ما تراه العيون
في القطار
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
بيت الكرم
حفلة طرب
صفارة العيد
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
كان طفلا فصار شابا
العاشق المفتون بالرتب والنياشين
الشباب الضائع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
ما تراه العيون
في القطار
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
بيت الكرم
حفلة طرب
صفارة العيد
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
كان طفلا فصار شابا
العاشق المفتون بالرتب والنياشين
الشباب الضائع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
ما تراه العيون
ما تراه العيون
قطع قصصية مصرية
تأليف
محمد تيمور
ما تراه العيون
في القطار
صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء.
تناولت ديوان موسيه وحاولت القراءة فلم أفلح، فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد، واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.
مكثت حينا أفكر، ثم نهضت واقفا وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكرا، ثم اهتديت للسفر ترويحا للنفس، وابتعت تذكرة - درجة ثانية - وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.
جلست في إحدى غرف عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي، وما لبثت في مكاني قليلا حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني: «وادي النيل، الأهرام، المقطم»، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثا ماسحا شفتيه بمنديل أحمر يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير. ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء والصالحين. فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شابا لا أدري من أين دخل علينا، ولعل اشتغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله.
نظرت إلى الفتى وتبادر لذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه. نظر إلي الشاب كما نظرت إليه، ثم أخرج من محفظته رواية من روايات مسامرات الشعب، وهم بالقراءة بعد أن حول نظره عني وعن الأستاذ، ونظرت للساعة راجيا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة حسن الهندام دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس. جلس الأفندي وهو يبتسم واضعا رجلا على رجل بعد أن قرأنا السلام فرددناه رد الغريب على الغريب.
وساد السكون في الغرفة؛ والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسه طورا وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظرا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.
مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكا مظلة أكل الدهر عليها وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون، وإلى أين هم ذاهبون. ثم سمعنا صفير القطارة تنبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.
سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا، فإذا بالشركسي يحملق في، ثم قال موجها كلامه إلي: هل من أخبار جديدة يا أفندي؟
فقلت له وأنا ممسك الجريدة بيدي: ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر اهتمام وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.
ولم يمهلني الرجل أن أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني، وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها لغرفتنا أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي، ثم سار القطار قاصدا قليوب.
مكث الشركسي قليلا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحرق الأرم وقال: يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.
فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت: وأي جناية؟ - إنك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح. - وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟
فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: هناك علاج آخر. - وما هو؟
فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: السوط؛ إن السوط لا يكلف الحكومة شيئا، أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.
وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة - حفظه الله - كفاني مئونة الرد، فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت، ولو كنت تسكن الضياع مثلنا لقلت أكثر من ذلك. إننا نعاني مع الفلاح ما نعاني؛ لنكبح جماحه، ونمنعه عن ارتكاب الجرائم.
فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟ - أنا مولود بها يا بيه. - ما شاء الله.
جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت تظهر على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: إن الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام أن لا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان.
فالتفت إلي العمدة كأني وجهت إليه الكلام، وقال: أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجبك. إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال (وأشار بيده إلى الشركسي).
فقال الشركسي وهو يبتسم ابتسامة الساخر: ولا ينبئك مثل خبير.
فاستشاط التلميذ غضبا، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: الفلاح يا حضرة العمدة ...
فقاطعه العمدة قائلا: قل «يا سعادة البك»؛ لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.
فقال التلميذ: الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحا وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين!
فهز العمدة رأسه ونظر للشركسي وقال: هذه هي نتائج التعليم.
فقال الشركسي: نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.
أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكا وصفق بيديه، وقال للتلميذ: برافو يا أفندي، برافو برافو.
فنظر إليه الشركسي، وقد انتفخت أوداجه، وتعسر عليه التنفس، وقال: ومن تكون أنت؟ - ابن الحظ والأنس يا أنس.
وضحك عدة ضحكات متواليات.
فلم يبق في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورا، وعلى جبة الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة: أدبسيس، بس فلاح.
ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة للأستاذ، وقال: أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية.
فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض، وقال: وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله - جل وعلا؟
هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟
فقال الأستاذ: بسم الله الرحمن الرحيم
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، قال النبي - عليه الصلاة والسلام: «لا تعلموا أولاد السفلة العلم.»
وعاد الأستاذ إلى خموله، وأطبق أجفانه مستسلما للذهول. فضحك التلميذ وهو يقول: حرام عليك يا أستاذ. إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.
فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال: واحسرتاه! إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغى واستكبر وأنكر وجود الخالق.
فصاح الشركسي والعمدة: «لك الله يا أستاذ.» وقال الشركسي: كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه واليوم يشتمه ويهم بصفعه.
وقال العمدة: كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.
ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوي القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.
7 يونيو سنة 1917
عطفة «ال ...» منزل رقم 22
دخلت غرفة عملي بوزارة «ال ...» وجلست أمام مكتبي، وأمسكت بجريدة وادي النيل أقرأ شيئا عن السياسة وعن الأخبار، وما لبثت في مكاني دقيقتين إلا وحانت مني التفاتة للباب فرأيت زميلي أمين علي يبتدرني السلام بقوله: صباح الخير يا أبو علي.
فألقيت الجريدة على المكتب ورددت السلام بأحسن منه، ثم تثاءب زميلي فتثاءبت وقلت: جازاك الله يا أمين بالموت على ما بدر منك أمس؛ لقد سقتني إلى بؤرة كدت أن أموت فيها. - أينا المخطئ؟ - الله أعلم. - دعنا من العتاب. تلك ليلة لا يسمح الزمان بمثلها إلا في السنة مرة، ولولا تهافتك على الخمر وإكثارك من معاقرتها؛ لما سألت الله أن يجازيني بالموت على هذا الجميل الذي أسديته إليك. - ولكني ما زالت أشكو ألما في الرأس، وتثاقلا في الجسد، ويا حبذا لو كان اليوم يوم الجمعة! - وماذا كنت تفعل؟ - كنت أتناول مسهلا، وألزم سريري طول يومي. - تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
ثم جلس أمين أمامي، وأسند رأسه بيديه، ونام أو استسلم للنوم، فنظرت إليه، وظهرت لي على وجهه صورة شنيعة؛ صورة المدمن الذي لا يفارق الحانات والمواخير وبيوت الفسق والدعارة إلا عند الفجر، فقلت في نفسي إن هذه الصورة المرتسمة على وجهه ما زالت مرتسمة على وجهي أيضا؛ إنه يحب الخمر وأنا لا أبغضها، هو زير نساء وأنا أبحث عن المرأة في كل مكان؛ فلا فرق بيني وبينه إلا أنه متزوج وأنا أعزب، ولكن الفرق ليس بالكبير؛ لأنه لا يرى امرأته إلا ست ساعات في كل يوم يقضيها وهو مستلق على ظهره بجوارها يغط في نومه، فامرأته في نظره كالوسادة في نظري. فنحن إذن في مستوى واحد.
وظفت في وزارة «ال ...» منذ ستة أشهر، عرفت أمين في اليوم الأول من الشهر الأول منها، وائتنست بعشرته، وربطتني به رابطة الاتفاق في المشرب لا رابطة الود والوفاء، ولكني استشعرت بعد أن قضيت معه شهرين على صفاء ووئام برابطة الصداقة تربطني به وتربطه بي، وما لبثنا أن أصبحنا صديقين لا نفترق إلا بعد منتصف الليل. كنت أشتغل معه في الوزارة، وكنت أقضي معه عصر كل يوم في سبلنددبار، وإذا دنا وقت العشاء أكلنا سويا في مطعم أوبليسك أو مطعم أركل وكاسات الجعة تحف بخواننا، ثم نقضي الليل في دار من دور التمثيل أو في بيت من البيوت المفتوحة أبوابها للناس أجمعين، ثم نرجع كل لمنزله، فكنت أسير معه إلى باب بيته في عطفة «ال ...» رقم 22، وأسير في طريقي لمنزلي وأنا لا ألوي على أحد.
كان هذا شأني معه، وكنت مسرورا من عشرته مغتبطا بوفائه ومحبته، وظننت أني سأبقى مستودع أسراره إلى الأبد، ولم يحدث بيننا - والحمد لله - في الستة الأشهر التي مضت ما يدعو للهجر أو القطيعة.
ثم أفاق أمين من نومه، وأعطاني سيكارة، أشعلتها بعد أن أشعل أختها لنفسه، ومكثنا هنيهة نفكر، ثم التفت إلي وقال: آه من النساء! - إنك ترتئي فيهن رأيا تخالف فيه سواد الناس. - أنا لا أحب إلا من يرتدين الإزار البلدي.
1 - وأنا لا أكره إلا هؤلاء. - يا للعجب! أتكره هذا الصنف من النساء، وبينهن من يستهوين الأفئدة، ويمتلكن النفوس؟! - إني لا أرى في ذات الإزار البلدي إلا امرأة قذرة مبتذلة، يأنف منها كل ذي ذوق سليم. - أشكرك.
ثم ضحكنا والتفت إلي أمين وقال: إن بينهن نساء ذوات حسب ونسب، يخشين الفضيحة فيتسترن بهذا الإزار حتى لا يعرفهن أحد من أزواجهن. - أتظن ذلك؟ - بل أعتقده، وإن شئت سردت لك حوادث وقعت لي مع أمثالهن.
وابتدأ في سرد قصص كثيرة اندهشت لسماعها، وظننت أن ليس في مصر من الإسكندرية إلى أسوان امرأة عفيفة، فقلت له: لا ثقة لي بامرأة بعد اليوم. - كل النساء خائنات وعبثا الثقة بهن.
فسكت ولم أنطق ببنت شفة، وماذا يريد القارئ أن أقول، وصديقي متزوج له امرأة يغار عليها، وكأنه فطن لما كنت أحدث نفسي به؟ فقال وهو يبتسم: ما الذي أسكتك؟ أيدهشك أني أرمي النساء بالخيانة وبينهن زوجتي؟ ولكن امرأتي يا صاح في مأمن من كل ذلك؛ لأنها تعيش مع أمي، وأمي من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء.
ثم انقطع حديثنا، وقام أمين لمكتبه، وابتدأت أن أشتغل قليلا بعد أن سألت الخادم أن يأتيني بفنجان قهوة.
غادرت الديوان، وذهبت لأتناول الغذاء في المنزل، ثم خرجت عصر اليوم للقاء أمين في اسبلنددبار، وانتظرته هناك نصف ساعة ثم مللت الانتظار، فقمت لأتمشى في شارع بولاق، فإذا به يموج بالناس من مصريين وإفرنج، ومنهم من يتتبع النساء، ومن النساء من يدخلن حانوت شكوريل أو شملا لشراء حاجياتهن أو بحجة شراء ما تتوق إليه أنفسهن، ثم وقفت أنظر لامرأة مرتدية إزارا بلديا، وتذكرت حديث أمين في الصباح، وقلت في نفسي: ما ضرني لو تبعتها؟! وقد أعجبني قوامها النحيل ولحظها الفاتك، ووطدت العزم على ذلك، وما لبثت أن نفذت ما عزمت عليه.
سرت وراءها طويلا إلى أن وصلنا إلى تلك الحديقة الصغيرة التي يعرفها كل من اعتاد التنزه في شارع بولاق، وهناك اقتربت منها وقلت لها: لقد حق لك ولي أن نستريح، فعلام الإسراع؟
فنظرت إلي ولم تجب، ثم سارت في طريقها، فقلت لها وقد شجعتني نظرتها: إلى أين؟ خففي من سرعتك أيها الملاك الجميل.
فالتفتت إلي مرة ثانية وابتسمت، ثم سارت على مهل، فسرت معها جنبا إلى جنب وقرأتها السلام، فقالت: علام تقتفي أثري؟ - لأحظى منك بكلمة واحدة. - لقد سمعت مني عدة كلمات، فدعني وسر في طريقك. - إن طريقنا واحد.
فابتسمت وقالت: يا لك من أبله!
وتحادثنا طويلا، ثم سألتها أن نذهب لمصر الجديدة، فقبلت ببشاشة وسرور، ورجعنا أدراجنا إلى محطة المترو. وصلنا مصر الجديدة بعد عشرين دقيقة، ودخلنا لونا بارك، وصعدنا على الجبل الروسي راكبين القطار الصغير، فكانت تمسك بملابسي كلما صعد بنا القطار أو هبط، وغادرنا لونا بارك فأظهرت لي عند بابه الميل للعودة للقاهرة، فقلت لها وأنا أستعطفها: علام هذا الإسراع والساعة لم تدق السابعة بعد؟ أينتظرك أحد في المنزل؟ - كلا إن زوجي لا يتعشى في المنزل. - فلنقض معا إذن ساعة أخرى.
وقد قضينا تلك الساعة في مكان يظهر أنها لم تكن تجهله ولم يكن يجهلها.
ورجعنا بعد ذلك وركبنا عربة كانت تنتظر بجوار قهوة البسفور، ولما وصلنا لميدان عابدين سألتني أن أغادرها هناك، فأجبتها لسؤالها عن طيبة خاطر، وأعطيت الحوذي عشرة قروش، وودعتها بعد أن تواعدنا على اللقاء بعد يومين.
ثم تركتني وسارت في طريقها بعد أن استحلفتني أن لا أتبعها، ولما كادت أن تغيب عن عيني قام بنفسي أن أعرف أين تسكن؛ حتى إذا ما أخلفت موعدها معي انتظرتها كل يوم أمام باب بيتها. ولما اقتربت منها سألت الله أن لا تلتفت فتراني، فإذا بي أراها بعد قليل تسير في عطفة «ال ...»، فدق قلبي دقات متوالية، ثم وصلت للمنزل رقم (22)، والتفتت لترى إن كان هناك أحد يتبعها، ولكنها لم تتبيني في الظلام؛ لأن الشارع لم يكن من الشوارع المضاءة، ودخلت المنزل فوقفت كالصنم لا أتحرك، ثم عدت وأنا كاسف البال.
يا للعار! لقد ارتكبت إثما هائلا، ولكني لم أتعمد ارتكابه. لقد أصبحت حليلة صاحبي خليلة لي، ولكنها كانت خليلة سواي من قبل. •••
في الغد ذهبت للديوان، وجلست بجوار أمين، وتحادثنا كالعادة، وذهبنا عصرا لسبلنددبار، وتناولنا العشاء في أبليسك، وقضينا ليلتنا معا في ماخور من مواخير العاصمة، كأن لم يكن شيء حدث بالأمس.
18 يونيو سنة 1917
بيت الكرم
أسرة مجدي مشهورة في مصر بالثروة والجاه، يؤمها المستغيث ويقصدها كل ذي حاجة. توفي ربها المرحوم عبد الله بك مجدي عن ستين عاما قضاها - كما قالت الجرائد - في عمل الخير والبر والإحسان، تاركا ولدين يبلغ أكبرهما الثلاثين والآخر لا يتجاوز العاشرة، وثلاث بنات أبكار لم تسعد أكبرهن بعد بالزواج.
ورث المرحوم عن أبيه ثروة طائلة تزيد عن ألفي فدان، أضاع معظمها حبا في الخمر وسعيا وراء النساء، فلم يترك لأولاده بعد موته إلا ثلاثمائة من الأفدنة وعشرة من الرفاق، كان ينفق عليهم من حر ماله، وكانوا يقضون معه الليل والنهار ليأتنس بحديثهم ويقتل الوقت معهم، وأصبح الولد الأكبر - محمد بك مجدي - بعد وفاة أبيه رئيس أسرة مجدي، وناهيك عن قيمة هذا اللقب في أعين الرفاق العشرة بعد أن وجدوا في الولد خير خلف لأبيه، فلقبوه بابن العز والإمارة ورب البيت الذي لم يغلق بابه في وجه سائل. ولم يكن محمد بك تلقى من العلم والتربية ما يلهمه أن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، وأوحى إليه الجو الذي نشأ فيه أن لا يحيد عن الخطة التي اختطها أبوه لنفسه من قبل؛ فرحب بالرفاق وجلس بينهم كما كان يجلس أبوه في صدر المكان وهم حواليه يكاد يدفعهم الخشوع والامتثال إلى الركوع والسجود. •••
نزل محمد بك من الحريم إلى السلملك وهو مرتد جلابية بيضاء وعباءة من الحرير الأبيض، وكان عاري الرأس منتفخ العينين، وقد نسج السهر لكل واحدة منهما إطارا أحمر، لو رآه طفل صغير في رابعة النهار لولى الأدبار خائفا أن ينقض عليه ذلك البعبع فيهشم عظامه أو يسيل دماءه.
مشى محمد بك مشية الزهو والتيه، يميل به الإعجاب بنفسه ويرنح عطفه احتقاره للناس، ومن مثل محمد بك على وجه البسيطة وهو الغني العظيم ابن الكرم والسيادة، وبيته مأوى البؤساء وملجأ الفقراء؟! وكان في ذلك اليوم مقطب الوجه عابسا ساهما، وذلك لزيارة وسيط وافاه في الصباح يطلب يد أخته الكبرى لابن أحد البيكاوات، وهل يسمح محمد بك بذلك ولأخته حصة فيما تبقى من تراث أبيه يصرف ريعها على الحفلات اليومية التي يقيمها كل ليلة في بيته هو ورفاقه الكرام، أستغفر الله، بل عبيده المخلصون؟! وصل محمد بك للسلملك وكان الوقت مساء؛ لأن البك لا يفيق من نومه إلا في الساعة السادسة، وكان من عادته النوم بعد الغذاء، ولما دخل غرفة الاستقبال وجد الجماعة في انتظاره وقد تهيئوا للقائه، فجلس بينهم وهو تائه النظر، وقد تعمد ذلك حتى لا يقال إنه يتنازل لرؤية أحدهم، ثم نادى الخادم وأمره أن يجيء بزجاجات الوسكي، وقام الخادم بما أمر به حق قيام، وتناول كل واحد قدحه وشربوا نخب البك.
وقام أحدهم واقفا، وهو شيخ سكير يناهز الستين، كان كاتبا بوزارة «ال ...» وأحيل على المعاش، ولم يساعده معاشه على اقتناء الخمر والقيام بأود أسرته، فالتجأ لمحمد بك، وليس شيء أحب لنفس محمد بك من أن يلتجئ إليه من يظهر التفاني في محبته والخضوع لآرائه والحاجة العظمى لماله وطعامه. وكان ذلك الشيخ من أصحاب النكات الظريفة المستملحة، يترقب الفرص حتى إذا حانت أرسل النكتة من فيه فتقع في قلب مناظره كما يقع السهم الصائب في ثنايا الصدر. ولم يكن في تلك الحاشية التي جمعتها يد المنكر والفساد رجل يحب الآخر؛ فكلهم متنافرو المشارب مختلفو الأميال، ولم يتحدوا إلا على كسب أموال البك، حلالا كان ذلك الكسب أم حراما. قام ذلك الشيخ وقال للبك: سيدي وولي نعمتي، هل ليدك الشريفة أن تتناول الكمنجة ...؟
ولم يمهله البك أن يتم قوله فنهره قائلا: كفى مجونا وهزرا.
اندهش الرفاق لما فاه به البك لاعتقادهم أن البك يحب من يتغنى بشهرته الواسعة في الكمنجة. اندهش الجميع وسكتوا، ولكن شيخنا السكير لم يندهش ولم يسكت، بل ابتسم ابتسام الفائز، وقال وفي صوته رنة الرجاء والاستعطاف: الناس لا تشك في هزري ومجوني، وهم أيضا لا يشكون في نبوغك وعبقريتك، فهل لسيدي أن يتنازل ويشنف آذان عبيده؟
ونظر البك للسماء مادا يده لوجهة الشيخ.
ففطن صاحبنا لما يدور في خلد البك، فمشى على أطراف أصابعه إلى أن وصل لتلك اليد الشريفة، وتناولها في يده، وقبلها مرارا وهو يرجو ويستعطف.
فقبل البك رجاءه وشنف آذان رفاقه، ولم يكن - حفظه الله - حانقا على عبده، ولكنه كان ممن إذا رجاهم أحد ودوا لو كرر الرجاء مرات عديدة. وبينما كان البك يشنف آذان رفاقه دخل عليهم رفيق آخر هللوا لقدومه وصفقوا، ولكن البك عبس في وجهه وصافحه مصافحة جفاء وغضب؛ فانقلب تهليل الجماعة إلى نفور وازدراء، واستمر البك يضرب الكمنجة ورءوس الرفاق تميل طربا إلى أن انتهى فألقى بها على الخوان، ونظر للقادم نظرة تجسم فيها البغض وقال: ما هذا الجفاء يا سعادة الباشا.
فابتسم الحضور لتقريع البك، وسكت الرجل، فقال البك: علام السكوت؟ أين كنت؟ وعلام تأخرت؟ - كانت امرأتي تلد. - لقد وضعت بإذن الشيطان كلبا.
فقهقه الحضور وتمايلوا بأجسامهم، وكانوا يضحكون إرضاء للبك، وليس شيء أقبح من وجه من يتضاحك، ولكن البك كان يتغافل عن كل ذلك تغفيلا لنفسه، وأقسم الرجل ثلاثا على صحة دعواه، فقال البك: إنك تكذب. أنت تنكر النعمة التي أسبغناها عليك. - حاشا لله أن أكون ذلك الرجل. - صه. إياك والكلام. إني أعرف أين كنت أمس.
وسكت الرجل وهو بريء لم يرتكب إثما، وهل في ذهابه لبيت ابن عم البك مرة في الشهر إثم كبير؟ ولكن البك كان من الأغنياء الذين تشبه أخلاقهم أخلاق النساء؛ فتراهم يغيرون إذا ما التجأ أحد حاشيتهم مرة في حياته إلى أحد سواهم.
وقام الرجل المسكين وقبل أقدام سيده ومولاه، فصفح عنه بعد أن فرض عليه جزية تقبلها الرجل شاكرا؛ وهي أن يقوم هذا البائس ويقبل أيادي الرفاق أجمعين ثلاثا بعد أن يصفعه كل واحد منهم مرة، وكيف لا يقبل ذلك الرجل الفقير ذلك وقد وضعت امرأته بالأمس طفلها السادس؟!
ودارت الكئوس مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة، ثم قاموا جميعا وتناولوا العشاء، وعادوا للراحة في غرفة الاستقبال، ولبثوا سكوتا ومنهم من أسند رأسه على كتف صاحبه مستسلما للكرى، ومنهم من انتهز الفرصة وتناول كأسا من الوسكي دون أن يراه أحد، ومنهم من جلس يفكر في حيلة يضحك بها البك لينال رضاءه، أما البك - حفظه الله - فكان كالميت لا يعي شيئا، وهذا حال كل رجل بدين الجسد إذا أكل ولم يحاذر في أكله.
ثم أفاق البك ونادى أحد الرفاق، وكان فتى في مقتبل العمر، جميل الصورة أهيف القد، إذا مشى تثنى كما يتثنى الغصن وقد لعب به النسيم، وكان البك يميل لمحادثته على انفراد؛ لعذوبة ألفاظه، ورقة حديثه فكان لا يصبر على فراقه دقيقة واحدة، ولهذا أسكنه البك في غرفة من السلملك، حتى إذا احتاج لرؤيته لا يلبث أن يراه.
ناداه البك قائلا: أين عودك يا صديقي؟ أمسك به وشنف آذاننا جميعا.
