197

راز عشتار

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

ژانرها

لم تحرر الألوهة نفسها من إسار الطبيعة دفعة واحدة، بل لقد حققت ذلك إثر عملية طويلة وبطيئة، استطاعت بعدها أن تنتقل من روح محركة للطبيعة من داخلها، متحدة معها، إلى قوة منفصلة عنها متعالية عليها متحكمة بها عن بعد، وذلك بتأثير القيم الذكرية التي بدأت تفرض نفسها تدريجيا داخل الثقافة. ففي شكلها الأقدم كانت عشتار روحا للنبات، تقضي جزءا من السنة في باطن الأرض، وجزأها الآخر في نسغ الحياة النباتية، إلهة مزدوجة تمثل العالمين، وتنتقل بينهما دون أن تفقد بانتقالها إلى واحد تأثيرها على الآخر. وعندما أخذت بالخروج من مملكة الطبيعة والتحول تدريجيا إلى سيدة لها، بدأت صورتها المزدوجة بالانقسام وظهرت بدلا عنها صورة الأم والابنة، حيث تابعت الأم مسيرتها نحو الأعلى لتأخذ مكانها أخيرا بين آلهة السماء، وتركت ابنتها حبيسة الحياة الطبيعة ودورة الإنبات السنوية. إلا أن هذا الانقسام لم يتم تكريسه نهائيا، وبقيت الأم ديمتر والابنة بيرسفوني في المستويات السرانية للأسطورة اثنتين في واحدة وواحدة في اثنتين. أما في الميثولوجيا التي لم يقيض لها أن تتابع خط تطورها الأمومي؛ فقد تحول شق عشتار الآخر إلى ابن أسلمته إلى دورة الطبيعة وتابعت مسيرتها مع آلهة الذكور نحو الأعلى، إلا أنها هنا أيضا قد بقيت متحدة معه عند المستويات السرانية للأسطورة، وبقي تموز شقها الآخر، وجانبها الذكري الكامن معكوسا نحو الخارج.

عند هذه النقطة من البحث أعتقد بأننا قد حللنا لغزا كبيرا من ألغاز الأساطير وديانات الخصب، وذلك بتوضيح العلاقة بين الإلهين الرئيسيين في دراما الخصب الكوني، هذين الإلهين اللذين بقيت خصائصهما ووظائفهما مختلطة، حتى في أذهان أصحاب الطريقة الأكاديمية في دراسة الأسطورة ممن يشيرون إليهما، وبكثير من الحرية، على أنهما إله وإلهة الخصب. إن إلهة الخصب وسيدة الطبيعة هي عشتار، وعشتار وحدها. أما تموز فإنه روح النبات التي تموت وتحيا في دورة مستمرة باقية، بمعونة روح الخصوبة الكونية التي يتوقف عليها إنعاش الابن القتيل واستعادته من العالم الأسفل.

إن أول نص مكتوب خطه الإنسان عن الأم الكبرى وابنها القتيل، هو نص الأسطورة السومرية المعروف بهبوط إنانا إلى العالم الأسفل. من هنا يمكننا اعتبار هذا النص تدوينا للأسطورة النيوليتية في شكلها الأخير الذي اتخذته عند أعتاب عصور الكتابة. ومن هنا أيضا يمكننا اعتبار العناصر الأساسية لهذه الأسطورة بمثابة النمط الذي ستنهج عليه الأساطير الموازية لبقية الثقافات. فالأم الكبرى ترسل بابنها (أو حبيبها) إلى العالم الأسفل، ثم تقضي الأيام في ندبه وبكاء روحه الغائبة. وعندما لا يجدي البكاء فتيلا، تتهيأ للشروع في رحلة طويلة للبحث عنه، وتخاطر بالنزول إلى العالم الأسفل لاستعادته وتحريره من قبضة سيدة الموت، فتفلح في مهمتها وتستعيده إلى الحياة من جديد. إلا أن عهده بالحياة في العالم الأرضي لا يدوم طويلا، ويهبط إلى العالم الأسفل من جديد مبتدئا دورة أخرى. هذه العناصر الأساسية المستمدة من نص الأسطورة، ومن الطقوس المرتبطة بها. ومجمل الإشارات إلى موضوعها في نصوص أخرى، ستظهر فيما بعد في أساطير متباعدة زمانيا ومكانيا؛ بعضها سيظهر بشكل واضح، وبعضها الآخر بشكل رمز وإشارة، فمسئولية إنانا المباشرة عن هبوط دوموزي إلى العالم الأسفل، قد لا تظهر في الأساطير الأخرى إلا تحت ستار كثيف من الرموز، مما سيجري الحديث عنه في حينه.

لدى تقديمنا مقاطع من أسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل في فصل سابق، توقفنا عند خروج الإلهة منتصرة على الموت وصعودها درجات العالم الأسفل. أما القسم الثاني من الأسطورة، فيصف طواف إنانا في البلاد بحثا عمن ينوب منابها في العالم الأسفل، وهو الشرط الذي وضعته إريشكيجال ربة الظلمات، لإطلاق سراحها وإعتاقها من الموت. فإذا كان الشرط في الماضي ينص على عودة الإلهة ذاتها بعد قضائها جزءا من السنة على سطح الأرض، وهو ما رأيناه في أسطورة ديمتر وبيرسفوني التي تنتسب مع أسطورة إنانا ودوموزي إلى أصل واحد، فإن الشرط الآن هو عودة البديل، الذي سوف يلعب من الآن فصاعدا دور روح النبات. ولضمان تنفيذ الشرط، ترسل إريشكيجال مع إنانا المتحررة، عفاريت لا تعرف الشفقة لجر البديل إلى عالم الظلام:

الذين تقدموها،

الذين تقدموا إنانا،

مخلوقات لا تعرف الطعام ولا تعرف الشراب،

ولا تأكل خبز التقدمات،

ولا تشرب من خمر القرابين.

تخطف الزوجة من حضن زوجها،

صفحه نامشخص