ولم يصبه الذهول مع أن القائل كان فهمي، وكان أول كلمات ينطقها، ولم يعجب أيضا لأنه ناداه بمحمود، وكأنما ذكره الاسم بالتختة المشتركة وبأيام زمان، كل ما أحس به أن رجاءه قد تحقق، وأنه يقول: أشكرك يا فهمي .. أشكرك.
وانبطح الحديدي ببجامته على بلاط المطبخ وتناول يد فهمي يقبلها، ويمسح بها دموعه السائلة التي لا تتوقف، وهو يردد سامحني يا فهمي .. سامحوني يا ناس .. أنا غلطت وتعبت والألم فاض بي .. سامحني يا فهمي.
ولكن فهمي كان قد عاد، بآخر وأقوى ما عنده، يصرخ وآلامه قد اشتدت بغتة .. وكانت نوافذ البيت جميعها قد فتحت من زمن وسكانها يصيحون رغم أنوفه للآهات المستغيثة .. ويستجيرون من الصوت الذي لا يرحم أبوابهم ونوافذهم مهما أغلقوا وأحكموا الإغلاق، الصوت الذي أيقظ العمارة ببوابيها وبهواتها وسادتها وداداتها، وبدأ يصل إلى العمارات المجاورة ويوقظ سكانها، ولو استمرت الصرخات لربما كانت قد أيقظت الحي الراقي بأكمله، ومن يدري ربما المدينة كلها كانت قد صحت .. ولكنهم كانوا قد طلبوا بوليس النجدة .. وحضر وفتحت له الزوجة نصف نائمة، غير أنها استيقظت تماما حين قادتهم إلى المطبخ، ووجدت الحديدي راكعا على الأرض يقبل يد فهمي ويستغفره!
ورفعوا فهمي، وألبسوه، وحاول جنديان حمله فيما بينهما. ولكن الحديدي نهرهما، وتقدم هو من فهمي وحمله على كتفه، والمرض قد التهم لحمه ولم تبق له سوى العظام، وتشبثت عفت بزوجها سائلة إياه عما يفعله بنفسه، إلى أين ذاهب؟ وابتسم لها، وأضاء وجهه كما تتعود بالابتسامة وقال: رايح في طريق تاني صعب شديد .. تيجي معايا؟! - أنا ما رحش وياك بالشكل ده .. انت اجننت؟
وأحاطت فهمي الصغير بيديها بينما استدار الحديدي بحمله الصارخ المولول، ومضى يتقدم الموكب، ونظرات السكان وأهل الحي تتبعه وتحيط به تهمس وتسري بينها الهمسات الضاحكة .. لقد عاش في الحي سنتين مرعوبا أن يكتشف أحد أصله وفصله، وتبدو للأعين النائمة شعرة واحدة تكشف عن الجذور والسيقان التي يمت إليها .. ولا ريب أن كثيرين من سكان الحي كانوا يفعلون مثله، فها هو يرى النوافذ والمدخل حافلة بكثير من الجثث.. وهو الآن يستعجل اللحظات التي يغادر فيها الحي .. وقد أصبحت الرائحة لا تطاق.
اللعبة
دخل القادم الجديد مذهولا، كان المكان وكأنما تحس أنك سقطت إليه من عل، أو وصلته عن طريق سرداب طويل مزعج، ولكنه كان فاخرا بالغ الفخامة، اللون الغالب فيه هو الأسود، سواد .. كسواد الكاديلاك .. يوحي بالأناقة والعراقة، وكان النور غير ثابت المصدر، ومضطرب الاتجاه .. وتحس وكأنما توجهه يد خفية إلى الناحية أو الناس الذين ينظر إليهم فقط، كان غموض مرح يسيطر على جو الحفل، والحضور تدرك بطريقة ما أنهم كثيرون، ولكن عدد من يقع بصرك عليهم قليلون، تستطيع التفرس فيهم بسهولة .. ودخان السجائر والسيجارة يلون الجوع ببقع سماوية متحركة، ويتشابك مع إشعاعات النور غير المرئي، صانعا سحبا كسحب الصيف، بيضاء. والحفل صاخب إلى حد ما، ولكنه صخب وقور .. كأنه احتفال بخطبة شاب من أعرق عائلات الصعيد .. أو بتكريم خاص لوزير مهم، وعلى الوجوه نوع من الاستمتاع القلق الذي ينتاب هذا النوع من صفوة الناس كلما أتيحت لهم متعة، مخافة أن يضيعوا فيها وقتا من أوقات الكسب، وخدم، وكأنهم استحضروا خصيصا للمناسبة بأكثر من زي، لكونهم