وليس من المحقق أن الأشياء التي يعرضها الأدباء تقع في نفوس القراء كما يعرضونها عليهم، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك أن القراء يشاركون في الخلق والإنشاء، ويسبغون من ذات أنفسهم على ما يجلو لهم الكتاب من صور ألوانا لعل الكتاب أنفسهم لم يروها، ولعلها لم تخطر لهم على بال؛ فهذه الربوة التي تحدثت عنها وهذه القرية التي أشرت إليها، تقعان من نفوس القراء على اختلافهم مواقع مختلفة متباينة، لعلها لا تلتقي ولا تتشابه إلا في القليل، فالإنتاج الأدبي إذن شركة بين الأديب وقارئه، وليس الأديب في حقيقة الأمر إلا رائدا يمهد الطريق.
وما ينبغي للقراء إذن أن ينخدعوا عن أنفسهم، ولا أن يخلعوا على الأدباء هذه الخصال الرائعة التي تثير فيهم الغرور وتغريهم بالكبرياء. والذي أريد أن أصل إليه هو أني أعتمد على القراء في أن يعمل كل منهم خياله ما وجد إلى إعماله سبيلا؛ ليصور لنفسه هذه الربوة جميلة كأروع ما يكون الجمال، وهذه القرية قبيحة كأبشع ما يكون القبح، وألا تكون قراءتهم سلبية غير ذات غناء. فهذه القصة لا تحتمل القراءة السلبية، وإنما هي تريد، بل هي لا تقوم إلا على المشاركة الإيجابية بين الكاتب حين يرسم الخطوط وبين القارئ حين يتم الرسم ويملأ ما بين الخطوط من فراغ لعله ترك عن إرادة وعمد.
ولعل القارئ يظن، وهو معذور إن ظن، أن هذا الحديث قد طال وأسرف في الطول قبل أن يصل إلى أول هذه القصة، فكتابنا قد عودوا القراء أن يهيئوا لهم الأدب كما يهيأ لهم الطعام؛ فليس على القراء إلا أن يقرءوا ويسيغوا، كما أنهم أو كما أن بعضهم ليس عليه إلا أن يجلس إلى مائدة الطعام في مواعيد موقوتة ليمضغ ويسيغ.
أما أنا فلا أحب هذا اللون من الطهي الأدبي؛ لأني أكبر نفسي وأكره أن أكون خادما للقراء من جهة، ولأني أكبر القراء وأكره أن تكون آذانهم أفواها وعقولهم بطونا يلقى إليها الكلام فيسمعون ثم يسيغون، لا أحب شيئا من هذا، وإنما أحب أن أنشئ بيني وبين القراء نوعا من الزمالة، بحيث نبدأ القصة معا، ونمضي فيها معا، وننتهي منها معا، نتفق أحيانا ونختلف أحيانا أخرى، ويشجر بيننا الخصام من حين إلى حين.
3
قد كدنا نصل إلى أول القصة، وإن كنا لم نخط فيها خطوات واسعة فيما أعتقد، فليست القصة حكاية للأحداث وسردا للوقائع كما استقر على ذلك عرف النقاد والكتاب، وإنما القصة فقه لحياة الناس وما يحيط بها من الظروف، وما يتتابع فيها من الأحداث. وإذا كان الأمر كذلك - وهو عندي كذلك - فنحن قد بدأنا القصة منذ الكلمة الأولى من هذا الحديث. وعلى كل حال فليس بيننا وبين الأخذ في عرض الحوادث إلا شيء واحد، وهو أن نتبين الصلة بين القرية الملقاة على السهل والربوة المشرفة على النهر. وهذه الصلة قريبة كل القرب، يسيرة كل اليسر، ليست بعيدة ولا عسيرة كالصلة بين القصر وقريته في قصة الكاتب المعروف كفكا
Kafka ؛ لأني لا أصطنع في حديثي رمزا ولا إيماء، وإنما أصطنع الصراحة التي تؤثر الجلاء وتكره الغموض. والذين قرءوا قصة «القصر» لهذا الكاتب ذي الصوت البعيد، يعرفون أن قصره إنما هو رمز للعالم العلوي، وأن قريته إنما هي رمز للعالم السفلي، ومن هنا تعقدت الصلة بين هذين العالمين.
