ما الحياة؟: الجانب الفيزيائي للخلية الحية
ما الحياة؟: الجانب الفيزيائي للخلية الحية
ژانرها
مقدمة
1 - منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول الموضوع
2 - الآلية الوراثية
3 - الطفرات
4 - دليل ميكانيكا الكم
5 - مناقشة واختبار نموذج ديلبروك
6 - النظام والفوضى والإنتروبيا
7 - هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
خاتمة: عن الحتمية والإرادة الحرة
مقدمة
صفحه نامشخص
1 - منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول الموضوع
2 - الآلية الوراثية
3 - الطفرات
4 - دليل ميكانيكا الكم
5 - مناقشة واختبار نموذج ديلبروك
6 - النظام والفوضى والإنتروبيا
7 - هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
خاتمة: عن الحتمية والإرادة الحرة
ما الحياة؟
ما الحياة؟
صفحه نامشخص
الجانب الفيزيائي للخلية
الحية
تأليف
إرفين شرودنجر
ترجمة
أحمد سمير سعد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
استنادا إلى محاضرات ألقيت تحت رعاية معهد دبلن للدراسات المتقدمة بكلية ترينيتي في دبلن، في فبراير 1943.
إلى ذكرى والدي.
صفحه نامشخص
مقدمة
يفترض في العالم أن يمتلك معرفة كاملة وشاملة، مستقاة من الخبرة الشخصية المباشرة، ب «بعض» الموضوعات؛ لذا غالبا ما يتوقع ألا يكتب عن أي موضوع ليس خبيرا به. يعتبر هذا من التزامات النبلاء. أرجو - تحقيقا لغرضنا الحالي - أن أتخلى عن هذا النبل، إن وجد، وأن أتحرر من كل ما يترتب عليه من التزامات، وعذري في ذلك ما يلي:
لقد ورثنا عن أسلافنا ذلك التلهف الشديد إلى المعرفة الموحدة والشاملة، بل إن الاسم ذاته الذي أطلق على أرقى المؤسسات التعليمية - ألا وهو الجامعة - يذكرنا بأن الطابع «الجامع الشامل» هو الجدير وحده بنيل كامل الفضل والثناء، وذلك منذ العصور المغرقة في القدم، وعبر قرون عديدة. غير أن التوسع في شتى فروع المعرفة، من حيث الكم والعمق، خلال المائة عام الأخيرة واجهنا بمعضلة غير تقليدية؛ إذ بتنا نشعر، بما لا يدع مجالا للشك، بأننا قد بدأنا الآن فقط نتحصل على مادة موثوق فيها تمكننا من دمج كل ما هو معلوم في كيان واحد، لكن من ناحية أخرى أصبح أقرب إلى المستحيل أن يلم عقل واحد بما هو أكثر من قدر ضئيل ومتخصص من هذه المادة على نحو تام.
لا أرى مفرا من هذه المعضلة (لكيلا نحيد عن هدفنا الحقيقي إلى الأبد) إلا أن يقدم بعضنا على الجمع بين الحقائق والنظريات في توليفات جديدة، وإن كان ذلك من خلال معرفة غير مباشرة وقاصرة ببعض منها، ومجازفة بخداع أنفسنا.
هذا هو عذري. •••
لا يمكن تجاهل صعوبات اللغة؛ فاللغة الأم لأحدنا بمنزلة رداء مناسب تماما لمقاساته؛ فلا يشعر المرء أبدا بالراحة إن لم يكن متاحا، وتعين عليه أن يرتدي آخر بدلا منه. لذا، أود أن أعرب عن شكري لأفضال د. إنكستر (كلية ترينيتي، دبلن)، ود. بادريج براون (كلية سان باتريك، ماينوث)، وأخيرا وليس آخرا، السيد إس سي روبرتس. لقد تعرض ثلاثتهم لصعوبات جمة لأجل أن يجعلوا الرداء الجديد مناسبا لي، وتعرضوا لمصاعب أعظم لممانعتي أحيانا التخلي عن أسلوبي «الأصلي». وفي حال صمد هذا الأسلوب أمام توجه أصدقائي لكبح جماحه، فإن المسئولية ينبغي أن تلقى على عاتقي لا عاتقهم.
كان من المزمع أصلا استخدام عناوين الأقسام المتعددة للكتاب ملخصات هامشية، أما متن كل فصل، فيجب أن يقرأ متصلا.
إرفين شرودنجر
دبلن
سبتمبر 1944
صفحه نامشخص
الإنسان الحر لا يفكر في الموت إلا أقل القليل؛ فحكمته تسوقه إلى إمعان التفكير في الحياة، لا الموت.
سبينوزا، «علم الأخلاق»، الجزء 4، قضية 67
الفصل الأول
منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول
الموضوع
أنا أفكر، إذن أنا موجود.
ديكارت (1) الطابع العام للكتاب والغرض منه
ولد هذا الكتاب الصغير من رحم مجموعة محاضرات عامة، ألقاها أحد علماء الفيزياء النظرية أمام نحو أربعمائة من الحضور الذين لم يتقلص عددهم كثيرا، على الرغم من تحذيرهم في البداية من أن الموضوع قيد البحث من الموضوعات الصعبة، وأن المحاضرات ليست موجهة للعامة، على الرغم من أن الاستنتاج الرياضي - وهو من أكثر أسلحة الفيزيائي المحاضر إثارة للفزع - لم يكن سيستخدم إلا فيما ندر. لم يكن ذلك لأن الموضوع كان بسيطا للغاية بحيث يمكن شرحه دون الاستعانة بعلم الرياضيات، بل لأنه كان على درجة من التعقيد يتعذر معها التناول الرياضي له على نحو كامل. ثمة سمة أخرى أعطت على الأقل بعضا من الجاذبية للمحاضرات، ألا وهي نية المحاضر بأن يوضح الفكرة الأساسية التي تتراوح بين علمي الأحياء والفيزياء، لكل من عالم الفيزياء وعالم الأحياء.
وعلى الرغم من تنوع الموضوعات المتضمنة فالمقصود، في الواقع، من هذا الجهد في مجمله هو إيصال فكرة واحدة فقط؛ تعليق واحد صغير على سؤال كبير ومهم. وحتى لا ننحرف عن الطريق، ربما يكون من المفيد أن نضع الخطوط العريضة للخطة المتبعة هنا على نحو مختصر جدا مقدما.
إن السؤال الكبير المهم الذي نوقش كثيرا هو:
صفحه نامشخص
كيف يمكن للفيزياء والكيمياء أن تفسرا الأحداث التي تقع «في الزمان والمكان» داخل الكائن الحي؟
الإجابة المبدئية التي سيسعى هذا الكتاب الصغير لشرحها والتأسيس لها يمكن تلخيصها في التالي:
إن العجز الواضح للفيزياء والكيمياء بصورتيهما الحاليتين عن تفسير هذه الأحداث ليس سببا على الإطلاق للشك في إمكانية تفسيرهما لها. (2) الفيزياء الإحصائية: الاختلاف الجوهري في التركيب
سيكون ذلك تعليقا تافها لو كان المقصود منه مجرد إثارة الأمل في أن نحقق في المستقبل ما لم نحققه في الماضي. لكن المعنى المقصود أكثر إيجابية بكثير؛ أي إن العجز القائم حتى يومنا هذا مبرر تماما.
اليوم، وبفضل العمل البارع لعلماء الأحياء، خاصة علماء الوراثة، خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية، صرنا نعرف قدرا من المعلومات عن التركيب الفعلي للمادة التي تشكل الكائنات الحية ووظائفها، يكفي ليؤكد ويفسر بدقة عجز الفيزياء والكيمياء المعاصرتين عن تفسير ما يحدث في الزمان والمكان داخل الكائن الحي.
إن ترتيبات الذرات في أكثر الأجزاء حيوية من الكائن الحي والتفاعل بين هذه الترتيبات، يختلفان بصورة جوهرية عن كل تلك الترتيبات الذرية التي جعلها علماء الفيزياء والكيمياء مادة لأبحاثهم التجريبية والنظرية حتى الآن. لكن الاختلاف الذي أطلقت عليه لتوي جوهريا هو من النوع الذي قد يبدو بسهولة طفيفا لأي أحد ما عدا الفيزيائي المتشرب تماما بمعرفة تنص على أن قوانين الفيزياء والكيمياء يحكمها الإحصاء على الدوام.
1
فمن وجهة النظر الإحصائية يختلف تركيب الأجزاء الحيوية للكائنات الحية اختلافا تاما عن تركيب أي مادة تعاملنا معها، نحن الفيزيائيين أو الكيميائيين، تعاملا ماديا في معاملنا، أو عقليا على مكاتبنا.
2
يكاد يكون من غير المتصور أن يكون للقوانين وأوجه الانتظام التي اكتشفت تطبيق فوري بالضرورة على سلوك الأنظمة التي لا تحمل ذات التركيب الذي بنيت عليه هذه القوانين وأوجه الانتظام.
صفحه نامشخص
ليس من المتوقع أن يلم غير المشتغلين بالفيزياء - فضلا عن أن يقدروا - دلالة هذا الاختلاف في «التركيب الإحصائي» المعبر عنه على نحو مجرد للغاية كالذي استخدمته للتو. وفي سبيل منح الأمر نبضا وحيوية، سأستبق وأذكر ما سيأتي شرحه تفصيلا فيما بعد؛ ألا وهو أن أكثر أجزاء الخلية الحية أهمية، وهو الليفة الكروموسومية، قد يكون مناسبا أن نطلق عليه «البلورة غير المنتظمة أو الدورية». لم نتعامل في الفيزياء حتى اللحظة الراهنة إلا مع «البلورات المنتظمة». في نظر الفيزيائي العادي، تعد الأخيرة مواد شائقة ومعقدة للغاية؛ فهي تمثل واحدامن أكثر تركيبات المادة روعة وتعقيدا التي تخلب بها الطبيعة غير الحية لبه. غير أنها بسيطة ومملة إذا ما قورنت بالبلورات غير المنتظمة. يشبه الفارق في تركيبهما ذلك الفارق بين ورق حائط عادي وتحفة فنية مطرزة ومزخرفة، كلوح رافايل النسيجي المطرز مثلا؛ ففي المثال الأول، يتكرر النمط نفسه مرة تلو الأخرى على نحو دوري منتظم، أما في الثاني، فلا تكرار ممل، بل تصميم دقيق محكم ذو مغزى، نسجه فنان بارع.