فتناول الفتى العود، وابتدأ في الضرب، وغنى لحنا تناول البك عند سماعه الكمنجة واشترك في الضرب والغناء معه، وقام الرفاق يرقصون حتى إذا أعياهم الرقص جلسوا وهم يصفقون ويميلون طربا كأنهم يسمعون عبده أو عثمان. وعند انتهاء الغناء دخل على الجماعة رجل يبلغ الخامسة والأربعين، يلبس منظارا أسود يحجب عن الناس ما في عينيه من شر وحسد وحقد، وسلم على الجميع بعد أن قبل يد البك، وقام البك واقفا لرؤيته وعانقه والرفاق في دهشة! وكيف لا يدهشون والقادم صعلوك ممن حكم عليهم قديما بالحبس للتزوير والاختلاس؟! وجلس الرجل بجوار البك، وأسر إليه كلمات ابتسم لها البك، وتهللت أسارير وجهه، ولما رآه الرفاق يسر للبك شيئا ابتعدوا قليلا فقال الرجل لسيده: قد انتهى كل شيء. - كم في المائة؟ - ثلاثون. - بورك فيك.
وعاد البك للغناء والضرب على الكمنجة، والرفاق للرقص والتصفيق. •••
لم يكن هذا الزائر الجديد إلا رسول البك للمرابين لرهن مائة فدان هي البقية الباقية من تراث آبائه، وهل يتسنى لمن كان يمتلك ثلاثمائة فدان أن يعتاد هذا البذخ وهذا الإسراف على جماعة يستأجرهم لتقبيل يده والتغني بكرمه وجوده دون أن يرهن ما عنده ليفقده صفقة خاسرة؟!
وهب بعد قليل نسيم عليل ارتاحت له نفس البك، فقال وهو يبتسم: لو من الله علي بألفي جنيه لكنت أشتري بها منزلا في رمل الإسكندرية لأقضي فيه فصل الصيف من كل عام.
وتنهد البك آسفا على ذلك المنزل الجميل، فقال أحد الرفاق: لا تيأس يا سعادة البك من رحمة الله، سوف يمن الله عليك بما تريد.
ولم تقع هذه الجملة موقعا حسنا عند البك، فغلى الدم في عروقه وقطب وجهه استياء ثم صاح: يا لك من غر أحمق! يمن الله علي؟ أتظن أني فقير أيها المجنون؟!
وحق للبك أن يغضب هذا الغضب الكبير وهو الذي يغيث الفقراء ويحمي الضعفاء، فقام إليه الزائر الجديد ذو المنظار الأسود وحاول أن يزيل غضبه، ولكن البك لم يقتنع بشيء، وكاد أن يهم بضرب من اتهمه بالفقر والاحتياج لمعونة الله، وعزز الرفاق سيدهم وسقط الرجل في يده وخرج من الغرفة وهو يتعثر في أثواب خيبته، وجلس البك وهو يرغي ويزبد، ثم تناقص غضبه شيئا فشيئا إلى أن زال، وعاد الجمع للعزف والغناء والرقص، ودارت الكئوس ولعبت الخمر بالرءوس، فكنت تسمع في الغرفة النكات تتلو النكات والشتائم تتبع الشتائم، إلى أن تملك التعب على القوم نفوسهم فاستسلموا إليه، وسقط بعضهم على الأرض لا حراك به، واستأذن من تبقى له شيء من قوته تحمله إلى بيته إلى أن خلا المكان إلا من النائمين، وكان البك ملقى على مقعد وبجواره الزائر ذو المنظار الأسود يفتش في جيوبه، ولما انتهى من عمله نادى إدريس البربري؛ ليحمل سيده إلى الحريم ...
فرغ صديقي من قصته فالتفت إلي وهو يقول: ماذا تقول في هذه القصة؟
فتنهدت وقلت: صدق من قال إن شبان مصر الأغنياء لا يعرفون للضجر معنى، فأكرم بهم وأنعم! - هذا طريق واحد من عدة طرق يسلكها هؤلاء الأغنياء لقتل وقتهم وضياع ثروتهم. - وهل هناك طرق أخرى؟ - هيا بنا نخرج لاستنشاق الهواء في الجزيرة، وهناك أقص عليك قصة أخرى.
فخرجت معه وكلي آذان مصغية لحديثه.
2 أغسطس سنة 1917
حفلة طرب
كنت شغوفا بالكنسير أيام كنت في باريس، لا تفوتني من لياليه ليلة تجمع بين الأناشيد الشجية والألحان الفكاهية، والوجوه الوضاحة والقدود المائسة والعيون الضعيفة القاتلة. هناك كنت أمتع عيني بالجمال الذي صاغته يد الخالق في وجوه الحسان، وأملأ قلبي لذة يمازجها الطهر، وأذني ألحانا جميلة ينفسح لها الصدر. •••
أيام مضت كما يمر الحلم العذب برأس النائم، والآن أنا بمصر محروم من تلك الجباه المشرقة والوجوه اللامعة والغرر المتألقة والألحان الشجية الجميلة، وما أحوجني إلى رؤية شيء منها، إن لم يماثلها جمالا وحسنا فلا أقل من أن يكون باعثا من بواعث الذكرى تهيج في قلبي نارا كاد أن يطفئ أوارها النسيان!
جلست أمس في مجلس جمع من الإخوان من كانت تتوق النفس للقائه، ويتأجج الصدر عطشا لرؤيته، وكان بينهم صديق لم تره عيني منذ سنين، فكنت أجاذبه أطراف الحديث وكلي آذان مصغية له، ولبثنا نتحادث إلى أن أخرج ساعة من جيبه ونظر فيها مليا، ثم قال: هيا بنا، لقد دنا الميعاد.
فقلت: وأي ميعاد؟ - أنا على موعد مع أحد الأصدقاء لسماع مغنية جديدة، فهل لك في مرافقتي؟
فأجبته لمطلوبه واستأذنا الجماعة ومشيت معه جنبا لجنب.
وصلنا إلى القهوة، ووجدنا على بابها شابا ينتظر، قدمه إلي صديقي، فابتدرنا بقوله: لنرجع أدراجنا إلى منازلنا.
فقال صديقي: وعلام؟ - أن السيدة «...» لا تغني هذه الليلة.
وحانت مني التفاتة إلى القهوة فقلت: ولكني أرى سيدة جالسة على «التخت».
فقال الشاب: يا للعجب لقد تأخرت إذن عن ميعادها ربع ساعة.
فقلت لنفسي وأنا أبتسم: «يا للعجب أول القصيدة كفر.» وابتعنا تذاكرنا، ودخلنا القهوة ونحن نتسابق لسماع المغنية، وأخذنا مجالسنا بين الجمهور، وجلسنا وكأن على رءوسنا الطير.
القهوة فسيحة الأرجاء، جمعت من شتات الناس المطربش والمعمم ولابس الجلابية الزرقاء؛ جماعة مختلفي المشارب خارج القهوة متحدي الأميال فيها، تعوزهم ريشة المصور؛ لترسم للناس الصور المضحكة المبكية التي تبدو على وجوههم. ثم نظرت لجماعة المغنيين وضحكت حتى كدت أن ألفت أنظار الناس لولا اندفاعهم لرؤية وجه المغنية الفاتنة التي كانت تبتسم للجميع وتحييهم أجمل تحية.
المغني الأول:
شاب أسود البشرة يظهر لي أنه من أم زنجية وأب مصري، أو أنه نوبي من أهل أسوان، أو عامل من عمال العنابر في مصر له أنف طويل يكاد يلتطم مع شفته اليسرى، وعينان سوداوان بهما جمال عبثت به يد السهر والخمر، وشارب قصير كريش فرشة تنظيف الأسنان، وكان مرتديا بدلة بيضاء وبها بقع سوداء، فما أقرب شكله لشكل الفرس الأبلق!
والثاني:
رجل مغلق الأجفان يجتهد في فتحهما كلما دعته الحالة فتعييه الحيلة، له فم إذا فغره خلته بئرا، وأذنان كبيرتان، وذقن طويلة تهتز مع رأسه كلما أنشد كأنها تسأل الناس المعونة والأجر، فما أشبهه بحلاق من جهة سيدنا الحسين أصيب بالعمى فجاء ليرتزق في قهوة عمومية!
أما الثالث:
فكان رجلا مرتديا جلابية بيضاء وحزاما من المناديل الحمراء الكبيرة وجبة زرقاء وطربوشا من غير «خوصة»، لم يحلق لحيته منذ أيام فظهرت شعورها في وجهه كما يظهر النجيل في الأرض القحلاء، وكان إذا أنشد أخذ فمه شكلا هندسيا يشبه المعين، إذا نظرت إليه ظننت أنه منجد ملك عنانه حب الغناء فأتى إلى القهوة ليشنف آذانه، ودفعه ذلك الميل الغريزي لامتطاء الدكة المعدة للمغنين، فجلس عليها يساعد الجماعة على إخراج الأغاني صحيحة خالية من العيوب.
أما الرابع:
فهو شاب نحيف الجسد أسمر اللون لا تفارق عيناه أديم الأرض، ولعله من المصابين بداء الحياء الشديد، ولهذا لم يتيسر لي أن أتفرس في ملامح وجهه لأصفها للقراء. فهو رجل كما تقول العامة في «حاله»، ولهذا ندعه في حاله.
أما الخامس:
فهو شيخ أحنت الأيام ظهره، فأصبح كالقوس يداعب المغنية من وقت لآخر، ولا أدري لماذا. له طربوش تظهر منه شعور كتلك الشعور التي أبقتها يد التحنيط على رءوس الجثث المحنطة في دار الآثار المصرية، مرتديا بدلة يحار فكر الناظر أمامها؛ فمن قائل إنها بدلة عادية، ومن قائل إنها ردنجوت قصيرة، ومن قائل إنها من نوع جديد سوف يحذو على منواله كل حائك في مصر، فلا تلبث أن تصبح الموضة المصرية الجديدة بعد أن انقطعت عنا في أيام الحرب موضة باريس ، وهو أشبه الناس بكتاب الدوائر الكبيرة.
وأما حامل العود:
فهو رجل بدين الجسد له وجه منتفخ تغار فيه عيناه البراقتان، تظهر عليه بعض مخايل الوجاهة، ولا أدري لماذا؛ ولعل ذلك لأنه حامل العود والعود سلطان الآلات الغنائية.
وأما حامل القانون:
فهو شاب جميل الصورة أسمر اللون حسن الهندام، يظهر عليه أنه كان غنيا ثم أناخ عليه الدهر بكلكله، إذا لمست يده أوتار القانون اهتز جسده بأجمعه مع اهتزاز النغمات، وتقلصت شفتاه وتقطب وجهه، فكأنه يبكي أيامه الماضية وثروته الضائعة.
وأما حامل الكمنجة:
فهو شاب في ريعان الشباب، أصفر الوجه له شارب طويل يرتفع طرفه الأيمن إلى أعلى وينخفض طرفه الأيسر إلى أسفل، له وجه ليس فيه شيء من التناسب بين طوله وعرضه، وجبهة خليقة بأن تكتب عليها بالثلث عناوين الأدوار، فما أشبهه بمحرري بعض الجرائد في مصر!
أما الأخير:
فهو يافع لا أدري لماذا أتوا به، يذكرني بيافع آخر كان يمر على قهاوي العاصمة ليبيع السجاير «الفنتزية»، التي إذا أشعلتها طار منها شعاع يخيف الأطفال الصغار.
أما المغنية:
فهي امرأة ذات جمال إغريقي في نحو الثانية والثلاثين من عمرها، قصيرة القامة نحيلة الخصر وضاحة الطلعة سافرة الوجه، مرتدية ملاءة سوداء تصل أطرافها إلى ركبتيها فتزيدها رقة وحسنا، لها فم جميل لا تفارقه الابتسامة، فكأنما تتساقط منه زهور النرجس والورد، ولها شفتان تتعدد أشكالهما كلما غنت؛ فتارة تظهر عليهما صورة الاستعطاف، وطورا صورة الإعراض، وآنا صورة الحنو والامتثال، وآونة صورة التيه والإعجاب. تغني ثم تضحك، وتضحك ثم تغني، وتبتسم وتخجل، ولا أدري لماذا تخجل ولماذا تبتسم ولماذا تضحك، وإن كنت أعرف لماذا تغني!
ويخيل لي أنها إذا خلعت إزارها الأسود وجلست لتحادثك خارج القهوة وهي جادة في قولها، يذهب عن وجهها ذلك الجمال الساحر والدلال القاتل. يشفع ابتسامها الجميل في ضعف صوتها.
انتهى الغناء، وخرجت مع صاحبي، فسمعت عند باب القهوة رجلا يقول: هذا غناء يتخلله ضحك وابتسام.
فقلت في نفسي: لقد أخطأت يا صاح، هذا ضحك وابتسام يتخللهما غناء.
أغسطس سنة 1917
صفارة العيد
العطفة التي نتكلم عنها طويلة ضيقة خالية من الأرصفة، تبتدئ بحائط سميك وتنتهي عند الشارع الكبير؛ حيث ترى على يمينها قصرا فخما يخاله الناظر سجنا أعد للمجرمين، وعلى شمالها قبرا لشيخ وهمي تقف أمامه الرجال والنساء يقرءون الفاتحة وهم ينظرون للسماء نظرة رجاء وابتهال، ثم يمسحون وجوههم بأيديهم ليتم الله نعمته عليهم. وإذا سرت فيها فبلغت منتصفها وجدت «أم مليم»، بائعة الطعمية والسلطة والكرات، جالسة القرفصاء أمام حانوتها المكون من قفص تعرض عليه ما تبيعه لسائق عربة الكارو ولابن السبيل والفاعل. وإذا اقتربت من بدايتها؛ أي من الحائط السميك الذي يقف في وجه المارة ليمنعهم من المسير، وجدت شجرة كبيرة يتفيأ ظلالها كل من تعب وتملكه الإنضاء. أما إذا أسرعت في سيرك خشيت أن تعثر في هاوية صغيرة أو تل لا يزيد ارتفاعه عن عشرة سنتيمترات، أو في القاذورات التي تلقي بها أيدي المارة بلا خوف ولا حذر. أما القصر فهو لأحد البشوات الذين أبوا أن يهجروا الحي الذي نشأ فيه أجدادهم، وهو قصر - كما قلنا - عظيم، يجلس على بابه الخصي واضعا رجلا على رجل وممسكا بمسبحة يستعين بها على قتل الوقت؛ حتى لا يشعر بسأم ولا ملل، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره، له شفاه تشبه قطع «البفتيك» التي تقدم لك في مطاعم العاصمة، وعينان يزداد احمرارهما كلما «أخذته الجلالة» فنطق باسم الله العظيم، وأنف أفطس كأنه ضفدعة وجدت في وجه الخصي منبتا حسنا، وكان طويل القامة ضخم الجثة، إذا مشى اهتز كما يهتز الفيل. •••
نحن في اليوم الأول من أيام العيد، والناس في هرج ومرج، والأطفال يلعبون في الشارع وقد أمسكوا بألاعيبهم وارتدوا ملابسهم الجديدة وتسامروا وهم يضحكون ويقفزون، والآباء انشرحت صدورهم ومشوا في الشارع وهم يقولون بعضهم لبعض: «كل عام وأنتم بخير.» وكان بين الأطفال طفل نحيل الجسم أصفر الوجه، ينظر لرفقائه نظرة تعبر عن غبطة لهم وعن رثائه لنفسه لحرمانه من سرورهم وسعادتهم، وكان خجولا من لباسه القذر وأقدامه الحافية. يقف بجوارهم ثم يضع يديه خلف ظهره ويبتسم، كأنه يسألهم السماح له بمشاركته إياهم سرور العيد، وليس في ذلك بأس عليهم وهو طفل مثلهم، يبكي إذا ألم به ضر ويضحك إن نال ما تصبو إليه نفسه، وأنى له أن ينال بغيته وهو يتيم توفيت أمه بعد ولادته بخمس سنوات، ومات أبوه بعد وفاتها بعامين! فعاله عمه، وأين حنو زوجة العم من حنو الأم! مشى الأطفال الهوينا ثم غادروا العطفة، وتواعدوا على العدو في الشارع الكبير، وجروا فيه أشواطا عديدة، فسقط أحدهم على الأرض فأسرع إليه رفقاؤه وهم يضحكون كما تغرد العصافير وعاونوه على النهوض من سقطته، فقام وهو كالح الوجه كاسف البال، وقد جال الدمع في عينيه، ولكنه لم ينس أن اليوم عيد وأن البكاء محرم فيه وأن السرور فرض، فما لبث أن نسي سقطته وتناسى آلامه وجرى خلفهم إلى حيث كانوا يقصدون. أما اليتيم فلم ينس آلام نفسه؛ تلك الآلام القاتلة التي كانت تدب في جسمه فتطفئ نوره وتذهب بجماله وروائه.
ثم غادر الأطفال الشارع الكبير، ومشوا في العطفة وهم يضحكون وينشدون الأناشيد الصبيانية، إلى أن وصلوا للشجرة الكبيرة، وهناك صاح أحدهم: لقد ابتعدنا عن الشارع الكبير، وهناك تمر الباعة، فهيا بنا نعود من حيث أتينا.
وتسابقوا وقد علا صياحهم في الفضاء. •••
ومرت في الشارع الكبير في تلك الساعة عربة كارو وقد ركب عليها سائقها، وهو شاب يشبه جسمه المكعب، له رأس له أربعة أركان يشبه مسطحها المربع. ألهب السائق جواده وهو يغني أنشودة بلدية جميلة: «أسمر سمرمر صغير السن لوعني»، ولما اقترب من الخصي قرأه السلام بصوت جهوري، فرد عليه الخصي السلام من أطراف شفتيه وهز رأسه كأنه يأسف على تدهور أخلاق السوقة. وعادت الأطفال في تلك الساعة من الشارع الكبير إلى العطفة، وهي ملجؤهم الوحيد، وفي يد كل واحد منهم صفارة اشتراها من بائع يجول في الطرق، وابتدءوا ينفخون في صفافيرهم ويغنون، وتلك لعمري موسيقى تبعث السرور في القلوب، وإن كانت غير شجية لتنافر نغماتها. وقف اليتيم معهم وقد أشجته تلك الموسيقى، واقترب من رفقائه وهم يرقصون ثم رقص معهم؛ إذ لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك. فنظر إليه أكبرهم سنا وقال له بملء فيه: أين رداؤك الجديد يا علي؟
فلم يجب اليتيم وضحك الآخرون.
وقال ثان: أين صفارتك أيها الصديق؟
وقال ثالث: كفاكم رقصا ولنصفر جميعنا. ليرقص من ليست معه صفارة.
ولكن اليتيم لم يكف عن الرقص، وقد عز عليه أن لا يترنح معهم، وضرب صفحا عما سمعه كأن لم يعرض به أحد.
وفي تلك الساعة مر أستاذ قصير القامة طويل اللحية، يسير الهوينا في طريقه وهو يداعب لحيته بيده اليسرى ومسبحته بيده اليمنى. فهرعت الأبناء للقائه وهم الخصي واقفا ثم مشى وقبل يده، بينما كان الآخرون يقبلون أطراف جبته. أما الشيخ فهو رئيس الطريقة النقشبندية؛ وهي طريقة تحتم على أشياعها أن يذكر كل واحد منهم لفظ الجلالة مرة في كل عشرة دقائق، توفي شيخها القديم منذ خمسمائة سنة بعد أن نقشت التقوى على صدره اسم الجلالة، ولهذا سميت طريقته باسم النقشبندية.
ثم مر بائع الحلوى فهرعت إليه الأطفال، وجرى معهم اليتيم ولكنه كان في مؤخرتهم، فمد إليه أحدهم قطعة من الحلوى قائلا: خذ.
فأشار علي برأسه رافضا، واستكبر الآخر منه ذلك فألقى بقطعة الحلوى على الأرض، فالتقطها اليتيم وأعطاها لكلب جائع كان يبصبص له بذنبه، وغادر اليتيم رفيقه وقد ارتسمت على وجهه صورة البؤس ممزوجة بصورة عزة النفس، ولحق برفقائه وهو وحيد القلب وإن كان كثير الرفقاء، أما رفيقه الذي أعطاه الحلوى فقد مشى وهو يهز كتفيه ويصعر خده أنفة واستكبارا.
ثم حانت التفاتة من الأطفال إلى الشارع الكبير فوجدوا محمودا «الفتوة» قادما عليهم، فصاحوا جميعا: «محمود السبع حضر. محمود السبع حضر.» وصفقوا بأيديهم، فابتسم لهم محمود وكان «فتوة» عطفتهم، وسار في طريقه على مهل ساحبا أذيال الخيلاء وملوحا بعصاه في الهواء كما يلوح الفارس بسيفه، وكان ضخم الجثة قوي العضلات له في المشاجرات القسط الأوفر والفوز الأكبر، مشهور بين فتوات العطفات الأخرى؛ ولذا لقب ب «محمود السبع».
نظر إليه الخصي نظرة امتهان وامتعاض، فقهقه محمود ضاحكا حتى استلفت أنظار المارة، وبصق الخصي على الأرض وكان هذا أكبر مجهود يقدر على فعله لإهانة محمود، ثم صاح أحد الأطفال: المصارعة المصارعة خير مما نفعل، ومن يتفوق على نظيره يأخذ صفارته مكافأة له على قوته وشجاعته.
فقال آخر: وليكن محمود السبع حكما بيننا.
فقال محمود: بلا شك.
وقال رابع: ولكن عليا «اليتيم» لا يملك صفارة.
فصاح الطفل الذي رمى لعلي بقطعة الحلوى: سأصارعه، فإن تفوق علي أعطيته صفارتي، وإن تفوقت عليه صفعته على وجهه أمام الجميع.
فصفق الأطفال استحسانا وقطب علي وجهه وشمر عن ساعده، فكنت ترى عند التحام جسمه بجسم رفيقه صورة غريبة على وجه كل واحد منهما؛ الأول: يدافع عن صفارته، والثاني: يدافع عن شرفه. والفرق بين الصفارة والشرف كبير، وتغلب علي على رفيقه وألقى به على الأرض وهو ممسك بتلابيبه، وفرق بينهما الرفاق فقام علي وهو رافع الرأس وقال: أين الصفارة؟
فقال محمود السبع للمغلوب: أعطه الصفارة.
ثم أدار وجهه عن الأطفال وذهب للقاء صاحب له. فأخرج المغلوب صفارته من جيبه بعد تردد ومد يده بها إلى عدوه، فأخذها علي ووضعها في فمه كما يضع الظمآن حافة الكأس المثلجة بين شفتيه وكأنه امتلك العالم بأجمعه، وما لبث قليلا حتى ضحك الحاضرون ضحكة استهزاء وسخرية، وكيف لا يهزءون به ولا يسخرون منه وهو ينفخ في صفارة لم يشترها بماله، فألقى علي بالصفارة في وجهوهم وسار على مهل وهم يصفقون خلفه. وابتعد عنهم فلم يشاءوا أن يتتبعوه خشية أن يفارقوا نهاية العطفة؛ حيث يكثر الباعة، فسار اليتيم الهوينا إلى أن وصل للشجرة الكبيرة، وهناك وقف هنيهة كأنه يفكر ثم جلس في ظل الشجرة وقد أسند ظهره إلى ساقها ونظر جهة اليمين وجهة الشمال، فوجد العطفة قفرة كقلبه، فوضع رأسه بين يديه وبكى وهو يقول: «أماه. أماه. أبتاه.» بينما كانت الأطفال تغني في الشارع الكبير. •••
ثم أفاق بعد هنيهة فوجد الكلب الذي ألقى بقطعة الحلوى إليه جالسا عند رأسه يلحس دموعه بلسانه الظامئ.
