وكان هؤلاء الأتراك، على الرغم من سذاجتهم، يقبلون على الدنيا ولكن في غير استهتار أو انغماس؛ ولذلك لا نستغرب أن الإغريق في القسطنطينية كانوا يصفون الرجل المستقيم الذي يوثق بكلمته بأنه «تركي».
واذا كان الأتراك قد تغيروا بعد ذلك وانغمسوا في الملاهي والملذات فإنما جاءتهم هذه العدوى من العادات الإغريقية السابقة، وكثيرا ما نجد المثال والعبرة في الشعب القوي الفاتح يخضع لعادات الانحلال واللهو التي كان يمارسها الشعب المغلوب والتي كانت سببا لهزيمته.
ولو أن الدولة الإغريقية، أي الرومانية الشرقية، أتاح لها التاريخ أن تحيا إلى الآن لكان في بقائها إلى عصرنا هذا امتداد للظلام وليس زيادة في النور. •••
نحن الأمة العربية لنا الحق في القول بأن التاريخ قد ظلمنا باستيلاء الأتراك على أوطاننا؛ لأن هذا الاستيلاء كان استعمارا بكل ما تحمل هذه الكلمة من المعاني السيئة، بل هو كان يزيد على مساوئ الاستعمار العصري بأنه لم يكن نيرا، أي لم يكن يحسن إدارة الحكومة كي يحسن الاستغلال للأمم المحكومة.
وقد كنا نحن في مصر إلى سنة 1517، وهي السنة التي دخلت فيها بلادنا في حوزة الاستعمار التركي، من أعظم الأمم في العالم حضارة، وكانت التجارة العالمية بين آسيا وبين أوروبا تلتقي في القاهرة والإسكندرية، وكنا على اتصال بأوروبا، وهو اتصال كان جديرا بأن ينقل إلينا نهضتها، ولكن الاحتلال التركي حال دون ذلك، واحتجنا إلى قرابة ثلاثة قرون، ونحن في عزلة إلى أن جاءنا نابليون فشرعنا نستأنف اتصالنا بأوروبا والحضارة العصرية.
ثم لم نكسب من الأتراك لغة حية أو ثقافة ناهضة كما كسب الهنود مثلا من الإنجليز، حين أخذوا بلغتهم وثقافتهم اللتين جعلتا منهم أمة عصرية.
كنا نحن الأمة العربية فيما بين 1715 و1800 نعيش في ظلام لا يختلف من ظلام القرون الوسطى، بل ربما يزيد، بسبب الاحتلال العثماني.
وإلى هنا تنتهي الزاوية السيئة من الاكتساح العثماني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. •••
ولكن سقوط القسطنطينية قبل خمسمائة سنة، في أيدي الأتراك، بعث هجرة اللغة الإغريقية إلى أوروبا، فإن كثيرين من المثقفين الإغريق، أي: الرومان الشرقيين، وجدوا أن العيش في ظل الأتراك لم يعد يلائمهم، فتركوا بلادهم ونزحوا إلى روما وباريس وغيرهما، ولم يكن الأوروبيون يعرفون اللغة الإغريقية القديمة فتعلموها من هؤلاء النازحين، واتصلوا عن سبيلها بالفلاسفة والأدباء والعلميين من الإغريق القدماء، وأخصب هذا الاتصال أذهانهم التي لم تكن تعرف من الثقافة سوى تلك الثقافة الدينية التي لم تكن تتجاوز ديورة الرهبان، والتي كان من المحرم في كثير من الأحوال أن تتجاوز دراسة الكتب المقدسة.
وسمي هذا الاتصال بالإغريق القدماء بالحركة البشرية، والمعنى هنا أن الثقافة الجديدة لا تعتمد على الإلهيات والكتب الدينية فقط، وإنما تعتمد أيضا على «البشر»، على المعارف، وليس على العقائد.
صفحه نامشخص