إنني أقصد هنا الفيزيائي الحق عندما قلت إن البلورة المنتظمة تعد أكثر المواد تعقيدا في بحثه. إن الكيمياء العضوية، من خلال بحثها ومحاولتها سبر أغوار جزيئات أكثر تعقيدا، اقتربت كثيرا في الحقيقة من البلورة غير المنتظمة التي في رأيي هي المادة الحاملة للحياة؛ لذا ليس عجيبا أن يكون لعلماء الكيمياء العضوية إسهامات كبيرة مهمة بالفعل في معضلة الحياة، بينما إسهامات الفيزيائيين تكاد تكون معدومة. (3) منهج الفيزيائي العادي في تناول الموضوع
بعد أن أوضحت بإيجاز شديد الفكرة العامة - أو بالأحرى النطاق الرئيسي - لبحثنا، دعوني أصف طريقتي في تناول الأمر.
أقترح بداية أن نتوسع فيما يمكن لكم أن تدعوه ب «أفكار الفيزيائي العادي عن الكائنات الحية»، وهي الأفكار التي قد تبزغ في ذهن الفيزيائي الذي درس الفيزياء، خاصة الأساس الإحصائي لها، ثم بدأ التفكير في الكائنات الحية، وفي طريقة سلوكها وأدائها وظائفها، وسأل نفسه على نحو واع عما إذا كان يستطيع أن يسهم بما له صلة بالمسألة؛ وذلك من خلال ما تعلمه، ومن منظور علمه البسيط والواضح والمتواضع نسبيا.
سينجلي الأمر عن استطاعته. أما الخطوة التالية فيجب أن تكون مقارنة تكهناته النظرية بالحقائق البيولوجية. سيتبين لاحقا أنه بالرغم من أن أفكاره في مجملها تبدو معقولة تماما، فإنها بحاجة إلى تعديلات كبيرة. بهذه الطريقة يمكن لنا تدريجيا أن نقترب من الطريق الصحيح، أو بتعبير أكثر تواضعا، الطريق الذي أرى أنه صحيح.
حتى لو كنت مصيبا في ذلك، فلا أدري إن كان أسلوبي هذا هو الأفضل والأسهل أم لا لكنه، باختصار، أسلوبي. و«الفيزيائي العادي» هو أنا، ولم أجد أي أسلوب أوضح أو أفضل لتحقيق هدفي إلا أسلوبي الملتوي ذلك. (4) لماذا تتسم الذرات بحجمها الشديد الضآلة؟
من الأساليب الجيدة للتوسع في «أفكار الفيزيائي العادي» البدء بذلك السؤال الغريب، الذي يكاد يكون سخيفا: لماذا تتسم الذرات بحجمها الشديد الضآلة؟ إن الذرات، بداية، صغيرة للغاية بالفعل، ويحوي كل جزء صغير من المادة التي نتعامل معها في حياتنا اليومية عددا هائلا منها. قدم الكثير من الأمثلة لتوضيح هذه الحقيقة وتيسير فهمها على المتلقين، لكن أشدها إثارة للإعجاب هو ذلك المثال الذي ضربه اللورد كلفن: افترض أنك قادر على وضع علامة على الجزيئات التي يحتويها كوب ماء لتمييزها، وأنك صببت محتوى الكوب في المحيط، وقلبت المحيط جيدا حتى تتوزع الجزيئات المميزة بالتساوي على مائه؛ إذا أخذت كوبا من الماء من أي موضع في المحيط، فستجد فيه ما يقارب المائة من جزيئاتك المميزة.
3
يتراوح الحجم الفعلي للذرات
4
صفحه نامشخص
بين 1 / 5000 و1 / 2000 من الطول الموجي للضوء الأصفر. إن للمقارنة مغزاها لأن الطول الموجي يحدد على وجه التقريب أبعاد أصغر جسم يمكن رصده بالمجهر، وهكذا سوف يتبين أن هذا الجسم الصغير ما زال يحوي آلاف الملايين من الذرات.
والآن، لماذا تبدو الذرات شديدة الضآلة؟
يبدو واضحا أن هذا السؤال مراوغ؛ لأنه لا يقصد في الواقع حجم الذرات ، بل حجم الكائنات الحية، وبالأخص حجم ذواتنا المادية أو أجسادنا. تبدو الذرة صغيرة بالفعل بالنسبة إلى وحدات الطول المدنية التي نستخدمها، كالياردة أو المتر. في الفيزياء الذرية، من المعتاد استخدام وحدة قياس تسمى الأنجستروم (ورمزها
Å ) وهي تساوي 10
10
جزء من المتر، أو في الترقيم العشري، 0,0000000001 متر. والقطر الذري يتراوح بين 1 و2 أنجستروم. إن وحدات القياس المدنية تلك (التي تبدو الذرة متناهية الصغر بالنسبة إليها) ذات صلة وثيقة بحجم أجسادنا. هناك قصة ترجع أصل الياردة إلى الحس الفكاهي لأحد ملوك إنجلترا الذي سأله مستشاروه عن وحدة القياس التي سيعتمدونها، فمد ذراعه إلى جانبه، وقال: «خذوا المسافة من منتصف صدري إلى أطراف أصابعي، وسوف يفي هذا بالغرض.» وسواء أكانت القصة حقيقية أم لا، فهي دالة على غرضنا؛ فالملك أشار تلقائيا إلى طول يمكن مقارنته بطول جسده، مدركا أن أي شيء آخر لن يكون ملائما للغاية. ورغم ولع الفيزيائي بالأنجستروم، فإنه يفضل أن يقال له إن بزته الجديدة تحتاج إلى ست ياردات ونصف الياردة من الصوف، على أن يقال له: إنها تحتاج إلى خمسة وستين مليار أنجستروم من الصوف.
اتفقنا إذن على أن الغرض الحقيقي لسؤالنا هو إبراز النسبة بين طولين، طول جسدنا وطول الذرة، وبما أن للذرة ووجودها المستقل أولوية لا مراء فيها، فإن السؤال في الحقيقة هو: لماذا تبدو أجسادنا غاية في الضخامة مقارنة بالذرة؟
يمكنني أن أتخيل أن كثيرا من طلاب الفيزياء أو الكيمياء المتحمسين ربما يستنكرون الحقيقة القائلة إن كل عضو من أعضاء الحس في أجسادنا، الذي يشكل جزءا كبيرا منها بصورة أو بأخرى (في ضوء القيمة المذكورة عنها)؛ ومن ثم يتكون من عدد لا يحصى من الذرات، إنما هو من القوة بحيث لا يظهر عليه تأثير أي ذرة منفردة. نحن لا نستطيع أن نرى الذرات المنفردة أو نشعر بها أو نسمعها، وفرضياتنا عنها تختلف اختلافا كبيرا عن النتائج الفورية التي ترصدها أعضاء حسنا الضخمة، ولا يمكن اختبارها بالملاحظة المباشرة.
هل من مفر من ذلك؟ هل يوجد سبب جوهري لذلك ؟ هل يمكن إرجاع هذا الوضع إلى مبدأ أول، حتى نتأكد ونفهم لماذا لا يتناسب شيء ما مع قوانين الطبيعة؟
هذه قضية يستطيع الفيزيائي، هذه المرة، أن يوضحها تمام التوضيح. إن الجواب عن كل هذه التساؤلات إنما هو بالإيجاب. (5) عمل الكائن الحي يتطلب قوانين فيزيائية دقيقة
صفحه نامشخص
لو لم يكن الأمر كذلك، أي لو كنا كائنات حية حساسة للغاية لدرجة أن ذرة واحدة أو حتى بضع ذرات قادرة على إحداث تأثير ملموس على حواسنا، فيا إلهي! كيف كانت ستبدو الحياة؟! دعونا نؤكد نقطة واحدة: إن كائنا حيا كهذا لن يتمكن، بكل تأكيد، من تطوير هذا النوع من التفكير المنظم الذي يؤدي في النهاية، بعد اجتياز سلسلة طويلة من مراحل سابقة، إلى تكوين فكرة الذرة، من بين الكثير من الأفكار الأخرى.
رغم اختيارنا تلك النقطة فقط، فإن الاعتبارات التالية سوف تنطبق أيضا بالضرورة على عمل الأعضاء الأخرى بخلاف المخ والجهاز الحسي. غير أن الشيء الواحد والأوحد محل اهتمامنا البالغ في ذواتنا هو أننا نشعر ونفكر وندرك. فبالنسبة إلى العملية الفسيولوجية المسئولة عن التفكير والإحساس، كل ما عدا ذلك يلعب دورا ثانويا، من المنظور البشري على الأقل إن لم يكن من المنظور البيولوجي الموضوعي البحت. إضافة إلى ذلك، مما سيسهل كثيرا من مهمتنا، هو أن نختار لبحثنا العمليات التي تجري مصحوبة بأحداث غير موضوعية، رغم جهلنا بالطبيعة الحقيقية لهذه المصاحبة الوثيقة. وأرى، في الحقيقة، أن ذلك يقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، وغالبا خارج نطاق الفهم البشري كله.