درجات، والسيدات في فساتين السهرة .. ولكنها ليست جديدة تماما، كأنما لم تستعمل من أعوام، واستخرجت للمناسبة من الدواليب، غالية، تبدو عليها آثار العز، بعضها مطرز بلآلئ وإن كانت صغيرة .. لكنها حقيقية .. والوجوه، وجوه الرجال، مكتنزة قليلا ولكنها شاحبة، كالمجهدة. والسيدات عيونهن .. رغم تعدد ألوانها تبدو كلها سوداء، كلها سوداء عميقة الغور، وكأن صاحباتها يعانين من جوع جنسي لا يدركنه، والمقاعد قليلة متناثرة، أقل بكثير من عدد الحاضرين، ولكنها راسخة في أماكنها وكأنما مضت عليها أحقاب .. وقماشها من القطيفة الحمراء الغامقة، التي تبدو حمرتها مع سواد البدل، ورماديتها مع الفساتين الفاتحة .. والسقف الأخضر بانعكاسات الضوء، وسحابات الدخان المتعددة الدرجات، والعبير الصادر عن «برفانات» حديثة، وإن كانت تعطي رائحة كرائحة عطر الجدات العربي القديم، والضجة المكتومة الصادرة عن لا مصدر، والتي تتيح لكل إنسان أن يتحدث مع أي إنسان دون أن يثير الانتباه، أو يتسرب من حديثهما الكلام، كل هذا جعل القادم الجديد يحملق ويتردد ويضطرب كثيرا قبل أن يستطيع أن يتبين أن يكون موقفه. كان واضحا أنه لا يمت إلى المكان أو الحاضرين، وكأنما دخله بطريق الخطأ. ولكن من ملامحه وتصميمه، كان يبدو أن له الحق في الحضور، وأنه يملك، ربما في جيبه هذا الحق .. وأنه على استعداد لأن يظهره ويتحدى به كل من يجرؤ على سؤاله أو التصدي له. ولم يكن أحد قد لاحظ دخوله، أو اكترث. مما أتاح له أن يتدبر موقفه، وأن يتأمل الجميع، أو بدقة أكثر من استطاعت عيناه أن تقع عليها من الجميع، تأملا كان يدفعه إلى مزيد من القلق .. وشيئا فشيئا يخلخل ثقته بنفسه، أين يقف؟ تلك كانت مشكلة، وهل يؤثر الوحدة أم لا بد له أن يشتبك مع الآخرين في حديث؟ مشكلة ثانية .. ومع من يتحدث إذا أراد؟ وفي أي موضوع؟ وبأي حق؟ مشكلة ثالثة ورابعة وخامسة؟
أم تراه قد أخطأ المكان وتكون الكارثة؟
ودهش فعلا حين وجد، دونا عن الحاضرين، شخصا يقترب منه .. كان جليا أنه ليس من الخدم، فلم يكن يرتدي مثلهم، ولا من الحضور .. فهم منصرفون إلى أنفسهم متكبرون .. لا يمكن أن يفكر أي منهم في مبادأته بالحديث، ولأمر ما، كان في مشية الرجل وطريقة اقترابه وابتسامته المتشح بها ما يذكر بالأدلاء الذي يتهافتون حول الفنادق لإرشاد السياح .. حتى سترته التي يرتديها بدت أكمامها ومقدمتها كأنما أكمام ومقدمة جلاليب الأدلاء البلدية .. وما إن اقترب من القادم بدرجة كافية حتى اكتشف أنه يحمل أمامه، وكأنما بحزام، صندوقا كالصناديق التي يحملها باعة السجائر، ولكنه أصغر كثيرا ولم يكن بحزام، وأنيق جدا، جدرانه وأركانه مطعمة ومشغولة بأسلاك معدنية ثمينة .. وحين وصله وسع ابتسامته بطريقة بدت وقحة الأدب، وقال بصوت فيه بعض التحدي وبعض الإغراء: تضرب يا بيه؟
واضطرب القادم بانفعال مفاجئ. كان قد بدأ يدرك أن الرجل يحمل لعبة من نوع ما، وأنه ليس الوحيد، فهناك أكثر من واحد غيره يطوف بأرجاء المكان، بل هناك أكثر من لعبة يزاولها بعض الحاضرين في أطراف المكان الذي بدأ يصبح أكثر اتساعا، وكأنه ناد، وكأن الاحتفال مهرجان ما، أو «تمبولا». والرجل لا يزال واقفا أمامه، يبتسم .. نفس الابتسامة المؤدبة الوقاحة، ويعرض عليه مرة أخرى بإغراء أكثر: تضرب يا بيه؟
صفحه نامشخص