وجفان كالجواب
وقدور راسيات
ويخزهم وينصركم عليهم
ويشف صدور قوم مؤمنينا •••
وقرآنا فرقناه
لتقرأه على الناس
وهذا وأمثاله يطرد في كل كلام عربي مرتل فصيح، ولا يعهد له نظير في اللغات الأخرى، ولو كانت من اللغات التي يتقارب فيها الشعر والنثر ولم يبلغ فنها الشعري مبلغ أوزان العروض العربية من دقة التقسيم والتفصيل.
ويخلص لنا من جملة هذه الخصائص في الشعر العربي، واللغة العربية أن فن النظم بهذه اللغة فن دقيق كامل الأداة مستغن بأوزانه عن سائر الفنون، ولكنه - على هذا - فن مطبوع لا كلفة فيه على قائل ذي قدرة على التعبير له نصيب من الشاعرية والملكة الفنية، ومن هنا يظهر لنا كل الظهور أن الدعوة إلى إلغاء الأوزان ذات البحور والقوافي في اللغة العربية، لا تأتي من جانب سليم، ولا تؤدي إلى غاية سليمة، فلا يدعو إليها غير واحد من اثنين: عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي في نظم القصص المطولة، والملاحم التاريخية من أمثال السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم وغيرها من السير المشهورة المتداولة، أو عاجز عن النظم الذي استطاعه الشاعر العامي والشاعرة العامية في نظم أغاني الأعراس، ونواح المآتم وأمثال الحكمة، والنصيحة على ألسنة المتكلمين باللهجات الدارجة، ولا خير للفن في كلام يقوله من يعجز عن هذا القدر من السليقة الشاعرية والملكة الفنية، وأحرى به أن يأتي بما عنده في كلام منثور، ويترك النظم وشأنه بدلا من هدم الفن كله وحرمان اللغة من آثار القادرين عليه، ونحن نستشهد بالقصاصين وناظمي الملاحم العامية والأغاني الشائعة؛ لأن في استطاعتهم نظم القصص والملاحم، والأغاني والأناشيد بغير تعلم ولا معرفة ثقافية ينفي عن الأوزان العربية تلك الصعوبة المزعومة، التي يدعي الأدعياء أنها تجعل النظم العربي من أصعب فنون النظم في اللغات العالمية، ونسكت عمدا في هذا المقام عن الملاحم المترجمة التي نقلها إلى العربية أناس من المثقفين المطلعين على الآداب والعلوم، فإن المتشاعرين الأدعياء قد يزعمون أن تذليل هذه الصعوبة عمل يحتاج إلى الثقافة والاطلاع، ولا يقتدر عليه عامة المترجمين.
فإن لم يكن نقص الملكة الفنية سبب العجز عن أوزان الشعر العربي، والدعوة إلى إبطال هذه الأوزان، فهو إذن عمل من أعمال الهدم الصراح عن سوء نية وخبث طوية، يتعمده المجاهرون به لتقويض معالم اللغة ومحو آثار الأدب، وفصم العلاقة الفكرية بين روائع الثقافة العربية في مختلف العصور، وتلك شنشنة نعهدها في العصر الحاضر من دعاة الهدم المستترين وراء كلمات التقدم والتجديد، وأين يعمل هؤلاء عملهم الهادم إن لم يكن هذا عملهم المقصود من وراء الستار؟!
إن هدم الفن الجميل الذي امتازت به لغة العرب بين لغات العالم لا يصدر إلا عن عجز، أو إصرار على الهدم ... ولا خير في دعوة يتولاها العجز العقيم والضغينة النكراء. (6) المجاز والشعر
صفحه نامشخص