يجابهنا إذن السؤال التالي: لماذا من الضروري أن يتكون عضو كالمخ، والجهاز الحسي المتصل به، من عدد هائل من الذرات، من أجل أن تكون حالته المتغيرة فيزيائيا في توافق وثيق مع تفكير غاية في التطور؟ وعلى أي أساس لا تكون المهمة الأخيرة للعضو المذكور متوافقة مع كونه، في مجمله أو في بعض من أجزائه الطرفية المتفاعلة مباشرة مع البيئة، آلية دقيقة وحساسة بما يكفي لتتأثر بذرة واحدة من الخارج وتستجيب لها؟
يعزى ذلك إلى أن ما نطلق عليه التفكير أولا: هو في ذاته أمر منهجي؛ وثانيا: لا يمكن تطبيقه إلا على مادة ما، أي على مدركات أو خبرات، على درجة معينة من المنهجية والترتيب. إن لمثل هذه الحقيقة نتيجتين؛ الأولى: لكي يكون أي نظام فيزيائي في توافق وثيق مع التفكير (كتوافق مخي مع تفكيري)، لا بد أن يكون نظاما في غاية الترتيب، وهو ما يعني امتثال الأنشطة التي تجري داخله لقوانين فيزيائية صارمة، على درجة عالية جدا من الدقة على الأقل. أما النتيجة الثانية، فهي أن التأثيرات الفيزيائية التي تحدثها أجسام أخرى من الخارج على هذا النظام المتصف بالترتيب الفيزيائي الجيد تتوافق بوضوح مع إدراك التفكير المطابق وخبرته، مكونة مادته، كما أطلقت عليها. وعلى هذا، يجب أن تتسم في الغالب التفاعلات الفيزيائية بين نظامنا والأنظمة الأخرى بدرجة معينة من التنظيم الفيزيائي؛ أي بعبارة أخرى، ينبغي أن تمتثل لقوانين فيزيائية صارمة على درجة معينة من الدقة. (6) القوانين الفيزيائية تستند إلى إحصاءات ذرية؛ ومن ثم فهي تقريبية فقط
لماذا لا يمكن أن يتحقق كل ذلك في كائن حي مكون من عدد متوسط من الذرات فقط، وحساس بالفعل لتأثير ذرة واحدة أو عدد قليل من الذرات فحسب؟
لأننا نعرف أن كل الذرات تقوم طوال الوقت بحركة حرارية غير منتظمة تماما، وتتعارض، إن جاز التعبير، مع سلوكها المنتظم، وهو ما لا يسمح للأنشطة التي تجري بين عدد ضئيل من الذرات أن تخضع لأي قوانين معروفة. لا تبدأ القوانين الإحصائية عملها، ولا تتحكم في سلوك الذرات بدقة، إلا في حالة تعاون عدد هائل من الذرات، وتزداد دقة القوانين الإحصائية مع تزايد عدد الذرات المشاركة، وبهذه الطريقة تكتسب الأنشطة سمات منظمة حقيقية. تتصف كل القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تلعب دورا مهما في حياة الكائنات الحية بهذه السمة الإحصائية؛ أي نوع آخر من المطابقة أو التنظيم الذي قد نفكر فيه، سيضطرب ويتعطل دائما بفعل الحركة الحرارية الدائبة للذرات. (7) تعتمد الدقة على العدد الكبير من الذرات المشاركة (7-1) المثال الأول: «البارامغناطيسية»
دعوني أوضح ذلك بأمثلة قليلة اخترتها عشوائيا إلى حد ما من بين آلاف الأمثلة، وربما لا تكون أفضل ما يجذب قارئا يطلع لأول مرة على مثل هذه الظاهرة، التي تعد أساسية وجوهرية في الفيزياء والكيمياء المعاصرتين، وتعادل في أهميتها الحقيقة القائلة إن الكائن الحي مكون من خلايا في علم الأحياء، أو قانون نيوتن في الفلك، أو حتى سلسلة الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4، 5 ... في الرياضيات. ينبغي ألا يتوقع القارئ المبتدئ أن يكتسب من الصفحات القليلة القادمة فهما وتقديرا كاملين للموضوع الذي يقترن بأسماء لامعة، مثل لودفيج بولتسمان وويلارد جيبز، والذي تتناوله المراجع تحت اسم «الديناميكا الحرارية الإحصائية».
إذا ملأت أنبوبا مستطيلا من زجاج الكوارتز بغاز الأكسجين ثم وضعته في مجال مغناطيسي، فستجد الغاز قد تمغنط.
5
ترجع هذه المغناطيسية إلى أن جزيئات الأكسجين عبارة عن مغناطيسات صغيرة، وتميل إلى الوجود بمحاذاة المجال المغناطيسي، كإبرة البوصلة، لكن يجب ألا تظن أن جميعها تتوازى بالفعل؛ إذ لو ضاعفت قوة المجال المغناطيسي، فستحصل على ضعف المغناطيسية في الجسم الأكسجيني. ويستمر هذا التناسب حتى يصل إلى مجالات ذات قوة شديدة، مع ازدياد المغناطيسية بمعدل ازدياد قوة المجال.
صفحه نامشخص
شكل 1-1: البارامغناطيسية.
يعد هذا مثالا واضحا على نحو خاص على قانون إحصائي بحت. فتعمد الحركة الحرارية إلى المقاومة المستمرة للوضعية التي يميل المجال إلى إنتاجها؛ إذ تعمل هذه الحركة على ترتيب الجزيئات في وضعية عشوائية. يسفر هذا الصراع في الحقيقة عن مجرد تفضيل بسيط للزوايا الحادة على تلك المنفرجة بين المحاور الثنائية القطب والمجال. وعلى الرغم من أن الذرات المنفردة تغير وضعياتها باستمرار، فإنها تنتج في المتوسط (نظرا لعددها الضخم) ترجيحا ضئيلا وثابتا للوضعية في اتجاه الحقل، وعلى نحو متناسب معه. يعود الفضل في هذا التفسير البارع إلى الفيزيائي الفرنسي بي لانجفان، ويمكن التأكد منه بهذه الطريقة: لو أن المغناطيسية الضعيفة المرصودة هي حقا نتيجة الاتجاهات المتنافسة؛ أي المجال المغناطيسي الذي يعمل على ترتيب كل الجزيئات بحيث تكون متوازية، والحركة الحرارية التي تعمل على ترتيبها في وضعية عشوائية، فحري إذن أن يكون من الممكن زيادة المغناطيسية بإضعاف الحركة الحرارية؛ أي بتقليل الحرارة، بدلا من تقوية المجال. يتأكد ذلك بالتجربة التي ستخلص إلى أن المغناطيسية تتناسب عكسيا مع درجة الحرارة المطلقة، وهو ما يتفق كميا مع الجانب النظري (قانون كوري)، بل إن المعدات الحديثة تمكننا عن طريق خفض درجة الحرارة من تقليل الحركة الحرارية إلى مقدار غاية في الضآلة بحيث يسمح للميل التوجيهي للمجال المغناطيسي بفرض سيطرته على نحو كاف على الأقل، إن لم يكن تاما، لإنتاج قدر كبير من «المغناطيسية الكاملة»، وفي هذه الحالة لن نتوقع أن تؤدي مضاعفة قوة المجال إلى مضاعفة المغناطيسية، بل ستزداد الأخيرة بقدر أقل فأقل مع زيادة قوة المجال، مقتربة مما يسمى «التشبع». إن مثل هذا التنبؤ تأكد كميا أيضا بالتجربة.
لاحظ أن هذا السلوك يعتمد بالكامل على عدد ضخم من الجزيئات التي تتعاون في إنتاج هذه المغناطيسية الملاحظة، وإلا فلن تكون المغناطيسية ثابتة على الإطلاق، بل ستشهد على تقلبات الصراع بين الحركة الحرارية والمجال، وذلك بتذبذبها العشوائي من لحظة إلى أخرى. (7-2) المثال الثاني: «الحركة البراونية والانتشار»
إذا ملأت الجزء السفلي من إناء زجاجي مغلق بالضباب المتكون من قطرات دقيقة من الماء، فستجد أن الحد العلوي من الضباب قد بدأ ينحدر تدريجيا بسرعة محددة بدقة، تحددها لزوجة الهواء وحجم القطرات وثقلها النوعي. لكنك متى فحصت إحدى هذه القطرات تحت المجهر، فستجد أنها لا تنحدر دائما بسرعة ثابتة، بل تؤدي حركة غير منتظمة للغاية، وهي التي يطلق عليها الحركة البراونية، والتي تتوافق مع انحدار منتظم في المتوسط فحسب.
إن هذه القطرات ليست بذرات، لكنها صغيرة وخفيفة بما يكفي لتكون معرضة لتأثير إحدى تلك الجزيئات، التي تطرق أسطحها في تأثير دائم. هكذا تتعرض تلك القطرات لخبطات طوال الوقت، ولا يسعها الاستجابة لتأثير الجاذبية إلا بمعدلات متوسطة.
شكل 1-2: الضباب المنحدر.
شكل 1-3: الحركة البراونية لقطرة منحدرة.
يبين هذا المثال كم سيبدو حالنا مضحكا ومضطربا إذا ما قدر لحواسنا أن تكون معرضة لتأثير عدد قليل من الجزيئات. توجد بكيتريا وكائنات حية أخرى على قدر من الضآلة يجعلها تتأثر بشدة بهذه الظاهرة؛ إذ تتأثر حركاتها بالتقلبات الحرارية في الوسط المحيط، ولا خيار أمامها. إن كانت لتلك الكائنات قدرة مستقلة على التحرك، فربما تنجح في التنقل من مكان لآخر لكن ببعض الصعوبة؛ لأن الحركة الحرارية تتقاذفها كقارب صغير في بحر هائج.
شكل 1-4: الانتشار من اليسار إلى اليمين في سائل ذي تركيزات متنوعة.
إن «الانتشار» ظاهرة قريبة جدا من الحركة البراونية. تخيل وعاء ممتلئا بسائل، فلنقل ماء، مع كمية ضئيلة من مادة ملونة ذائبة فيه، فلنقل برمنجنات البوتاسيوم، دون تركيز موحد، بل كما هو موضح في الشكل
صفحه نامشخص
1-4 ؛ حيث تدل النقاط على جزيئات المادة الذائبة (البرمنجنات) وتضاؤل تركيزها من اليسار إلى اليمين. لو أنك تركت هذا النظام دون تدخل، فستبدأ عملية بطيئة جدا من «الانتشار»؛ حيث ستنتشر البرمنجنات من اليسار إلى اليمين؛ أي من المواضع الأعلى تركيزا إلى تلك الأقل تركيزا، إلى أن تتوزع على نحو متساو في الماء.
إن الأمر المميز في هذه العملية البسيطة التي قد تبدو في ظاهرها غير مثيرة للاهتمام هو أنها ليست - كما قد يظن المرء - نتيجة أي ميل أو قوة تقود جزيئات البرمنجنات بعيدا عن المنطقة المزدحمة إلى الأقل ازدحاما، تماما كانتشار سكان بلد ما إلى المناطق الأقل ازدحاما. لا شيء من هذا القبيل يحدث لجزيئات البرمنجنات في الحالة المذكورة، فكل واحد منها يتصرف باستقلالية تامة عن الجزيئات الأخرى، ولا تتلاقى تلك التصرفات إلا في القليل النادر. يعاني كل جزيء منها، سواء في منطقة مزدحمة أو خالية، المصير نفسه، ألا وهو تلقي الضربات المتواصلة من تأثيرات جزيئات الماء؛ ومن ثم التحرك تدريجيا في اتجاه غير متوقع، ناحية التركيز الأعلى أحيانا، وناحية التركيز الأقل أحيانا، وبميل أحيانا أخرى. كثيرا ما شبهت حركتها بحركة شخص معصوب العينين على سطح كبير وهو مفعم برغبة معينة في «المشي»، لكن بلا تفضيل لأي اتجاه خاص؛ ولذلك يغير مساره باستمرار.
