طه حسين
ويزور علي الشمسي باشا الدكتور طه حسين في بيته يعاتبه، ويقنعه بالعدول عن طلبه؛ إن العميد الفرنسي مسيو ميشو غائب عن مصر في الوقت الحاضر والوكيل غائب أيضا، وسيستمر طه حسين في القيام بعمل الوكيل بالنيابة عن العميد حتى يعود واحد منهما إلى الكلية. •••
في أول مارس 1928 يعرف طه حسين أن رئيس الوزراء ثروت باشا قد زار في اليوم السابق رئيس مجلس النواب مصطفى النحاس باشا «الذي كان قد خلف سعد زغلول في رياسة الوفد»، وأطلعه على مشروع للمعاهدة بين مصر وإنجلترا يعرضه الإنجليز، وأن رئيس الوفد قد رفض المشروع، وأن مجلس الوزراء قد رفض بعد ذلك أن يناقشه، وأن ثروت باشا سيبلغ الإنجليز هذا الرفض، وإذن فلن تتأخر استقالة الوزارة طويلا.
وبعد ثلاثة أيام تستقيل الوزارة فعلا، وبعد ذلك بأسبوعين يؤلف النحاس باشا في 17 مارس وزارة يحتفظ فيها بوزيرين من وزراء الأحرار الدستوريين. •••
في الساعة العاشرة من صباح كل يوم، يحضر الأستاذ توفيق شحاتة سكرتير طه حسين ليقرأ عليه صحف الصباح وما يحمله البريد مع الرسائل، ثم يقرأ ما يطلب «الدكتور» قراءته أو القراءة فيه من الكتب، والدكتور يستمع منصتا ويستعيد أحيانا وقد يصحح القراءة في بعض الأحايين، وقد يطلب إلى سكرتيره أن يقيد ملاحظة من الملاحظات أو أن يقرأ عليه مرجعا من المراجع في الموضع الذي يعينه له، وسوف يدق جرس التليفون فيرد، ويستقبل أحد الزوار فينسحب توفيق إلى ركن من أركان المكتب ينشغل فيه بما يكون لديه من أعمال.
ولكن طه حسين يطلب إلى سكرتيره أن يتوقف عن القراءة ذات صباح، فإنه يحس بآلام قاسية تصرفه عن الاستماع، ولا بد أن يستدعي الدكتور سامي كمال صديق الأسرة وطبيبها، ويحضر الدكتور فما إن يدرك طبيعة هذه الآلام حتى يستدعي الدكتور علي باشا إبراهيم فيحضر على عجل فهو زميل وصديق لطه حسين، يسمع إلى شكواه ويقرر بعد الفحص ضرورة نقله إلى المستشفى الإسرائيلي حالا، ليبقى هناك تحت الرقابة مدة تجري له بعدها عملية الزائدة الدودية.
وبينما تعد السيدة سوزان العدة للذهاب إلى المستشفى، يقول علي باشا إبراهيم لطه حسين: «أخيرا جاءتني فرصتي، ستخضع في المستشفى لأوامري، ولن تستطيع الآن أن تعصي لي أمرا!»
وطه حسين يبتسم، ولكنه يستأذن في أن يخلو بسكرتيره ليمليه وهو يغالب آلامه سطورا قليلة يوصي فيها أخاه الشيخ أحمد بزوجته وبابنته وبابنه، ويوصي بهم أيضا صديقه الشيخ مصطفى عبد الرازق.
وتجرى العملية ويتم الشفاء والحمد لله، ويعود الأستاذ إلى الجامعة يتحدث مع زملائه في شئون الكلية. لقد تقرر أن يمثل الجامعة في المؤتمر الذي سيعقد في مدينة أكسفورد أثناء الصيف، وهو يعد بحثين لتقديمهما إليه: الأول عن استعمال ضمير الغائب في القرآن الكريم، سيبين فيه الروعة البلاغية في هذا الاستعمال، والثاني عن العلاقة بين مذهب المعتزلة في وجوب الأصلح وبين مذهب الفيلسوف الألماني «ليبنتز».
ويسأل أحد الزملاء عن اللغة التي سيلقي بها طه البحثين في هذا المؤتمر الذي سيعقد في مدينة الجامعة الإنجليزية الكبيرة، ويرد طه حسين: «بالفرنسية؛ لأن إنجليزيتي لا تنفع.» ويحكي لزملائه وهو يبتسم كيف حاول أن يتعلم الإنجليزية، يقول: «كان أخي الشيخ أحمد وثلاثة من إخوانه الأزهريين قد رأوا أن الأستاذ الإمام محمد عبده يعرف اللغة الفرنسية، ويرد بها على «هانوتو» وعلى «رينان»، ولذلك قرروا أن يدرسوا لغة أجنبية، ووجدوا في مدرسة الجمالية مدرسا قبل أن يعطيهم دروسا في الإنجليزية مقابل مئة قرش يجمعونها من بعضهم البعض شهريا، وكان المدرس يحضر للتدريس في الغرفة التي يسكنها أخي وأسكنها معه، كان المدرس يعلم تلاميذه الأربعة كيف يلوون الألسنة ويمدون الشفاه، ويوسعون الحلوق، ويباعدون بين الألسنة وسقف الفم، لينطقوا بهذه الرطانة الإنجليزية، وكنت أجلس بعيدا منطويا لا يحس أحد بوجودي، وكلي مع ذلك آذان ألتقط كل ما يعلمه المدرس لتلاميذه، ولكن المدرس تعب، وتعب التلاميذ، ولم يصلوا إلى طائل، فانقطع تعليم الإنجليزية لهم، وانقطع تعلمي لها.»
صفحه نامشخص