إن الحياة يا صاحبي تعرض مشاهدها علي وعليك، لكنك قد ترى مشهدا لا أراه أنا، وإن أكن مفتح العينين. بل قد أنظر وإياك إلى مشهد واحد، فترى فيه أشياء لا أراها، وتسمع ما لا أسمعه. هكذا قد أمر بدودة تدب على الأرض فأدوسها، أو أحول وجهي عنها، وأمشي في سبيلي. وتمر بها أنت فتقف مراقبا حركاتها، ثم ترفعها بيدك، وتدرسها مليا، ثم تضعها من يدك وتنطلق، وفي رأسك قد تجمهرت أشباح، وأمام عينيك قد مشت رسوم، وفي أذنيك قد دوت أصوات. ولا يعتم أن تنتظم تلك الأشباح، وتندمج تلك الرسوم، وتتألف تلك الأصوات في قصيدة أو مقالة، أطالعها أنا، فأشعر كأن أشباحها تجمهرت في رأسي، ورسومها مشت أمام عيني، وأصواتها رنت في أذني. لقد مررت وإياك في مثل هذه الحالة بمورد من موارد الحياة، فشربت منه قطرة؛ حيث شربت قطرات، وفي من الظمأ ما فيك. غير أني ما كنت أشعر بظمئي إلى أن سمعتك تصف لي ظمأك، وكيف ارتويت.
أنا وأنت غريبان، نحن إلى وطن واحد، وفي ما فيك من الحنين. غير أن حنيني أبكم أصم، وحنينك ناطق ومجنح؛ لذاك إذا سمعت حنينك متكلما تحرك حنيني وتكلم؛ لأنه قد وجد في حنينك لسانا له.
أنا وأنت حائران في أمور كثيرة، وحيرتي قد تغلغلت بين أفكاري وتمددت، حتى لم أعد أعرف في ما أنا حائر. لكن حيرتك نصب عينيك، فإذا ما صورتها لي تصورت أمامي حيرتي.
تسألني: وما القصد من هذه الأمثال كلها؟ إن قصدي يا صاحبي أن أقول: بأن عواطفنا وأفكارنا مشتركة؛ لأن مصدرها واحد، وهو النفس.
وإن في الواحد منا ما في الآخر من العواطف والأفكار، لكنها قد تكون مستيقظة في بعضنا، غافلة في الآخر. وإن هذه العواطف والأفكار، وإن استيقظت في بعضنا، قد تكون خرساء. وإنها في بعضنا مستيقظة وناطقة. وإن العواطف والأفكار إذا ما استيقظت ونطقت بنفسها بعبارة جميلة التركيب موسيقية الرنة، كان ما تنطق به شعرا. وإن من استيقظت عواطفه وأفكاره، وتمكن من أن يلفظها بعبارة جميلة التركيب، موسيقية الرنة، كان شاعرا .
وإذ إن العواطف والأفكار، هي كل ما نعرفه من مظاهر النفس، فالشعر إذن هو لغة النفس.
والشاعر هو ترجمان النفس.
هذا ما أعرفه يا أخي عن الشعر والشاعر، فلنعد إلى الزحافات والعلل.
لقد وضع الناس الشعر أوزانا، مثلما وضعوا طقوسا للصلاة والعبادة. فكما أنهم يتأنقون في زخرفة معابدهم؛ لتأتي «لائقة» بجبروت معبودهم. هكذا يتأنقون في تركيب لغة النفس؛ لتأتي «لائقة» بالنفس. وكما أن الله لا يحفل بالمعابد وزخرفتها، بل بالصلاة الخارجة من أعماق القلب. هكذا النفس لا تحفل بالأوزان والقوافي، بل بدقة ترجمة عواطفها وأفكارها.
أتذكر يا أخي قول الناصري: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم.» ولم يحدد ابن مريم مكانا معلوما لعبادته؛ فقد يجتمع اثنان باسمه على رأس جبل، أو في جوف واد، أو على ظهر باخرة، أو في قهوة، أو في منجم للفحم، ويكون هو بينهم. والشعر يقول: حينما تفاهمت نفسان أو ثلاث باسمي، هناك أكون في وسطهن.
صفحه نامشخص