أما فريد فشاب ذكي، له إلمام بالعلوم، وولع بالمطالعة. قليل الكلام، ولكنه رصين لا يتكلم إلا اللازم الذي يفيد. عكس أخيه الأكبر؛ فإنه كثير الكلام، كثير الدعوى، يتدخل في كل موضوع، ويحشر نفسه في كل مشكل. وقد ولع أيضا بالمطالعة الصحفية والكتبية، وإنما ولعا سطحيا، فكان يحفظ أسماء أعاظم الرجال من سياسيين وعلماء وفلاسفة وشعراء، فإذا تكلم في اجتماع يكثر من ذكره تلك الأسماء، فينظر الناس إليه كرجل عليم، في صدره كنوز علم وعرفان. فإذا كان الحديث عن السياسة أسرع، فذكر بسمارك وغلادستون، وقال: فلان قال كذا وكذا، ومن اطلع على كتبه أو ما قاله بسمارك أو غلادستون ليكذبه؟ وإذا كان الحديث عن الشعر، ذكر في الحال المتنبي وأبا العلاء، مع بعض أبيات لكليهما يقولها باللفظ المكسر. ثم يعمق بتاريخ الشعر، فيذكر هوميروس ويتدرج بالأسماء إلى هيكو وموسيه وووو ... حتى يسكت الحاضرون، ويعطوه موقف الكلام. ولا يعدم أن يرى منهم إعجابا بسعة معارفه، ووفرة علومه، حتى صار عندهم مرجعا لكل أمر، ومضرب المثل في العلم، بكل باب من أبوابه.
ودام هذا معه حتى وصل فريد إلى نيويورك، فصار يحضر مع أخيه بعض الاجتماعات، ويراه راكبا مركب الشطط بأكثر أحاديثه، فكان يسكت أولا حياء منه، ولكنه بعد أن أستأنس صار يعترض على غلط أخيه ويصلحه. فكان إبراهيم يحرق الأرم غيظا، ويلعن الساعة التي وصل فيها أخوه؛ لينزع عنه مقامه كعالم بين الناس.
ومرة كان الأخوان في سهرة حافلة، وكان الفونوغراف يشنف أسماع الحاضرين، والكئوس دائرة عليهم، وآخر أسطوانة سمعوها فذهبوا بسحرها، كانت أسطوانة للصلبان ينشد فيها «يا ليل لصب ...» فكان بعضهم يعيدها ويعيدها، ويساعده غناء بها، واستشهادا بمعاني أبياتها الجميلة، حتى وقف عند: «رقد السمار وأرقه»، فقال في القوم: «من هذا السمار؟»
فأجاب أحدهم، وقال: «أظن أن السمار هو الذي يدق المسامير.»
فضحك الكل من جوابه.
وقال ثان: «أظن السمار هو الهر؛ أي السنور، لا بل السنمار.»
وقال ثالث: «لا، بل هو السمرمر الذي يطارد الجراد.»
واختلف القوم على معنى الكلمة، وإبراهيم الصالح يتنحنح، وقد غاب عن الحضور بفكره، ليأتي لهم بمعنى الكلمة لهم، فكان كلامه فصل الخطاب. وأما أخوه الصغير فريد، فكان الحال عنده كالتياترو، فما كان يهدأ من الضحك بكل ما استطاع شدقاه، وبكل ما في رئتيه من القوة.
وأخيرا صاح صائح ، وقال: «عند إبراهيم الصالح، ونتجاسر على تفسير الكلمة، فلنسمعه الآن يحل لنا المشكل.»
وسكت الحاضرون، ووقف الفونغراف، وصاروا كلهم آذانا مستعدة للسماع، وعيونهم مصوبة على نقطة واحدة هي؛ وجه إبراهيم الصالح.
صفحه نامشخص