ومن الأدلة الراهنة على ذلك أن لويس التاسع ملك فرنسا (1226-1270م)، لما عاد من الحرب الصليبية نقل معه من مدينة دمياط مخطوطات عربية وقبطية، زين بها خزائن قصره، واحتذى حذوه كثيرون من أمراء الفرنسيس وأغنياء حجاجهم الذين رافقوا الملك في زيارته الأماكن المقدسة.
1
زد على ذلك أن علماء الاستشراق وقناصل دول الغرب، وتجار الإفرنج، الذين أموا البلاد الشرقية في آونة مختلفة استفادوا من جهل سكانها، وقلة اكتراثهم لذخائر الأجداد. فابتاعوا ما تيسر لهم من تلك الكنوز الكتابية، وأغنوا بها خزائن أوروبا ومتاحفها .
وخلاصة القول أن صرعى الكتب وعشاقها في الغرب أقاموا عملاء تسوقوا لهم المخطوطات بأثمان غالية من جميع أنحاء الشرق. على أن من أتيح له أن يتفقد دور الكتب الشهيرة في لندن وباريس وفينا ورومة والفاتيكان وفلورنسا وميلانو ومجريط (مدريد) وبرلين وليبسك ومونيخ ومنشن وبون وغوتنجن وغوطا وبلجكا وكوبنهاغن وأوبسالا وليننغراد ... إلخ، لا يتمالك من الإعجاب مما أفرغ الإفرنج من الجهود، وما أنفقوه من الأموال لاكتناز تلك الثروة العلمية التي لا يعادلها ثمن. (2) ترجمة كتب الفلسفة والطب العربية، وتدريسها في جامعات أوروبا
شاعت اللغة العربية في القرون الوسطى بين علماء أوروبا؛ لكثرة الأقوام المتكلمين بها؛ ولشهرة فلاسفة الإسلام بينهم كابن رشد وابن سينا وابن زهر والفارابي والرازي. فظلت تدرس فلسفتهم وطبهم في جامعات أوروبا حتى السنة 1650 للميلاد. وعثر داڨيك في مدرسة مونپليه على ترجمة القرآن في اللغة اللاتينية، بقلم الأخ دومينيك جرمان الصقلي، فنشرها في المجلة الآسيوية.
2
وفي السنة 1130م تأسست في طليطلة كلية لترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية برعاية الأسقف ريموند. وقام بعده جيرار دي كريمونا سنة 1170م، فترجم كتب الرازي والزهراوي وابن سينا. وما كان القرن الخامس عشر حتى بلغ عدد الجامعات في إسبانيا ست عشرة جامعة. فكانت قرطبة بمكتبتها العامرة موضوع إعجاب الأوروبيين. وألقت جامعة إشبيلية دروسها باللغة العربية.
ولم تكن صقلية وجنوب إيطاليا بأقل حظا من إسبانيا؛ ففي القرن الحادي عشر للميلاد تأسست جامعة ساليرنو التي سيطر عليها الفكر العربي مدة قرنين. وكان لقسطنطين الإفريقي اليد الطولى في إدارتها. ثم قامت جامعة پالرنو ومونپليه، وتلتها جامعات باريس وبولونيا وأكسفورد وبادوا وغيرها، وعنيت هذه الجامعات كلها بتدريس العلوم العربية، فأثارت في الغرب ثورة فكرية جديدة أنارت سبل أوروبا، وفتحت أمامها أبواب ثروة علمية استفادت منها فائدة عظمى.
3
ومن أعظم المستشرقين الذين تفانوا في نشر اللغة العربية، وتشويق أهل أوروبا إلى درسها كان «راموندلول»، الذي أدرك أوائل القرن الرابع عشر للميلاد. فهو أول من شعر بخطورة اللغة العربية في أوروبا فأحكم أصولها وعشق آدابها، بل هو أول من اجتهد في تدريسها، على رجاء أن تكون وسيلة قوية للتفاهم بين الشرق والغرب.
صفحه نامشخص