أغسطس سنة 1917
ربي لمن خلقت هذا النعيم؟
(هذه القصة لموبسان الكاتب الفرنسي الشهير، بدل المعرب أشخاصها وزمانها ومكانها وموضوعها، ممصرا كل شيء فيها، فلم يبق من الأصل إلا روح الكاتب، واتبع المعرب في ذلك خطة تولستوي في قصصه التي نقلها عن موبسان. •••
محمد بك عبد القادر رجل في الخامسة والخمسين من عمره، أقنى الأنف أسود العينين مقرون الحاجبين، يقص شاربه ويعفو عن لحيته. إن مشى يسير الهوينا، وإن جلس يتربع على كرسيه بعد أن يخلع خفيه، يرتدي الردنجوت ولا يحب سواها من الملابس الإفرنجية؛ لأنها أقربها شكلا لمظاهر الصلاح والتقوى. مسلم في كل أقواله وأفعاله، يذب عن الدين كلما تعرض له ملحد لا يتقي الله في دينه ولا دنياه، ويدافع عن حجاب المرأة في كل مجلس يتناقش فيه أصحاب مذهب السفور مع المحافظين على العوائد والتقاليد القديمة. وإن رأى شابا جالسا في حان يتعاطى كأسا من الخمر، وقف في مكانه كالمصعوق، ثم بصق على الأرض ومشى في سبيله وهو يرتل آيات القرآن. له في بنك الكريدي ليونيه عشرون ألفا من الأصفر الرنان، لا يتعاطى عنها فائدة متبعا قوله تعالى:
وأحل الله البيع وحرم الربا .
يسكن محمد بك في قصر جميل على ضفاف النيل، تحوطه حديقة غناء تتمايل أشجارها كلما داعبها النسيم، وتسمع فيها موسيقى الطيور ممزوجة بألحان أمواج النيل. تلك موسيقى جميلة هادئة كأنها صوت الحب في آذان العاشق اليائس. وإذا ظهر الشفق خلف النخيل وارتدت السماء ثوبها الأحمر قبيل الغروب، خيل للناظر أن هذا الاحمرار هو دموع الليل يودع النهار. وإذا بزغ القمر في القبة الزرقاء في ليلة من ليالي الصيف، ود صاحب البيت أن لا يفارق الحديقة حتى مطلع الفجر. هذا هناء كبير جاد به الله على هذا الشيخ الصالح مكافأة له على عبادته وصلاحه؛ فهو به قرير العين مثلوج الفؤاد، تلوح عليه أريحية السرور كلما ذكر الله، ويلمع في غرته نور البشر كلما صلى على نبيه.
لم يرزق محمد بك عبد القادر إلا بفتاة جميلة الصورة حلوة الحديث غضة العينين، كأنها نرجسة جميلة في حديقة الشعر لا يقف أمامها إلا كل شاعر كبير الخيال بديع التصوير، ولقد بلغت تلك الفتاة العشرين منذ عدة أيام، وفكر أبوها كثيرا في أمر زواجها وحادث زوجته في هذا الشأن مرارا، وعدد لها أسماء كثير من الشبان الأغنياء المتعلمين الذين يتطلعون لهذا الزواج المبارك، واتفقا على شاب وجدا فيه ضالتهما المنشودة، وحادثت الأم ابنتها عنه، فأبدت البنت نفورا من ذلك الشاب، فأخبرت الأم زوجها بما كان بينها وبين ابنتها فاستاء لتلك النتيجة، ولكنه اختار شابا آخر لم ترفضه الفتاة بل رفضت الزواج كلية. وعز على أبيها ذلك الرفض وقامت بنفسه قيامة عصيان البنت لأوامر أبيها، فهددها ما شاء وشاء تعصبه وتفانيه في حب كل عقيدة قديمة صالحة كانت أو فاسدة، وأصر على زواج ابنته بالفتى الأول، وأبلغها ذلك الحكم الصارم بشدة لم تعهدها فيه من قبل، قابلتها بالصمت والبكاء. •••
لم يرق في عين الأم أن ترى ابنتها تبكي وتنوح، وهالها أن ينبو الفراش عن جسم تلك الفتاة الخرود، وأن يطيش سهمها ويخيب رجاؤها وتقف آمالها على شفا اليأس. خلت الأم بابنتها في صبيحة يوم من الأيام بعد أن خرج والدها للقاء أحد أصحابه، وحادثتها في شأن زواجها بعد أن أقسمت لها أنها ستكون ساعدها الأقوى وعضدها أمام تعسف أبيها وظلمه، فبكت الفتاة وأنت وجثت أمام أمها تسألها الرحمة والمعونة.
علام تبكي هذه الفتاة؟ ولماذا تستعطف؟ وأي باعث يهيج في قلبها تلك النار الكامنة؟ كل فتاة تحب الزواج وتبحث عن شاب جميل وغني، والشاب الذي انتخبه لها أبوها حسن الأخلاق كريم العنصر، باذخ الشرف منيع الساحة، جميل الصورة كثير المال، فلماذا تأبى الزواج به؟ لعل في الأمر سرا آخر!
هذا ما كانت تقوله الأم لنفسها وهي تمسح دموع ابنتها، ولما هدأت الفتاة قليلا قالت لها بصوت تمازجه الشفقة والحنو: «إني أعدك يا ابنتي أن لا تتزوجي هذا الشاب، بل أعدك أن تتزوجي الشاب الذي تصبو له نفسك . فمن يكون هذا الشاب؟!»
فنكست الفتاة رأسها وابتسمت ابتسامة باحت لأمها بسرها الدفين، فقبلتها أمها وقالت: «ومن هو؟» فلازمت الفتاة الصمت وأسندت رأسها على كتف أمها، ولم تشأ الأم أن ترهق الفتاة بالأسئلة، فاكتفت بما عرفت. •••
وعاد محمد بك إلى منزله وخلت به زوجته ورجته أن يؤخر هذا الزواج المشئوم، فأصر على عناده، فلم تجد الأم بابا من أبواب الرجاء والاستعطاف إلا وولجته، ولكن البك عز عليه أن يقهر في هذا الميدان، وقد جهل أن خذلانه أكثر شرفا من انتصاره، ونظر إلى زوجته وقال: لعلها تهوى فتى تود الاقتران به.
فقالت الأم وهي غاضبة: وإذا كان الأمر كذلك، فأي ضرر يلحق بنا؟! - أي ضرر يلحق بنا! إنك تلعبين بالنار أيتها المرأة. إني أحرم على هذه الفتاة أن ترى نور السماء. سوف أعمل على سجنها وسوف تعيش راهبة ما دمت حيا.
وخرج من الغرفة وهو كالمجنون، ونادى فتاته فأتته ملبية طائعة، فابتدرها بالشتم والسباب، وكاد أن يضربها لولا وقوف زوجته في وجهه، وغادر البك المنزل وهو هائم على وجهه. •••
مضى على هذا الحادث شهران لم يحدث فيهما شيء جديد، وخيم السكون على هذا المنزل؛ فكان البك هادئا ساكنا لا يلفظ بكلمة تشير للموضوع القديم ولكن نار الغيظ كانت تتأجج في قلبه، وكانت زوجته هادئة ساكنة أيضا ولكنها كانت تتألم خفية لآلام ابنتها، أما الفتاة فكانت تبكي آناء ليلها وأطراف نهارها وتتوجع سرا دون أن تبوح لأحد بآلامها. لقد كان لها بارق من المنى كذب برقه، وعارض من الآمال أخلف ودقه، فسلام على ماضي هنائها، وسلام على رجائها وآمالها.
وفي ذات ليلة تعشى البك كعادته وشرب فنجانين من القهوة ثم دخن سيجارة، وابتدأ في صلاة العشاء ولم يفارق سجادته إلا بعد ساعتين قرأ فيهما أربعين وردا، ثم قام وتمشى في المنزل قليلا، ودخل غرفة نومه لينام، وحاول النوم ساعة من الزمان فلم يفلح، فخرج إلى الحديقة دون أن يعلم بخروجه أحد.
تمشى البك في الحديقة ونظر إلى السماء نظرة ابتهال وخضوع، فوجد القمر لامع الصفحة والنجوم زاهية، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم نظر للأشجار فوجدها تتمايل يمنة ويسرة، وقد هب نسيم عليل يحمل إليه شذى الورد وعبق الياسمين، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ونظر للنهر فوجد أشعة القمر الفضية تلاعب أمواج النيل، ورأى قاربا يحمل قوما يغنون ويضحكون، وسمع في تلك الآونة نشيد طائر يغني في جوف الليل البهيم، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم جلس على كرسي ونظر لكل شيء؛ لهذه الصورة الطبيعية التي رسمتها يد الخالق على صفحة الوجود، لهذا الجمال الذي يكشف الستار عن عظمة الخالق وقوته وشفقته وحنوه، لهذه الجنة التي هي مهبط الحب وخلوة اللذة والنعيم، فقال مخاطبا ربه: «ربي لمن خلقت هذا النعيم؟» ثم تذكر أيام كان شابا يخفق قلبه لرؤية الغيد، فأغمض عينيه ورتل آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي، ثم فتح أجفانه وقال: «ما تلك إلا جنة ال ...» ولم يدر أي كلمة يتم بها جملته، فوقف وهو حائر الطرف، وإذا به يرى شبحين يسيران نحوه، فاختفى وراء شجرة كبيرة تحجب جسمه عن الناظرين ودق قلبه دقات متتابعة، وقال لنفسه: «من هو هذا الغريب الذي يجسر على التنزه في حديقتي قبل منتصف الليل؟!»
واقترب الشبحان منه فتفرس فيهما، فإذا به يرى ابنته تسير بجوار شاب جميل الصورة وقد أسندت رأسها على كتفه. عرف البك الشاب بعد أن تفرس في وجهه، وقال لنفسه: «هذا هو الشاب الفقير الذي كان يسكن بجوارنا أيام كنا نسكن بالحمزاوي.» ووقف الشبحان وتحادثا على مسمع منه، فقال الفتى: أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف إلى أن يضم عظامي القبر.
فأجابته الفتاة: وأنا أقسم لك على ذلك.
وقبلها الفتى في جبهتها وسار معها متخذا وجهة السور ليعود أدراجه إلى منزله.
خرج البك من مخبئه وهو ساكن صامت، ومكث هنيهة يفكر ثم نظر للسماء وللنهر وللأشجار، لهذا الجمال الطبيعي، لهذه الجنة الدنيوية، لهذا النعيم الحيوي، وقال لنفسه بعد أن فكر قليلا فيما رآه وفيما سمعه: «ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبين، ولعمري ما تلك إلا جنة الحب.» ورتل آيات من القرآن، ودخل إلى منزله وقد علت شفتيه ابتسامة تعبر عن هنائه وغبطته. •••
مضى على هذا الحادث شهر من الزمان أقيمت في نهايته حفلة قران الفتاة الغنية بالشاب الفقير، وما كانت تلك الحفلة إلا رمز انتصار الحب الطاهر على كل شيء.
أكتوبر سنة 1917
كان طفلا فصار شابا
أحمد محجوب يبلغ من العمر عشرين عاما، أقنى الأنف أسود العينين، مقرون الحاجبين وضاح الطلعة، جميل الصورة طويل القوام. إذا رأته النساء نظرت إليه بطرف خفي، وإذا رأى النساء مشى مشية التيه والدلال. أبوه من أغنياء القاهرة يملك ألف فدان من أجود أطيان الوجه البحري والقبلي، وأمه من عائلة عريقة في الحسب والنسب لا غبار عليها. رباه أبوه تربية مصرية بحتة فنشأ يخاف أباه ويخشاه ولا يجسر على محادثته، واختلط بفئة وضيعة تعلم منها لعب الميسر وولع به ولوعا أنساه كل لذة في العالم. وكانت له مربية تبلغ من العمر الخامسة والأربعين، ربته صغيرا من يوم أن بلغ الخامسة، وكان عمرها في ذلك العهد خمسا وعشرين عاما، وكانت قد طلقت من زوجها وهو رجل كان معاونا في إحدى زراعات الدومين، ومحجوب يحب مربيته ولكنه لا يخشاها، يهزأ منها إذا أغضبته، ثم لا يلبث أن يسترضيها فتنسى إساءته وتقبله وتضمه لصدرها ضاحكة مستبشرة.
لقد بلغ محجوب العشرين، ولكنه لا ينسى أيام كانت تضربه مربيته وهو طفل إذا هفا هفوة أو ارتكب إثما.
أينسى يوم أن تسلق شجرة النبق في الحديقة وكاد أن يسقط على الأرض؟! لقد أمسكت به مربيته والعصا في يمناها تقرعه بها ناهية إياه أن يعود لما فعل. وهل ينسى يوم أن مكث في الفناء يلعب ويمرح، وكان الوقت ظهرا، فنهاه السقا عم عبد الرازق عن ذلك، فشتمه ورفصه برجله الصغيرة؟! إنه لا ينسى ذلك اليوم وقد لطمته مربيته على وجهه وهي تؤنبه على ما فعل. وهل ينسى يوم أن التقط من الأرض بقية سيجارة كان يدخنها أبوه وأراد أن يستنشق الدخان، فرأته مربيته من النافذة ونادت به، فهم بالهرب وأبى الدخول للمنزل إلى أن حمله الخصي وأتى به إليها لينال جزاءه؟! إنه لا ينسى كل ذلك. وإن للطفولة حوادث تبقى مرسومة في رءوس الشبان والرجال إلى الأبد.
وكان القصر الذي يسكن فيه محجوب وعائلته في حي من الأحياء الوطنية ذوات الشوارع الضيقة، وكانت تحوطه عدة بيوت صغيرة لأقوام من بيئة ليست بالغنية ولا بالفقيرة، وسكن أمام قصر محجوب رجل تاجر حسن السيرة، له زوجة وبنت تبلغ الخامسة عشرة وولد يبلغ العشرين يساعده في إدارة حانوته.
وكانت تشتغل زوجته طول نهارها في أعمالها المنزلية، وتساعدها ابنتها من وقت لآخر. وإذا ما خلت البنت بنفسها جلست أمام النافذة التي تطل على غرفة محجوب تنتظر إيابه من المدرسة، فكان إذا ما دخل غرفته أشارت إليه بالسلام ويبتدئان في المغازلة. ففي ذات يوم دخلت عليه مربيته فوجدته يشير بيمناه للفتاة، فنظرت إليه نظرة ريبة وامتعاض، ثم تركته وخرجت من الغرفة دون أن تنبس بكلمة، ولم يعر محجوب ذلك الحادث اهتماما وانقضى اليوم على صفاء، ولكنه لاحظ بعد ذلك أن مربيته تكثر من الدخول في غرفته ساعة إيابه من المدرسة كأنها تود أن تمنعه عن محادثة الفتاة، فساءه ذلك منها وود أن تكف عن مراقبته، فعمد إلى حيلة ناجعة؛ فكان إذا عاد من المدرسة أحكم إقفال باب غرفته بالمفتاح ليفعل ما يوحيه إليه هواه.
واهتدت مربيته لسر حيلته فدقت على بابه بيدها، ففتحه لها بعد أن أشار لفتاته أن تتوارى، ودخلت المربية ووجدت نافذة الفتاة خالية، فابتسمت ابتسامة الهازئ وقالت له: لقد طار العصفور من القفص! - وماذا تقصدين من ذلك؟ - إنك يا ولدي تسيء لنفسك. أنسيت أن الحب يشغل المرء عن أداء واجباته. - إني حريص على أدائها فدعي اللوم جانبا. - يا لك من غر أحمق! - إني أكره أن يسبني أحد. - ولكنك ترتكب المعاصي على مرأى من الناس. ألا تخشى أن أخبر أباك بما تفعل؟ - أبي لم يخرج من غرفته بعد، فهل لك أن تذهبي وتقصي عليه ذلك. - سأفعل.
وخرجت وهي غاضبة، وخاف محجوب أن تخبر أباه بهواه، فلما دنا وقت العشاء أبى أن يأكل مع أبيه، فادعى المرض ونام وهو جوعان.
ثم مضت أيام وهو يسأل نفسه عن سر مراقبة مربيته له فلا يهتدي إلى شيء. إنه لم يلاحظ شيئا في حركاتها ولا في سكناتها، فعلام لا تتركه حرا يفعل ما يشاء، وليس فيما يفعل ما يدعو للخوف والحذر، وعلام تغار من هذه الفتاة التي لم تبلغ الخامسة عشرة وهي امرأة آربت على الخامسة والأربعين. هذا سر غامض يدعو للتفكير. •••
خرج محجوب في يوم من أيام الجمعة وقابل رفقة من أصحابه، لعب معهم الميسر وخسر ما في جيبه، فرجع البيت وهو يعض بنان الندم، وسأل عن أبيه فقيل له إنه خرج، وعن والدته فقيل له إنها ستتناول طعام العشاء عند خالته. فدخل غرفته وجلس أمام نافذته وأمسك برواية من الروايات الحديثة ليقتل بها الوقت، وبعد هنيهة رأى حبيبته في النافذة تبتسم له، ولبث يحادثها ويشير لها إلى أن رأى خيال مربيته في الغرفة الأخرى؛ فكف عن محادثة حبيبته، وأشار لها أن تبتعد فابتعدت، وجلس وحيدا ينتظر الرقيب.
فدخلت مربيته بعد عدة دقائق وقد استشاطت غضبا، وقالت بصوت متهدج: هذه هي المرة الأخيرة، فإن عدت لفعلتك أخبرت والدك بكل ما فعلته. - وأي باعث يستفز غضبك وأنا لم أجن ذنبا يستحق اللوم؟ - أي باعث يستفز غضبي! إنك حقا ساذج لا تعرف إلى أي هوة أنت مسوق، وأخشى أن تدور الدائرة عليك. - إني أكره هذا الحديث. - أتأبى استماع نصائحي؟ - إنها لا تصلح الآن بعد أن كللتني الرجولة. - يا لك من شاب أبله!
سمع محجوب هذه الكلمة فقام غاضبا وهم أن يغادر الغرفة، فأمسكت به مربيته ولفت ذراعها على خصره ومنعته من الخروج، فهم بالإفلات منها فلمس جسمه جسمها، فلم يجد بأسا في البقاء، فلف ساعده أيضا على خصرها متظاهرا بالهجوم ليدافع عن نفسه، ووقع نظره على وجهها، فإذا به يرى صورة غريبة شهوانية لم يرها من قبل في ذلك الوجه الذي عرفه من يوم أن كان «يحبو» على الوسائد. فوقف هنيهة ينظر إليها وتنظر إليه، وكانت لم تزل بضة البشرة عليها مسحة من الجمال بالرغم من الخمسة والأربعين عاما التي قضتها، وكان محجوب شابا يهيج شهوته الخادرة أي باعث صغير، فأطال النظر إليها وأطالت النظر إليه، وسمع أنفاسها تتردد في صدرها وهي تنظر لخصلة شعره الأسود المسدلة على جبينه، ثم قبلته في فمه فقبلها في فمها وتعانقا وتلاصق جسمها بجسمه، وأحس بنهديها الذابلين تدلك بهما صدره ...
ثم غابا عن الوجود. •••
لقد كان طفلا جميلا فكانت تحبه مربيته كأم حنون، والآن صار شابا جميلا فأحبته مربيته كعشيقة ضرم الحب أنفاسها.
فيا للعجب مما تراه العيون في ظلام هذه الحياة!
سنة 1917
العاشق المفتون بالرتب والنياشين
من رسائل مجبور أفندي: خطاب من كاتب إلى رجل لا يعرفه
يا صديقي العزيز
اسمح لي أن أناديك بالصديق العزيز مرة في كل عام، وإن كنت لم أسعد في حياتي الماضية ولن أسعد في حياتي المقبلة بمعرفتك، ومعرفتك أمر هام جدا، بل شرف عظيم لكل من يجد في قربك سعادة لنفسه وراحة لضميره المعذب، ولكني لا أكتمك - وإن كانت صراحتي تؤلمك - إني لا أود ولن أود أن تسمح لي الظروف بمعرفتك بل برؤياك ...
لماذا إذن أخاطبك في العام مرة واحدة؟ لماذا أكتب إليك هذا الخطاب وبيني وبينك مسافة ما بين الأرض والسماء، مسافة طويلة جدا، ولكنها لا توجد إلا بين نفسي ونفسك! ما جسمانا قريبان، وربما التطما في الطريق مرة واحدة؛ لأنا نعيش سويا على صعيد واحد، هو مصر. إذن لماذا أكتب إليك؟ إني لا أسائل نفسي؛ لأني أعرف السبب، وسأذكره إليك؛ فربما وجدت فيه عزاء لنفسك المضطربة وراحة لضميرك الهائج، ولكني لا أريد أن نتكلم سويا إلا إذا اعتقدت أني صريح فيما أقول، وأنه لا يحملني على مناقشتك إلا أمر واحد هو حبي للناس، ومن هذا الحب تولدت في قلبي عاطفة غريبة نحوك، عاطفة تكونت من عصير الشفقة والرثاء، وما أجمل الصراحة التي يتساقط من نورها الوضاح شعاع الشفقة والرثاء!
أنت بلا شك لا تغضب لأني صريح، ولكني أخشى أن يسوءك رثائي وشفقتي؛ لهذا أود من صميم قلبي أن تتنازل عن كبريائك ...
عفوا أيها الصديق العزيز! عفوا! لقد أخطأت مرة ثانية وقلت إنك من المتكبرين المتغطرسين، ولكن ما الذي يضرك؟ وهل يسوءك أن أصفك بهذه الصفة وأنت ممن يجدون في الكبرياء والأبهة لذة لا تقدر؟ أظن إذن أني لم أغضبك مرة ثانية وأني لم أخطئ بالمرة. فاسمح لي إذن أن أقول لك إني أود من صميم قلبي أن تتنازل عن كبريائك في غضون تلك الساعة الزمانية التي نود أن نتحادث فيها سويا، وأن لا يسوءك أني أشفق عليك وأرثى لحالك.
إذن فلنبدأ الحديث على الشروط الماضية، وحديثي معك يبدأ هكذا:
أنت أيها الصديق أحد رجلين؛ فإما أن تكون من أعيان القاهرة، تلك الجماعة التي تسكن القصور الشامخة تحوطها الحدائق الغناء، والتي تركب السيارات ذوات المنافيخ المزعجة، والتي إذا تكلمت تأنت في كلامها ووزنت كل حرف بميزان الأبهة والكبرياء، والتي تلبس الملابس الغالية وتأكل الطعام الفاخر، والتي تجد في التبختر - إذا سارت - بابا جديدا من أبواب الظهور بين الناس، والتي إذا زارت لا تزور إلا من له صلة بكبار رجال الحكومة ولهم تحني ظهورها، وتمد للرق رقبتها، أما لغيرهم؛ فتظهر بمظهر المتعجرف الشامخ الذي إذا جلس التحف بجلباب الكبر، وإذا سار امتطى ظهر التيه.
إما أن تكون هذا الرجل وإما أن تكون الرجل الآخر؛ أي من أعيان الريف الذين إذا أكلوا في منازلهم اكتفوا بالعيش والفتة، وإذا زارهم المأمور ذبحوا له الخروف يتلوه الخروف، والذين ينامون في غرفة ضيقة ويلتحفون بملابسهم، ولكنهم يعدون في قصرهم لرجل الحكومة غرفة جميلة وسريرا حريريا، ولا يستنكفون من أن يقفوا في خدمته وقفة الخاضع الذليل، ولكنهم يستنكفون أن يسمحوا لزوجاتهم وأولادهم أن يأكلوا معهم.