إن ما يثير الحيرة لأول وهلة هو أن الحركة العشوائية لجزيئات البرمنجنات - وهي الحركة نفسها تماما للجزيئات جميعا - تؤدي إلى تدفق منتظم تجاه التركيز الأقل، وتؤدي في النهاية إلى توزيع منتظم، لكن الحيرة ستعتريك للوهلة الأولى فحسب. فإذا تأملت الشكل
1-4 ، فستلاحظ شرائح رقيقة ثابتة التركيز تقريبا. إن جزيئات البرمنجنات الموجودة في شريحة محددة في لحظة معينة سوف تحمل، بحركتها العشوائية، نحو اليمين أو اليسار باحتمالية متساوية. لكن نتيجة لذلك تحديدا، سوف يعبر المسطح الفاصل بين شريحتين متجاورتين عدد من الجزيئات القادمة من اليسار أكبر من تلك الآتية من الاتجاه المعاكس؛ وذلك ببساطة لأنه على اليسار يوجد عدد أكبر من الجزيئات المنخرطة في حركة عشوائية مقارنة بعدد الجزيئات المنخرطة في الحركة ذاتها على اليمين. وما دامت الحال كذلك فسيظهر التوازن تدفقا منتظما من اليسار إلى اليمين إلى أن نصل إلى توزيع منتظم.
عندما نترجم هذه الاعتبارات إلى لغة رياضية، سنتوصل إلى قانون الانتشار الدقيق في صورة معادلة تفاضلية جزئية:
لن أرهق القارئ بشرح المعادلة، على الرغم من أن معناها في اللغة العادية بسيط أيضا.
6
إن السبب وراء ذكر هذا القانون الصارم «المنضبط رياضيا» هو التأكيد على أن دقته الفيزيائية يجب اختبارها مع كل تطبيق معين. فنظرا لكونه مبنيا على الصدفة البحتة، فإن صحته لا تعدو أن تكون تقريبية فقط. ولو أنه تقريب جيد جدا، فذلك يعزى فقط إلى العدد الهائل من الجزيئات التي تعمل معا في هذه الظاهرة. وكلما قل العدد، ازدادت الانحرافات العشوائية التي يجب أن نتوقعها والتي يمكن ملاحظتها تحت ظروف مواتية. (7-3) المثال الثالث: «حدود دقة القياس»
آخر مثال سنضربه قريب جدا من المثال الثاني، لكن له أهمية خاصة. كثيرا ما يستخدم الفيزيائيون جسما خفيفا معلقا بخيط طويل رفيع في حالة اتزان لقياس القوى الضعيفة التي تحرفه عن وضع الاتزان، مع استخدام القوى الكهربية أو المغناطيسية أو قوى الجاذبية للفه حول محوره الرأسي. (الجسم الخفيف يجب - بكل تأكيد - اختياره بما يناسب الغرض المعين.) إن المجهود المستمر المبذول لتحسين دقة هذه الأداة الشائعة الاستعمال بكثرة التي تتسم ب «الاتزان الالتوائي»، قد جابهه حد غريب، شديد الإثارة في ذاته؛ فعند اختيار أجسام أخف فأخف وخيوط أرفع وأطول؛ وذلك كي نجعل الاتزان حساسا لقوى أضعف فأضعف، وصلنا إلى الحد الذي أصبح الجسم المعلق عنده حساسا على نحو ملحوظ لتأثيرات الحركة الحرارية للجزيئات المحيطة، وبدأ في أداء «رقصة» مستمرة غير منتظمة حول وضع الاتزان، تماما مثل ارتجاف القطرات في المثال الثاني. على الرغم من أن هذا السلوك لا يقر حدا مطلقا لدقة القياسات التي نحصل عليها عن طريق الاتزان، فإنه يضع حدا عمليا. إن تأثير الحركة الحرارية الذي لا يمكن التحكم فيه يتنافس مع تأثير القوة المراد قياسها، مما يجعل الانحراف الوحيد الملحوظ غير ذي بال. عليك مضاعفة مشاهداتك من أجل التخلص من تأثير الحركة البراونية لأداتك. أعتقد أن لهذا المثال قيمة توضيحية في بحثنا الحالي، فأعضاء حسنا في النهاية هي نوع من الأدوات. وهكذا نستطيع أن ندرك كيف ستصير هذه الأعضاء بلا فائدة لو أنها كانت حساسة أكثر من اللازم. (8) قاعدة
سنكتفي، حاليا، بهذا القدر من الأمثلة. سأضيف فقط أنه لا يوجد قانون واحد في الفيزياء أو الكيمياء ذو صلة بالكائن الحي أو بتفاعلاته مع بيئته قد لا أختاره مثالا. ربما يكون التفسير المفصل أكثر تعقيدا، لكن النقطة البارزة ستظل دائما واحدة، وهكذا سيصبح التفسير مملا ورتيبا.
صفحه نامشخص
لكنني أود أن أضيف عبارة كمية مهمة جدا تتعلق بدرجة عدم الدقة المتوقعة في أي قانون فيزيائي، وهو ما يدعى بقاعدة . سأوضحها بداية بمثال بسيط ثم سأعممه.
إذا أخبرتك أن غازا معينا تحت ظروف معينة من الضغط ودرجة الحرارة له كثافة معينة، وإذا عبرت عن ذلك بالقول إنه في داخل حجم معين من الغاز، يوجد تحت هذه الظروف عدد
من جزيئات الغاز، فربما تكون متأكدا أنك لو استطعت أن تختبر صحة عبارتي في لحظة محددة من الزمن، فسوف تجدها غير دقيقة. وسيكون الانحراف ما قيمته ؛ ومن ثم إذا كان
يساوي 100 فستجد انحرافا قيمته 10 تقريبا؛ ومن ثم يكون الخطأ النسبي 10٪. لكن عندما تساوي
مليون جزيء، فعلى الأغلب ستجد انحرافا يقدر بحوالي 1000، وسيكون الخطأ النسبي 1 / 10٪. إن هذا القانون الإحصائي ، بصورة إجمالية، عام إلى حد كبير، وقوانين الفيزياء والكيمياء الفيزيائية غير دقيقة ضمن حدود خطأ نسبي محتمل بقيمة ، حيث
هو عدد الجزيئات التي تتعاون كي تجسد هذا القانون؛ أي كي تحقق صحته ضمن هذه النطاقات من المكان أو الزمان (أو كليهما)، من أجل بعض الاعتبارات أو لتجربة محددة.
يتبين لك من هذا مرة أخرى أن الكائن الحي يجب أن يحظى ببنية ضخمة نسبيا حتى يتمتع بميزة القوانين الدقيقة نوعا ما، من أجل حياته الداخلية ومن أجل تفاعله مع العالم الخارجي، وإلا فسيفقد «القانون» دقته بشدة لو كان عدد الجزيئات المتعاونة أقل من اللازم. ويعد الجذر التربيعي هو المسألة الملحة للغاية؛ إذ على الرغم من أن المليون رقم ضخم إلى حد معقول، فإن دقة بقيمة 1 في الألف فقط هي دقة ليست جيدة للغاية لتصف شيئا يدعي شرف كونه أحد «قوانين الطبيعة».
هوامش
الفصل الثاني
الآلية الوراثية
صفحه نامشخص
الوجود أبدي، ومهمة القوانين هي الحفاظ على كنوز الحياة التي يعتمد عليها الكون في توفير الجمال.
جوته (1) توقعات الفيزيائي الكلاسيكي، بعيدا عن كونها تافهة، هي خاطئة
هكذا وصلنا إلى استنتاج أن الكائن الحي وجميع العمليات ذات الأهمية البيولوجية التي يشهدها يجب أن يتمتعا بتركيب يتكون من «عدد هائل من الذرات»، وأن يكونا بمأمن من إكساب الأحداث العشوائية «الأحادية الذرة» أهمية أكبر مما ينبغي. يخبرنا «الفيزيائي العادي» أن ذلك ضروري لكي يحظى الكائن الحي بقوانين فيزيائية دقيقة بما يكفي للاستعانة بها في تأسيس نشاطه البديع التنسيق والتنظيم. كيف تتسق هذه الاستنتاجات البديهية من منظور بيولوجي (أي من وجهة النظر الفيزيائية البحتة)، مع الحقائق البيولوجية الفعلية؟
يميل المرء للوهلة الأولى إلى الاعتقاد بأن الاستنتاجات لا تعدو كونها تافهة. ربما كان سيقول أي من علماء الأحياء، منذ ثلاثين عاما مثلا، إن تلك الاستنتاجات في الواقع من البديهيات المألوفة، على الرغم من أنه كان مناسبا تماما بالنسبة إلى محاضر ذي شعبية مثلي أن يشدد على أهمية الفيزياء الإحصائية فيما يتعلق بالكائن الحي كما هي فيما يتعلق بسواه . فمن الطبيعي أن يحتوي، ليس فقط جسم الكائن الحي البالغ في أي من الأنواع العليا لكن كل خلية منفردة مكونة له، على عدد «هائل» من الذرات الفردية من كل نوع. كما أن كل عملية فسيولوجية معينة نلاحظ حدوثها، سواء داخل الخلية أو في تفاعلها مع البيئة المحيطة، تبدو - أو بدت منذ ثلاثين سنة - أنها تشمل مثل هذه الأعداد الهائلة من الذرات الفردية والعمليات الذرية الفردية، بحيث تكون كل قوانين الفيزياء أو الكيمياء الفيزيائية ذات الصلة محمية حتى في ظل المطالب الشديدة الصرامة للفيزياء الإحصائية الخاصة بالأعداد الكبيرة، هذه المطالب التي أوضحتها آنفا من خلال قاعدة .
أصبحنا نعرف حاليا أن هذا الرأي كان خاطئا؛ فكما سنرى فيما يلي، تلعب مجموعات متناهية الصغر على نحو لا يصدق من الذرات - أصغر بكثير من أن يكون لها قوانين إحصائية دقيقة - دورا مسيطرا في الأحداث الشديدة التنظيم والانضباط التي تحدث داخل الكائن الحي. فهي تتحكم في الملامح الواسعة النطاق القابلة للرصد والتي يكتسبها الكائن الحي في أثناء تطوره، وتحدد خصائص مهمة لعمله، وفي خضم كل هذا تظهر قوانين بيولوجية شديدة الحدة والصرامة.
