[أبو محفوظ] معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالة[على ذلك] الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه -عليه السلام-.
صفحه ۹۸
ومن العلوم علم العربية والنحو وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشاه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف [جاء لمعنى] ومن جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة، ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرفع، والنصب، والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات؛ لأن القوى البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض لهذا الاستنباط، وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثنياها.
أما الشجاعة: فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحى اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها المثل إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحدا إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى الثانية.
وفي الحديث: كانت ضرباته وترا، ولما دعى معاوية إلى البراز قال له عمرو : لقد أنصفك، فقال معاويه: ما غششتني منذ صحبتني إلا اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه هو، أراك طمعت في إمارة الشام بعدي، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه -عليه السلام- قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
[بكيته أبدا ما دمت في الأبد]
صفحه ۹۹
لكن قاتله من لا نظير له
وكان يدعى أبوه بيضة البلد وانتبه معاوية يوما، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد، فقال له عبد الله : يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، فقال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف بإزاء علي بن أبي طالب؟ قال: لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة تطلب من يقتل بها، وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي وباسمه يباري في مشارق الأرض ومغاربها، وأما القوة والأيد فبه يضرب المثل فيهما.
قال ابن قتيبة في (المعارف): ما صارع أحدا قط إلا صرعه، وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلوه فلم يقلوه، وهو الذي اقتلع هبل من على الكعبة، وكان عظيما جدا، فألقاه إلى الأرض، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها فنبع الماء من تحتها.
وأما السخاء والجود: فحاله[فيه] ظاهر، (و) كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل:{ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } [الإنسان:8].
وروى المفسرون: أنه لم يكن معه إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فأنزل (الله تعالى) فيه:{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } [البقرة:274].
صفحه ۱۰۰
وروي(عنه) : أنه كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة[حتى مجلت يده] ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه الحجر قال الشعبي وقد ذكره: كان أسخى الناس[كان على الخلق الذي يحبه الله، السخاء والجود] ما قال لسائل قط: لا، وقال معاوية وهو عدوه ومبغضه لمحقن بن أبي محقن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس- قال: ويحك!! كيف تقول: إنه أبخل الناس ولو ملك بيتا من تبن، وبيتا من تبر، لأنفد تبره قبل تبنه وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها[شكرا] وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غري غيري، وهو الذي لم يخلف ميراثا، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام.
صفحه ۱۰۱
وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد ظهر [من صفحه ما كان] يوم الجمل حين ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضا [له] فصفح عنه، وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال:" قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب، وكان [علي] -عليه السلام- يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب [ابنه] عبد الله، فظفر به يوم الجمل، وأخذه أسيرا، وصفح عنه، وقال: إذهب فلا أرينك، ولم يزده على ذلك[وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدوا فأعرض عنه ولم يقل له شيئا] وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، ونفذ معها إلى المدينة بسبعين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي، فلما وصلت[إلى] المدينة ألقى النساء عمائمهن، وقلن لها: إنما نحن نسوة،
صفحه ۱۰۲