ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
ما تراه العيون: قطع قصصية مصرية
ژانرها
فصفق الأطفال استحسانا وقطب علي وجهه وشمر عن ساعده، فكنت ترى عند التحام جسمه بجسم رفيقه صورة غريبة على وجه كل واحد منهما؛ الأول: يدافع عن صفارته، والثاني: يدافع عن شرفه. والفرق بين الصفارة والشرف كبير، وتغلب علي على رفيقه وألقى به على الأرض وهو ممسك بتلابيبه، وفرق بينهما الرفاق فقام علي وهو رافع الرأس وقال: أين الصفارة؟
فقال محمود السبع للمغلوب: أعطه الصفارة.
ثم أدار وجهه عن الأطفال وذهب للقاء صاحب له. فأخرج المغلوب صفارته من جيبه بعد تردد ومد يده بها إلى عدوه، فأخذها علي ووضعها في فمه كما يضع الظمآن حافة الكأس المثلجة بين شفتيه وكأنه امتلك العالم بأجمعه، وما لبث قليلا حتى ضحك الحاضرون ضحكة استهزاء وسخرية، وكيف لا يهزءون به ولا يسخرون منه وهو ينفخ في صفارة لم يشترها بماله، فألقى علي بالصفارة في وجهوهم وسار على مهل وهم يصفقون خلفه. وابتعد عنهم فلم يشاءوا أن يتتبعوه خشية أن يفارقوا نهاية العطفة؛ حيث يكثر الباعة، فسار اليتيم الهوينا إلى أن وصل للشجرة الكبيرة، وهناك وقف هنيهة كأنه يفكر ثم جلس في ظل الشجرة وقد أسند ظهره إلى ساقها ونظر جهة اليمين وجهة الشمال، فوجد العطفة قفرة كقلبه، فوضع رأسه بين يديه وبكى وهو يقول: «أماه. أماه. أبتاه.» بينما كانت الأطفال تغني في الشارع الكبير. •••
ثم أفاق بعد هنيهة فوجد الكلب الذي ألقى بقطعة الحلوى إليه جالسا عند رأسه يلحس دموعه بلسانه الظامئ.
أغسطس سنة 1917
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
(هذه القصة لموبسان الكاتب الفرنسي الشهير، بدل المعرب أشخاصها وزمانها ومكانها وموضوعها، ممصرا كل شيء فيها، فلم يبق من الأصل إلا روح الكاتب، واتبع المعرب في ذلك خطة تولستوي في قصصه التي نقلها عن موبسان. •••
محمد بك عبد القادر رجل في الخامسة والخمسين من عمره، أقنى الأنف أسود العينين مقرون الحاجبين، يقص شاربه ويعفو عن لحيته. إن مشى يسير الهوينا، وإن جلس يتربع على كرسيه بعد أن يخلع خفيه، يرتدي الردنجوت ولا يحب سواها من الملابس الإفرنجية؛ لأنها أقربها شكلا لمظاهر الصلاح والتقوى. مسلم في كل أقواله وأفعاله، يذب عن الدين كلما تعرض له ملحد لا يتقي الله في دينه ولا دنياه، ويدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يتناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين على العوائد والتقاليد القديمة. وإن رأى شابا جالسا في حان يتعاطى كأسا من الخمر، وقف في مكانه كالمصعوق، ثم بصق على الأرض ومشى في سبيله وهو يرتل آيات القرآن. له في بنك الكريدي ليونيه عشرون ألفا من الأصفر الرنان، لا يتعاطى عنها فائدة متبعا قوله تعالى:
وأحل الله البيع وحرم الربا .
يسكن محمد بك في قصر جميل على ضفاف النيل، تحوطه حديقة غناء تتمايل أشجارها كلما داعبها النسيم، وتسمع فيها موسيقى الطيور ممزوجة بألحان أمواج النيل. تلك موسيقى جميلة هادئة كأنها صوت الحب في آذان العاشق اليائس. وإذا ظهر الشفق خلف النخيل وارتدت السماء ثوبها الأحمر قبيل الغروب، خيل للناظر أن هذا الاحمرار هو دموع الليل يودع النهار. وإذا بزغ القمر في القبة الزرقاء في ليلة من ليالي الصيف، ود صاحب البيت أن لا يفارق الحديقة حتى مطلع الفجر. هذا هناء كبير جاد به الله على هذا الشيخ الصالح مكافأة له على عبادته وصلاحه؛ فهو به قرير العين مثلوج الفؤاد، تلوح عليه أريحية السرور كلما ذكر الله، ويلمع في غرته نور البشر كلما صلى على نبيه.
صفحه نامشخص