مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدا
مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
في 25 سبتمبر عام 1513، أصبح المستكشف الإسباني فاسكو نونييز دي بالبوا أول مستكشف أوروبي شهير يتطلع إلى المحيط الهادي من شاطئ العالم الجديد من إحدى قمم برزخ بنما. كان لوثر قد ألقى قبلها بأربعين يوما في ألمانيا أولى محاضراته عن سفر المزامير، ومنذ ذاك اليوم ترقى في مساره المهني بالتوازي مع توسعات الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين. وفي الفترة ما بين عامي 1519 و1521، عندما بدأ الصراع بين لوثر والكنيسة الرومانية يصعد حتى وصل إلى حرمانه كنسيا وانتقاده بعنف في فورمس، كان هرنان كورتيس آنذاك يتقدم في زحفه على المكسيك كي يضع نهاية لإمبراطورية الآزتيك، ناقلا أخبار غزوته للملك شارل ملك قشتالة، الذي أصبح بعد انتخابه عام 1519 إمبراطورا على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملكا يأتمر به لوثر أيضا. وعلى الرغم من أن حركة الإصلاح الديني بدأت في ألمانيا كحركة دينية معارضة، فقد كانت منذ ولادتها حركة سياسية يحدد مصيرها الإمبراطور شارل الخامس لا لوثر؛ فمع أن شارل - الذي كان أحد أنصار الكنيسة الرومانية - فرض عام 1521 مرسوما يحرم لوثر كنسيا، ظل بحاجة إلى تأييد البلدات البروتستانتية ودعم أمرائها لحماية ألمانيا من التهديد العثماني، ومن ثم سعى إلى إعادة الوحدة الدينية إلى إمبراطوريته، وسمح في سعيه نحو ذلك للحركة البروتستانتية بأن تحيا وتنمو. وقد لعب لوثر في تلك الأحداث السياسية المؤثرة دورا ملموسا، ولكن بعد عام 1529 سيرته أحداث تلك الفترة أكثر مما تحكم هو في سيرها.
ضلع لوثر وزملاؤه في الأحداث السياسية على جميع المستويات، بدءا من المستوى المحلي امتدادا إلى الإمبراطورية الرومانية بأسرها؛ لأن تأييد حركة لوثر في ألمانيا كان إما يصرح به أو يحظر من قبل الأمراء ومجالس البلديات. فكان النهج التالي هو المسلك التقليدي للحركة الإصلاحية في بلدان ألمانيا، سواء كبرت أو صغرت: يأخذ القس المتأثر بمنهج لوثر في تدريس الرسالة البروتستانتية التي مفادها أن الخلاص بالإيمان وحده، ويبدأ في تغيير أساليب الاحتفال بالقداس، وقد يدين أيضا صكوك الغفران والتضرع إلى القديسين وقواعد الصيام والنذر الرهبانية وامتناع رجال الدين عن الزواج باعتبارها غير واردة في الإنجيل، فإن جذب هذا القس عددا كبيرا من الأتباع تصدى له رجال الدين المناصرون للكنيسة الرومانية في البلدة، وأبلغوا أسقف الأبرشية عنه، بعد ذلك يرفع الواعظ قضيته لمجلس بلدية البلدة، ويطلب منها التصديق على عظاته والتعديلات التي أدخلها على القداس. وقد يعقد مجلس البلدية في بعض الحالات جلسات استماع أو مناظرات بين الواعظ البروتستانتي وبين ممثل عن رجال الدين المناصرين للكنيسة الرومانية، وقد ينظم مؤيدو كلا الجانبين مظاهرات عامة. ففي مدينة جوتنجن عام 1529 على سبيل المثال، أثناء مسيرة عبر المدينة نظمها الكاثوليكيون حاملين خبز القربان المقدس، اعترض مؤيدو البروتستانتية ملتقى طرق بالمدينة، وأنشدوا نسخة ترنيمية من المزمور رقم 130، كان لوثر قد كتبها قبل ستة أعوام، ولما بلغ الكاثوليكيون في نهاية مسيرتهم كنيسة البلدة وأنشدوا ترنيمة «نشكر الله»، وهي ترنيمة قديمة في تمجيد الله، عاود البروتستانتيون الضغط عليهم من الخلف، وحاولوا حجب أصواتهم بإنشاد ترنيمة ألمانية أخرى. كانت مجالس بلدية المدن في الحالات التي تحكم فيها لصالح المذهب البروتستانتي تسمح بالاستمرار في إلقاء العظات البروتستانتية ، وتتبنى في أغلب الحالات نظاما أو قانونا كنسيا يجعل إلقاء العظات البروتستانتية وممارسة شعائرها هو التقليد المتبع في هذا المجتمع.