إما أن تكون الرجل الأول أو الثاني، وسيان عندي أن تكون أحد الرجلين؛ لأن نفسيكما نشأت من نبع واحد، فأنتما شخص واحد. دع عنك فروق المعيشة؛ فما هي إلا نتيجة الجو الذي عشتما فيه، ولا يهمني من أمركما إلا شيء واحد؛ هو خضوعكما لمن في يده القوة واستنكافكما من معاشرة الآخرين.
الآن قد انتهيت من وصفك، ويخيل لي أنك توافقني عليه؛ لأنك عاهدتني قبل محادثتك بتنازلك عن كبريائك، وباعتقادك أني أصارحك القول. والآن فلنتحدث قليلا لأعلمك لماذا أخاطبك في العام مرة واحدة. أظنك لا تنكر يا صديقي أنك تقضي العام كله ما عدا عدة أيام قلائل وأنت مستطار الفؤاد حزين النفس، تقوم مبكرا من نومك وفي رأسك شاغل كبير يقطع عليك أحلامك ويصور لك الحياة في صورة قبيحة لا ترضاها لنفسك. أليس الأمر كذلك؟ ذلك الشاغل هو قيمتك في أعين الناس. أنت تود أن تكون قيمتك كبيرة جدا، تريد أن يكون مقامك بين نظرائك أكبر مقام تسمح به الهيئة الاجتماعية في مصر! ولكنك مع الأسف تجهل ماهية القيمة الإنسانية، بل ربما كنت تعرف ماهيتها ولكنك تتغافل عنها؛ لأنك لا تجد فيها الطريق السوي الذي تسوغ لك كفاءتك السير فيه؛ لهذا تسير في طريق آخر آملا أن تصل به إلى العرش الذي تطمح نفسك لارتقائه، وما نتج هذا إلا من جهلك؛ لأنك بلا نزاع لم تنظر للحياة بمنظار الحقيقة، ولم تلبس بعد لباس الحقيقة، ولم تشرب أيضا من ينبوعها الطاهر، وليس الذنب ذنبك أيها الصديق العزيز؛ لأنك نشأت في جو لم تنل فيه من العلوم والآداب قسطا وافرا، فأنت بطبيعتك جاهل؛ لهذا ظل قلبك مقفلا أمام نور الحقيقة، ذلك النور الذي يتغلغل في حنايا القلوب فيضيء ظلماتها القاتمة. إذن أنت من الحزب المصري الذي يرى قيمة الرجل بالرتبة التي ينالها، أو في النيشان الذي يحلى به صدره. ويا ليته يرى ذلك فحسب، بل يمتد نظره إلى قاع تلك الهاوية فيرى أن ليس من العار على الرجل أن يفعل كل ما في وسعه، وأن يبرر كل واسطة للوصول لغايته. فأنت إذن من هذا الصنف؛ أي إنك تود رفعة المقام في الحياة دون أن تفعل شيئا يذكر تستحق عليه رفعة المقام. أظنك توافقني أيضا على ذلك، وأظنك أيضا تقضي العام كله وأنت تزور من له صلة بمن في يده تدبير الأمور. تزوره كلما سنحت لك الفرصة فتجلس بين يديه وقد جلس الكبر بين عينيه، وتمشى الذل في شرايينك فأحنيت رأسك، وتذللت في السؤال والكلام والسلام، ثم تعود إلى بيتك وتجلس على كرسيك جلسة الكبرياء والعظمة وتفكر فيما فعلت.
إني أقسم بكل عزيز عندي فوق الأرض وتحت السماء أن ضميرك لا يلبث أن يوبخك وأنت ترى فيما فعلت ما يحمر له وجهك وترتعد فرائصك خجلا، ولكنك تنظر إلى يمينك فترى صديقك فلانا حائزا لرتبة باشا وأنت لم تحز بعد إلا رتبة بيك، ثم تنظر لشمالك فترى صديقك الآخر حاز نيشانا، وصدرك ما زال خاليا من تلك الأوسمة الجميلة. ترى ذلك بعينك فيزيل احمرار وجهك ويحل محله الاصفرار، اصفرار منشؤه الغيظ والحسد، وتظل ركبتاك ترتعدان، ارتعادا ليس منشؤه الخجل بل الغضب والحقد؛ فتنسى ما أنبك به ضميرك وتقوم من مكانك وتركب عربتك لزيارة رجل آخر ممن يتصلون بأولي الحل والعقد، وتظل العام كله وأنت لا يقر لك قرار. فإذا دنا الميعاد وجاء الوقت الذي يتكرمون فيه على الناس بالرتب والأوسمة، أكثرت من زياراتك وقضيت لياليك وأنت لا تنام، يدنيك الأمل ساعة ثم لا يلبث أن يبعدك اليأس. ثم ماذا؟ تظهر النتيجة فترى نفسك قد سقطت في الامتحان. ويلاه وألف مرة ويلاه؛ ويلاه لنفسك لأنك لم تنل غايتك، وويلاه لزوجتك لأنك تحرم عليها الطعام، وويلاه لأولادك لأنك تشبعهم ضربا، وويلاه لخدمك لأنهم يظلون مدة وهم مهددون بالطرد. ثم ترجع لنفسك وتسألها لماذا فاز غيرك ولم تفز أنت، فلا تهتدي لشيء. ثم تسأل الناس وتعود لزياراتك، إلى أن يساعدك الحظ وتنال ما تريد. فإذا نلت الرتبة أو النيشان تمشى السرور في نواحيك، وهزك الفرح هزة تخشى أن تضر بصحتك. ثم تمر الأيام وتنسى كل ذلك، وتنظر إلى يمينك وإلى يسارك، فترى الصورة التي رأيتها قديما؛ ترى قوما آخرين من أصحابك هم أعلى منك رتبة أو حازوا نيشانا لم تحزه أنت، فتعود إلى شاغلك القديم، وتكرر الزيارات والخشوع والخضوع؛ أي إنك تظل طول حياتك معذبا مكروب النفس حزين القلب، فوا أسفاه لك، ومن تلك الحياة المنغصة التي ارتضيتها لنفسك!
ولعلك بعد هذا الحديث الطويل توافقني بل تشكرني؛ لأني أشفق عليك وأرثي لحالك. واسمح لي أيضا أن أقول لك - وإن كنت أشك فيما سأقوله - ربما يجول بخاطرك الآن هذا السؤال: «إذن ما هو الطريق الذي إذا سرت فيه استراح ضميري وهدأت ثائرة نفسي؟ ما هو هذا الطريق أيها الصديق؟» سأخبرك عنه، واعلم أن من أجل هذا السؤال أكتب إليك هذا الخطاب. أنت لست من العلماء لأطرق معك باب العلم وأقول: «اقرأ وألف واخترع»، ولست من رجال الصناعة فأقول لك: «اعمل في سبيل رواج صناعة بلادك»، ولست من رجال الأدب فأقول لك: «أي كتاب كتبت؟» ولست من التجار ولا رجال الحكومة ولا ولا ... ولكنك من الأغنياء. أنت من الرجال الذين يكنزون في بيوتهم القناطير المقنطرة من الذهب، والذين إذا مشوا أو ركبوا قال عنهم الناس: «هذا هو الغني فلان!» أنت من هؤلاء أيها الصديق، وأنا لا أطالبك بصرف مالك وتبذيره، كلا وألف مرة كلا. أنا أود أن يظل مالك في حوزتك، ولكني أرجوك أن تتنازل عن بعض إيرادك لمن يستحقه. بلادك أيها الصديق محتاجة لبعض مالك لينفق في سبيل الخير؛ أمامك الفقراء يودون أن يجدوا أمامهم مدارس يرسلون إليها أبناءهم بلا أجر. وأمامك الشيوخ الذين أقعدهم المرض والفقر والشيخوخة عن العمل، هم في حاجة لملجأ يلم شتاتهم ويدفع عنهم ذل السؤال. وأمامك، إذا سرت في الطريق على قدميك، الأطفال المتشردون الذين بإحسانك ينصلح حالهم فيعودون بالخير على أمتهم. وأمامك المرضى الفقراء، فهل لك أن تنشئ لهم مستشفيات وفي طاقتك أن تفعل ذلك؟ هذا هو السبيل السوي الذي تستطيع أن تسير فيه بأقدام ثابتة.
أتعرف أيها الصديق ماذا يكون من أمرك إذا فعلت ذلك - على شريطة أن لا تزور أحدا ممن كنت تزورهم، وأن لا تحني رأسك للذل، ولا تمد رقبتك للرق - أتعرف أيها الصديق ماذا يكون من أمرك؟ إني سأقول لك شيئا ستندهش له وأخشى أن لا تصدقني، ولكني سأقوله على كل حال؛ إني أؤكد لك أيها الصديق أن تلك الرتبة التي كنت تسعى لها ستسعى هي إليك، وأن النيشان الذي كنت تفتش عنه في كل ساعة سيفتش عنك بنفسه، وسوف يقول الناس: «إن الرتبة والنيشان تتشرفان بك بدل أن تتشرف بهما.»
ثم بعد ذلك، بعد هذا الكلام الطويل بيني وبينك، ما زلت أحس بدافع يدفعني لأن أقول لك شيئا آخر، ولكني أفضل أن لا أقوله خشية أن تنفر مني، وتظن أني واهم أو أني أخبط خبط عشواء. أأقول أم لا أقول؟ لا أعلم؟ دعني أفكر! وأخيرا قد استقر قراري على أن أقول هذا الشيء، فإن كنت حي الضمير صدقتني وشكرتني، وربما قبلتني قبلة أخوية طاهرة. أما إذا كنت ممن لا ينفع معهم الكلام، فإني لا أخسر شيئا كبيرا بما سأقوله بعدما أتعبت نفسي فيما قلته لك. اعلم يا صديقي أنك بعد أن تقوم بإحدى الأعمال التي طلبتها منك ستشعر بشيء غريب؛ بشعور جديد، براحة في ضميرك توحي إليك بأن تعتقد أن خير جزاء وأن أكبر مقام هو تلك الراحة التي تشعر بها عندما ترى عينك الأطفال الذين أصلحت حالهم، والشيوخ الذين آويتهم، والمرضى الذين شفيتهم.
عندها تنسى رتبتك القديمة، ونيشانك القديم، وتعرف أن الإحسان هو أعظم رتبة وأكبر نيشان، وأن الرتب والأوسمة ما هي إلا أوهام.
سنة 1917
الشباب الضائع
رواية قصصية مصرية
الفصل الأول
كان الأستاذ الشيخ محمد عبد العليم يلقي على تلاميذ الفصل الأول من السنة الأولى بالمدرسة الخديوية في الساعة الثالثة بعد الظهر درسا في «المبتدأ والخبر»، وكانت التلاميذ مصغية إليه إصغاء الطفل لنصائح أبيه؛ لا حبا في الأستاذ ولكن خوفا من شدته؛ إذ كان معروفا بينهم ببأسه وغلظ كبده، حتى لقبه أشقياؤهم بالصاعقة، فكان إذا لاح شبحه من بعيد وهم يلعبون ويمرحون في فناء المدرسة، صاح أحدهم قائلا: «هلم بنا نغادر هذا المكان قبل أن تحل به الصاعقة.» وتعقب هذه الصيحة ضحكات متواليات تدل على بغضهم للأستاذ ونفورهم منه، وما كان الأستاذ بالرجل ذي القلب الأسود كما يزعمون، ولكنه كان ممن يتفانون في حب النظام ومراعاة الآداب، وكم من مرة رأف بتلاميذه وأشفق عليهم وساعدهم إذا خانهم الحظ في الامتحان.
أتم الأستاذ درسه ونظر في ساعته، ثم قال: «ليرفع سبابته من تعسر عليه فهم شيء من درس اليوم.» وأجال ببصره بين صفوف تلاميذه فلم يجد بينهم من أجاب سؤاله، فابتسم ابتسامة الظافر، وقال: «نتيجة حسنة تبشر بمستقبل باهر، إن كنتم فيما فعلتم صادقين.» وحول بصره لوجه شاب أسمر اللون نحيف القوام، أقنى الأنف أسود العينين، يرى الناظر فيهما أثرا للحزن والتفكير. نظر إليه الأستاذ مليا والتلميذ حاسر الطرف، ثم قال له بلهجة الهازئ: «ما رأي أبي الإنشاء في درس اليوم؟» فلم يجب التلميذ ببنت شفة، فأردف الأستاذ جملته بجملة أخرى أغضى لها التلميذ حياء، وكاد يجول الدمع في عينيه؛ إذ كان من خلقه الحياء الشديد، حياء يقرب من الجبن.
قال له الأستاذ: «أتلوي عطفك أنفة وتصعر خديك استكبارا؟!» وألقى عليه سؤالا في درس اليوم وطلب منه الإجابة، فلازم التلميذ الصمت لتشتت فكره، فقال الأستاذ وهو يحرق الأرم: «لقد أهملت النحو وانصرفت نفسك للإنشاء؛ ولذا تأتي بالخطأ الفادح في جملك المنمقة، ولو تبعت نصحي وخصصت جزءا من وقتك لدراسة النحو، لكان لك في فن الإنشاء شأن عظيم؛ إذ لا ينكر أحد جمال أسلوبك، ولكني أبشرك بخمول الذكر ما دمت لا تسمع إلا ما توحيه إليك نفسك.» وتمشى الأستاذ يمنة ويسرة وهو غير ملتفت للتلميذ، ثم أدار إليه وجهه وقال: «اجلس.» ودق الناقوس معلنا للطلبة ساعة انصرافهم، فخرج الأستاذ تتبعه التلاميذ إلى فناء المدرسة.
وقف التلاميذ في الفناء صفا صفا، ونادى الضابط المعاقبين وكانوا كثيرين في ذلك اليوم، وانتظر التلاميذ ناظر المدرسة إلى أن وافاهم، وأدوا له التحية وهو واقف على درج لم يكن غير «سلم الفناء»، فأذن لهم بالانصراف، فغادروا باب المدرسة وهم ثملون بخمرة حريتهم بعد سجنهم.
خرج حسن أمين «أبو الإنشاء» مع من خرجوا من التلاميذ وهو يتعثر بأثواب خجله وخيبته، وما زال يفكر فيما سمعه من أستاذه أمام إخوانه إلى أن وصل إلى باب المدرسة الخارجي، فابتدره البواب قائلا: ما الذي يشغل بالك يا حسن بك؟ - لا شيء يا عم طه.
وسار حسن في شارع درب الجماميز وهو مطأطئ الرأس إلى أن وصل إلى ساحة باب الخلق، وهناك عرج على قهوة وطنية معلقة عليها لوحة مكتوب عليها بالثلث «النادي المصري»، وجلس في ركن من أركانها يفكر كالشاعر الذي يمنعه خياله عن رؤية ما حوله، ثم وافاه خادم القهوة حاملا تحت إبطه جريدتين، وضعهما أمامه وهو يقول: هاك اللواء والمؤيد يا سيدي، وسآتيك بالأهرام والمقطم بعد أن أعد لك القهوة.
وتركه ليجيب طلب معمم من لابسي الجلاليب الزرقاء.
أمسك حسن ب «اللواء» في يده، وقرأ كل ما فيه مستثنيا الإعلانات، وهم بقراءة المؤيد وإذا به يرى الخادم يضع أمامه فنجان القهوة يحف به المقطم والأهرام، فأعطاه حسن قرش صاغ وشكره الخادم وانصرف.
وقرأ حسن الجرائد الأربع، ثم هم واقفا وحمل محفظته تحت إبطه، وسار الهوينا لمنزله، وكان يسكن الحمزاوي. وصل حسن منزله عند الغروب بعد أن قال لنفسه في الطريق: «لقد امتلكت تلك المقالة نفسي، وأسرت لبي، فلله در كاتبها فهو أفضل من كتب!» وتاه في بيداء أفكاره قليلا، ثم علت شفتيه ابتسامة تشف عما في قلبه من فرح وقال: «يا حبذا لو تحققت تلك الأحلام! أأغدو يوما ما كاتبا؟! من يدري؟!» ثم قرع باب منزله ثلاثا، ففتح له الباب وصعد السلم، فرأى والدته تنتظره في ردهة البيت، فقبل يدها وقبلته في خديه، وقالت له: لقد تأخرت يا حسن، فأين كنت؟ - كنت أقرأ الجرائد يا أماه. - قراءة الجرائد يا ولدي أكبر مدعاة لإهمال الدروس، فخل عنك قراءتها واشتغل بما ينفعك. - إنك يا أماه تجهلين ما يجري خارج المنزل؛ ولذا تلقين القول جزافا. - أنا لا أنكر يا ولدي أني جاهلة، ولكن شعوري يوحي إلي بما ينفعك. - لقد أنبني أستاذي اليوم؛ لأني تبعت ما يوحيه إلي شعوري، فوالله لا أدري أأصغي لنصائح الأم أم لنصائح الأستاذ!
وترك أمه ودخل إلى غرفته. •••
حسن أمين هو ابن المرحوم مصطفى أفندي أمين، الذي كان كاتبا بنظارة المعارف العمومية في عهد توفيق باشا، والذي أحيل على المعاش قبل وفاته بسنتين. توفي مصطفى أفندي في سنة وفاة عزيز مصر، تاركا ولده حسن وزوجته عزيزة وبيتين صغيرين في شارع الحمزاوي استبدلهما بمعاشه، كان يسكن الطبقة العليا من أكبرهما، ويتقاضى سبعة جنيهات أجرة الثلاث طبقات الباقيات.
مصطفى أفندي رجل لا يعرف عنه إلا أنه مصري الأرومة، طويل القامة بدين الجسم، إذا غضب استرسل في غضبه دفعة واحدة وتناساه دفعة واحدة، وكان أكولا، له في أنواع الأطعمة وألوانها آراء جرت بين أهل ناحيته مجرى المثل، ولكنه كان محبوبا من جيرانه يعظمونه ويذكرونه بالحسنى، ويقفون له إذا مر أمامهم كأنه سيدهم وعميدهم.
لم يذق مصطفى أفندي في حياته الحب، ولم يستوجف فؤاده ذلك الشيطان الرجيم، ولكنه كان ممن إذا مرت أمامهم سيدة تحدثوا بجمالها الفتان وحسنها الرائع. تزوج مصطفى أفندي في شبابه سيدة لم تضرب في الجمال بسهم وافر، ولكنها كانت عفيفة سلسة القياد، تقتصد في بيتها وتكره التغالي في الزينة والتبهرج. عاشرته تلك السيدة دهرا طويلا أذاقته فيه حلاوة العيش، ثم ماتت ولم تترك في أحضانه ولدا ولا بنتا.
أسف مصطفى أفندي على زوجته أسفا كبيرا، وبكاها آناء ليله وأطراف نهاره؛ حتى أصيب بمرض أورثه الضعف والهزال. وكان قد بلغ الخامسة والخمسين، فأشار عليه بعض أصدقائه أن يتزوج فتاة حسناء تزيل ألحاظها الساحرة عن قلبه نار آلامه المستعرة. ضحك مصطفى أفندي لهذه الفكرة، وظنها كالحلم العذب اللذيذ الذي يمر ببال النائم في ظلام الليل، ولا يلبث أن يزول إذا ظهر في الفضاء شعاع الشمس، ولكنه راود فكره كثيرا، ورأى في نفسه الحاجة لتلك الزوجة، وما زال يجادل نفسه ويزيل العقبات من سبيله إلى أن تجسمت في مخيلته تلك الفكرة، وأصبح تحقيقها أمنيته الوحيدة، وبحث مصطفى أفندي عن تلك الفتاة كثيرا إلى أن وفق لعائلة ربتها شركسية، توفي زوجها المصري تاركا لها ابنة وولدا، فخطب مصطفى أفندي الابنة وكانت تبلغ الثامنة والعشرين، وقبلت الأم وهي متهللة الوجه لانصراف شبان الناحية عن ابنتها، ولم يهتم مصطفى أفندي بجمال زوجته؛ إذ لم يكن جمالها غاية الشيخ المريض الذي لا يرجو من امرأته إلا عفتها واعتناءها به، وتزوج بها وعاشت معه ثلاث سنوات، ماتت في السنة الأولى منها أمها، ثم ولدت له ولدا سماه حسن، فرح به فرحا كاد أن يقتله، وما زال يرتع الولد في أحضان أبيه وأمه إلى أن توفي مصطفى أفندي بالغا الثامنة والستين، تاركا ولده بالغا من العمر عشر سنين.
نشأ حسن ضعيف الإرادة - وابن الشيخ المريض لا ينشأ إلا على هذه الحالة، لا يقدم على عمل إلا بعد أن يتردد فيه كثيرا، وإذا أقدم عليه ود أن يتركه، ولكنه كان يميل للتفكير والخيال، وكان به شغف بالكتابة عظيم، استحق به في المدارس الابتدائية لقب «أبا الإنشاء»، ذلك اللقب الجميل الذي لم يفارقه يوم دخوله المدارس الثانوية.
عاشت عزيزة بالسبع دنانير التي كانت تتقاضاها من أجرة البيتين، ولكنها وجدتها غير كافية لقضاء حاجياتها وحاجيات ابنها البالغ السادسة عشرة؛ ولذا وطدت العزم على العمل، فاشتغلت بالخياطة والاتجار ببيع الأقمشة في بيوت الأغنياء والعظماء، فكانت تربح من وراء ذلك ما تسد به نفقاتها ونفقات تعليم ابنها.
دخل حسن غرفته بعد أن ترك والدته في ردهة البيت، ووقف فيها هنيهة كأنه يقرئ السلام كل ما في الغرفة من كتب وفراش؛ إذ للجماد في قلوب أهل الخيال مكانة لا تقل عن مكانة بني الإنسان. وقف حسن هنيهة، ثم أرسل زفرة أطلقتها جوانحه، لم يسمعها غير كلبه الأمين «سحاب» الذي أتاه يبصبص بذنبه كأنه يسأله الصفح عن تأخره. جلس حسن على كرسي ونظر لكلبه نظرة العاتب، ثم ناداه بصوت حنون رقص له الكلب طربا وقفز ليجلس على ركبتي سيده، فأمسك به حسن وداعبه قليلا قائلا له: «أين كنت يا سحاب؟ وإلى متى تهمل سيدك وهو الذي أحسن إليك وآواك إلى منزله ليلة كنت ترتعد بردا أمام الباب، وقد نبذك أصحابك كما ينبذ الطفل النواة؟ أهذا جزاء الإحسان؟» وتمادى حسن في عتابه، واستمر الكلب في إظهار ولائه، وكان الوقت - كما قلنا - وقت الغروب، وقد اختفت الشمس ولم يبق في الأفق إلا احمرار الشفق، وحانت في تلك الساعة التفاتة من حسن للنافذة، فإذا به يرى في البيت الذي يقابل لبيته فتاة تطل من نافذتها لتمتع بصرها بجمال الطبيعة، وتنظر نظرة المعجب لتورد خدود السماء. نظر حسن للفتاة نظرة لم تعرها التفاتا كأنها أتت للنافذة وفي قصدها غير لقائه؛ إذ الحياء كما نعلم من خلق النساء. ناداها حسن بصوت يسمع السامع منه رنين الحب والخوف، فالتفتت إليه جافلة كما يجفل الريم وقد سمع خطوات الصياد. ثم اطمأنت له بعد أن عرفته، وأشار إليها بالسلام فردته بأحسن منه، وتلى سلامه بقبلة أرسلها على أطراف أنامله، احمر لها وجه تلك الفتاة الخرود «الكثيرة الحياء»، فكسرت من طرفها، ثم رفعته إليه وقد علت شفتيها ابتسامة جمعت بين آية الجمال والهيام، وابتدأ حسن في محادثتها، فكانت تسمع كلامه كأنها كانت معه في غرفته؛ إذ لم يكن بين بيته وبيتها غير ثلاثة أمتار لا يعرفها إلا من عاش في أمثال ناحية الحمزاوي.
