تاريخ مصر القديم
الباحثون عن آثار مصر
تاريخ الإسرائيليين
تاريخ اليونان
الكلام على المملكة الرومانية وولاياتها
تاريخ القرون الوسطى
تاريخ الإسلام
تقريظ
تاريخ مصر القديم
الباحثون عن آثار مصر
تاريخ الإسرائيليين
تاريخ اليونان
الكلام على المملكة الرومانية وولاياتها
تاريخ القرون الوسطى
تاريخ الإسلام
تقريظ
لب التاريخ العام فيما صدر من غابر الأعوام
لب التاريخ العام فيما صدر من غابر الأعوام
تعريب
أحمد حسن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل التاريخ نبراسا تستضيء به الأمم، ومعيارا تزن به الأفكار السليمة بضائع الحكم. والصلاة والسلام على أشرف مرسل بكتاب كشف عن مخدرات الغابرين نقابها، وألبس الوقائع التي أخبر عنها من الخبر اليقين جلبابها، وعلى آله البدور الطوالع، وأصحابه البازغين في أسعد المطالع.
أما بعد، فإن التاريخ مرشد الصواب، ومرآة تجلو مخبآت الأمم في أجلى صورة. وهاد لمن ضل عن منهاج الرشد إلى بحبوحة الحق، وأحسنه ما كان باحثا عن الأحوال العامة، التي لا تخلو من فوائد يتحلى بها المرء، وينتشل من غواية الضلال؛ حيث يكون محيطا بأحوال سكان الكرة بما كانوا عليه حين جمعتهم جامعة الطبيعة. هذا وقد ظفرت يدي بكتاب في هذا الموضوع، واف بالمقصود، بيد أنه باللغة الفرنساوية، فكان قاصر الفائدة عن أهل الوطن الذين لا يفقه منهم هذه اللغة إلا القليل، فهزتني أريحية الغيرة، وحرضني حب الوطن وأهليه على أن أبرزه من خدر اللغة الفرنساوية إلى مدارج اللغة الشريفة العربية؛ ليسهل تناوله على من رامه، وسميته «لب التاريخ العام، فيما صدر من غابر الأعوام»، والمرجو منه تعالى خير توفيق لأقوم شرعة وأحسن طريق.
تاريخ مصر القديم
الشعب المصري: وقتما كانت الأوروباويون منذ خمسة آلاف سنة في الحضيض الأسفل من الهمجية والتوحش؛ لا يعرفون للتمدن لفظا ولا للإنسانية اسما، يسكنون الوهاد والمغارات والأكواخ، ويكتسون من جلود الحيوانات، ويعيشون من الصيد، لا يدرون ما هي الزراعة ولا الصناعة؛ كانت - إذ ذاك - سكان مصر متمدنة، تشيد المدن، وتسكن أعالي القصور، وتبني القناطر والجسور، وتتحلى بالحلي، وتفلح الأراضي، مذعنة لشرائع مسنونة ، وقوانين مخصوصة، ومجتمعة تحت جامعية الوطن.
مصر: هي بلد طيب هواؤها، معتدلة منطقتها، لا يرون فيها المطر إلا قليلا، ونيلها السعيد الذي يخترقها يفيض عليها بفيضه العميم، فيهديها خصوبته، ويسدل عليها بساط الخضرة، ويصيرها نضرة كجنات النعيم، ومزدهرة بما فيها من القطوف الدانية والمناظر الزاهية.
وفيضان النيل آت من ذوبان الثلوج التي على قمم الجبال، فيبتدئ النيل زيادة في شهر أبيب، ثم يعم على الأراضي من بعد هذا الشهر، فيمكث عليها مدة ثلاثة شهور، حتى إن بعض القرى المرتفعة تصير في هذا الحين كجزائر محاطة بالمياه من جميع الجهات.
الفراعنة: كانت الملوك التي تحكم على مصر قديما تسمى فراعنة، وكان الفرعون منهم يعيش في قصره جالسا على أريكة ملكه، وكان يسمى ولد الشمس؛ ولذا كانوا يعبدونه كإله، وحين يموت الواحد منهم يشيدون له معابد، ويقدمون له قربانا، وكانت الفراعنة منقسمة إلى ست وعشرين عائلة، وكانت مدة حكمهم تزيد عن ألفين وخمسمائة سنة، وكان مركز ملوك الاثنتي عشرة عائلة الأول مدينة «منفيس» القريبة من المكان الذي فيه القاهرة الآن، وأما بقية العائلات فكان مركزهم في طيبة بالوجه القبلي، وآثارهم لم تزل موجودة تدل عليهم في هاتيك المحلات، والناس يأتون إليها الآن أفواجا أفواجا؛ ليروا من بديع صنعهم ما تندهش له العقول.