كانت السياسات التي انتهجتها حركة الإصلاح الديني في فيتنبرج أثناء غياب لوثر (من أبريل عام 1521 إلى مارس عام 1522) شائكة وغير منسقة، فتولى زمام المبادرة زميل لوثر المناصر للمذهب الأوغسطيني جابرييل زفيلينج وزملاؤه في الجامعة آندرو كارلشتادت وفيليب ميلانشتون؛ فجاهر كارلشتادت بدون الحصول على موافقة ناخب مدينة فيتنبرج أو مجلس بلديتها بمعارضة تبتل رجال الدين، وبالاحتجاج على النذر الرهبانية. وعلى الرغم من أنه كان قسا وكبير شمامسة مجلس رجال كنيسة جميع القديسين، ففي يناير عام 1522 تزوج وهو في عمر الخامسة والثلاثين من آنا فون موخاو، وهي شابة لا يضاهي عمرها نصف عمره. أما ميلانشتون الذي لم يكن قد وسم كاهنا بعد، فتناول مع بعض من الطلاب الخمر والخبز معا في كنيسة المدينة، وقدم كارلشتادت في عيد الميلاد الخمر والخبز معا للعامة في صلاة القداس، واستبدل بالصلاة الربانية (صلاة القرابين المقدسة) اللاتينية بكلمات التأسيس الألمانية، لكنه بعكس ميلانشتون وزفيلينج رأى أن العامة الذين يرفضون شرب الخمر يعدون من الآثمين، الأمر الذي عارضه لوثر بقوة في كتاباته التي كتبها في قلعة فارتبورج. في الوقت نفسه، طلب زفيلينج من العامة أن يمتنعوا عن تقديم الهدايا إلى الدير الأوغسطيني ليجبر رهبان الدير على تركه، وعليه ترك بالفعل ثلاثة عشر راهبا أوغسطينيا الدير في نوفمبر عام 1521، وتزوجوا وعملوا بالحرف اليدوية. وفي أوائل ديسمبر من العام نفسه احتج حشد من الطلاب وأهالي فيتنبرج على تلاوة صلوات القداس الخاصة في كنيسة المدينة، بانتزاع كتب صلوات القداس وإجبار القساوسة على مغادرة منصات المذابح، وفي اليوم التالي، اقتحمت مجموعة من ثلاثة عشر طالبا الكنيسة الفرنسيسكانية في اليوم التالي وفككت المذبح الخشبي. أراد ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك معاقبة المقتحمين، لولا تدخل بعض شخصيات فيتنبرج البارزة في عمل مجلس بلدية المدينة الذي وجد نفسه عندئذ محاصرا بإرادة ناخب ساكسونيا من ناحية، ومواطني فيتنبرج من ناحية أخرى.
في الوقت نفسه تقريبا، زار لوثر فيتنبرج سرا، متنكرا في هيئة فارس يدعى جورج ، وأعلن رضاه عن كل ما رآه في المدينة، لكنه لدى عودته إلى قلعة فارتبورج دعا إلى ضبط النفس في كتيب قصير عبر عنوانه عن مضمونه تعبيرا صادقا؛ فقد كان عنوان الكتيب: «نصيحة خالصة من مارتن لوثر لجميع المسيحيين: احذروا العصيان والتمرد»، وبعد أن توقع فيها «سقوط البابا وانهيار نظامه المخالف للمسيحية» بسخط من الله وكلمة المسيح لا بالعنف البشري، استنكر استخدام العنف، ونصح مؤيديه بانتهاج الاستراتيجية التالية:
اعكفوا على العمل الآن؛ انشروا الكتاب المقدس وساعدوا الآخرين على نشره. درسوا وتحدثوا واكتبوا وعظوا بأن قوانين البشر لا قيمة لها. وحثوا الناس على هجر مناصب القسيسين والأديرة والرهبنة وامنعوهم منها، وحثوا من لم يتركها منهم على تركها. ولا تخرجوا المزيد من أموالكم لأوامر [بابوية] أو شموع أو أجراس أو ألواح [نذر] أو كنائس، بل أذيعوا أن الحياة المسيحية قوامها الإيمان والحب.
لكن لم يلتفت كل من كارلشتادت وزفيلينج لنصح لوثر؛ فأمر الأخير، بعد اختتام مناقشة اجتماع أنصار المذهب الأوغسطيني في فيتنبرج، بإخلاء الكنائس من المذابح والصلبان وصور القديسين وأدوات المذابح التي لم تعد ضرورية لطقوس العبادة البروتستانتية، وفي الوقت نفسه صاغ كارلشتادت - الذي حصل على درجات علمية في القانون المدني والكنسي - ترتيبا كنسيا يشمل جميع التغييرات التي استحدثها هو وزملاؤه إلى تلك النقطة، إلا أن الناخب فريدريك رفض التصديق على هذا الترتيب الكنسي الجديد؛ نظرا لأن الحكومة التابعة للإمبراطورية الرومانية قد أمرته بمعارضة كل الأمور المستحدثة في فيتنبرج. وبعد أن أشعلت عظة كارلشتادت التي انتقدت الصور المعلقة بالكنائس أعمال شغب في كنيسة البلدة، استدعى ميلانشتون ومجلس البلدية لوثر إلى فيتنبرج ليأخذ بزمام حركة الإصلاح، فأذعن لوثر لطلبهما رغم أن الناخب فريدريك رفض أن يمنحه الإذن، وطلب منه أن يوثق هذا الرفض، فأبرأ لوثر ذمة فريدريك في هذا الشأن، إلا أنه أكد على أن فيتنبرج هي أبرشيته «جماعتي التي عهد لي بها الرب»، ولا يسعه التخلي عنها، وخشي أن يبتلي الرب ألمانيا ب «ثورة حقيقية »؛ لأن شعبها لم يعرف كيف يستخدم الكتاب المقدس على الوجه الصحيح.