قال لها حسن: إني سعيد بلقائك يابنة خالتي، ولقد فكرت فيك طول اليوم وأنا مثلوج الفؤاد، وكنت كلما استرجعت في مخيلتي صورتك المحبوبة، أشعر بالفرح يهز عطفي، وبالسرور يتمشى في جوانحي. كيف حالك اليوم؟ - كما ترومه أنت، وكيف حالك؟ - المحب المحبوب لا يشعر بحزن، ولا يتفجع لمكروه. - وهل حل بك مكروه؟ - لقد خاصمني أستاذ النحو اليوم، وعاقبني أمام إخواني الطلبة حتى ندي وجهي عرقا. - أتعد يا عزيزي خصام الأستاذ مصيبة تفتت الكبد وتمزق الأحشاء؟! - خصام كل أستاذ سهل على أفئدة الطلبة، ولكن خصام «الصاعقة» ... - أما زلت تسمي أستاذ النحو ب «الصاعقة»؟ - اسم وافق مسماه يا عزيزتي. - دع عنك هذا الفكر جانبا ولنفكر بأمر آخر. - لنفكر بحبنا، فهو أحسن وقعا على قلبي.
أمالت لبيبة بعطفها عند سماعها كلمة الحب للمرة الثانية، ونظرت إليه نظرة المحبة الوفية الصادقة، وقالت: وهل يبقى هذا الحب في قلوب الرجال طويلا؟ - ما بقيت الأرض والسماء. - ألم تستهو فؤادك اليوم نظرات الغيد في الطريق؟ - أسير في الطريق وصورتك في مخيلتي. أنت معي في كل مكان؛ في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي الحدائق، حتى وفي الساعة التي أجتهد فيها لفهم درس يصعب على سواد الطلبة فهمه. أنت الحياة. أنت الوجود. أنت الدنيا وما فيها من نعيم، وإني أقسم لك على الوفاء حلفة عاشق صدوق المقال يبر بقسمه حتى آخر نسمة من نسمات حياته.
واستمر المحب يغازل حبيبته و«سحاب» جالس عند أقدام صاحبه كأنه الشاهد العدل على هذا الحب، وعلى هذه الأقسام التي تترى على ألسنة الناس ولا تلبث أن تذروها الرياح. وسمعت لبيبة أمها تناديها، فأسرعت للقائها بعد أن حملت النسيم قبلات عديدة، وكاد أن يشعر حسن بحرارتها على خديه، وما لبيبة هذه إلا ابنة تبلغ السابعة عشرة تربت تربية حسنة، وتعلمت تعليما يحسدها عليه الكثيرات من أترابها، وأبوها عبد الرءوف أفندي خال حسن، رجل طيب السيرة والسريرة، سكن أمام منزل المرحوم مصطفى أفندي بعد وفاته؛ ليكون عونا لأخته «والدة حسن» إذا دعتها الحال لطلب المعونة، والحياة تدعو النساء كثيرا لذلك.
وقف حسن بعد أن غادرته ابنة خاله قليلا، ينظر للسماء تارة ولنافذة حبيبته تارة أخرى، إلى أن سمع صوت أمه تناديه قائلة: لقد أعددت الطعام يا حسن. هيا لتتناول عشاءك. - ها أنا ذا يا أماه ...
الفصل الثاني
- ألم تقرأ مقالة إبراهيم يسري في مؤيد أمس؟ - لم أطالع الجرائد أمس. - أنا أعلم الناس بعاداتك يا محمود، فأنت ممن يأنفون من مطالعة الجرائد. - بل أنا يا عبد العزيز ممن لا يضيعون أوقاتهم في قراءتها. - بل ممن يضيعون أوقاتهم في لعب الكرة. - الكرة ديدني يا عزيزي، وإني لا أجد فيها ضياعا للوقت كما تزعم، وهل وقع إبراهيم مقالته باسمه؟ - كتبها تحت اسمه المستعار كعادته. - إني لا أعرف لقبه الجديد. - لقد كتبها تحت اسم «ابن بطليموس». - لقب مضحك.
والتفت يمينا فرأى حسن أمين يقترب منه فصاح به قائلا: ألا ترى يا أبا الإنشاء في لقب «ابن بطليموس» ما يدعو للضحك؟! - لقد قرأت مقالته، وأعجبني فيها سمو خياله، وجمال أسلوبه؛ إذ وصف الأهرام وأبا الهول وصفا دل على سلامة ذوقه ونصاعة بيانه. ألا تشاطرني رأيي هذا يا محمود؟ - أنا لا أشاطر الناس أفكارهم في شيء لم أقف عليه، وأظن أخي عبد العزيز يوافقني على ذلك وإن كان ينكر علي إهمال مطالعة الجرائد.
فقال عبد العزيز وهو كاره: إن أهوائي لا توافق أهواءك يا محمود، فعبث الكلام في ذلك. - إني ذاهب لأرى من أميل إلى مذهبه.
وترك محمود رفيقه ومشى يوسع الخطا مبتعدا عمن لا يتكلمون إلا في جودة الإنشاء وطلاقة اللسان. ثم التفت عبد العزيز لحسن وقال له: وما رأيك أنت؟ إنك بلا شك ممن لا يغضبهم الكلام النافع. - وهل ظننت في غير ذلك؟ - كلا وحاشا أن أظن فيك الظنون، ولكني أرى بين نابتة اليوم قوما لا يعبئون بخدمة بلادهم ولا يعملون إلا على خذلانها بانصرافهم للهو والألعاب؛ ولذا تراني أرثي لحال محمود مع اعترافي له بالتفوق في لعب الكرة. أنا لا ألوم التلاميذ الذين يخصصون جزءا من وقتهم للتريض، ولكني ألوم الذين لا يفعلون ذلك. إن للدرس يا حسن ساعة وللتريض ساعة. - بلا شك، ولكن أتعلم كيف توصل إبراهيم يسري للكتابة في جريدة كبيرة؟ - ابتدأ بالكتابة في جريدة صغيرة، وشجعه صاحبها على المثابرة حتى ثبتت أقدامه في ميدان الكتابة، وهو ميدان وعر كما تعلم، ووجد في نفسه الكفاءة لأن يحرر في جريدة يقرؤها سواد الناس في مصر، فكتب في المؤيد. - ولكن علام تسألني يا أبا الإنشاء هذا السؤال؟ أفي نفسك ميل للكتابة في الجرائد؟
منع الحياء حسن أن يصرح عما يجول في خاطره، فأجاب صديقه قائلا : أنا أكتب في الجرائد؟! هذا أمل قل أن يتحقق. - ولم لا؟ إن أسلوبك يا عزيزي أنيق الديباجة مهذب اللفظ، ولا أغالي إنك في مدرستنا منقطع القرين.
وعندما سمع حسن عبارات المدح من فم صديقه قال دفعة واحدة، وقد أنساه المدح حياءه الطبيعي: أتظن أن أسلوبي أرق من أسلوب إبراهيم يسري؟
وعلت وجهه بعد ذلك حمرة الخجل كأنه لم يكن ينتظر من نفسه أن يتفوه أمام أحد إخوانه بكلام يشم منه رائحة للغيرة. - إبراهيم كاتب تستعيد الأسماع عبارته، ولكنه دونك بمراحل. - إنك تمزح يا عبد العزيز. - لم أتعود المزح متى كنت جادا. إني ألومك على كسلك وإهمالك السير في الطريق التي اختطتها لك مواهبك، ولكني أحذرك لحيائك، فأنت وإن كنت أفصح التلاميذ عبارة فأنت أكثرهم حياء وأشدهم خجلا. - هذا حق لا مرية فيه، وإني أشكو لنفسي حياء نفسي.
وسمع حسن تلميذا يناديه من بعيد فاعتذر لصاحبه وفارقه وهو فرحان جذلا، واتخذ بعد ذلك عبد العزيز وجهة الحديقة، وفيها لاقى إبراهيم يسري، فقابله وهو متهلل الوجه وصافحه وهو يقول له: لله درك! لقد قرأت مقالتك، وما زلت ثملا بخمرة بلاغتك إلى الآن. - خمرة بلاغتي؟ إنك تغالي في القول. - أقسم لك بالله وبالشرف إني لا أقول إلا الصدق. - وهل قرأت المقالة حتى آخرها؟ - واستعدتها ثلاث مرات متواليات، وقرأتها للمرة الرابعة صباح اليوم وأنا في الترام. - وما رأي إخواني الطلبة فيها؟ - كلهم يحبذون عملك، ويقرون لك بالتفوق في ضروب الإنشاء، ومن بينهم من يحسدك. - من يحسدني؟! وعلام هذا الحسد؟
لأنهم يودون الصعود بلا تعب إلى المكانة التي وصلت إليها بجدك وعملك. - ومن هم هؤلاء؟ - لم أحادث إلا فردا منهم. - ومن هو؟ - إني لا أحب نقل الكلام من أفواه الحاسدين إلى آذان المحسودين. - أنت صديقي وأخي، ولم أتعود منك إخفاء الحقيقة عني. - اعذرني يا صديقي إذا كتمت اسمه عنك. - وهل في ذكر اسمه من بأس؟ - كلا، ولكن علام كثرة الكلام في مثل ذلك. - لقد عرفته، فهو بلا شك أحمد عبد الله. إنه نظيري من يوم أن أمسكت أناملي القلم. - إن الله لا يحب الظالمين يا إبراهيم، وحرام أن تظلم الأبرياء. - هو إذن علي فؤاد. إنه لا يقر لي بفضلي ويهزأ بمقالاتي. - ولا هذا أيضا. إنك تحتال علي لأصرح لك باسم ذلك الذي أخطأ في غمطك لا في حسدك. - إذا كان هو ممن يغمطونني، وليس ممن يحسدونني فلماذا لا تصرح باسمه؟ - أخشى أن تكون قد كتمت له الضغينة. - لست خسيس النفس ولا غليظ الطبع لأفعل ذلك. - حاشا أن تكون كذلك يا إبراهيم، ولكي أبرهن لك على حسن ظني فيك أقول لك: إن الذي غمطك هو حسن أمين. - أبو الإنشاء! ...
وضحك إبراهيم يسري ضحكة طويلة، وأردف ضحكه بقوله: لقد قرأت له موضوعا إنشائيا رفع فيه المفعول ونصب الفاعل، وكاد أن يسكن المبتدأ لولا أن تداركته رحمة من ربه. إذا كان هذا الفتى - أستغفر الله - بل «هذه الفتاة» يحسدني على ما أنا فيه من نعمة وهناء فبشره بخذلانه وانحداره؛ لأنه لا ينهض ولن ينهض من الهاوية التي رماه فيها حياؤه النسائي. - إن في نفسه ميلا للكتابة في الجرائد. - يريد أن يجاريني؟ - بل يريد أن يظهر للناس بلاغته. - إنه قلق المعاني مضطرب المباني، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله.
ودق الناقوس فأسرع الطلبة للدخول في الفصول. •••
جلس حسن أمام مكتبه، وأخرج من قمطره كتاب كليلة ودمنة وألقاه أمامه غير عابئ به، ثم مكث هنيهة يفكر كأنه يسائل نفسه الإقدام على شيء، ثم أخرج من درجه ورقة بيضاء ومن جيبه قلما من الرصاص، وأسند رأسه بيده اليمنى واضعا قلمه بين يديه مستسلما لأمانيه العذبة وأحلامه اللذيذة، ودخل في هذه الساعة أستاذ المطالعة - وكان غير الصاعقة - فقامت له التلاميذ وقوفا لتؤدي له التحية، ومكث حسن جالسا كأنه لم يعبأ بأستاذه، ولحسن حظه لم يلتفت إليه الأستاذ. ابتدأ التلاميذ في المطالعة، وكان أول القارئين فتى من أبناء ملوي، له لهجة أبناء الصعيد، وهي لهجة تستهجنها آذان أبناء مصر وإن كانت أقرب للعربية الفصحى من لهجتهم التي لا تنبو عن أسماعهم. قرأ التلميذ واسترسل في قراءته، وفسر الألفاظ المغلقة وكان يعارضه الأستاذ في معانيها، والأستاذ من الأساتذة الذين يتعمدون الكلام باللغة الفصحى، له منظار لا يفارق عينيه إلا ساعة نومه، ويقال إن أول شيء تمتد إليه يده عند استيقاظه من نومه هو منظاره الكريم؛ ولذا اعتاد أن يضعه تحت وسادته. وقيل إنه حل بالمنظار في إحدى الليالي حادث جلل، وكان الأستاذ مستغرقا في النوم، فلما استيقظ في الصباح بحث عن منظاره كعادته، فوجد زجاجه مهشما؛ فلم يفارق سريره طول يومه. كل هذا لا شأن له في قيمة الأستاذ؛ لأنه كان وديع الأخلاق، لطيف السجايا، محبوبا من التلاميذ لتساهله ورقته.
انتهى التلميذ الأول وابتدأ الثاني، وحسن تائه في بيداء أفكاره، يكتب في ورقته جملة ويشطب أخرى، ولا يسمع إلا «قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف» تقطع عليه أحلامه الخيالية. وما مرت الساعة إلا ومقالة حسن كادت أن تتم إلا قليلا، ودق الناقوس فهرعت التلاميذ للخروج، وطوى حسن رسالته ووضعها في جيبه، وحمل محفظته تحت إبطه، ووضع يديه في جيبي «بنطلونه»، ومشى يترنح يمنة ويسرة وقد أسكرته خمرة ما خطته يده.
خرج حسن مع من خرجوا من التلاميذ، ومر أمام البواب كعادته، فقال له البواب وقد رآه مسرورا: أسعدت مساء يا حسن بك. - أسعدت مساء يا عم طه.
وابتسم حسن للبواب وأخرج من كيسه قرشا أعطاه له في يده، فشكره البواب ودعا له. وسار حسن في شارع درب الجماميز إلى أن وصل إلى قهوة «النادي المصري»، وجلس في الركن الذي اختارته نفسه منذ طرقت قدماه أرض هذا النادي المبارك، وطلب من الخادم القهوة كالعادة وورقة بيضاء وقلما وحبرا، وما لبث في مكانه هنيهة إلا وأتاه الخادم بما طلب وزاد عليه الجرائد الأربع، وأتم حسن مقالته في النادي، وفيه انتهى من تبييضها أيضا، وجلس يقرؤها للمرة الأخيرة، واستوقفه عنوانها ثلاث دقائق، وكيف لا يستوقفه هذا العنوان هذه المدة الطويلة وهو عنوان غريب وجميل؛ «الأم الشفيقة القاتلة»! وما هي تلك الأم التي تشفق على أبنائها، ثم لا تلبث أن تزهق أرواحهم؟! هي بلا نزاع البورصة، وإنه حقا اسم وافق مسماه. قرأ حسن العنوان للمرة الخامسة والعشرين بعد المائة وهو يبتسم ويقول لنفسه: «ليت شعري! أينشر صاحب الجريدة مقالتي هذه؟ ولم لا ينشرها؟ وهل أنا أقل شأنا ممن يكتبون في جريدته؟! لقد شهد لي القاصي والداني في المدرسة بمتانة الأسلوب وعلو الأفكار. إنها بلا شك ستنشر ولا نزاع في ذلك.»
وقرأ مقالته مرتين، وأراد أن يقرأها للمرة الثالثة، ولكنه سئم من التكرار فطواها ووضعها في ظرف أتاه به الخادم وكتب على الظرف بخط واضح:
إدارة جريدة الحقائق بالقاهرة
حضرة الفاضل رئيس التحرير
مصر
وهم واقفا وهو يبتسم، ثم سار في شارع محمد علي موسعا الخطا، ومر على أربعة من صناديق البريد، ولكنه فضل أن يلقي خطابه في «دار البريد الكبرى» بالعتبة الخضراء؛ ليكون آمنا عليه، ولما وصل إلى تلك الدار ألقى في صندوقها الخطاب، ثم أرسل زفرة طويلة تعبر عما يخالج قلبه من ألم اليأس وحلاوة الأمل.
الفصل الثالث
- ماذا تفعلين يا لبيبة؟ - ألبس ردائي الجديد يا أماه. - وعلام تلبسينه وأنت لا تغادرين الدار اليوم؟ - وهل يسوءك ذلك؟ - كلا يابنتي.
لم تلبس لبيبة رداءها الجديد إلا ليراه حسن، ونعيمة هانم أمها لا تجهل ذلك ولكنها تتجاهله؛ لأن الأمهات يتغاضين عن هفوات بناتهن، ويسعين سرا في إصلاحها؛ ولذا سكتت نعيمة هانم ولم تناقش بعد ذلك فتاتها فيما فعلت.
وظلت لبيبة تروح وتجي أمام المرآة وهي تصلح من شأنها إلى أن حان ميعاد حبيبها، فذهبت إلى الغرفة التي تطل من شباكها؛ لتقرأه السلام، وتستقبل قبلاته الحارة يحملها إليها نسيم الغروب. •••
دخل عبد الرءوف أفندي بيته ونادى زوجته؛ لتساعده على خلع ملابسه فلبت نداءه، وبعد أن لبس لباس المنزل جلس على مقعد من الخيزران، وأشعل سيجارة واسترسل في تأملاته، وجلست زوجته بجواره وهي تنظر للدخان المتصاعد من فمه إلى سقف الغرفة. ثم التفت إليها بعد قليل وقال: سنغادر هذا المنزل آخر الشهر. - ماذا تقول؟ - أقول إنا سنغادر هذا المنزل آخر الشهر. - وإلى أين نذهب؟ - إلى حيث يسوقنا القدر. - أنغادر القاهرة؟ - هذا ما لا ريب فيه. - وأي حادث حدث؟
حدث ما لم يكن في الحسبان. لقد خاصمني رئيسي في الديوان، فسعيت مرارا لحمله على نسيان تلك الهفوة الصغيرة فأبت نفسه الصفح، وقرر نقلي في آخر الشهر. فلعنة الله على الدساسين الذين لا تهدأ نفوسهم إلا إذا أوقعوا بين المرء وأخيه. - ومن هم هؤلاء الدساسون؟ - قوم في الديوان عادوني لنشاطي واستقامتي، وعز عليهم أن أكون محبوبا من رئيسي، فتقربوا إليه بحيلهم الشيطانية وانتظروا هفوة صغيرة ارتكبتها، فلما حانت لهم الفرصة أغروه على نقلي، فصدع لإغرائهم. - أما من رجاء في صفحه؟ - لقد فعلت المستحيل فلم أنجح فكلي الأمر لله.
سكتت نعيمة وقد هالها ما سمعت، ومكثت مدة وهي تفكر في أشياء كثيرة. عز عليها أن تغادر هذه الدار التي تربت فيها ابنتها. عز عليها أن تبتعد عن المنزل الذي يسكن فيه أهل زوجها. عز عليها أن تفارق القطعة التي ألفتها، وعز عليها أن ترى الدمع يجول في عيني ابنتها؛ لفراق من وهبته روحها الطاهرة. والأم وإن كانت تكره من ابنتها أن تميل لأحد الشبان، فإنها تكره أيضا أن تراها تبكي وتنتحب لفراق من تميل إليه، وما زالت نعيمة هانم مسترسلة في أفكارها إلى أن قال لها زوجها: وما قولك في هذه المصيبة الجديدة؟ - وماذا تريد أن أقول؟ - كنت أظن أني سأنقل إلى بلدة قريبة كالجيزة حتى لا أرغم على مفارقة هذا المنزل المحبوب، ولكني سمعت اليوم، بل تأكدت، إنا سنسافر إلى أسيوط أو إلى دمياط. - يا لله! سنحرم من لقاء أحبابنا أعواما عديدة. - ربما كان الأمر كذلك. تلك بلاد لا نعرف من أهلها أحدا، وسنعيش فيها كالغرباء حينا من الدهر. عيشة الغرباء مؤلمة لا تحتملها النفس. - تلك مشيئة الله يا عبد الرءوف. •••
بينما كان عبد الرءوف أفندي يحادث زوجته كانت ابنته لبيبة واقفة أمام الشباك وقد أسندت رأسها بذراعها، واستسلمت لأحلام غرامها إلى أن سمعت صوت ابن عمتها يقول: مساء الخير يا عزيزتي.
احمر وجه لبيبة وقالت: أسعدت مساء يا حسن. كيف حالك اليوم؟ - كما يود لي كل حبيب. ما هذا الثوب الجميل؟ - أتراه جميلا؟ - جدا، ولكنه أقل جمالا من لابسته. - أتظن ذلك؟ - بلا شك يا فاتنتي، إن ثوبك جميل ويزيده جمالا قدك الأهيف، وشعرك الأسود، ومعصمك الجميل، وعيونك الساحرة. - لا تطل مديحك يا حسن. - أنت حورية من حور الجنان، وأنا عبدك الواله المطيع. ألا تعرفين يا لبيبة فيم أفكر كثيرا؟ - في نوالك الشهادة. - أنا لا أنكر أني أفكر في ذلك، ولكني أفكر في أمر آخر تصبو إليه نفسي كثيرا. احذري يا لبيبة. احذري فإنه يلذ لي أن تحذري ما يجول في فكري في كل دقيقة بل في كل ثانية.
سكتت لبيبة هنيهة لتفكر ثم قالت: لا أعلم. - إنك إذن لا تحبينني؛ لأنك لا تفكرين فيما أفكر فيه.
احمر وجه لبيبة ووضعت كفها على وجهها لتخفي احمراره؛ لأنها أدركت أن حسن لا يفكر إلا بزواجه بها وهو ما تفكر فيه أيضا. ثم قالت له بعد قليل: بأي شيء تفكر يا حسن؟ - ألم تدركي بعد، إني أفكر في زواجنا؟ فهل تفكرين فيه أيضا؟
فقالت وهي مطأطئة الرأس: في كل آونة.
فابتسم وقد سره سماع هذا الإقرار من ذلك الفم الجميل، ثم قال لها وقد ارتسم السرور على وجهه: إني سعيد يا لبيبة اليوم لثلاثة أمور؛ أولها: رؤيتك في هذا الثوب الجميل، وثانيها: إقرارك لي بأنك تفكرين في زواجنا كل آونة، وثالثها: أمر آخر لم يتحقق بعد. - وما هو؟ - أنت تعرفين أني أحب الإنشاء كثيرا. - نعم. - وأود أن أصبح يوما كاتبا عظيما في إحدى الجرائد. - نعم. - لقد أقدمت على عمل عظيم اليوم. - وما هو؟ - كتبت مقالة وأرسلتها لتنشر في إحدى الجرائد. - ولأي جريدة أرسلتها؟ - لجريدة الحقائق ...
ولم تبد لبيبة اهتماما كبيرا لما أخبرها به حسن لتفكيرها بحبها وزواجها وسعادتها، فعز على حسن، بل ساءه كثيرا أن يرى من لبيبة ذلك. فاحمر وجهه قليلا وغص بريقه عندما حاول متابعة حديثه شأن كل حي يدفعه الحياء إلى ما يقرب من الجبن، ثم نظر إلى السماء كأنه يسأل الله خلاصه من خيبته، ثم نظر إلى الأرض هربا من نظرات لبيبة، وكأنها شعرت بما يدور في خلده، فودت إصلاح خطئها، فحادثته بصوت حنون تبرأ عند سماعه القلوب الكليمة قائلة: أواثق أنت من نشر مقالتك؟ - لا أعلم.
