فهنا نجد أن منهج ديكارت هو منهج المفكر القاعد على الكرسي يعالج المشكلة كما لو كانت سيكلوجية فقط خاصة به.
ولكن منهج بيكون التجريبي في هذه المشكلة يطالبنا ببحث الأديان جميعها كما عرفها الإنسان، والفكرة الخاصة بالله عند جميع الأمم القديمة والحديثة، ثم البحث عن حلقات التطور في سلسلة العقائد إلى أن نصل إلى الإيمان العصري، أي: إننا نعتمد على المشاهدة والاختبار اللذين يقومان هنا مقام التجربة باليد بدلا من أن نعتمد على التفكير المجرد، ونحن قعود على كراسينا.
وقد أوذي التفكير الأوروبي بالفصل الذي أقامه ديكارت بين العقل والمادة، أو الروح والجسم، ولكن ديكارت وهو يحاول الوصول إلى اليقين عن سبيل الشك المنظم قد زاد الشكوك وحطم الثقافة التقليدية، أي: ثقافة القرون الوسطى، وقد احتاجت أوروبا إلى سبينوزا (1632-1677) كي تحقق اتزانا جديدا يجعل الروح، أي: العقل والنفس، خاصة من خواص المادة والجسم، فقد ناقض سبينوزا ديكارت ووحدت فلسفته بين المادة والعقل، ولكنه اتفق مع ديكارت أن الفلسفة لا تكون صحيحة إلا إذا استطعنا التعبير عن حقائقها بالرياضيات ...
أثر الأدب العربي في الآداب الأوروبية
من الحقائق المسلم بها، أن النزعة العلمية التي شاعت في أوروبا في عصر النهضة، ترجع أصولها إلى التجارب الكيمائية التي كان يجريها العرب لتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، إذ أن تلك التجارب كانت بمثابة البذرة أو الخميرة «للمنهج العلمي» الحديث.
ولذلك يرى الأوروبيون أن للعرب فضلا كبيرا على العلم الحديث، فهل نستطيع أن ننسب لهم فضلا كذلك على الأدب الغربي؟ الرأي السائد في أوروبا أن الأدب العربي بعيد كل البعد عن الأدب الغربي، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف من قراء الأدب الأوروبي أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربي، فقد استقر في الأذهان، أن الأدب الغربي ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتيني والإغريقي، وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الأدب العربي أصلا من أصول الآداب الأوروبية الحديثة، ولعل أبرزهم جميعا المستشرق «جيب» أستاذ اللغة العربية بجامعة لندن الذي نلخص له هذه السطور من كتابه «تراث الإسلام». «في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا، كان طرازا جديدا في موضوعه وفي أسلوبه ومعانيه، ولم يكن لهذا النوع من الشعر أساس في الأدب الفرنسي القديم: وهو يشبه الشعر الأندلسي شبها قويا جدا، إذ هو ضرب من الموشحات والأزجال الأندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري. «أليس من المعقول إذن أن نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد، إلى الشعر العربي الأندلسي، وخاصة إذا علمنا أن نظرية «الحب العذري» التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي الجنوبي، ليس لها أصل في الأدبين اللاتيني والإغريقي؟».
لقد دلل المستر جيب على هذا الرأي في الكتاب الذي أشرنا إليه تدليلا قويا لا يدع مجالا للشك في صحته. •••
ليس الأمر مقصورا على الشعر الفرنسي، ولكن الشعر الإيطالي أيضا تأثر تأثرا قويا بالشعر العربي في صقلية، وخاصة في عهد «فريدريك الثاني» الألماني.
وقد يشك في أن الشعر الأوروبي قد تأثر قليلا أو كثيرا بالشعر العربي، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن نثر القرون الوسطى في أوروبا يرجع في كثير من أصوله إلى النثر العربي، فقد كان الأدب التقليدي في القرون الوسطى أدبا صارما جامدا، يخاطب الخاصة ولا ينزل لأفهام العامة، ومن هنا كانت الحاجة العامة إلى ذلك الضرب من الأدب الخيالي الذي يعنى بإشباع الحواس أكثر مما يعنى بالمنطق والعقل، فلما نقلت إلى أوروبا بعض «الحكايات» ذات المغزى، وبعض القصص الخرافية كقصة السندباد البحري وما إليها، وجد فيها الشعب حاجته المنشودة، وأقبل عليها إقبالا شديدا، فأصبحت بمثابة الخميرة للأدب «الخيالي» الجديد الذي أخذ ينازع الأدب التقليدي القديم مكانه، ومن ثم ذاعت القصص الخيالية الرومانتية ذيوعا عظيما، ولو فحصنا عن هذه القصص، لوجدنا أن كثيرا منها يرجع إلى أصل عربي بحت، وهناك قصة فرنسية يسمى بطلها «القاسم» وهو اسم عربي لا شك فيه.
يتضح من هذا أن التيارات الشعبية في الأدب الأوروبي في القرون الوسطى كانت أقرب إلى روح الأدب الشرقي منها إلى الأدبين اللاتيني والإغريقى اللذين كانا بطبيعتهما أميل إلى الأرستقراطية، ذلك أن الأدب الشرقي في جملته ينزع إلى الخيال والألوان الزاهية الجذابة، فكانت أوروبا كلما احتكت بالشرق استلهمت روحه، وتأثرت بأدبه أشد تأثر، فتأصل الأدب الخيالي الجديد في أوروبا وترعرع حتى كاد يزحزح الأدب التقليدي من مكانه.
صفحه نامشخص