يجب أن أبدأ بتقديم مخلص مختصر للوضع في علم الأحياء، وعلى وجه الخصوص في علم الوراثة. بعبارة أخرى: علي أن ألخص الوضع المعرفي الحالي في مجال لست بارعا فيه. لا يمكن تجنب هذا، وأوجه اعتذاري لأي عالم أحياء على وجه الخصوص على ملخصي غير الاحترافي. ومن ناحية أخرى، أطلب الإذن بالسماح لي بعرض الأفكار الأساسية عليكم من دون الخوض في الأدلة الخاصة بها. فمن غير المتوقع أن يقدم فيزيائي نظري تقليدي عرضا وافيا للأدلة التجريبية، التي تتكون من عدد ضخم من السلاسل الطويلة والمتداخلة على نحو رائع لتجارب تكاثر، والتي أجريت ببراعة غير مسبوقة بالفعل من ناحية، ومن ملاحظات مباشرة للخلية الحية التي تمت بكل دقة باستخدام المجاهر الحديثة، من ناحية أخرى. (2) نص الشفرة الوراثية (الكروموسومات)
دعوني أستخدم كلمة «نمط» فيما يتعلق بالكائن الحي؛ لتحمل معنى ما يدعوه علماء الأحياء «النمط الرباعي الأبعاد » الذي لا يعني فقط تركيب هذا الكائن وأداءه وظيفته في مرحلة البلوغ، أو في أي مرحلة معينة أخرى، بل أيضا كل تاريخه التطوري، بداية من خلية البويضة الملقحة وحتى مرحلة البلوغ، عندما يبدأ الكائن الحي في التكاثر. حسنا، من المعروف أن هذا النمط الرباعي الأبعاد بأكمله يحدده تركيب خلية واحدة فقط، وهي البويضة المخصبة. إضافة إلى ذلك، نحن نعلم أنه يتحدد في الأساس بتركيب مجرد جزء صغير من هذه الخلية، وهو نواتها الكبيرة. تبدو هذه النواة في «حالة الراحة» العادية للخلية عادة شبكة من الكروماتين،
1
موزعة في جميع أنحاء الخلية. إلا أنها في أثناء عمليتي انقسام الخلية ذواتي الأهمية البالغة (الميتوزي والميوزي، انظر الأقسام التالية)، تظهر مكونة من مجموعة من الجسيمات، تشبه عادة شكل الليفة أو القضيب، تدعى الكروموسومات، يكون عددها 8 أو 12 أو 48، كما في الإنسان. ولكن في الواقع كان يجب علي أن أكتب هذه الأرقام التوضيحية على صورة 2 × 4، و2 × 6، ... و2 × 24، ... وكان يفترض بي أن أتحدث عن مجموعتين، حتى أستخدم هذا التعبير بمعناه المعتاد الدقيق لدى عالم الأحياء. فعلى الرغم من أن الكروموسومات الفردية أحيانا ما تكون متميزة ومتفردة بوضوح من حيث الشكل والحجم، فإن المجموعتين تكونان شبه متشابهتين بالكامل. فكما سنرى بعد قليل، تأتي مجموعة من الأم (خلية البويضة)، وتأتي مجموعة أخرى من الأب (الحيوان المنوي الملقح). وتحتوي هذه الكروموسومات، أو ربما مجرد ليفة هيكلية محورية لما نراه فعليا تحت المجهر كروموسوما، فيما يشبه نص الشفرة؛ على مجمل نمط التطور المستقبلي للفرد ووظائفه عند تمام نضجه. وتحتوي كل مجموعة مكتملة من الكروموسومات على الشفرة الكاملة؛ لذا كقاعدة توجد نسختان من الشفرة الكاملة في خلية البويضة المخصبة، التي تشكل أول مرحلة من مراحل تكون الفرد المستقبلي.
وعندما نطلق على تركيب الألياف الكروموسومية نص الشفرة، فإننا نعني أن العقل المدبر الذي تحدث عنه لابلاس في وقت ما، والذي ترتبط به كل علاقة سببية ارتباطا مباشرا، يمكنه أن يحدد من تركيب هذه الألياف ما إذا كانت البويضة ستنمو، في ظل ظروف مواتية ، لتصبح ديكا أسود اللون أم دجاجة مرقطة، أم ذبابة أم نبات ذرة، أم نبات ردندرة، أم خنفساء أم فأرا أم امرأة. ويمكننا أن نضيف إلى هذا أن أشكال خلايا البويضة تكون متشابهة دوما على نحو ملحوظ، وحتى عندما لا يحدث هذا، كما في حالة بيض الطيور والزواحف الضخم نسبيا، فإن هذا الاختلاف لا يكون في تركيبها إلى حد كبير بقدر ما يكون في المواد الغذائية التي تضاف في هذه الحالة لأسباب واضحة.
صفحه نامشخص
ومع هذا، فإن مصطلح نص الشفرة، بكل تأكيد، محدود للغاية؛ فتركيبات الكروموسومات تكون في الوقت نفسه أداة فعالة في تحقيق النمو الذي تؤذن بحدوثه. فهي شفرة قانونية وقوة تنفيذية - أو إذا استخدمنا تشبيها آخر فهي تشبه تصميم المهندس المعماري وحرفة البناء - في آن واحد. (3) نمو الجسم عن طريق انقسام الخلية (الانقسام الميتوزي)
كيف تتصرف الكروموسومات عند نمو الكائن الحي وتطوره؟
2
إن نمو الكائن الحي يتأثر بالانقسام التتابعي للخلايا، ويدعى هذا النوع من الانقسام الانقسام الميتوزي. وهو في حياة الخلية ليس من نوعية الأحداث المتكررة بالقدر الذي يتوقعه المرء، مع الأخذ في الاعتبار العدد الهائل من الخلايا التي تتكون منها أجسامنا. في البداية يكون النمو سريعا؛ فتنقسم البويضة إلى «خليتين وليدتين»، تنقسمان في الخطوة التالية إلى 4، ثم 8، ثم 16 و32 و64 خلية ... إلخ. لن يبقى معدل الانقسام نفسه بالضبط في كل أجزاء الجسم الآخذ في النمو، وهذا يقطع اتساق هذه الأرقام. لكننا نستنتج من تزايدها المتسارع بعملية حسابية سهلة أنه في المتوسط يكفي عدد قليل من الانقسامات يبلغ 50 أو 60 انقساما متتاليا لإنتاج عدد الخلايا الموجود في جسم رجل بالغ، أو لنقل عشرة أضعاف الرقم،
3
آخذين في الاعتبار تبادل الخلايا طوال الحياة. هكذا فإن أي خلية من خلايا جسمي، في المتوسط، هي «السليل» الخمسون أو الستون للبويضة التي نشأت منها. (4) في الانقسام الميتوزي، يتضاعف كل كروموسوم
كيف تتصرف الكروموسومات في الانقسام الميتوزي؟ إنها تتضاعف؛ تتضاعف كلتا المجموعتين، وكلتا نسختي الشفرة. خضعت هذه العملية لدراسة مكثفة تحت المجهر، وتحظى باهتمام هائل، لكنها تحتوي على كثير من الجوانب بحيث يصعب شرحها هنا بالتفصيل. النقطة البارزة هنا هي أن كلا من «الخليتين الوليدتين» تحصل على هبة تتمثل في مجموعتين كاملتين أخريين من الكروموسومات مشابهتين تماما لمجموعتي الخلية الأم؛ ولذلك تصبح كل خلايا الجسم متماثلة تماما من حيث مخزون كروموسوماتها.
4
ومهما كانت معرفتنا قليلة بالوسيلة التي يتم بها هذا، فلا يسعنا إلا الاعتقاد أنها حتما مرتبطة بطريقة ما ارتباطا وثيقا بوظيفة الكائن الحي، وأن كل خلية فردية، حتى الخلايا الأقل أهمية، يجب أن تملك نسخة كاملة (مزدوجة) من نص الشفرة. علمنا في وقت سابق من الصحف أن الجنرال مونتجومري في حملته على أفريقيا أصر على ضرورة إبلاغ كل جندي في جيشه بدقة بكامل خططه. إن كان هذا صحيحا (إذ من الممكن تصور هذا؛ نظرا لمستوى الذكاء العالي لجنوده وموثوقيتهم الكبيرة)، فإنه يمدنا بتشبيه رائع مناظر لحالتنا، تكون فيه الحقيقة المقابلة بالتأكيد صحيحة، وتكون الحقيقة الأكثر إثارة للدهشة تضاعف مجموعة الكروموسومات الذي يحدث طوال الانقسامات الميتوزية. هذا، وينكشف الملمح البارز للآلية الوراثية على أوضح ما يمكن بالاستثناء الوحيد عن القاعدة الذي علينا أن نتحدث عنه الآن. (5) الانقسام الاختزالي (الميوزي) والتخصيب (التكاثر الجنسي)
بعد بدء عملية نمو الفرد بوقت قصير جدا، تحفظ مجموعة من الخلايا كي تنتج في مرحلة لاحقة ما يسمى بالأمشاج؛ الخلايا المنوية، أو خلايا البويضات، بحسب الحالة، الضرورية لتكاثر الفرد عند البلوغ. ويعني «الاحتفاظ بها» أنها لا تستخدم في أغراض أخرى في هذا الوقت، وتتعرض لانقسامات ميتوزية أقل بكثير. والانقسام الاستثنائي أو الاختزالي (المعروف بالانقسام الميوزي) هو الذي من خلاله أخيرا عند البلوغ، تظهر الأمشاج، ويمكن تكوينها من هذه الخلايا المحفوظة، كقاعدة قبل حدوث التكاثر الجنسي بوقت قصير. وفي الانقسام الميوزي تنقسم مجموعة الكروموسومات الثنائية للخلية الأم ببساطة إلى مجموعتين منفردتين، تذهب كل واحدة منهما إلى كل خلية من الخليتين الوليدتين، الأمشاج. بعبارة أخرى، لا يحدث التضاعف الميتوزي في عدد الكروموسومات في الانقسام الميوزي، فيبقى الرقم ثابتا؛ ومن ثم يحصل كل مشج على نصف العدد فقط، بمعنى نسخة واحدة كاملة من الشفرة، وليس اثنتين؛ على سبيل المثال يوجد لدى الإنسان 24 كروموسوما فقط وليس 48 (أي 2 × 24).
صفحه نامشخص
توصف الخلايا التي تحتوي على مجموعة واحدة فقط من الكروموسومات بأنها أحادية الصيغة الكروموسومية؛ ومن ثم، فإن الأمشاج تكون أحادية الصيغة الكروموسومية، أما خلايا الجسم العادية فتكون ثنائية الصيغة الكروموسومية. يوجد أحيانا أفراد يمتلكون ثلاثا، أو أربعا أو أكثر من مجموعات الكروموسومات في جميع خلايا أجسامهم، ويطلق على هؤلاء ثلاثيي أو رباعيي ... أو متعددي الصيغة الصبغية.