وسكت خوفا من الكلام فابتسمت لبيبة ابتسامة تعبر عن هزيمتها، وسكتت ناظرة للفضاء.
لبث حسن هنيهة يفكر، وكل فتى حي يحلو له التفكير؛ إذ فيه التعزية الكبرى لخيبته، وقد حدا به فكره إلى مغادرة حبيبته، ولكنه لم يستصوب هذا الرأي؛ مخافة أن يسيء لمن يهوى فزادت حيرته، ولكنه اهتدى دفعة واحدة لرأي ظنه صائبا، وسرعان ما يهتدي الفتى الحي للآراء الجديدة، فقال لنفسه: سأشرح لها شئون الكتابة والكتاب لتقف عليها. فالتفت إليها فوجدها تبتسم كأنها تسأله الصفح والرضى، فقال لها بصوت متهدج: إنك بلا شك لا تعرفين ما يعانيه الكاتب عند كتابته مقالته. - أود أن أعرف ذلك.
وكان هذا الرضى مفتاح استرسال حسن في حديثه فقال: آه يا عزيزتي، لو كنت تعرفين ذلك؟! إن الكاتب إذا جلس أمام مكتبه وأمسك بالقلم في يده استرسل للتفكير أولا، فإذا ما اختمرت الفكرة في رأسه أراد أن يكسو معانيها ألفاظا أنيقة تلذ القارئ، فإذا وفق لذلك خطها قلمه على الورق الأبيض بالمداد الأسود، ويكون هذا شأنه في كل ما يكتب، ولا تظنين أن الأفكار تترى في رأس الكاتب تباعا، ولا أن الألفاظ دانية القطوف. وإذا أراد الكاتب أن يكون مبسوط العبارة، متناسب الفقر، بعيدا فيما يكتب عن شوائب اللبس؛ فإنه لعمري يحاول المستحيل، والدليل أنا لا نجد في مصر عددا كبيرا من الكتاب. - وإذا وفق الكاتب إلى كل ذلك؟ - إذا وفق، يدخل جنة الحياة تحمله إليها ملائكة البلاغة. - ما أحلى وقع هذا الكلام في أذني! أستحظى يا حسن بكل ذلك؟ - إذا أراد الله لي الخير. - سأسأله في كل لحظة أن ينيلك هذا المقام الرفيع. - أنت إذن تشاطرينني فرحي؟ إنك لا تعلمين كم أنا سعيد بذلك! ظننتك لا تهتمين بما تصبو إليه نفسي، بتلك الأمنية التي أصبح إذا نلتها أسعد إنسان في مصر، فإذا بك تسألين الله أن أحظى بها عاجلا، فشكرا لك، اللهم شكرا لك.
ورفع حسن يدية للسماء شاكرا، فابتسمت حبيبته وقالت له: ومتى تظهر مقالتك؟ - بعد ثلاثة أيام أو أربعة؛ لأنهم سيقدمون عليها مقالات كبار الكتاب، وإني أعدك أنك ستكونين أول من يسمع بظهورها. - يا لسعادة نفسي في ذلك اليوم!
ونظر المحبان للسماء فوجدا الظلام بدأ يضرب خيامه، فافترقا وهما يبتسمان. فلما أدار حسن وجهه لغرفته وجد نفسه فيها وحيدا، ولم يطق أن يستأثر بسعادته الكبرى، فلم يدر ما يفعل، فابتدأ بالقفز في غرفته، فإذا به يرى كلبه «سحاب» يقفز خلفه كأنه يشاطره هناءه وسعادته.
الفصل الرابع
أتى ناظر المدرسة الخديوية يمشي الهوينا إلى أن وصل إلى الدرج، فوقف عليه؛ ليحيي طلبته قبل انصرافهم. وكانت الطلبة قبل ظهور ناظرهم في هرج ومرج، فلما رأوه قادما إليهم لزموا السكون كأنهم كانوا متأهبين له.
حيا الطلبة رئيسهم وحياهم، وانصرفوا إلى الخارج والحرية نصب أعينهم، وليس شيء أحب إلى قلب الطالب من تلك الساعة الجميلة؛ ساعة انتهائه من درسه واستنشاقه عبير حريته.
مشى إبراهيم يسرى الهوينا إلى أن وصل إلى الباب الخارجي، وهناك قابل عبد العزيز واقفا يمسح حذاءه وهو يطالع جريدة اللواء، فابتدره بقوله: هل من أخبار جديدة؟ - لا أرى شيئا يستحق العناية. - وباب المقالات؟ - أرى فيه ردا لمن يكتب تحت لقب «عبد ربه» على مقالات أحمد نديم. - لقد صار أحمد نديم ذائع الصيت بين كبار الكتاب. - إنه يكتب منذ سنين عديدة. - ومن هذا الذي يكتب تحت اسم «عبد ربه»؟ - يقولون إنه موظف بإحدى النظارات، وآخرون يقولون إنه تلميذ ب «المدرسة السعيدية»، وآخرون يقولون إنه من كبار قضاتنا. - أصدق أنه قاض أو موظف، ولكني لا أظن أنه طالب. - ولم لا؟ - أيكتب الطلاب كلاما كهذا؟ - وهل تستكثر عليهم ذلك وأنت منهم؟ - إني ما زلت من الكتاب الحديثين.
وابتسم ابتسامة تدل على اعتقاده عكس ما يقول، ولا يستغرب القارئ ذلك من إبراهيم يسري بعد أن عرف كل إخوانه أنه ممن يعتقدون في أنفسهم الألوهية في فن الكتابة، وزد على ذلك أنه حسود يكره أن يرى تلميذا مثله يجاريه في مضمار القلم. أما عبد العزيز، فهو من النمامين الذين تدب عقاربهم بين القوم فتقطع بينهم حبال الود والإخاء، وممن يتبعون السيئة حتى يقضوا لبانتهم وينالوا غرضهم.
سمع عبد العزيز جملة إبراهيم وقال له: إني لا أعتقد ذلك. - أأساوي «عبد ربه» وهو من جهابذة أهل العلم أصحاب النقد الصحيح والفكر الثاقب؟! - لكل منكم طريق لم يسلكه الآخر؛ أنت تكتب في الخيال وهو في النقد. - وهل تظن أني عاجز عن انتقاد الكتاب أجمعين؟ - أنا لا أقول ذلك، ويسرني أن أرى في نقدك - إن شاء الله - صواب الفكر ودقة النظر. - سوف تقرأ عن قريب في إحدى مجلاتنا الكبيرة عدة مقالات في معنى النقد وشروطه. - وأتعشم أن تكون بتوقيعك. - إن شاء الله تعالى. ألا ترى أن الكتاب الذين يكتبون في النقد يحيدون كثيرا عن الصراط المستقيم؟ - لا أرى ذلك. - هذا لأنك لم تقرأ في الإنكليزية كتب النقد الصحيح، وهي كثيرة يا صديقي، وإن شئت أقرضتك كتابا منها؛ لتقف على هذه الروح العالية المفقودة عند كتابنا - سامحهم الله.
وانتهى عبد العزيز من مسح حذائه، ونفح ماسح الأحذية قرشا، ومشى مع إبراهيم جنبا لجنب وهو يقول له: إني أشكرك يا عزيزي، ومتى أحظى منك بهذه المنحة العظيمة؟ - غدا إن شئت ذلك. - إن نفسي لتواقة لقراءة هذا الكتاب. - غدا تبتدئ في مطالعته في حصة المطالعة الإنكليزية؛ لأن أستاذها، كما تعلم، لا يهمه كثيرا ما تفعله التلاميذ. - إنه إذا دخل الفصل جلس على مقعده إلى أن يدق الناقوس. - ولكن نتيجته حسنة دائما. فما السر في ذلك؟ - سعادة حظه.
عندما قال عبد العزيز كلمة «سعادة حظه» ضرب بيده على رأسه كأنه يأسف على نسيانه ذكر أمر كان بوده أن يقوله ليسري. ثم قال له: لقد نسيت أن أقول لك إن صديقك أبا الإنشاء قد أرسل مقالة لجريدة الحقائق. - لقد أخطأت يا صديقي في إلصاق لفظ الصداقة بصفاته، وكان الأولى أن تقول «حاسدك» لا صديقك. - إنك ما زلت تضمر له الشر. - إني أمزح معك يا عبد العزيز، ولا إخالك تعتقد في غير ذلك، وما موضوع مقالته؟ - البورصة. - وما عنوانها؟ - الأم الشفيقة القاتلة. - ومتى أرسلها؟ - منذ يومين. - ومتى أخبرك بذلك؟ - صباح اليوم. - عنوان يأخذ بمجامع القلوب. إني أهنئ صاحبك يا صاح على هذا الذكاء. - أما زلت تهزأ به؟ - إن العنوان أطربني؛ ولذا تراني أترنح كالشارب الثمل.
ومشى وهو يترنح يمنة ويسرة مقلدا شارب الخمر، وضحك بعد ذلك ضحكة عالية، ثم التفت إلى صديقه وقال له: بشر صاحبك بنجاحه في مسعاه؛ لأن صاحب «الحقائق» فقير المادة، فسوف يرى في مقال أبي الإنشاء عونا له يستعين به. - أتهزأ بصاحب «الحقائق» وأنت أول من كتب فيها. - إن للحقائق فضلا علي، ولي عليها أيضا فضل عظيم، وأظنك لا تنكر ذلك.
ووصل الصاحبان إلى ميدان العتبة الخضراء، فقال عبد العزيز لصاحبة: كنت أود أن أتم حديثي معك، ولكني مجبر على مغادرتك. - وأين تقصد؟ - شارع الموسكي؛ حيث أشتري «نصف دستة» من الشرابات.
وغادر عبد العزيز صاحبه، فوقف إبراهيم هنيهة ينظر طورا للغبراء وطورا للسماء، وهم إلى جهة دار البريد، وإذا به يسمع صوتا يناديه، فالتفت خلفه ليرى المنادي، وعندها صاح بملء فيه: أنت! أما دار بخلدي أن أراك اليوم، فيا حسن حظي! لقد صدق المثل العامي «افتكرنا القط جانا ينط»، وأين كنت؟
كنت جالسا على هذه القهوة (وأشار بيده لقهوة النيل) لأستريح، وإذا بي أراك تقلب نظرك في أديم الأرض طورا، وفي صفحة السماء تارة أخرى، فقلت لنفسي، والنفس تحب لقاء الأدباء: هاك طلبتك التي كنت تطمحين إليها منذ حين. فناديتك وأنا آمل أن تشملني بعطفك بعد أن رميتني بهجرك وصدك. - لا صد ولا هجر فيما فعلت أيها الأخ الكريم، ولكن المدرسة ... - لا تلجئني لأن أقول: «العذر أقبح من الذنب.» - مغفرة وصفحا لو كنت أذنبت، وتسامحا لو كانت الظروف أذنبت. - هذا كثير يا عزيزي، فلا تجعلني بالله عبد لطفك أبد الدهر. - لا يسع محدثك إلا أن يقر لك بالتفوق في كل شيء. - هل لك أن تجالسني قليلا؟ - ذلك ما تصبو إليه نفسي. إني كنت أنظر لأديم الغبراء تارة ولصفحة السماء طورا؛ لأني كنت أبحث عن أخ كريم مثلك يسمعني من فيه آيات السحر الحلال. - بورك فيك يا عزيزي.
وذهب الصديقان لقهوة النيل وجلسا أمام خوان صغير، وابتدآ في الحديث بعد أن صفق صاحبنا الجديد مرتين، فلما أتاه خادم القهوة طلب منه أن يأتي إبراهيم بفنجان قهوة أتى به الخادم بعد قليل. - كنت منذ حين مع بعض الإخوان، وكنا نتحادث بشأن جريدتك. - إني لأعجب لذلك بعد أن أغضيت الطرف عن جريدة لا أعدها إلا من بنات فكرك. - لقد اعتذرت لك يا صديقي فلم تقبل عذري، وليس أمامي إلا شيء واحد أصلح به خطئي. سأكتب في جريدتك من جديد حتى لا تقول عني إني أهملتها بعد أن كنت من العاملين على نجاحها. - أشكرك يا صديقي. - ولكن كيف حال جريدتك؟ أفي عزمك أن تجعلها يومية؟ - لعن الله من يذوق لذة العلم في بلد كمصر. إني أقرأ الجرائد والمجلات الأوربية، وأقتطف منها ما لذ وطاب، وأنشره على صفحات جريدتي؛ ليستفيد منها المعمم والمطربش، ولا يكون جزائي على كل ذلك إلا الصبر والإعراض. - لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. - ولقد طرقت باب السياسة وباب الاجتماع، وأردت أن أكتب في الفلك والرياضيات، ولكن خاب فألي وتلاشت كل آمالي، وكرهت الصحافة بعد أن كنت أتفانى في الزود عن حياضها. - كل هذا يفت في ساعد أهل الأدب، ولولا أنك ذو همة قصية المرمى، وعزيمة تفل الحديد؛ لنصحت لك بإيقاف جريدتك. - حاشا أن أفعل ذلك ولو قطعت إربا إربا، وسأعمل إلى النهاية وإن أقلت صحيفتي عطاءها ولم أنل منها إلا النزر اليسير. - ألا تخاف الخراب؟ - أنا واقع فيه يا صديقي من يوم أن فكرت في إنشاء الصحيفة. أنسيت أن الصحافة لم تنعم علي بشيء؟ - وبعد؟ - سأجاهد حتى ألفظ النفس الأخير. - همة شماء فلله درك من رجل! - ألم تقرأ «برق» يوم الجمعة الماضي؟ - كلا. - لقد كانت «افتتاحيته» ملأى بالمطاعن. - ومن كان فريسة «البرق» في الأسبوع الماضي؟ - جريدة الحقائق. - جريدتك أنت؟! - نعم، وعلام العجب والبرق جريدة لم تنشأ إلا لنهش أعراض الناس؟! - وما الذي ذكره صاحبها في مقالته هذه؟ - قال إني أسب الناس لأستدر أموالهم. - حاشا أن تكون ذلك الرجل. - لقد كتبت عدة مقالات أستحث بها أغنياءنا على مساعدة أهل العلم والأدب، ولمت بعضهم على توانيه وتقاعده عن خدمة رجال الصحافة. - وهل ذكرت أسماء الأشخاص؟ - لم أذكر أسماءهم، ولكني وصفت صفات بعضهم وصفا دقيقا يعرف به القارئ اسم الموصوف. - أفعلت ذلك؟ - وكيف لا أفعل ذلك وقد أصبحنا في هذا البلد الأمين كالمتشردين لا نجد لقمة بها. - وما الذي دفعك لارتكاب هذا الزلل؟ - لا زلل فيما فعلت أيها الصديق القديم. ذهبت عند أحد البشاوات لأسأله بدل الاشتراك، فاعتذر بمرضه أولا، وبتغيبه عن قصره ثانيا، ثم بطردي من القصر ثالثا ... وذهبت عند أحد البيكوات، فقال لي بسماحته المعروفة: «لقد أخطأت يا صاح في العنوان.» وذهبت عند أحد الكبراء ففغر فاه عند ملاقاتي وسبني أمام خدمه، ولولا ما أظهرته من الشمم والإباء لضربني بيده ورفصني بقدمه، فماذا تقول في كل ذلك؟ - جنايات فظيعة على رجال الصحافة. - أليس كذلك؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لقد أصبحت الصحافة محتقرة في أعين العظماء والكبراء والأغنياء، فمن يعولها في كنانة الله بعدهم؟ - كنانة الله! أتسمي مصر بهذا الاسم! قل جحيم الله، قل غضب الله، قل صواعق السماء، قل قاذورة البلاد، قل ما شئت؛ فقد ألجأتنا الحاجة في هذه البلاد لنصير كالذئاب الجائعة تأكل بعضها بعضا، ولكن يظهر لي أنك لا تقرأ «الحقائق» منذ مدة طويلة لأنك تجهل ما يكتب فيها.
وابتدأ إبراهيم في خلق اعتذاراته وشرحها بما آتاه الله من فصاحة اللسان وبلاغة الكلام، حتى صرف ما في ذهن صاحب الحقائق نحوه، وما صاحب الحقائق هذا إلا تلميذ حاز شهادة الكفاءة، ثم ألجأته الضرورة لأن يتخذ الصحافة مهنة، فابتدأ عمله شريفا ثم ختمه بسب الناس وشتمهم كما تفعل أصحاب الجرائد الأسبوعية التي لم تنشأ إلا لهذا الغرض، وهو صديق قديم لإبراهيم يسري، وإبراهيم هذا كان من أكابر معضدي الحقائق، وعلى صفحاتها نشر مقالاته الأولى، ولما وجدها تتدهور من هاوية إلى هاوية صد عنها، وابتدأ بالكتابة في الجرائد الكبيرة إلى أن حاز الشهرة التي رفعته إلى مقامه الكبير بين إخوانه الطلبة، ولقد أراد حسن أمين أن يقلده فيما يفعل لينال في الحياة حظا أكبر من حظه وأعظم، فأرسل مقالته الأولى لجريدة الحقائق.
مكث إبراهيم يتحادث مع صاحب «الحقائق» مدة طويلة إلى أن قال له: ومن ذا الذي يعاونك على التحرير؟ - رأسي ويدي. - ألا ترد إليك رسائل من كبار الكتاب؟ - بل من صغارهم.
وأخرج من جيبه خطابا أعطاه لإبراهيم وهو يقول له: هاك مقالة وصلتني أمس من كاتب مجهول يسألني فيها أن لا اذكر اسمه الحقيقي. - وأي اسم اختاره لنفسه؟ - رعمسيس الثاني. خذ واقرأ لتقف على المقالة.
قرأ إبراهيم المقالة، ثم ردها لصاحبه وقال: إني أعرف هذا الصرصور الصغير. إنه معنا في المدرسة. - في السنة الرابعة معك. - في السنة الأولى، وله كلف عظيم بالإنشاء حتى لقبه الطلبة بأبي الإنشاء. أعازم أنت على نشر هذه السخافات؟ - لم يقر رأيي بعد على شيء. - إني أربأ بجريدتك الراقية أن تتلوث بهذه القاذورات النجسة. - أترتئي في مقال صاحبك ذلك؟ - إني لا أعد هزؤة المدرسة صاحبا لي. - أتهزأ الطلبة بهذا التلميذ؟ - هو موضوع سخريتهم أجمعين. - إنك إذن لعلى حق. مزق المقالة وألقها على الأرض لتدوسها المارة، وكفى جريدتنا ما حل بها من المصائب حتى أزيدها بكلام هذا التلميذ المهزأ مصيبة على مصيبة. - أنا لا أمزق كلام الناس يا صديقي. - هاتها ...
وأخذها من يد إبراهيم ومزقها، وألقى بها على الأرض، وهو لا يعلم إنه يمزق بذلك غشاء ذلك القلب المسكين قلب حسن أمين، وقد دفعه على ذلك ما كان قائما في قلبه من الحقد على أعدائه وعلى الأغنياء والعظماء، وقام يتبعه إبراهيم وقد ارتسمت على شفتي هذا الخبيث ابتسامة الغلبة والظفر.
الفصل الخامس
دخل حسن قهوة «النادي المصري» وطلب جريدة الحقائق، فأجابه الخادم قائلا: «إننا لا نشتري هذه الجريدة يا سيدي.» فأخرج حسن من جيبه قرشا وقال للخادم: «اذهب واشترها لي.» فصدع الخادم لأمره وأتاه بها بعد حين.
أمسك حسن جريدة الحقائق بيده وبحث في الفهرست عن عنوان مقالته فلم يجده، فكذب الفهرست، وبحث في جميع الصفحات فلم يجد من مقالته حرفا واحدا، فأظلمت الدنيا في عينيه، وأقفل الجريدة وألقى بها على الخوان، وعافت نفسه قراءة الجرائد الأخرى، فأطلق لفكره العنان.
مكث حينا يفكر في أشياء كثيرة إلى أن سئم التفكير، فقام يتمشى وهو مطرق برأسه. ثم أطلق من بين جوانحه زفرة ألفتت إليه أنظار المارة، ومشى غير عابئ بأحد.
لم يسلك حسن سبيله إلى المنزل؛ لأنه كان سائرا على غير هدى، ولكنه كان يأمل الخير في الغد مع أن شواهد الحال كانت تنطق بغير ذلك. لقد مرت على مقالته ثلاثة أيام والأقدام تدوسها في الشارع، ولكنه كان يجهل ذلك فكان يقول لنفسه: «إن لم تنشر مقالتي في الغد فعلى آمالي السلام!» ويا ليته كان عالما بما حل بها حتى لا يفاجأ في الغد بما لم يهجس في ضميره قبل ثلاثة أيام.
ليس شيء أصعب على نفس الناشئ من حبوط أول أمل له، كما أن هذا الحبوط هو أكبر باعث له على إعادة الكرة لنيل أمنيته وتحقيق غرضه، وتكبر صعوبة حبوط المسعى على الناشئ إذا كان من خلقه الحياء وضعف الإرادة، وحسن أعظم مثال لهذا النوع من الناشئين؛ ولذا كان ألمه عظيما، ولم يبعث في قلبه داعي التأسي إلا أمله في الغد، وكان الغد آخر موعد لنشر مقالته، ففي الغد يفتح حسن صدره للبؤس أو للسعادة.
مشى حسن من شارع إلى شارع وهو لا يلوي على أحد إلى أن وصل إلى منزله بعد الغروب، فأنبته أمه فلم يجب عليها، وانتظرته حبيبته لتقرأه السلام كالعادة فذهب انتظارها سدى، ولم يعزه على مصابه في ذلك اليوم إلا كلبه «سحاب». •••
أشرقت الشمس في الصباح، وخرجت الناس من منازلها والطيور من أعشاشها، وتكلمت ألسنة المدينة بعد أن سكتت طول الليل، ومشى حسن من بيته إلى المدرسة وهو غير عابئ بما حوله، ولما وصل إليها وقضى بها ساعتين وقف في الفناء مع إخوانه التلاميذ يتجاذب أطراف الحديث، وإذا إبراهيم يسري يقرئه السلام ويقول له: ما لك تفكر يا حسن. أحلت بك مصيبة؟ - أينبئك حالي بذلك؟ - نعم. - إنك واهم يا عزيزي، لم تحل بي مصيبة كبرى، ولكن حياة الإنسان لا تخلو من المكدرات. - صدقت. أقرأت أمس جريدة الحقائق؟ - وهل «الحقائق» جريدة تستحق المطالعة؟ - لقد أخبرني صديقي عبد العزيز أنك أرسلت لمديرها مقالة نفيسة.