الحروب: كانت الفراعنة تحكم على جنود، سلاحها الرماح والقسي، وكانوا يقاتلون وهم على عربات حربية، وكانوا يشنون الغارة دائما على عبيد أفريقيا والسوريين، ومن كان يقع في أيديهم أسيرا كانوا يأتون به، والأغلال في عنقه، مكبا على وجهه، ويشغلونه في أبنيتهم وآثارهم. وأشهر هذه الملوك هو «رعمسيس» الثاني الذي كان من العائلة الثانية عشرة المسمى «سيزوستزيس»، وكانت مدة حياته قبل المسيح بألف وأربعمائة سنة.
قبور الفراعنة: كان يزعم قدماء المصريين أنه حين يموت الشخص منهم تطير روحه، وتحوم حوله، ولكن لا بد في يوم ما أن ترجع إلى جسده، وتدخل فيه؛ ولذلك أوجدوا طريقة لحفظ الجسد، فكانوا يصبرونه ويضعونه في قماش ويربطونه بعصابات، ويودعونه في تابوت على شكل الإنسان تقريبا ، وهذا ما يعبر عنه «بالموميا»، ثم يشيدون له قبرا شبيها بمنزل تحت الأرض، مهيأ للميت بأن يضعوا فيه سريرا وموائد وملابس وحليا وأطعمة؛ ظنا أنه سيجيء ويستعمل هذه الأشياء. وكثيرا ما عثروا على قبور مثل هذه - ولم يزالوا يعثرون عليها - ويجدون فيها «موميات» مختلفة أنواعها.
الأهرام: إن أهرام الجيزة الثلاثة التي لم تزل واقفة على قدم الدوام ولم يؤثر فيها صرف الزمان وتوالي الحدثان، كانت ملوك قدماء المصريين تبنيها مقابر لهم، وكان كل واحد منها قبر ملك. وأعظم أهرام الجيزة الهرم المسمى بالهرم الأكبر الذي يبلغ ارتفاعه نحو المائة والستين مترا، وهذا الهرم من أعظم آثار العالم، وأرفع قبر شيد في الدنيا، على أن الذين بنوه ما كانوا يعرفون الآلات، فكان لأجل ما يرفعون الحجارة إلى أعلى؛ كانوا يشيدون أولا منحدرا يسحبون الحجارة عليه، ثم يهدمونه بعد. وبنت الملوك هذه الأهرام بواسطة رعاياها وأسراها. وهذه الأهرام موجودة في الجيزة بالقرب من القاهرة، وأغلب الأجانب - وعلى الأخص سكان أوروبا - يأتون إليها زمرا زمرا، ويصرفون المبالغ الباهظة لرؤية هذه الآثار التي هي من أعجب آثار العالم.
فنون قدماء المصريين وحيواناتها: كانت قدماء المصريين تشيد معابد عظيمة وكانوا يرفعون على باب كل واحد منها مسلتين عظيمتين، ومن هذه المسلات: المسلة التي كانت بالأقصر التي أخذها الفرنساويون ووضعوها في عاصمة بلادهم «باريس»، في ميدان يقال له «كونكورد»، وقد كانت أخذتها من أطلال معبد طيبة. وكانت المصريون تنقش من الحجر هياكل، يقال للواحد منها أبو الهول «إسفنكس»، ويضعونه على صفين في دهليز المعبد. وكان عندهم محاريث كالموجودة الآن في ديار مصر وجنوب فرنسا، وكانوا يحرثون ويزرعون، ووجد في مقابرهم حب من القمح كالموجود الآن. وكانوا ينسجون أقمشة من الكتان، ويشتغلون الذهب والفضة، ويستخرجون منهما حليا يلبسونها، ويصنعون الزجاج والصيني، ويصنعون من نبات ينبت في مصر على شاطئ الماء نوعا من الورق، ويكتبون عليه بأقلام من القصب مبرية، وهذا النبات كان يسمى بابيروس «البردي»، ومن هنا أخذت الإفرنج لفظة «بابييه» التي معناها الورق. وكان عندهم من الحيوانات: الثيران والعنز والخنازير وأسراب من الأوز.
كتابة قدماء المصريين: كانت المصريون اخترعت كتابة رموزها تسمى ب «الهيروغليفي»، وهذه الرموز كانت في مبدأ الأمر كثيرة العدد، عسيرة جدا، فكان لكل كلمة علامة مختلفة، وبما أن الكلمات لا تدخل تحت حصر، كان الوصول إلى تعلم هذه الكتابة صعب المنال جدا، وفي آخر الأمر صارت هذه الكتابة سهلة بعد ما حسن فيها؛ إذ إنه كانت توجد أمة صغيرة بالقرب من الشام، يقال لها «الفينيقيون»، وهذه الأمة كانت تسكن جملة مدن، أشهرها مدينة «ثير»، وكانت سكانها تجارا مفتقرة لكتابة سهلة؛ ليكتبوا بها في دفاترهم التجارية لحفظ تجارتهم، فلأجل الوصول إلى هذه المآرب أخذوا نحو العشرين حرفا من الأحرف المصرية، وأوجدوا طريقة بحيث إنه بهذه الأحرف يمكنهم أن يكتبوا كل ما أرادوه. والحرفان الأولان من هذه الأحرف هما «ألفا بيتا» باليوناني، ومن هنا أتى اسم «ألفابيه» أعني حروف الهجاء، وجميع الحروف المستعملة الآن في بلاد أوروبا هي آتية من الكتابة المصرية التي أصلحتها «الفينيقيون».
