وقد قلت لك آنفا إني كنت أبحث عنك لأودعك قبل الرحيل وهذا حق، ولكن هناك حقا آخر لم أقله لك، وقد كنت أبحث عنك لأقوله لك أيضا، وبعد، فإني سأسافر إذا دنا الأصيل، وسيتبعني قوم آخرون، ولكن هناك قوما آخرين قد سبقوني إلى السفر، وسألقاهم في العاصمة، ولن يمضي الأمر بيني وبينهم كما مضى إلى الآن، ولكني سأتخذ خديجة لي زوجا، فإن استطعت وإن أردت أن تلقي هذا النبأ الخطير إلى أبي في رفق، فافعل، وإن عجزت أو أبيت فسيأتيه النبأ من طريق لا رفق فيه ولا لين.
وهم الشاعر أن يقف الفتى وأن يجادله في بعض هذا الأمر، وأن يرده إلى شيء من الرشد، ولكن الفتى اندفع في حديثه لا يلوي على شيء قائلا: لا تتكلف مشقة ولا جهدا في إقناعي بغير ما صممت عليه، فإنك لن تبلغ من ذلك شيئا، وإذا لم يكن بد من أن تبذل الجهد وتحتمل المشقة فافعل ذلك في العناية بهذا الشيخ الذي سيعيش وحيدا في قصره هذا الفخم الضخم بعد أن ينصرف عنه أهله، وفي إعداده، مترفقا به، لتلقي هذا النبأ الذي سينتهي إليه بعد أيام ما أظنها ستطول.
وهنا صمت الفتى لحظة، ثم لم يلبث أن اندفع في ضحك متصل، ولكنه ضحك لا يخلو من حزن، ثم قال: وأكبر الظن أنك لن تحتمل كثيرا من العناء في تعزية الشيخ عن هذه الخطوب؛ فإنه شيخ قد احتفظ بفضل من شباب، وما أشك في أن الملل قد وجد إلى نفسه سبيلا، وما أشك في أنه يدير في رأسه أمرا ذا بال، وما أشك في أن هذه الكلمة البغيضة التي انطلق بها لسانه حين تقدم الليل قد مدت له أسبابا وفتحت له أبوابا!
ثم وثب الفتى كأنما دفع إلى الوثوب دفعا، وانحنى على الشاعر فألقى على رأسه قبلة سريعة خاطفة، ومضى أمامه لا يلتفت ولا يلوي على شيء.
وظل الشاعر واجما لحظات، قد أخذه شيء يشبه الدوار لكثرة ما سمع ولثقل ما سمع، ثم ثابت نفسه إليه شيئا فشيئا، وأراد أن يلقي نظرة إلى النهر، ولكنه رأى نفسه ينهض متثاقلا، ثم يرقى إلى القصر متباطئا وقد أنسي عادته الحبيبة إليه، فلم ينحن على العصا ولم يمش على ثلاث.
7
القراء بالطبع ينتظرون أن أرقى وأن يرقوا معي في صحبة الشاعر إلى القصر لنرى صاحبه العظيم في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنا منذ آخر الليل، ولكني لن أفعل ولن يفعلوا، فهم لا يستطيعون أن يدخلوا القصر، ولا أن ينظروا إلى أبهائه الفخمة وأثاثه المترف الجميل، إلا إذا أتحت أنا لهم ذلك؛ فالربوة كلها بما عليها ومن عليها، والقصر كله بما فيه ومن فيه، سر من أسراري أبيح منهما للقراء ما أشاء، وأخفي منهما على القراء ما أشاء، ليس لهم أن ينازعوا في ذلك أو ينكروا منه شيئا، وقد أزمعت ألا أرقى معهم إلى القصر، ولا أبقى معهم على الربوة استجابة لأصل من أصول الفن كما أراه أنا لا كما يراه النقاد، فلو قد رقيت معهم إلى القصر أو بقيت معهم على الربوة لاتصل الحديث اتصالا يوشك أن يكون مملا؛ لأنه يضطرب بهم وبي في هذه الحديقة الفيحاء، وهذا القصر الفخم، بين ألوان من الترف وفنون من الحياة الناعمة، قد يكون وصفها رائعا، وقد يكون العيش فيها، ولو في أثناء الأحلام وفي ظل الخيال، محببا إلى النفوس، ولكنه يمل إذا اتصل ويسأم إذا طال، وليست الحياة ترفا كلها ولا زينة كلها، وليس العيش الواقعي أو الخيالي يكسب قيمته من البهجة التي يسبغها الجمال على هذا المنظر أو ذاك من مناظر الطبيعة، وعلى هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الناس؛ فلهذا كله قيمته، ولكن للقبح قيمته أيضا، وهي ليست أقل من قيمة الجمال شأنا ولا أهون منها خطرا، ولعلها أن تكون أدعى إلى المنفعة، وأبلغ أثرا في إصلاح النفس، وتقويم الخلق، وتصويب الحكم على الأشياء، ولست أدري! هل تعمق ابن المعتز معناه ذاك الذي أوجزه في البيتين المشهورين:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
صفحه نامشخص