أرتج على حسن في هذه الساعة ولم يعلم ما يقول، واحمر وجهه خجلا وسكت هنيهة وهو ينظر لأقدام من كان حوله، ثم رفع بصره لإبراهيم يسري وقال له: أأخبرك عبد العزيز بذلك؟ - وهل في ذلك بأس؟ - لقد كذب عليك عبد العزيز يا صديقي؛ لأني لم أغتر بعد بخدع الآمال حتى أكتب بالجرائد. - أنت أبو الإنشاء. - هذه نغمة من يهزأ بي يا إبراهيم، فإن كنت من هؤلاء فإني أسامحك. - أنا لا أهزأ بك يا صديقي، ولا أرى داعيا يدعوك لإخفاء الحقيقة عني. - وأي حقيقة أخفيتها عنك؟ - وما الذي يدعو عبد العزيز للكذب؟ إنك بلا شك ممن لا يحبون التغني بمآثرهم. - وأي مأثرة يحق لي أن أفتخر بها أيها الصديق؟ - ومن ذا الذي ينكر فضلك؟
سكت حسن، ولكن لم ينظر للأرض خجلا كعادته، بل نظر إلى إبراهيم نظرة تجسمت فيها الأنفة من هزوه والاحتقار لشخصه، ولوى ظهره له وابتعد عنه وهو يسمع إبراهيم يناديه قائلا: لا تغضب يا «رعمسيس الثاني». فقال لنفسه: «إنه يعرف أيضا أني كتبتها تحت اسم مستعار، فإن لم تنشر المقالة اليوم، صغرت في عينه، وهو ممن يتطلعون لذلك. فأف منك يا عبد العزيز! لقد أخبرتك بأمر هذه المقالة ورجوتك كل الرجاء أن تخفي أمرها عن كل التلاميذ، ولكنك أخبرت به القاصي والداني، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .»
تجسمت في رأس حسن فكرة عدم نشر المقالة، وكان خوفه من فضيحته أمام إبراهيم يسري أكبر من خوفه من عدم نشر المقالة، وكل ذلك أتاه من حيائه وضعف إرادته.
قضى حسن في المدرسة يوما عصيبا، لم يفقه فيه لأقوال أساتذته إلى أن دق ناقوس الانصراف في عصر ذلك اليوم، فخرج مع من خرج من التلاميذ، ومشى مسرعا إلى الترام وركب فيه، وود أن يسوقه بنفسه. فلما وصل الترام إلى باب الخلق، ازداد اضطراب قلبه، وتعددت أنفاسه، وظهر على وجهه القلق، وهم واقفا ثم جلس، ثم وقف ثم جلس، وأعاد ذلك مرارا وقفز منه دفعة واحدة، وإذا به يسمع بائعي الجرائد يقولون: «اللواء، اللواء، المؤيد والأهرام»، فأخرج من كيسه قرشا ومد يده لأحدهم صائحا: «الحقائق. علي بالحقائق.» فبحث البائع هنيهة في أعداد الجرائد التي كانت تحت إبطه، وقال له: «لم تظهر بعد.» فهم حسن بضرب البائع ولم يستوقفه إلا الترام الذي كان يسير بجواره إلى العتبة الخضراء، والعتبة الخضراء محط رحال كل الجرائد، فقفز فيه كمن به جنة.
وصل به الترام إلى العتبة الخضراء، واشترى حسن «الحقائق» وفتحها ليرى مقالته الشائقة، فاستلفتت نظره لأول وهلة لفظة «أم»، وكانت عنوانا لإحدى المقالات، فظنها مقالته، فشعر بالدم يعلو إلى رأسه، وتلعثم لسانه وغص ريقه، ولكنه قرأ العنوان بإمعان فوجده «الأم العادلة» وكانت المقالة غير مقالته. فشرع في البحث عنها في كل جزء من أجزاء الجريدة؛ في باب الوفيات، في باب الإعلانات، في باب أخبار البورصة، حتى وفي العنوان نفسه، ولكنه رجع بخفي حنين، وكاد أن يصعق أمام الناس، فألقى بالجريدة على الأرض، ولكنه لم يلبث هنيهة حتى عاوده الأمل فالتقطها مرة ثانية، وابتدأ في مطالعة مقالة «الأم العادلة»، ثم حول بصره مرة ثانية لكل كلمة في الجريدة، وأخيرا انقطع رجاؤه منها، فرمى بها على الأرض وداسها بقدمه، فاعلا بها ما فعل رئيس التحرير بمقالته، ومشى إلى بيته مستمسكا من الأمل بخيط باطل. •••
في تلك الغرفة التي سمعت آذانها كل ما جرى بين حسن ولبيبة، وأمام هذا الشباك الذي استقبل النسيم يحمل للعاشقة قبلات حبيبها؛ جلست لبيبة تبكي وهي تنظر للفضاء، وما لبيبة إلا فتاة وديعة هادئة، طيبة السيرة والسريرة، لا تستحق من الحياة سهمها القاتل، ولا من الوجود سلاحه القاطع. لقد وقع على قلبها خبر السفر وقوع الصاعقة، فوضعت يدها على قلبها الخافق كأنها تبحث عنه، بل كأنها تبحث عن آمالها فيه، وما هي آمال الفتاة السجينة في الحياة بعد أن يتقلص ظل أمانيها فيمن تحب، فيمن عليه تعتمد وبه تسعد وبغيره لا تعرف غير الشقاء.
تعيش الفتاة المصرية في بيتها وهي لا تعرف عن الحياة إلا ما يقع في ذلك البيت، ولا تسمع من الأصوات إلا صوت أهلها، ولا ترى من الأشياء إلا جدران هذا البيت الضيق، وإذا لاح لها برق آمالها في طلعة شاب تراه عفوا ويكون من أقربائها، تحكم عليها الظروف بالابتعاد عنه، فلا تجد تعزية إلا في الاستسلام للأسى والدموع.
تلك حال فتاتنا لبيبة وهي - كما قلنا - فتاة لا تستحق ذلك.
ذهبت للنافذة لتقص على حبيبها ذلك الخبر المؤلم، فوجدته بعد قليل داخلا غرفته هو وكلبه، ثم وقف هنيهة يمسح دمعة تساقطت على خده، ثم أقفل باب الغرفة وأحكم إقفاله، وخلع معطفه، وارتمى على سريره؛ ليبكي وينتحب، فنادته بصوت يسمع السامع منه رنة الحزن والأسى، فهم واقفا وذهب للنافذة وهو يبكي، واندهش لما رأى حبيبته تبكي مثله.
ظنت لبيبة أن حسنا واقف على جلية الأمر، فقالت له: سنسافر بعد أسبوع يا حسن. - تسافرين! وإلى أين؟ - إلى أسيوط. - وهل تحقق ذلك؟
وكف عن البكاء لاندهاشه العظيم فوقف واجما لا يعرف ما يقول.
فقالت له لبيبة: ظننتك واقفا على الحقيقة. لقد نقل أبي إلى أسيوط وسأفارقك بالرغم مني، ولكن ما الذي كان يبكيك؟
فأجهش حسن بالبكاء دفعة واحدة، وقال بعد قليل: تلك كبرى المصائب. لقد أراد الحظ الأسود أن لا تنشر مقالتي، وأن تسافر حبيبتي فوداعا أيتها الآمال الكاذبة، ووداعا يا أحاديث المنى، فما أنت إلا وساوس الأطماع وأضغاث الأحلام.
واسترسل في البكاء واسترسلت معه حبيبته، وظل العاشقان ردحا من الوقت يتناجيان ويشكوان مصيبة أظلتهما على غير حسبان ولا انتظار.
وافترق العاشقان بعد أن تساقطت نفساهما غما، وتقطعت أحشاؤهما حزنا ولهفا.
ورجع حسن إلى مقعده وارتمى عليه وهو كاسف البال، وقد ائتنس بوحدته وانفراده ليطلق لدمعه العنان، وانكب على البكاء انكباب من انفطرت مريرته، وتساقطت دموعه على الأرض فكان يلتقطها كلبه الأمين سحاب، وكان سحاب في عرفه أوفي من الإنسان.
الفصل السادس
أظلم الليل وخيم السكون على أنحاء المدينة، وحسن ملقى على مقعده يبكي وينتحب، وقد لذ له البكاء، والبكاء أكبر تعزية للأنفس الحزينة، أتت أمه وطرقت الباب تسأله الخروج للعشاء، فأصلح من شأنه وفتح الباب، فقال لها وهو يتصنع الثبات في القول والعمل: لست بجوعان يا أماه هذه الليلة، وأود الخلوة لحفظ درس التاريخ؛ لأني أتوقع أن أكون غدا ضمن الممتحنين. - عبثا تحاول يا ولدي إخفاء ما في نفسك؛ لأن شعور الأم يدلها على خفايا قلب ولدها. إنك بلا شك حزين، وتشهد بقايا دمعك بذلك، فما الذي أحزنك اليوم؟ أتشاجرت مع أحد أقرانك، أم خاصمك أستاذك؟ تكلم يا ولدي وبح لي بالحقيقة حتى أشاطرك ما في نفسك من الأشجان. - أنت واهمة يا أماه ...
وأتم جملته والدموع تخنقه، وارتمى على صدر أمه ليسكب في أحضانها دموعه الحارة، وما أحسن صدر الأم على فؤاد الولد الحزين؛ ففي هذا الصدر ينشأ الرضيع ومنه يتغذى، وفي هذا الصدر يلعب الطفل هازئا بالحياة وآلامها، وفي هذا الصدر تستذرف جفون الشاب آلام الخيبة واليأس! صدر الأم هو الغرفة الدافئة الصغيرة التي بنتها يد الحب والحنان؛ ففيها يتلاقى السرور بالسعادة، وفيها يلتطم الأسى بالمصائب.
حملت الأم ابنها ووضعته في سريره، وجلست بجواره تلاعب شعوره الجميلة، وتقبله من آونة لأخرى، وهي تحاول الصبر حابسة دمعها وواضعة يدها على قلبها، كأنها تود أن لا يخفق فيسمع منه ولدها صوت الهم.
سألت الأم ابنها عن سبب أشجانه فذكره لها. فأكبرت عليه أن يبكي لأجل مقالة أخطأ رئيس التحرير في فهمها ، وسألته أن يهون عليه وينسى ما مضى، ويهيئ للغد مقالا آخر يرسله «للفاروق»؛ وهو أكبر جريدة مصرية كانت تظهر في ذلك العهد، وما رامت من كل ذلك إلا إزالة الهم عن فلذة كبدها، ولقد فازت بأمنيتها، وسرعان ما ينسى ضعيف الإرادة الماضي إذا وجد من المستقبل بارقة أمل، وإن كانت خلابة. تسيطرت فكرة الكتابة في «الفاروق» في فكره، وقام يتبع أمه ليتناول العشاء، وأكل هنيئا وشرب مريئا، ورجع إلى غرفته لينام بعد أن أقسم لأمه أنه لا يعود للبكاء.
دخل غرفته وأوصد الباب وأشعل مصباحه وجلس أمام خوائه ليكتب. أمسك في يده القلم وهيأ الدواة والورقة قبل أن يهتدي للموضوع، ولكنه ما لبث قليلا على هذه الحالة المضحكة المبكية حتى اعتراه اليأس فألقى بالقلم، وكاد أن يهشم الدواة، ومزق الورقة، وألقى بنفسه على الأرض يلطم وجهه بكفيه، وتلك هي حال عصبي المزاج إذا كان ضعيف الإرادة لا يشكو همه إلا لنفسه، ولا ينتقم إلا من نفسه أيضا.
سكن قليلا فقام إلى سريره وارتمى عليه مستهزئا بكل ما وافاه بل بالعالم أجمع. فسكنت ثائرة نفسه وحاول النوم متناسيا نكبته الشديدة، والنوم لا يزور من في قلبه كمد باطن وحزن دفين، وتذكر فراق حبيبته في هذه الساعة التي أحس فيها بالراحة قليلا، وجسم له مزاجه العصبي وضعف إرادته أن هذا الفراق أبدي، فهم من نومه جالسا ونظر إلى النافذة، وكانت مقفلة، كأنه يسألها جلية الخبر، ثم قام إليها وفتحها ونظر لبيت حبيبته، وتناسى في تلك الساعة مقالته وما جرته عليه من الأوصاب والكروب، ومد يديه للسماء، وما أقسى قلب السماء على من تخالجه الهموم! ولبث هنيهة ساكنا لا يتحرك، وكان لابسا لباسا أبيض اللون أصبح فيه كالتمثال في جوف الليل البهيم.
عبثا حاول نسيان أشجانه، فأقفل النافذة ورجع إلى سريره يميد به شجوه، وارتمى عليه لينام بعد أن يئس من كل شيء، حتى من استرساله في الهموم، وأقفل جفونه؛ فكانت فكرة الكتابة في «الفاروق» وفكرة فراق حبيبته تتبادلان إزعاج رأسه المسكين، وأخيرا استسلم للنوم فنام إلى الصباح. •••
انقضت الحصة الرابعة، فنزل التلاميذ إلى فناء المدرسة، وخلت كل جماعة منهم بركن من أركان الفناء تتجاذب فيه أطراف الحديث؛ ومنهم من آثر اللعب والجري، ومنهم من ذهب إلى فناء الكرة ليريض نفسه، ولزمت جماعة إبراهيم يسري المقعد المجاور لسلم الفناء، وكان من بينهم عبد العزيز ومحمود، وقد سلف لنا ذكرهم، وابتدءوا بذكر حسنات الأساتذة وسيئاتهم، ولا يلذ للطلبة إلا التكلم في ذلك، ثم انتقلوا من ذلك الحديث إلى السخرية من بعض الطلبة الذين كانوا موضعا لهزئهم وسخريتهم، ولذ لإبراهيم يسري أن يقص على جماعته خبر مقالة حسن أمين، وأغرب في الضحك لما حل بها وشاركه إخوانه في ذلك، ولقبوا ذلك المسكين بلقب «رعمسيس الثاني»، ورأوه بعد آونة يسير الهوينا على السلم وهو مطرق للأرض، فنادوه بصوت واحد «يا رعمسيس الثاني!» فالتفت بالرغم منه، فرآهم يضحكون ويشيرون إليه بأصابعهم، فسار في طريقه وقد علت وجهه حمرة الخجل، وود أن يصعق في ساعته، وذهب بعد ذلك إلى الحديقة؛ ليخفي نفسه خلف أشجارها الكثة، وهناك جلس على مقعد خشبي ينظر للتلاميذ ولا يراه أحد، واستسلم لأشجانه، فمرت أمام فكره صور أحزانه تباعا، فكأنه كان يستعرض شريطا من شرائط الصور المتحركة، وهم من مكانه ليتمشى في الحديقة راجيا أن يخفف من حزنه، فإذا به يرى أمامه عبد العزيز، فابتسم له ابتسامة الحزين، وقال له والدمع يكاد ينطق بآلامه: أكنت تشاركهم في ضحكهم يا عبد العزيز؟ - بل كنت ألومهم على فعلتهم الشنعاء. - أشكرك يا أخي على رقيق إحساسك.
وسكت الاثنان دفعة واحدة، فلم يجد أحدهما سبيلا للتكلم، والتفت عبد العزيز بعد قليل إلى يمينه ثم إلى خلفه كأنه كان يخشى أن يسمع أحد ما أراد ذكره لحسن، ثم قال له وهو يتلعثم: أود أن أسر إليك شيئا وأريد أن تصدقه. - قل ما شئت. - عدني أولا أن تصدق ما أقوله لك. - إني أثق بك أيها الأخ ثقة عمياء، فحدثني بما تريد. - أتعلم السر في ضرب رئيس التحرير بمقالتك عرض الحائط ؟ - وأنى لي أن أعرف سر ذلك؟ أظن أنها لم ترق في عينيه. - حاشا أن يكون ذلك سر المسألة، وإني إخالك أكبر من أن تظن ذلك. - وهل أنت واقف على الحقيقة؟ - كان يقصها علينا إبراهيم يسري بصوته الجهوري. - وماذا قال لكم؟ - قال لنا إنه قبح لرئيس التحرير أن ينشر مقالتك، بل وعده بالتخاصم إن هو فعل ذلك، فألقى رئيس التحرير مقالتك على أديم الثرى بعد أن مزقها. - ألقى مقالتي على الأرض؟ مزق مقالتي؟ أتدوس المارة كلاما تعبت في إنشائه؟ يا للعار! وما الذي دفع إبراهيم لفعل ذلك؟ ولكني نسيت أن ألومك على خطأ فعلته ساءني فعله كثيرا. - أنا؟ وأي خطأ فعلت؟ - لقد استحلفتك أن لا تذكر لأحد خبر كتابتي تلك المقالة، فلماذا أسررت له بخبرها؟ - إني لم أفعل ذلك، وأشهد الله والنبي والإخاء والود على ذلك، ولكني أعلم أن إبراهيم قابل رئيس التحرير عفوا في العتبة الخضراء فقرأ عليه مقالتك، ففعل إبراهيم بها ما ذكرته لك.
وكذب عبد العزيز على الله والنبي والإخاء والود؛ لأنه وإن صدق في مقابلة إبراهيم لرئيس التحرير، فقد كذب في تنصله من إخباره بشأن مقالة حسن. وعبد العزيز هذا - كما قلنا - يحب الإيقاع بين التلاميذ؛ لا لمال يكتسبه ولا لنصر يفوز به، ولكن لمرض في نفسه ابتلاه به المجتمع الإنساني.
نظر حسن لعبد العزيز نظرة الحائر ثم قال له: أعيد عليك سؤالي هذا «ما الذي دفع إبراهيم لفعل ذلك؟» - إنك ما زلت صبيا صغيرا لا تعرف من شئون الناس شيئا. إن إبراهيم يخشاك كما يخشى الفأر القط. أتجهل ما يحل باسمه لو ظهر اسمك بين الكتاب مكللا بزهور الفصاحة والبلاغة؟ واعلم أن نفسه لا تود لك الخير؛ لأنه يخشى أن تكون كاتبا عظيما. - ولكن الوسيلة التي اتخذها لمنعي عن ذلك المقصد الشريف وسيلة تدل على دناءته وضعة نفسه، وما كان عهدي به كذلك. - إنه عرة قومه، وهل ظننته قبل اليوم من ذوي الشرف والحسب والنسب؟ أعوذ بالله من ذكر السوء عن الإخوان، ولكني مجبر على ذلك ، وما دعاني إلى ذكر حقيقة هذا الشاب إلا حبي لك وشغفي بما يخطه بنانك. - إني أشكرك يا عبد العزيز. - لي كلمة أخرى. - تكلم. - أود أن تكتب مقالا آخر تنشره في جريدة كبرى كالمؤيد أو الفاروق؛ لتكيد به هذا الوغد.
سكت حسن ونظر للأرض هنيهة ثم للسماء، وقال: لقد طلقت الإنشاء ثلاثا، وحاشا لمثلي أن ينغمر في حمأة الكتاب بعد اليوم. - ماذا تقول؟! أظن بك جنة يا عزيزي! - أنا سليم العقل، وأكره أن تناقشني في ذلك، ولا يغضبك قولي هذا ... - إني أسمع الناقوس يدق، فهيا بنا نتناول الغذاء.
وسار الاثنان جنبا لجنب إلى غرفة الطعام. •••
غادر حسن المدرسة قاصدا منزله، فلما وصل سأل عن أمه، فقيل له إنها ذهبت لبيت أخيها؛ لتعد مع زوجته معدات السفر، فقصد منزل خاله وفيه قابل والدته وزوجة خالة، وجلس معهما يتكلم في شئون السفر ويتأسف على الفراق، وكانت تسمعه لبيبة من وراء السجف وهي تبكي لكلامه وتتوجع لآلامه، ودخل عليهم خاله فقام حسن من كرسيه وقبل يده، وقال له: كيف حال خالي اليوم؟ عسى أن تكون في خير وسلام. - لا يؤلمني يا ولدي إلا فراقكم، ولقد حكم به القضاء، فعبثا نحاول دفعه. - هل من حيلة لرد هذا القدر؟ - إني أجد في السفر مأمنا يقيني شر رئيسي. - وهل ينوي لك الشر؟ - إنه يعمل على النكاية بي؛ لظنه أني أرميه في كل ناد بالرعونة والطيش والجهل التام. - ومن صاحب هذه الوشاية؟ - كثيرون يا ولدي، ولقد صفحت عنهم ولله الأمر.
ثم التفت عبد الرءوف أفندي لزوجته وقال لها: سنسافر بعد باكر، فهل أعددت كل شيء؟
فأجابته أخته قائلة: كدنا أن نتم كل شيء، ولم يبق إلا عدة حقائب سنجهزها غدا.
وأتت القطة «دلال» وتمسحت في أذيال سيدها، فأخذها على ركبتيه ولاعبها قليلا، وقال: وكيف نأخذ دلال معنا؟ هل أعددتم لها قفصا جميلا؟ أود أن تضعوا فيه قطعة من القماش حتى لا يؤلم جريد القفص عظام هذا الحيوان الجميل.
فأجابته زوجته: لقد هيأت لبيبة لها القفص قبل أن تهيئ حقائبنا، فلا يشغل بالك أمرها. - إني واثق من حب ابنتي لهذا الحيوان الصامت.
ثم التفت لابن أخته وقال: كيف حال كلبك سحاب؟ - لقد وجدته اليوم في ساحة محمد علي، ولا أدرى ماذا كان يصنع، فرافقني إلى الدار، ولقد تركته هناك. - إن سحاب كلب أمين.
فقالت أخته: ولكنه نجس. - يتهم الإنسان الكلب بالنجاسة؛ لأنه يغار من وفائه.
ثم قام إلى غرفته ليخلع ملابسه، ولما فارقها إلى الفسحة وجد الطعام مهيأ، فجلس مع زوجته وأخته وابن أخته يتناولون العشاء سويا. أما لبيبة فأكلت بعض ما تبقى منهم، وكانت تشعر بالسعادة والحزن في ساعة واحدة؛ سعادة قرب حبيبها منها، وحزن فراقها عنه بعد يومين.
فرغ القوم من العشاء، وودعت الأخت أخاها، وخرجت مع ابنها إلى منزلها، ومكثت معه هنيهة يتجاذبان أطراف الحديث، ثم قام حسن وقبل يدها، وأغلق باب غرفته بعد أن أشعل مصباحه وجلس أمام مكتبه يفكر. ثم أخذ القلم في يده وغمسه في الدواة وكتب في وسط السطر «الحاسد والمحسود»، ولبث بعدها عشر دقائق وهو بين عاملين يتجاذبانه؛ عامل الإقدام وعامل الإحجام، إلى أن تغلب العامل الأول على الثاني؛ فابتدأ في الكتابة وهو ممتقع اللون خافق القلب، وما زال يكتب سطرا ويشطب آخر إلى أن أتم مقالته، ثم قرأها لنفسه مرتين، وهو يتمشى في غرفته بعد أن أعاد كتابتها على ورق جيد، ثم طواها ووضعها في ظرف أعده لذلك، وكتب عليه بالثلث:
إدارة جريدة الفاروق
بشارع خيرت
مصر
حضرة رئيس التحرير
ورمى بها على مكتبه، ووقف يتمطى في الغرفة، ثم هدد الفضاء بيده كأنه يكلم شخصا خياليا، وقال بصوت خافت: «ستنشر هذه المقالة في الفاروق فيسعد المحسود ويشقى الحاسد.» ودخل إلى سريره وقد وثق بنفسه، واستغرق في نومه إلى أن أشرقت الشمس.
الفصل السابع
كان اليوم الثلاثاء، فهرعت طلبة المدرسة الخديوية إلى ملعب الكرة؛ لتشاهد فرقة مدرستها تلاعب فرقة إنكليزية تفوقت على فرق كثيرة، وكان حسن ممن يميلون لرؤية لعب الكرة، فرافق إخوانه إلى الملعب، وفي عزمه أن يشتري الفاروق من ميدان الحلمية. فلما وصل إلى الميدان تناول الجريدة من يد أحد البائعين، وأجال بصره في الصفحة الأولى فوجد مقالته الثانية، فقرأها مرتين وهو لم يبرح مكانه، وقد ارتعشت يداه، واصطكت أسنانه، وارتجف ساقاه، وبينما هو يقرأ مقالته إذ به يرى عبد العزيز مارا بجواره، فاستوقفه بنظرة دلت عما يخالج قلبه المسكين من السرور. فلما رآه عبد العزيز بارق الثغر لامع الصفحة، وقف يسأله السبب فقال: لعلك غير ما كان ...
