ويتساءل: «ماذا يمكن أن ينكر علينا الأستاذ الرافعي وأصحابه؟ متى كان القصد إلى الصدق وإلى حسن الملاءمة بين ما نجد وبين ما نصطنع في وصف ما نجد ذنبا يذكر أو شيئا يعاب؟!»
ويقول: «إنهم يقولون إنهم مشفقون كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما منه ضيم ... ولكن المذهب الجديد لا يقتل اللغة ولا يغير من أصولها وقواعدها، وإنما يريد أن تكون اللغة حية نامية، ومن ذكر الحياة والنمو فقد ذكر التطور ...»
ويتناول طه حسين في «أحاديث الأربعاء» العصر الذي انحلت فيه الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية، فيقرر أثناء بحثه أن «الشك والعبث والمجون كانت أظهر مميزات ذلك العصر.» على أنه يعرف أن الناس عادة يكرهون الحديث عن القدماء بغير التبجيل والإكبار فيكتب: «ما كان لي ولن يكون لأحد من الباحثين الذين يقدرون العلم وكرامته، أن نغير التاريخ أو أن نظهر عصرا من عصور الأمة العربية على غير ما كان عليه.»
ويقول أيضا: «ونحن نعلم حق العلم أن ليس على عقول الناس ولا أخلاقهم خطر من مثل هذه البحوث الأدبية، فالناس لم ينتظروا لهو أبي نواس وأصحابه ليعرفوا اللهو، والناس لم ينتظروا هذه الفصول وأمثالها ليعرفوا العبث، ونحن لم نكتب هذه الفصول وأمثالها لنحبب العبث إلى الناس ونرغبهم فيه، فإن في ظروف هذه الحياة التي نحياها مرغبات في اللهو ومحرضات على العبث أقوى وأبلغ من لهو أبي نواس وعبث مطيع وحماد.»
ويلاحظ طه حسين فيما بعد أن أحاديث الأربعاء كان لها - على كل حال - نتيجتان قيمتان: «الأولى أنها جلت ناحية من نواحي تاريخ الأدب العربي لم تكن واضحة ولا بينة وليس هذا بالشيء القليل، والثانية أن فيها ضربا من مناهج البحث تمكن من استغلال هذه الكنوز القيمة التي لا تزال مجهولة والتي نشأ من جهل الناس إياها غضبهم من الأدب العربي وانصرافهم عنه في أنفة وازدراء»، وهو يؤكد: «إن الذين يزدرون الأدب العربي ويغضبون منه يجهلون هذا الأدب جهلا منكرا»، ويقول: «نحن نحب لأدبنا القديم أن يظل قواما للثقافة وغذاء للعقول لأنه أساس الثقافة العربية، فهو إذن مقوم لشخصيتنا محقق لقوميتنا، عاصم لنا من الفناء في الأجنبي، معين لنا على أن نعرف أنفسنا.»
ويكتب إليه مهندس يعمل في بعض مدن الصعيد يقول إنه لم يعن من قبل بالأدب العربي قط ولم يقرأ لغير المحدثين لا شعرا ولا نثرا، ولكنه منذ اطلع مصادفة على أحد أحاديث الأربعاء قد جعل يترقبها ويحرص على الحصول على أعداد جريدة السياسة التي تنشرها، لا يستطيع أن يعود إلى منزله إلا والجريدة معه، ولا يستطيع أن يأوي إلى فراشه إلا وقد قرأ حديث طه حسين عن شعراء العرب الأقدمين ثم أعاد القراءة ثانية وربما أعادها ثالثة، يجد في هذا الحديث الجديد وفي ذلك الشعر القديم ما يعجبه كل الإعجاب ويرضيه كل الرضا، ويعلمه ما لم يكن يعلم وهو أن للعرب الأقدمين تراثا لا يجوز إهماله. •••
وتنتقل أسرة طه حسين إلى ضاحية مصر الجديدة وتستقر أخيرا في منزل فيها بشارع المنيا له حديقة مشمسة، فإن الطبيب قد نصح بالسكن في مكان مثل مصر الجديدة أو حلوان يتعرض فيه الصغير «مؤنس» للشمس مراعاة لصحته.
وربة الدار تعنى بحديقة المنزل، وتعد فيها مكانا لجلوس زوجها للقراءة ولتحضير الدروس، وتزرع أربع شجرات من أشجار البوانسيانس تحيط بالمكان الذي خصصته لجلوسه، وقد أخذت هذه الأشجار تنمو قوية بفضل رعاية البستاني عم إسماعيل.
على مقربة من هذه الأشجار تلعب ابنته أمينة وابنه مؤنس، الذي قد تعلم المشي الآن، وفي ظلها يجلس والدهما يستمع إلى سكرتيره توفيق يقرأ له حين يقبل لطفي السيد، الذي يسكن على مقربة بمصر الجديدة أيضا، فينصرف السكرتير، وتقترب أمينة من الزائر لتحييه فتسمعه يقول لوالدها: «فلنتناقش كما كان أرسطوطاليس يتناقش، سأسأل أنا وسوف تجيب ...» وبعد أن تستمع أمينة إلى حديثهما برهة قصيرة تتركهما لتعاود اللعب.
وينصرف لطفي السيد بعد ساعة وتهرع أمينة إلى والدها تقول له: «نتكلم مثل طاليس، أنا أسأل وأنت تجيب!» ويقول والدها مبتسما: «نعم؟!» وتسأل أمينة: «هل يجب أن نحب الأشياء الحلوة أم لا؟» ويقول والدها: «يجب» ... فتسأل: «وهل الحلاوة الطحينية حلوة أم لا؟» ويجيب والدها: «حلوة» ... وتسأل: «لماذا إذن تمنعني أمي وتمنع أخي من أكل الحلاوة الطحينية؟» فيبتسم ويقول لها: «سأسألها، وسوف ترد علي بغير شك، وسوف أبلغك بالرد غدا، ولكن اذهبي الآن واتركيني أستأنف القراءة، ولا تنسي أن تطلبي إلي غدا أن أقص عليك القصة التي أقرؤها الآن، قصة رجل كان اسمه أوديب، عاش منذ زمن بعيد، في بلاد جميلة بعيدة.»
صفحه نامشخص