وفي حالة التكاثر الجنسي يتحد مشج الذكر (الحيوان المنوي) ومشج الأنثى (البويضة)، وكل منهما خلية أحادية الصيغة الكروموسومية، ليكونا خلية البويضة المخصبة، التي تكون نتيجة لهذا ثنائية الصيغة الكروموسومية؛ فتأتي إحدى مجموعتي كروموسوماتها من الأم والأخرى من الأب. (6) الأفراد الأحاديو الصيغة الكروموسومية
ثمة نقطة أخرى بحاجة إلى تصحيح. ورغم كونها غير أساسية في غرضنا هنا، فإن لها أهمية حقيقية؛ لأنها توضح في واقع الأمر احتواء كل مجموعة فردية من الكروموسومات على نص شفرة كامل إلى حد ما من «النمط».
هناك حالات للانقسام الميوزي لا يتبعها التخصيب مباشرة، فتخضع الخلية الأحادية الصيغة الكروموسومية (المشج) للعديد من الانقسامات الخلوية الميتوزية، التي تؤدي إلى بناء فرد كامل أحادي الصيغة الكروموسومية. وهذا هو الأمر في حالة ذكر النحل الذي يتكون بالتكاثر العذري؛ أي من البيض غير المخصب؛ ومن ثم أحادي الصيغة الكروموسومية للملكة. لا يوجد أب لذكر النحل! وتكون جميع خلايا جسمه أحادية الصيغة الكروموسومية. ويمكنك إن أردت أن تطلق عليه حيوانا منويا مبالغا فيه إلى حد كبير، وفعليا، كما يعرف الجميع، تكون وظيفته الوحيدة في الحياة التصرف على هذا النحو. مع ذلك، ربما تبدو وجهة النظر هذه سخيفة. إلا أن هذه الحالة ليست فريدة من نوعها؛ فتوجد عائلات من النباتات، تسقط أمشاجها أحادية الصيغة الكروموسومية التي تتكون من الانقسام الميوزي، وتسمى أبواغا في هذه الحالة على الأرض، وتنمو كالبذرة لتصبح نباتا أحادي الصيغة الكروموسومية فعليا، يشبه في حجمه حجم النبات الثنائي الصيغة الكروموسومية. يظهر في الشكل
2-1
رسم تقريبي لأحد النباتات الحزازية، المعروف في غاباتنا. الجزء السفلي المورق منه هو نبات أحادي الصيغة الكروموسومية، يسمى النبات المشيجي؛ لأنه عند نهايته العليا تنمو أعضاء جنسية له وأمشاج، التي تنتج عن طريق التخصيب المتبادل بالطريقة المعتادة النبات الثنائي الصيغة الكروموسومية، الجذع العاري الذي توجد الكبسولة في أعلاه. يدعى هذا النبات البوغي؛ لأنه ينتج عن طريق الانقسام الميوزي الأبواغ في الكبسولة الموجودة في الجزء العلوي. وعندما تنفتح الكبسولة، تسقط الأبواغ على الأرض وتنمو لتصبح جذعا مورقا، وهكذا. يطلق على سير الأحداث هذا على نحو مناسب تعاقب الأجيال. ويمكنك، إن أردت، النظر إلى الحالة العادية - الإنسان والحيوان - على النحو نفسه. إلا أن «النبات المشيجي» بوجه عام هو جيل أحادي الخلية قصير العمر، حيوان منوي أو خلية بويضة بحسب ما تقضي الحالة. تشبه أجسامنا النبات البوغي؛ فتتمثل «أبواغنا» في الخلايا المحفوظة التي ينشأ منها، عن طريق الانقسام الميوزي، جيل أحادي الخلية.
شكل 2-1: تعاقب الأجيال. (7) الأهمية الكبيرة للانقسام الاختزالي
يتمثل الحدث المهم والحاسم حقا في عملية تكاثر الفرد، ليس في التخصيب بل في الانقسام الميوزي. فتأتي مجموعة من الكروموسومات من الأب، ومجموعة أخرى من الأم. لا يمكن للصدفة ولا القدر التدخل في هذا. فكل إنسان
5
يدين بنصف موروثاته فقط لأمه، وبالنصف الآخر لوالده. إن سيادة صفة أو أخرى باستمرار دون غيرها هو أمر يرجع إلى أسباب أخرى سنأتي إليها لاحقا. (والجنس نفسه، بالطبع، أحد أبسط الأمثلة على تلك السيادة.)
صفحه نامشخص
لكن حين تتتبع أصل موروثاتك حتى تصل إلى أجدادك، فإن الأمر يكون مختلفا. دعوني أركز اهتمامي على مجموعة كروموسوماتي الأبوية، وعلى وجه الخصوص على واحد منها، فلنقل الكروموسوم رقم 5. إنه صورة طبق الأصل إما من الكروموسوم رقم 5 الذي حصل عليه أبي من والده، أو ذلك الذي حصل عليه من والدته. تقرر هذا الأمر باحتمال 50:50 في الانقسام الميوزي الذي حدث في جسم أبي في نوفمبر عام 1886 وكون الحيوان المنوي الذي سيكون له دور فعال بعد بضعة أيام في إنجابي. ويمكن تكرار القصة نفسها مع الكروموسومات أرقام 1 و2 و3 ... و24 من مجموعة أبي، وبعد إجراء التعديلات اللازمة، مع كل من كروموسومات والدتي. بالإضافة إلى ذلك، يكون كل كروموسوم من الكروموسومات الثمانية والأربعين مستقلا بالكامل. فحتى إن كان معروفا أن كروموسومي الأبوي رقم 5 كان مأخوذا من جدي جوزيف شرودنجر، فإن ذلك الذي رقمه 7 ما زال ثمة احتمال متساو بأنني حصلت عليه من جدي أيضا، أو من زوجته ميري، التي كان لقبها قبل الزواج بوجنير. (8) العبور الكروموسومي: موضع الخصائص الوراثية
إلا أن الصدفة المحضة تحظى بنطاق أوسع عند خلط موروثات الأجداد في الذرية عما بدا في الوصف السابق؛ حيث ذكر افتراض ضمني، أو حتى ذكر صراحة أن كروموسوما معينا يأتي بالكامل من الجد أو الجدة، أو بعبارة أخرى، أن الكروموسومات الفردية تنتقل دون تقسيم. في الواقع لا يحدث هذا، أو ربما لا يحدث دائما. فقبل الانفصال في الانقسام الاختزالي، يقترب من بعضهما أي كروموسومين «متماثلين» حيث يتبادلان أحيانا أجزاء كاملة منهما على النحو الموضح في الشكل
2-2 . وعن طريق هذه العملية، التي يطلق عليها اسم «العبور الكروموسومي»، تنفصل بعد أيام خاصيتان وراثيتان تقعان في الأماكن المخصصة لهما في هذا الكروموسوم في جسم الحفيد الذي سيشبه الجد في إحداهما، ويشبه الجدة في الأخرى. أمدتنا عملية العبور هذه التي لا تعتبر شديدة الندرة أو بالغة الشيوع، بمعلومات لا تقدر بثمن حول موضع الخصائص الوراثية في الكروموسومات. ولأجل الحصول على إطلالة شاملة، علينا أن نعمد إلى مفاهيم لن نقدم لها قبل الفصل التالي (مثل تغاير اللواقح والسيادة ... إلخ). لكن بما أن هذا سيخرجنا عن نطاق هذا الكتاب الصغير، دعوني أشر إلى النقطة الأساسية التي أود التركيز عليها هنا على الفور.
فلو لم يكن هناك عبور للكروموسومات، لانتقلت أي خاصيتين يكون الكروموسوم نفسه مسئولا عنهما دوما معا عند عملية الخلط، ولم يكن أي سليل ليحصل على إحداهما دون الأخرى، لكن أي خاصيتين، نظرا لوجود اختلاف في كروموسوماتهما، يكون ثمة احتمال 50:50 لانفصالهما أو تنفصلان في جميع الأحوال، بحيث تحدث الحالة الثانية هذه عند وجودهما على كروموسومات متماثلة للسلف نفسه؛ ومن ثم لا تتحد إحداهما مع الأخرى أبدا.
شكل 2-2: «العبور الكروموسومي». الشكل الأيمن: كروموسومان متماثلان يقتربان جدا من بعضهما. الشكل الأيسر: الكروموسومان بعد عمليتي التبادل والانفصال.
يتداخل مع هذه القواعد والاحتمالات عملية عبور الكروموسومات؛ ومن ثم يمكن التأكد من احتمالية هذا الحدث عن طريق التسجيل الدقيق لنسب تركيب النسل في تجارب تكاثر موسعة، وضعت خصوصا على نحو مناسب من أجل هذا الغرض. وعند تحليل الإحصاءات، يتقبل المرء الفرضية العاملة الموحية التي تشير إلى أن «الارتباط» بين خاصيتين موجودتين على الكروموسوم نفسه يقل احتمال فكه بفعل العبور الكروموسومي كلما زاد اقترابهما من بعضهما؛ حيث سيقل احتمال وجود نقطة تبادل بينهما، في حين تنفصل الخصائص الواقعة بالقرب من الطرفين المتقابلين للكروموسوم مع كل عملية عبور. (الشيء نفسه تقريبا ينطبق على إعادة تجميع الخصائص الوراثية التي تقع على كروموسومات متماثلة للسلف نفسه.) بهذه الطريقة يمكن توقع الحصول من خلال «إحصاءات الارتباط» على نوع ما من «خريطة الخصائص الوراثية» في داخل كل كروموسوم.
هذه التوقعات أكدت جميعا. في الحالات التي خضعت للاختبار على نحو تام (بالأساس، ذبابة الفاكهة، لكنها ليست الوحيدة)، تنقسم الخصائص الوراثية المختبرة إلى العديد من المجموعات المنفصلة، دون وجود ارتباط بين مجموعة وأخرى؛ نظرا لوجود كروموسومات مختلفة (أربعة في ذبابة الفاكهة). وضمن كل مجموعة يمكن رسم خريطة خطية للخصائص الوراثية التي تحدد كميا درجة الارتباط بين أي اثنتين في هذه المجموعة، بحيث تكون درجة الشك صغيرة فيما يخص مواضعها الفعلية، وأنها تتموضع بطول خط؛ وذلك كما يشير الشكل القضيبي للكروموسوم.