ولكن حسنا لم يمهله ليتم جملته، وقال له وهو يسحب أذيال الغبطة: لقد نشر «الفاروق» مقالتي بعد أن مزقت «الحقائق» أختها. خذ واقرأ، ثم أعط الجريدة لصاحبك إبراهيم؛ لتقوم عنده قيامة الأحزان، وتضيفه الهموم والأشجان. اقرأ يا عبد العزيز، وثق بعد ذلك بأخيك حسن أمين؛ فقد أضاء نجم سعده، وأصبح ممن لا تفتح العين على مثلهم في الناس.
اصفر وجه عبد العزيز، وارتجفت شفتاه؛ لأنه كان ممن لا يريدون الخير لأحد، وتناول الجريدة من يد صاحبه، وأجال نظره في مقالته، وقد أظلمت الدنيا في عينيه، فتعسر عليه أن يفهم منها كلمة واحدة، فأمسك بالجريدة مدة وهو كالصنم لا يتحرك ولا يتكلم، إلى أن قال له حسن وهو ضاحك السن: هيا بنا إلى الملعب لنصله قبل ابتداء اللعب.
وسار الصديقان إلى المعلب وفي صدر أحدهما جنة البشر والسرور، وفي صدر الثاني جحيم الحقد والبغضاء.
اشترى حسن نسخة أخرى من الفاروق، ودخل بها الملعب، وأراها لكل من توسم فيه الصداقة والإخلاص، فطاف بها الملعب خمس مرات متواليات، استوقفه فيها إخوانه كثيرا، وأخيرا وقف بجوار الكشك يقرأ مقالته على فئة من إخوانه. •••
افترق عبد العزيز من حسن عند باب الملعب؛ لأنه لم يشأ أن يطوف معه الملعب، ووقف في ركن من الأركان يقرأ المقالة وهو يعض على شفتيه من الغيظ والكمد، وبعد أن أتمها سمع صوت إبراهيم يسري يطن في آذانه ... - أي مقال تقرأ يا عبد العزيز؟ - أقرأ مقال من مزقت مقالته، ورميت بها على الأرض! - أيجرأ حسن على الكتابة في الفاروق؟ - خذ واقرأ .
أخذ إبراهيم الجريدة وقرأ المقالة إلى النهاية، وضحك ضحكة غير طبيعية، ثم رد الجريدة لعبد العزيز وقال له: لقد كان هزأة القوم وأضحوكتهم، فأصبح واسمه يكتب على صفحات الجرائد الكبيرة. - هذا ما يدهشني يا أخي.
ومر أمامهما حسن في هذه الساعة، فالتفت لإبراهيم وقال له: «سلام من رعمسيس الثاني إلى إبراهيم يسري سيد الكتاب في مصر.»
ومشى في طريقه دون أن يزيد حرفا، أو يسمع من إبراهيم كلمة، فالتفت إبراهيم لعبد العزيز وقال له: ما الذي يقصده من قوله؟
فلم يجب عبد العزيز، ولكن نظرته كانت توحي لإبراهيم ما معناه «كما يدين الفتى يدان». •••
انتهى لعب الكرة، فخرج حسن مع من خرجوا وهو يميد سرورا وفرحا، وقد أنسته مقالته العالم أجمع؛ نسي أمه الحنون، وحبيبته الوفية، وبيته وكلبه، وكل من يعرف من الأصحاب، ولم يفكر إلا في مقالته التي نشرها الفاروق، والفاروق شيخ الجرائد في مصر. لقد نال حسن ما كانت تصبو إليه نفسه، ولقد أثبتت له مقالته الجديدة أن البلاغة أنزلت على فؤاده، وأن الألفاظ السلسة سخرت لقلمه، وأنه غدا بين الكتاب سيدهم وأميرهم، بعد أن يئس من الفوز في مضمارهم. وقف حسن في وسط الطريق ينظر للسماء رافعا يديه يشكر الله على هذه النعمة، ويسأله أن يديمها عليه، ثم سار في طريقه ينتحي جهة منزله، فلما وصل صعد السلم وهو يجري إلى أن لاقى أمه في ردهة البيت، فألقى بنفسه في أحضانها يسكب دموع الفرح والهناء، وقال لها وقد تهدج صوته: لقد نشرت مقالتي يا أماه. إني سعيد الحظ. - أنشرت الحقائق مقالتك؟ - لقد نشرها الفاروق. - وهل أرسلت له مقالة جديدة؟ - كتبتها ليلة أول أمس، وأرسلتها له صباح أمس فنشرها اليوم.
فقبلته أمه وهي محزونة الصدر، فساءه ذلك؛ لأنه لم يعهد منها إلا الفرح لفرحه والحزن لحزنه، فنظر إليها نظرة العاتب كأنه يسألها الإفصاح عن حزنها وكمدها، وحانت منه في هذه اللحظة التفاتة إلى نوافذ بيت خاله، فوجدها مقفلة، فالتفت لأمه وقال: وهل سافروا صباح اليوم؟ - كان في عزمهم السفر غدا - كما تعلم - ولكنهم سافروا فجأة صباح اليوم.
لم يجب حسن على كلام أمه، ودخل غرفته ليقف هنيهة أمام النافذة يندب الهوى ويبكي الفراق. لقد انقضت أحلامه اللذيذة. تحطم سراج حبه الوهاج، وغدا يسكن بيت حبيبته قوم لا صلة بينه وبينهم. لقد كتب له القضاء البؤس حتى في يوم سعده؛ ففارقته حبيبته يوم نشرت مقالته، فلم يتيسر لها أن تشاركه هذا الفرح العظيم.
وللقضاء أحكام تحار فيها العقول.
جلس حسن على كرسي كان بجوار النافذة، وأرسل دمعة تحدرت على خديه تخط عليهما ما قدرته له الأيام.
الفصل الثامن
بعد عامين
رجلان قطعا من الحياة نصف مرحلتها؛ الأول معمم، والثاني مطربش. الأول له لحية كثة وأنف كبير وعينان لهما إطار أحمر، وضعته يد الخمر والسهر، وجبة سوداء يصح لنا أن نطلق عليها كلمة نظيفة، ولو أنها لا تخلو من بعض بقع لا تظهر إلا لعين الفاحص المدقق. والثاني حليق ذو أنف أفطس وعينين براقتين يلمع فيهما نور الذكاء، وبدلة كلح لونها، وعذره في ذلك أنها بدلة عمل. الأول مصري مسلم، والثاني سوري مسيحي. هذا يشتغل في الفاروق ليحرر باب الأخبار ويصحح ما يكتبه كتاب الأقاليم، وذاك ليترجم النبذ السياسية عن الجرائد الفرنسية. والغرفة التي كانا بها مساحتها أربعة أمتار في خمسة، وليس بها إلا مكتبان وعدة كراسي من الخيزران، ولوحة معلقة فوق مكتب الأستاذ ومكتوب عليها بالثلث «الفاروق».
جلس الأستاذ أمام مكتبه وخلع عمامته ثم وضعها فوق كتاب المصباح المنير، وابتدأ يداعبها بيده اليسرى، ويشرب لفافة تبغ بيده اليمنى بعد أن انتهى من شرب فنجان القهوة. أما الأقلام والأوراق، فكانت ملقاة فوق المكتب بعضها فوق بعض، ووقف الأفندي أمامه واضعا يسراه على كرسي من الخيزران، وممسكا بيمينه جريدة الماتان. يقرأ فيها فصولها الهامة. فابتدر الأستاذ صاحبه قائلا: تفضل سيجارة. - أشكرك. لقد انتهيت من أختها منذ قليل.
واستمر الأفندي في المطالعة والأستاذ في أفكاره الخيالية حتى أعياه التفكير، فنظر لصاحبه فوجده قد طوى جريدته، وهم بالذهاب لمكتبه فاستوقفه قائلا: هل من جديد؟ - أكاد لا أجد شيئا يستوقف النظر، اللهم إلا مقالة عن الزواج في أمريكا ربما اشتغلت بعد حين بترجمتها. - وما قولك في مقال أمين خربوش؟ - أحسده على سمو خياله ورقة أسلوبه، وآسف لفقر مادته. - صدقت. لو كان مثلك له دراية باللغات الإفرنكية لبز هيجو وشكسبير. - يا صديقي، اللغات تفتح للأعين طريقا مغلقة، ولكن لانكساب النفس مواهب جديدة. - وهل تظن أن خربوشا محروم من مواهب الفن؟ - من مواهب الابتكار فقط، والابتكار أساس الكتابة. - وهل قرأت قصيدة علي بدر. لقد دفع إلي بها رئيسنا لتنشر في صدر الجريدة. - أظنها لا تخلو من المدح. - كعادته. - أف لشعرائنا الكرام؛ فقد قل من يعتني منهم بالخيال والمعنى. - وما تقصد بذلك؟ - أقصد أن الشعر لا يستعذبه القارئ إلا إذا كان لشاعره وحي من السماء. - الشعر يا صاحبي، هو اللفظ الحسن والديباجة الأنيقة.
سكت الأفندي هنيهة وهو مطرق للأرض، ثم رفع رأسه وحدق في وجه الأستاذ وقال: «ربما!»
وذهب توا إلى مكتبه، وهم بالترجمة فإذا بالأستاذ يقول له: لعل لك رأيا آخر؟
فابتدأ الأفندي في الكتابة، وقال وهو ينظر في الجريدة: «ربما!»
فعز على شيخنا ذلك فقال: أتهزأ يا بحري أفندي بالكلام المنسجم واللفظ الأنيق؟! - حاشا أن أكون ذلك الرجل، ولكني أكبر على شعرائنا المفلقين أن يصرفوا همهم للغزل والمدح والرثاء والهجو، وينتقون لذلك الديباجة المليحة واللفظ الشائق، ويغفلون عن تلك الروح العالية التي إذا قرأها القارئ جرت في نفسه مجرى الماء المثلوج في صدر الظامئ.
وسكت عن الكلام مشتغلا بالكتابة. فنظر له الأستاذ نظرة عتاب واستهجان، وأمسك بقلمه ليكتب، وخط على الورقة في السطر الأول: «داس قطار المطرية مساء أمس بجوار محطة منشية الصدر غلاما يبلغ العاشرة فأسال دماءه، وهشم عظامه، ونحن نستلفت أنظار أصحاب ...» وإذا به يسمع من النافذة صوتا رقيقا يناديه قائلا: عم صباحا يا شيخ عبد الله.
فرفع رأسه لاتجاه الصوت، ولما عرف صاحبه ابتسم وقال: صباح الخير يا حسن أفندي. تفضل.
وإذا بصاحب الصوت يقرئ السلام بحري أفندي فرده بما هو أحسن منه، ودخل حسن أمين عليهما وجلس على كرسي بعد أن صافحهما، ثم التفت يمنة ويسرة ورفع رأسه للسقف ثم قال: إني أتيتكم اليوم بالمقال الأول من مقالات «خواطر».
فقال الأستاذ: وكم عدد هذه المقالات الشائقة؟ - ربما أربت على العشرين. - ما شاء الله. - وأود أن تظهر المقالة الأولى في الفاروق اليوم. - وهل اطلع عليها البيك؟ (وكان البيك صاحب الجريدة.) - سأطلعه عليها بعد حين.
جرى هذا الحديث الصغير، وبحري أفندي مشتغل بالترجمة كأنه في واد والآخرون في واد آخر. فالتفت حسن له وقال: وما رأي بحري أفندي؟ - وعن أي شيء يريد سيدي الكريم أن أبدي رأيي؟ - عن الخواطر. - المقالات التي وعدت الفاروق بها؟ - نعم. - إني أرحب بها كما أرحب بك الآن. - شكرا لك، وهل في عزمك ترجمة مقالات الفيجارو عن المرأة المصرية؟ - ربما صح مني العزم. - يا حبذا لو أقدمت على ذلك، وأخرجت تلك المقالات ذات التخيل اللطيف والمنهج الواضح! - أخشى أن تذهب الترجمة بحسنها الرائع. - هذا تواضع أجل صاحبه عنه.
ثم التفت حسن للشيخ عبد الله، وقال: وما ذاك الخبر الذي نشرته أمس؟ - أي خبر؟ - خبر استقالة مدير مصلحة البريد. أصحيح ذلك؟ - الفاروق لا ينشر غير الأخبار الصادقة، وإن نشرها قبل أن تتحقق. - لله درك!
وإذا بأحد الخدم داخلا وفي يديه ورقتان دفع بهما للشيخ عبد الله وهو يقول: بريد زفتى وميت غمر يرجو البيك أن تصلح ما به من خطأ.
فتناول الأستاذ الورقتين وهو يقول: «الأولى بك أن تقول: «البك يرجوك في كتابته من جديد».»
وخرج الخادم وكأنه لم يسمع ما قاله الأستاذ.
فالتفت حسن لشيخنا المسكين، وقال: أيسرك إصلاح بريد الأقاليم؟ - مرة في كل شهر. - بل قل مرة في كل عام، وهل عزم الفاروق على زيادة صفحاته إلى اثنتي عشر؟ - هذا ما لا علم لي به، ولا أظن مذيع هذا الخبر صادقا. - ولم؟ - يصعب علينا أن نملأ ثماني صفحات طويلة عريضة، فأنى لنا أن نحرر اثنتي عشرة صفحة، ومن من المصريين يقدم على مطالعتها؟ - المصريون متشوقون للمطالعة. - إذا كان ما نكتبه في جرائدنا من نوع مقالاتك، وأمثالك - كما نعلم جميعا - قليلون في هذا البلد الأمين. - إنك تطريني يا شيخ عبد الله. - أنا لا أقول إلا الصدق، فإن ظننت فيه الإطراء فشأنك وما تظن. - أشكرك، ولو أني أظنني أقل كفاءة من ذلك.
وهم واقفا فقال له بحري: وإلى أين؟ - أود أن أرى البك.
وخرج مسرعا لا يلوي على أحد. •••
كان محمود بك عبد اللطيف صاحب الفاروق ورئيس تحريره جالسا أمام مكتبه يحرر المقالة الافتتاحية، وكانت الغرفة التي كان جالسا بها مزدانة بأفخر الرياش، وبها لوحة كبيرة مكتوب عليها بالثلث «بسم الله الرحمن الرحيم.
إنا فتحنا لك فتحا مبينا »، وصورة متقنة للبك مرسومة بالزيت، صنعها له أحد ماهري الرسامين بمصر.
جلس البك جلسة الكاتب المفكر ينظر للنافذة تارة؛ ليستجمع أفكاره، وللورقة تارة أخرى؛ ليخط ما يمليه عليه قلبه. فلما انتهى من مقالته سمع خادمه الخصوصي يقول له: أحمد بك أبو شنق ينتظر في غرفة الاستقبال. - أدخله.
ودخل البك الجديد مهرولا يتعثر في أذيال جبته وقفطانه، وصاح بملء فيه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام ورحمة الله.
وهم البك واقفا وصافح زائره بيده وأجلسه في صدر المكان، وقدم له سيجارة بعد أن أمر الخادم أن يأتيه بفنجان قهوة، وابتدأ يحادثه وهو يبتسم. - لقد تكرم البك بزيارة الفاروق فمرحى له وأهلا وسهلا به. - لقد تشرفت بهذه الزيارة التي كانت تطمح إليها نفسي منذ عام. إني مشترك بالفاروق، وأقرؤه كل يوم، ويلذ لي مطالعته كثيرا، ولولا إقامتي في الريف لكنت أول من يكثر التردد على صاحبه. فعذرا يا سيدي عذرا، والكريم من يقبل العذر. - إن عذر سيدي البك مقبول على العين والرأس، أما زيارته لإدارة الفاروق فهي منة كبرى لا أنساها أبد الدهر. - ولقد أتيت بالاشتراك فأرجو قبوله.
فأظهر صاحب الجريدة امتعاضا، ولكنه قرع الجرس، وأمر الخادم أن يناديه بأحد رجال الإدارة. وما غاب الخادم دقيقة حتى عاد ومعه محمود أفندي المنوفي محصل الاشتراكات، وإليه دفع البك قيمة الاشتراك، فلما قدم إليه الوصل ليمضيه، اعتذر البك لألم في يده وسأله أن يمضيه عنه، وكان البك من العمد الذين لم يتعلموا القراءة ولا الكتابة، وانصرف محمود أفندي حاملا في يده الدراهم بعد أن أعطى لأبي شنق الوصل ممضيا عليه.
وتحادث صاحب الجريدة مع البك عن أحوال بلدته، وعن الأمن العام فيها، وعن رأيه في النفي الإداري، وأبدى له الزائر آراء لولا كرم الضيافة لقهقه لسماعها صاحب الجريدة هازئا ساخرا. وانصرف البك بعد أن شرب القهوة وهو يتعثر بأذيال جبته وقفطانه ويصيح بملء فيه «السلام عليكم.»
ولما خلا صاحب الجريدة بنفسه قرع الجرس ودفع للخادم بالمقالة الافتتاحية ليذهب بها لتنشر، ومكث هنيهة يضرب أخماسا في أسداس. ثم دخل عليه الخادم ليعلن قدوم زائر جديد.
دخل الزائر فلم يقم له عبد اللطيف بك لما بينهما من الود والإخاء، فصافحه الزائر ثم جلس بعد أن سأل صاحب الجريدة أن يعطيه سيجارة، أعطاها له عن طيب خاطر وهو يبتسم، وابتدأ الحديث قائلا: كيف حالك اليوم؟ - على ما يرام. لقد أتيت مبكرا. أليس في عزمك الذهاب للمحكمة؟ - ليس عندي من القضايا ما يبعثني على زيارة المحكمة اليوم، وعندي من المحامين - كما تعلم - من يقوم بأداء الواجب بالنيابة عني. - حسنا فعلت. - أتيت لأحادثك بشأن المقالة التي تعرضت لك فيها إحدى جرائد أمس. أتسكت عن هذه الوقاحة؟ - السكوت خير وأولى. - ليست هذه الجريدة من الجرائد الساقطة التي تبيع شرفها في سبيل المال، وليست المقالة مقالة مدح ولا ذم، والسكوت يسيء من سمعة الفاروق؛ فأولى لك أن تكتب ردا يكبح جماح أعدائك، ويرد كيدهم في نحرهم. - أتستصوب ذلك؟ - بلا شك. إن الفاروق هو الجريدة الإسلامية الوحيدة المنتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ فخذ لنفسك الحيطة يا صديقي، واعمل؛ إن الله مع العاملين.
مكث صاحب الفاروق هنيهة يفكر، ثم نظر لصديقه نظرة طويلة، وقال: ستظهر المقالة غدا. - بل اليوم. - محال لقد أزف الوقت، وليس عندي متسع للكتابة. - إذن فلنرجئها للغد. وما الذي أنت عازم على فعله مع المحرر السوري؟ - قررت فصله. - وهل هو عليم به؟ - كلا ، سأعلمه به بعد اتفاقي مع من سأستعيض به عنه. - وهل وفقت لشاب حسن السيرة والسريرة؟ - نعم، ولا ينقصني إلا الاتفاق معه.
ودخل عليهما في هذه الساعة حسن أمين وهو باسم الثغر، فالتفت عبد اللطيف بك لصاحبه المحامي وأسره هذه الجملة: «افتكرنا القط جانا ينط»، وصافح حسن أمين المحامي بعد أن قدمه له صاحب الفاروق، وجلس الثلاثة يتجاذبون أطراف الحديث. فقال المحامي: لقد حادثني عبد اللطيف بك عن حضرتكم كثيرا، ومدح لي غيرتكم على تقدم الصحافة.
فاحمر وجه حسن، وقال بصوت متهدج: إني لا أستحق كل هذا المديح. - إنك لا تحب أن تذكر الناس حسناتك، وهذا شأن كل نابغة عظيم. - حاشا لله أن أكون نابغة؛ لأني ما زلت تلميذا أتلقى العلم في المدارس الثانوية. - وفي أي مدرسة أنت؟
فأجاب صاحب الجريدة: في السنة الرابعة بالمدرسة الخديوية.
فأجاب المحامي: ما شاء الله.
وقال صاحب الجريدة: ولم يمنعه اشتغاله بالعلم من مساعدة جريدة كجريدة الفاروق. - هذه خصلة حميدة تثبت لنا تعلقك الشديد بالصحافة، وكلفك بها.
فأجاب حسن، وهو يتردد في القول: هذا من حسن أفضالكم وجميل سجاياكم.
فقال المحامي: وأي المواضيع يطرقها حسن أفندي؟ - أكتب في مواضيع خيالية، وأحب المقالات الأخلاقية، ولي كلف بترجمة ما يكتب في الجرائد الإنكليزية. - شيء جميل. إني أبشرك بمستقبل عظيم. ستغدو يوما ما صاحب جريدة. - هذا حلم جميل. - الأحلام تتحقق يا صديقي، إذا ارتكن الإنسان على نفسه.
فقال صاحب الفاروق مخاطبا حسنا: وهل أتيتنا بشيء جديد؟ - بالمقال الأول من مقالات خواطر.
وأخرج من جيبه رزمة أوراق دفعها لصاحب الجريدة. فدق عبد اللطيف بك الجرس وأعطى المقالة للخادم آمرا إياه أن يدفع بها لتنشر. فقال لعبد اللطيف بك: كنت أود أن يقرأ البك المقالة ليصححها. - نحن لا نصحح ما تجود به قرائح رصفائنا، ولكن قل لي متى ينتهي امتحانك؟ - بعد خمسة عشر يوما. - أود أن تمر علي بعد انتهائك منه لأحادثك في مسألة هامة. - إني رهن إشارتك.
وهم المحامي واقفا، واستأذن في الخروج وهو يقول لحسن: أعيد عليك جملتي السالفة: «الأحلام يا ولدي تتحقق إذا ارتكن الإنسان على نفسه.»
ثم خرج بعد أن صافح صديقيه.
وحسن لا يعوزه في الدنيا إلا ارتكانه على نفسه، فهل يفلح في مسعاه؟!
ثم جلس صاحب الجريدة؛ ليفاوض حسنا في اشتغاله بالفاروق رئيسا لقلم الترجمة.
ملحوظات ختامية (1)
حسن يرسل لحبيبته خطابا باسم صاحبة لها مدرسة. (2)
امتحان البكالوريا - سقوط حسن. (3)
خطاب من حبيبته. (4)
مشاجرة مع أمه. لا يريد دخول الامتحان مرة أخرى. أول مرة أهان أمه فيها. (5)
يرد على خطاب حبيبته ويعتذر إليها. (6)
دخوله الفاروق كمحرر. (7)
أصبح محررا، وأصبحت حياته كما يأتي: يقضي عصر يومه في القهاوي، وليله في محال الخمور. (8)
يتعرف بشبان أغنياء يغرونه على القمار. (9)
أصبح حسن مقامرا. (10)
مشاجرة مع والدته من أجل القمار.
إنه في احتياج شديد للدراهم. تقرضه والدته. (11)
الوالدة تبيع حليها. (12)
يتعود الذهاب متأخرا لدار الفاروق، ويبدأ أن يهمل أعماله. (13)
يذهب إلى إحدى الحانات ليلا، فيقضي فيها ليلته للصباح، ثم يقصد دار الفاروق ثملا مترنحا. (14)
يطرد نهائيا من دار الفاروق. (15)
أصبح حسن محررا صعلوكا يعيش عيشة الأدنياء الساقطين.
صفحه نامشخص