أما ربوتي أنا فهي ربوة من هذه الربى التي يراها الناس في كل يوم ويقرءون عنها في كل كتاب من كتب الأدب، وليس أدل على ذلك من أني قد استعرتها من ذلك الشاعر الأندلسي القديم، وأما قصري أنا فهو قصر من هذه القصور التي يشهدها الناس حين يصبحون وحين يمسون، قد بني من المادة التي تبنى منها القصور، وأثث بالأثاث الذي تزدهي به القصور، وأترف أهله كما تعود الناس أن يترفوا في هذه الحياة التي نحياها، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، فمن أيسر الأشياء أن يهبط رجل من أهل القصر إلى القرية، ليس عليه في ذلك إلا أن يمضي أمامه حتى يقرب من شاطئ النهر، ثم ينعطف إلى يمين فيرى أمامه طريقين إحداهما ممهدة تمهيدا حسنا كأنها أعدت لصعود السيارات وانحدارها، والأخرى ممهدة تمهيدا مقاربا ضيقة بعض الضيق، ولكنها أقصر من الأخرى، وهي الطريق التي يسلكها الراجلون، وقد يرى فيها الفرسان الذين يمتطون الخيل.
وكذلك يستطيع الرجل من أهل القرية أن يرقى إلى هذا القصر على قمة الربوة سالكا الطريق الأولى إن أراد التيسير على نفسه بالسعي الهين والرقي السهل، وإن أراد كذلك أن يلهو بما يلقى في طريقه من هذه السيارات الصاعدة الهابطة بمن فيها من السادة والقادة والغادات الحسان وسالكا - إن شاء - الطريق الأخرى إذا لم يشفق من التصعيد العسير الملتوي، وإذا كان حريصا بنوع خاص على أن يبلغ القصر في أقصر وقت ممكن وفي غير تلكؤ أو إبطاء.
هذه هي الصلة المادية بين الربوة والقرية، وهي - كما ترى - قريبة ميسرة. فأما الصلة المعنوية فأشد من الصلة المادية قربا وأعظم منها يسرا، وهي صلة السادة بالخدم، أو صلة الخدم بالسادة لا أكثر ولا أقل، وما ينبغي أن تظن أن أهل القرية جميعا خدم يعملون في القصر يرقون إليه مع الصبح ويهبطون منه مع الليل؛ فأهل القرية ليسوا من هذه الخدمة في شيء، بل هم لا يرقون إلى القصر إلا قليلا، وهم حين يرقون إليه لا يبلغونه فضلا عن أن يدخلوه، وإنما يبلغون مكاتب الدائرة التي ألحقت به، فيتصلون بهذا الموظف أو ذاك لما يمكن أن يكون بينهم وبين هذا الموظف من عمل. هم خدم للقصر على هذا النحو الذي تعرفه والذي تراه في كل مكان يقوم فيه قصر فخم وتنبسط فيه أرض زراعية يملكها أصحاب القصر، ويعيش من حوله قوم يعملون في هذه الأرض ويعيشون مما يعملون؛ فجزء عظيم من السهل المنبسط في أسفل الربوة ملك لسادة القصر، وأهل هذه القرية هم الفلاحون الذين يزرعون هذه الأرض ويستغلونها ويستخلصون خيراتها لسادتهم، يقدمون إليهم كل هذه الخيرات ويعيشون على ما يساقط منها هنا وهناك وعلى ما يتفضل به عليهم سادتهم من الفتات. لا يملكون شيئا، وليس لهم أمل في أن يملكوا شيئا، لا يكادون يملكون أنفسهم، وليس لهم أمل في أن يستقلوا بملك أنفسهم.
صفحه نامشخص