بالطبع، إن مخطط الآلية الوراثية، كما هو مرسوم هنا، لا يزال إلى حد ما فارغا وغير ملون، وربما بدائيا أيضا بعض الشيء. فنحن لم نصرح بعد بما نعنيه بالضبط بكلمة خاصية؛ إذ يبدو أنه ليس مناسبا أو محتملا أن نقسم نمط أي كائن حي الذي هو بالضرورة وحدة أو «كل» واحد إلى «خصائص وراثية» منفصلة ومتمايزة. ما وضحناه وذكرناه بالفعل أنه في أي حالة معينة كل زوج من الأجداد يكونان مختلفين في جانب معين ومحدد (فلنقل إن أحدهما عيناه زرقاوان والآخر بنيتان)، والنسل سيتبع في هذا الشأن أحدهما فقط. ما حددنا موضعه على الكروموسوم هو مكان هذا الاختلاف. (ندعوه بلغة التخصص «الموقع» أو لو فكرنا في تركيب المادة النظري الذي يقوم عليه، فسندعوه «جينا».) الاختلاف في الخصائص الوراثية - من منظوري - هو حقيقة المفهوم الأساسي الجوهري أكثر من الخصائص نفسها، على الرغم من التناقض اللغوي والمنطقي الواضح في هذه العبارة. فالاختلافات في الخصائص الوراثية في واقع الأمر منفصلة ومتمايزة، كما سيظهر في الفصل التالي عندما يتوجب علينا الحديث عن الطفرات، ويكتسب المخطط الممل المطروح حتى الآن - كما أتمنى - حياة أكثر. (9) الحجم الأقصى للجين
قدمنا توا مصطلح الجين للتعبير عن المادة النظرية نفسها الحاملة لملمح وراثي محدد. يجب الآن أن نؤكد نقطتين ستكونان ذواتي دلالة عالية لعرضنا. النقطة الأولى هي الحجم، أو بالأحرى الحجم الأقصى لهذا الحامل؛ بمعنى آخر، إلى أي حجم صغير نستطيع تتبع الموضع؟ النقطة الثانية هي ديمومة الجين التي تستنتج من استمرار النمط الوراثي.
بالنسبة للحجم، يوجد تقديران مستقلان تماما، أحدهما يستند على الدليل الجيني (تجارب التكاثر)، والثاني على الدليل الخلوي (الفحص المجهري المباشر). الأول من حيث المبدأ البسيط بالقدر الكافي. فبعد تحديد مواقع عدد كبير من الملامح المختلفة (الواسعة النطاق) - لنقل ذبابة الفاكهة - ضمن كروموسوم معين من كروموسوماتها، بالطريقة الموصوفة بالأعلى، يمكن الحصول على التقدير المطلوب بقسمة الطول الذي قسناه لذلك الكروموسوم على عدد الملامح، ونضرب الناتج في طول المقطع العرضي؛ إذ نرى بالطبع أن الملامح تكون مختلفة فقط عند انفصالها من آن لآخر بسبب عملية العبور؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون جزءا من التركيب نفسه (المجهري أو الجزيئي). من ناحية أخرى، من الواضح أن تقديرنا يمكنه فقط أن يحدد الحجم الأقصى؛ لأن عدد الملامح التي تفصل بواسطة هذا التحليل الجيني يتزايد باستمرار مع استمرار عملية البحث.
صفحه نامشخص
التقدير الآخر، على الرغم من أنه مبني على الفحص المجهري، فإنه فعليا أقل مباشرة بكثير. فخلايا معينة لذبابة الفاكهة (تحديدا، تلك الخاصة بغددها اللعابية) لسبب ما تكون كبيرة بشدة، وكذلك كروموسوماتها. وفيها يمكن تمييز نمط مزدحم لشرائط عرضية داكنة عبر الليفة. لاحظ سي دي دارلنجتون أن عدد هذه الشرائط (الذي كان ألفين في الحالة التي عمل عليها) كبير على نحو هائل، لكن تقريبا له القيمة الأسية نفسها لعدد الجينات الموجودة على ذلك الكروموسوم والمحدد من خلال تجارب التكاثر. لقد مال إلى اعتبار أن هذه الشرائط تشير إلى الجينات الفعلية (أو إلى انفصال الجينات). وبقسمة طول الكروموسوم المقاس في خلية طبيعية الحجم على عدد تلك الشرائط (ألفين)، وجد أن حجم الجين مساو لمكعب طول حافته 300 أنجستروم. ومع الأخذ في الاعتبار تقريب المقادير، يمكن أن نعتبر هذا هو الحجم نفسه الذي حصلنا عليه بالطريقة الأولى. (10) الأعداد الضئيلة
سوف أورد لاحقا مناقشة كاملة لتأثير الفيزياء الإحصائية على كل الحقائق التي أذكرها، أو التي ربما علي أن أذكرها، وتأثير هذه الحقائق على استخدام الفيزياء الإحصائية في الخلية الحية. لكن دعوني ألفت الانتباه في هذه النقطة إلى حقيقة أن 300 أنجستروم هو فقط 100 أو 150 مسافة ذرية في سائل أو جامد، بحيث إن الجين يحتوي بالتأكيد على ما لا يزيد عن نحو المليون أو بعض الملايين القليلة من الذرات. هذا الرقم صغير للغاية (بحسب قاعدة ) بحيث لا يستتبعه سلوك منضبط ومرتب وفقا للفيزياء الإحصائية؛ ومن ثم وفقا للفيزياء. إنه ضئيل للغاية حتى لو لعبت كل هذه الذرات الدور نفسه كما تفعل في الغاز أو قطرة السائل. والجين ليس بكل تأكيد مجرد قطرة متجانسة من سائل. فالجين على الأرجح جزيء بروتين ضخم، تلعب فيه كل ذرة - وكل مجموعة مرتبطة من الذرات، وكل حلقة غير متجانسة - دورا فرديا مختلفا على نحو أو آخر عن ذلك الذي تلعبه أي ذرة، أو مجموعة مرتبطة من الذرات، أو حلقة غير متجانسة أخرى مماثلة لها. هذا على أي حال رأي علماء الجينات الأقطاب، من أمثال هولدين ودارلنجتون، وسيتوجب علينا قريبا أن نشير إلى التجارب الوراثية التي سعت لإثبات ذلك. (11) الديمومة
دعنا الآن نتحول إلى ثاني الأسئلة المهمة بقدر كبير ؛ وهو: ما درجة الديمومة التي نصادفها فيما يتعلق بالخصائص الوراثية، وما الذي يجب أن نعزوه من ثم لتركيبات المادة التي تحملها؟
يمكن الإجابة على ذلك دون أي استقصاء خاص. فمجرد حديثنا عن الخصائص الوراثية يشير إلى أننا ندرك أن الديمومة شبه مطلقة. إذ يجب ألا ننسى أن ما ينقله الوالد للابن ليس فقط هذه الخاصية أو تلك؛ أنف معقوف أو أصابع قصيرة أو ميل للإصابة بالروماتيزم أو الهيموفيليا أو عمى الألوان ... إلخ. فتلك الخصائص هي التي قد نختارها على نحو تقليدي لدراسة قوانين الوراثة. ولكن ما ينقله فعليا هو كل النمط (الرباعي الأبعاد) ل «الطراز الظاهري»، كل الطبيعة المرئية والمتجلية للفرد التي يعاد إنتاجها دون تغيير ملحوظ لأجيال؛ ومن ثم هي دائمة عبر قرون - وإن لم يكن خلال عشرات الآلاف من السنين - ومحمولة في كل انتقال بواسطة المادة الموجودة في تركيب نواتي الخليتين اللتين تتحديان لإنتاج خلية البويضة المخصبة. تلك معجزة، لا يوجد أعظم منها غير واحدة أخرى، واحدة رغم أنها متصلة بها على نحو وثيق، فهي تقع على مستوى مختلف. أنا أعني الحقيقة القائلة بأننا نحن، الذين ينبني وجودنا الكلي على نحو كامل على تفاعل متبادل مدهش وإعجازي من هذا النوع، نمتلك القدرة على اكتساب قدر كبير من المعرفة عن هذا التفاعل. أعتقد أنه من الممكن أن تتحسن تلك المعرفة لتصل إلى ما هو أقل قليلا من فهم كامل للمعجزة الأولى. أما المعجزة الثانية فقد تتجاوز مستوى الفهم البشري.
هوامش
الفصل الثالث
الطفرات
يمكن توضيح أي شيء له شكل متذبذب من خلال أفكار خالدة.
جوته (1) الطفرات التي تشبه «القفزات»: مجال عمل الانتخاب الطبيعي
الحقائق العامة التي طرحناها للبرهنة على الديمومة المزعومة لتركيب الجينات، ربما تكون معتادة جدا بالنسبة لنا بحيث لا تبدو لنا مدهشة أو مقنعة. هنا، ولمرة واحدة، المقولة الرائجة التي تقول إن الاستثناءات تثبت القاعدة فعلا حقيقية. فإذا لم يكن هناك استثناءات للتشابه بين الأبناء والآباء، لكنا حرمنا ليس فقط من كل تلك التجارب الجميلة التي كشفت لنا عن الآلية التفصيلية للوراثة، لكن أيضا التجربة الطبيعية الأعظم بمليون ضعف، التي تشكل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
صفحه نامشخص
دعوني آخذ هذا الموضوع الأخير المهم نقطة بداية لتقديم الحقائق المتعلقة بعرضنا، مرة أخرى مع اعتذار وتذكير بأنني لست عالم أحياء:
شكل 3-1: إحصاءات طول الحسكات في محصول من سلالة نقية. المجموعة المظللة باللون الأسود هي التي ستختار لكي تبذر. (إن التفاصيل المعروضة ليست نتاج تجربة فعلية، لكنها معروضة فقط من أجل التوضيح.)