تحققت مخاوف لوثر بعد ثلاثة أعوام في حرب الفلاحين أو ثورة عام 1525 - إن أردنا الدقة - لكونها انتفاضة شاملة امتدت إلى جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. كانت هذه الثورة قد اندلعت بالفعل في جنوب ألمانيا، عندما قرأ لوثر مطالب الفلاحين الاثني عشر في سوابيا، وكان الهدف الذي نصت عليه هذه المطالب «هو مغفرة عصيان الفلاحين وتمردهم سيرا على نهج المسيحية»، بإثبات أن الكتاب المقدس يدعم شكواهم ومطالبهم. ورد لوثر على هذه المطالب في منشور سمي وفاقا ب «نصح من أجل السلام»؛ إذ ظل مثار خوفه الأكبر هو احتمال اندلاع ثورة تتمخض عن فوضى أو - على حد تعبيره - عن «دمار ألمانيا إلى الأبد بالإطاحة بكلمة الله والسلطات المدنية»؛ من ثم ألقى لوثر اللوم على كل من الحكام ورعاياهم، فوبخ الأمراء والأساقفة لأن دورهم اقتصر على «غش وسرقة» الشعب لينعموا بحياة «البذخ والترف»، إلا أن شرورهم وإجحافهم لا يبرران فوضى العامة وتمردهم؛ لأن مسئولية معاقبة الشر وفقا للكتاب المقدس تقع على جهة الحكم الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، إن كان الفلاحون مسيحيين مخلصين كما يزعمون، فعليهم أن يذعنوا لوصية المسيح بأن يديروا الخد الآخر؛ «المسيحي لا يذود عن نفسه بالسيوف والبنادق، بل بالصليب والمعاناة». من ثم خلص لوثر في النهاية إلى أن كلا الطرفين لم يعدلا أو يسلكا النهج المسيحي، وأوصى بمفاوضات تقضي بإقلاع الحكام عن ممارساتهم القمعية الطاغية، وأن يخفف العامة من حدة مطالبهم.
شكل 6-1: الناخبون فريدريك الحكيم، وجون المخلص، وجون فريدريك ناخب ساكسونيا. لوحة ثلاثية بريشة لوكاس كراناش، عام 1535 تقريبا.
1
لكن بدلا من المفاوضات امتدت الثورة بخطى ثابتة إلى الشمال لتدنو أكثر من محيط لوثر، حيث حشد عالم اللاهوت المتطرف توماس منتسر - الذي أيد محو الحقبة الضالة التي تسبق حكم يسوع الذي امتد لألف عام (سفر الرؤيا، 20 :4-6) - أتباعه لمعركة حاسمة في فرانكنهاوزن. لكن في مواجهة اتحاد القوى التابعة للأمراء، لم يملك هو وأتباعه أدنى فرصة للنصر، وسحقوا سحقا، وأجبر منتسر الذي عثر عليه مختبئا تحت فراش على توقيع إقرار بذنبه ثم أعدم. قبل ذلك بأسابيع قليلة، وبعد أن شهد لوثر الخراب الذي حل على أيدي عصابات الفلاحين المتجولة، كتب أنه يحق للأمراء ذبح تلك العصابات إن اقتضي الأمر لوقف غاراتهم، لكن بعد تلك المذبحة وجهت له انتقادات حادة، وحث على كتابة تراجع عن أقواله. لكن تبين أنه كتب بدلا من ذلك دفاعا عن رأيه، فقال إن العامة تمردوا، وأنهم يستحقون الموت لخروجهم على السلطة وهدمهم للنظام الاجتماعي. كما أكد لوثر على زعمه أن الأمراء طغاة لا يشبعون من إراقة الدماء، لكن غض الطرف عن هذا الجزء من بيان تراجعه عن أقواله، واستهزئ به ل «تملقه» الأمراء، وهي وصمة لازمته رغم إصراره على أنه قصد فقط أن يرشد العامة والحكام كليهما لواجبهم كمسيحيين.
صفحه نامشخص