نحن نعرف بكل تأكيد اليوم أن داروين كان مخطئا في النظر إلى التنوعات الضئيلة المستمرة العرضية، المؤكدة الحدوث حتى في أكثر الجماعات تجانسا، باعتبارها المادة التي تعمل عليها عملية الانتخاب الطبيعي؛ إذ برهن على أنها غير موروثة. هذه الحقيقة على قدر كبير من الأهمية بحيث يوجب علينا شرحها هنا ولو على نحو مختصر. فإذا ما أخذت محصولا من سلالة نقية من الشعير، وقست طول حسكاتها سنبلة سنبلة، ثم مثلت ما حصلت عليه من نتائج بيانيا، فسوف تحصل على شكل منحنى يشبه الجرس، كما هو موضح في الشكل
3-1 ؛ حيث يمثل عدد السنابل التي لحسكاتها طول معين في مقابل الطول. بمعنى آخر، يسود طول متوسط محدد، وتحدث انحرافات في كلا الاتجاهين بتكرارات معينة. والآن اختر منها مجموعة من السنابل (المظللة باللون الأسود) بحيث تكون حسكاتها أقل في الطول من المتوسط بقدر ملحوظ، لكن عددها كاف بحيث تنبت في الحقل بمفردها وتعطي محصولا جديدا. وبإجراء الإحصاءات نفسها للمحصول الجديد، فإن داروين كان سيتوقع أن يجد المنحنى الجرسي المقابل وقد تحرك نحو اليمين. بمعنى آخر، كان سيتوقع أن ينتج بواسطة الانتخاب زيادة في متوسط طول الحسكات. لكن ليس هذا ما يحدث لو استخدمت سلالة نقية من الشعير. إن المنحنى الإحصائي الجديد الذي سنحصل عليه من المحصول المنتخب، سيكون مماثلا للمنحنى الأول، ولن تختلف الحال لو انتخبت سنابل قصيرة الحسكات على نحو خاص للإنبات. فالانتخاب ليس له تأثير؛ لأن التنوعات الضئيلة والمستمرة لا تورث. من الواضح أنها لا تعتمد على تركيب المادة الوراثية، وأنها عرضية. لكن منذ نحو أربعين عاما اكتشف العالم الهولندي دي فريس أن الذرية حتى تلك التي من سلالات خالصة النقاء، سيظهر فيها عدد ضئيل جدا من الأفراد - لنقل اثنين أو ثلاثة في العشرة آلاف - وبهم تغيير طفيف لكنه يشبه «القفزة»، وهذا لا يعني أن التغيير ملحوظ للغاية، لكن أن هناك عدم استمرارية، مثلما لا توجد تكوينات بينية بين غير المتغيرين والقلة التي تغيرت. دي فريس أطلق على ذلك اسم الطفرة. الحقيقة المهمة هنا تكمن في عدم الاستمرارية، وهي تذكر الفيزيائي بنظرية الكم؛ إذ لا توجد طاقات وسيطة بين مستويين متجاورين للطاقة. وسوف يميل إلى أن يطلق على نظرية الطفرة الخاصة ب «دي فريس» - مجازيا - نظرية الكم الخاصة بعلم الأحياء. سوف يتضح لنا لاحقا أن هذا أكبر كثيرا من كونه أمرا مجازيا؛ فالطفرات في الحقيقة سببها قفزات كمية في جزيء الجين. لكن نظرية الكم لم يكن عمرها يتعدى العامين عندما نشر دي فريس اكتشافه للمرة الأولى في عام 1902. ما يثير الدهشة قليلا أن الأمر قد استغرق جيلا آخر لكشف العلاقة الوثيقة بين الطرفين! (2) إنها تتكاثر على نحو نقي؛ أي إنها تورث على نحو تام
الطفرات تورث على نحو تام تماما كما هي الحال بالنسبة للصفات الأصلية غير المتغيرة. لنضرب مثالا: في محصول الشعير الأول الذي عرضنا له أعلاه قد يظهر عدد من السنابل وبه حسكات تقع خارج نطاق التنوع الموضح في الشكل
3-1
على نحو كبير؛ لنقل بلا حسكات على الإطلاق. ربما تمثل تلك السنابل طفرة بمفهوم دي فريس، وستتكاثر بعد ذلك على نحو نقي؛ أي إن كل نسلها سيكون بلا حسكات.
وهكذا، فإن الطفرة هي بالتأكيد تغيير في الجوانب الوراثية، والمسئول عنها حدوث تغيير ما في المادة الوراثية. في واقع الأمر، إن أغلب تجارب التكاثر المهمة التي كشفت لنا عن آلية حدوث الوراثة تقوم على التحليل الدقيق للذرية التي تنتج عن التهجين، بحسب خطة مسبقة، بين أفراد طافرين (أو في حالات كثيرة، متعددي الطفرات) من جهة، وغير طافرين أو طافرين على نحو مختلف من جهة أخرى. من ناحية أخرى، إن الطفرات، بسبب تكاثرها النقي، تعد مادة مناسبة يمكن للانتخاب الطبيعي أن يعمل عليها وينتج أنواعا كما وصف داروين، عن طريق القضاء على غير الصالح منها وترك الأصلح لتبقى. في نظرية داروين، يجب عليك فقط أن تستبدل «الطفرات» ب «تنوعاته العرضية الضئيلة» (كما استبدلت نظرية الكم «القفزة الكمية» ب «انتقال الطاقة المستمر»). في كل الجوانب الأخرى، كان مطلوبا إدخال تغيير ضئيل في نظرية داروين، هذا لو كنت أفهم على نحو صحيح رؤية الغالبية العظمى من علماء الأحياء.
1 (3) الموقع: التنحي والسيادة
علينا الآن أن نستعرض بعض الحقائق والمفاهيم الأساسية الأخرى عن الطفرات، مرة أخرى بأسلوب مباشر بعض الشيء، دون أن أبين على نحو صريح كيف تنبثق، الواحدة تلو الأخرى، بالأدلة التجريبية.
صفحه نامشخص
يجب أن نتوقع أن يكون سبب أي طفرة ملحوظة محددة هو تغير في مكان معين في أحد الكروموسومات. لكن من المهم أن نصرح بأننا نعرف على نحو أكيد أنها تغير في كروموسوم واحد فقط، لكنه ليس في «الموقع» المقابل على الكروموسوم المتماثل. يشير الشكل
3-2
إلى هذا على نحو بياني؛ إذ توضح العلامة
X
الموقع الطافر. تكشفت حقيقة أن كروموسوما واحدا فقط هو الذي يتأثر عندما هجن فرد طافر بآخر غير طافر؛ إذ أظهر بالضبط نصف الذرية الناتجة الصفة الطافرة والنصف الآخر أظهر الصفة الطبيعية. هذا هو المتوقع نتيجة لانفصال الكروموسومين من خلال الانقسام الميوزي في الفرد الطافر، وذلك كما يتضح على نحو بياني في الشكل
3-3 . إن هذا الشكل «شجرة نسب» تمثل كل فرد (في ثلاثة أجيال متوالية) ببساطة من خلال الكروموسومين محل التناول. عليك أن تدرك أن الفرد الطافر لو أن كروموسوميه قد تأثرا، فكل أطفاله سوف يرثون الصفة الوراثية (الطافرة) نفسها، التي تختلف عن تلك الخاصة بكلا الأبوين.
شكل 3-2: فرد طافر متغاير اللواقح. تشير العلامة
X
إلى الجين الطافر.
لكن إجراء التجارب في هذا الشأن ليس بالبساطة الظاهرة التي قد تتراءى لنا مما عرضناه للتو. فالأمر معقد بسبب العامل المهم الثاني المتمثل في أن الطفرات في الأغلب الأعم تكون كامنة. ما الذي يعنيه هذا؟
صفحه نامشخص
شكل 3-3: انتقال طفرة. تشير الخطوط المستقيمة العرضية إلى انتقال كروموسوم، والخطوط المزدوجة إلى انتقال الكروموسوم الطافر. تأتي كروموسومات الجيل الثالث غير المبينة من حالات «تزاوج» من الجيل الثاني، التي ليست متضمنة في الشكل البياني، والتي من المفترض أن تكون لأفراد ليسوا بأقارب وليس لديهم الطفرة.
شكل 3-4: فرد طافر متماثل اللواقح ظهر في ربع الذرية إما من التخصيب الذاتي لفرد طافر متغاير اللواقح (راجع الشكل
3-2 ) أو تهجين اثنين من هؤلاء الأفراد.
في الفرد الطافر، لم تعد «نسختا نص الشفرة» متماثلتين؛ فهما تقدمان «قراءتين» أو «نسختين» مختلفتين في ذلك المكان الواحد على أي حال. ربما من الجيد أن نشير على الفور إلى أنه سيكون من الخطأ أن تعد النسخة الأصلية ك «الشخص المتدين» والنسخة الطافرة ك «الشخص المهرطق»، على الرغم من أن هذا قد يكون مغريا. فيجب علينا أن نعتبر أن لهما حقوقا متساوية، وذلك من الناحية المبدئية؛ فالصفات الطبيعية قد نشأت كذلك من طفرات.
ما يحدث حقيقة هو أن «نمط» الفرد - كقاعدة عامة - يتبع إحدى النسختين، التي من الممكن أن تكون الطبيعية أو الطافرة. إن النسخة التي تتبع توصف بأنها سائدة، والأخرى بأنها متنحية؛ بعبارة أخرى، الطفرة تدعى سائدة أو متنحية بحسب ما إذا كانت مؤثرة في الحال في تغيير النمط أم لا.
إن الطفرات المتنحية أكثر حدوثا من تلك السائدة وهي مهمة جدا، على الرغم من أنها في البداية لا تظهر على الإطلاق. ولكي تؤثر في النمط، يجب أن توجد على كلا الكروموسومين (انظر الشكل
3-4 ). هؤلاء الأفراد يمكن أن ينتجوا عند تصادف تهجين فردين طافرين متنحيين متكافئين مع بعضهما، أو عند تهجين فرد طافر مع نفسه؛ يكون هذا ممكنا في النباتات الخنثى، بل وحتى يحدث على نحو تلقائي. إن التأمل البسيط سيبين أنه في هذه الحالات، ربع الذرية تقريبا ستكون من هذا النوع، وبذلك ستظهر على نحو واضح النمط الطافر. (4) استعراض بعض المصطلحات المتخصصة
أعتقد أن شرح القليل من المصطلحات المتخصصة هنا سيسهم في توضيح الأمور. يستخدم مصطلح «أليل» للإشارة إلى «نسخة نص الشفرة»، سواء أكانت الأصلية أم الطافرة. وعندما تكون النسختان مختلفتين، كما هو موضح في الشكل
3-2 ، يوصف الفرد بأنه متغاير اللواقح فيما يتعلق بهذا الموقع، وعندما تكونان متماثلتين كما في حالة الفرد غير الطافر أو كما هي الحال في الشكل
3-4 ، يوصف الفرد بأنه متماثل اللواقح. هكذا الأليل المتنحي لا يؤثر في النمط إلا إذا كان متماثل اللواقح، بينما الأليل السائد ينتج النمط نفسه، سواء كان متماثل اللواقح أو متغاير اللواقح.
صفحه نامشخص