الباحثون عن آثار مصر
كانت العلماء منذ مائة سنة جاهلة حقيقة قدماء المصريين، ففي زمن الثورة الفرنسوية المشهورة أتى جيش عرمرم فرنساوي فتح مصر في سنة 1798م، وكان مع هذا الجيش جم غفير من أعظم علماء الفرنساويين، فنبش هؤلاء العلماء المقابر وأخذوا منها جملة أشياء. وفي ذاك الزمن ما كان أحد يعرف رموز «الهيروغليفي» المنقوشة على الأحجار، أو المكتوبة على «البردي»، ولكن في سنة 1821م اهتدى أحد المعلمين الفرنساويين المسمى «شامبيليون» إلى طريقة بها يمكن الوصول إلى حل رموز الكتابة المصرية القديمة.
ومن ذاك الوقت يوجد ب «فرنسا» و«إنكلترا» و«ألمانيا» علماء يمضون جميع أوقاتهم في الدراسة؛ للوقوف على حقيقة مصر وعلى خباياها، وهذه العلماء هم الباحثون عن آثار مصر.
أهمية مصر: إن الأمة المصرية هي التي لها اليد الطولى والفضل الأوفر على الجنس الإنساني؛ إذ قدمت له جميلا ما سبقتها أمة به من قبلها؛ حيث إن المصريين قد عرفوا قبل جميع الأمم الأخر الزراعة، ونسيج الأقمشة والنقش، ومعرفة طرق الحديد ، وطرق سبك المعادن، والكتابة. وجميع هذه الأشياء الضرورية جدا التي لا يستغني عنها الجنس الإنساني ما وجدت من قبلها، بل هي التي أخرجتها من حيز العدم إلى عالم الوجود، وأخذتها الأوروباويون منها وأصبحوا بها أمما متمدنة؛ وبسبب ذلك طارت شهرة مصر إلى السبع الطباق على جميع ممالك الشرق التي كانت متمدنة، وكان موجودا في الشرق في هاتيك الأزمنة ممالك عظيمة؛ مثل: مملكة الآشوريين التي عاصمتها «نينوى»، ومملكة البابليين التي تحتها «بابل»، ومملكة الأعاجم، ولا نتكلم على هذه الممالك؛ حيث إنها ليست على عظيم من التمدن كالمصريين القدماء، وغاية ما سترى في هذا السفر الصغير أن مصر كانت فتحتها الفرس واليونان.
الملخص
أولا:
إن المصريين هم أقدم أمة تمدنا في العالم، وكانوا يعرفون منذ خمسة آلاف سنة تشييد المدن وحرث الأراضي.
ثانيا:
كانوا يسكنون بلدا معتدلة منطقتها، يخترقها نيلها السعيد، وبسبب فيضانه عليها يخصب أرضها.
ثالثا:
كانوا مذعنين لملوك يقال لها: فراعنة، وكانوا يعبدونهم كآلهة، وكان يوجد ست وعشرون عائلة من الفراعنة.
رابعا:
إن الفراعنة شنت جملة غارات على عبيد أفريقيا والسوريين.
خامسا:
إن قدماء المصريين كانت تصبر موتاها، وتصنع «الموميات» التي كانت تضعها في المقابر الكبيرة.
سادسا:
إن أهرام الجيزة الثلاثة ليست شيئا آخر إلا مقابر للملوك.
سابعا:
كانت المصريون تشيد معابد مزينة بمسلات وهياكل «إسفنكس»، وكان عندهم محاريث وحنطة وأنواع من الحيوانات، وكانوا يعرفون النسيج، ومهنة طرق الحديد، ويصنعون ورق الكتابة «بابيروس».
ثامنا:
إنهم اخترعوا الهيروغليفي الذي استخرجت منه الفينيقيون حروف الهجاء.
تاسعا:
ما عرفت حقيقة مصر إلا من سنة 1798م؛ إذ إن «شامبيليون» الفرنساوي وصل إلى معرفة حل رموز الهيروغليفي، ومن هذا الوقت وجد جم غفير من الباحثين عن آثار مصر القديمة.
عاشرا:
إن مصر اشتهرت؛ حيث إنها هي التي نقلت التمدن إلى الشعوب الأخرى وعلمتها، وبسببها تمدنت وتعلمت.
تاريخ الإسرائيليين
الآباء: يوجد بين نهر الفرات وسلسلة جبال «لبنان» بلد شاسع، حار طقسها، كثير رملها خاوية على عروشها بلقع، كان يسكن هاتيك البلد قبل الميلاد بألفي سنة أمم رحالة ، ليس لها مستقر ولا بيوت، بل كانت ترحل من مكان إلى آخر بحيواناتها وثيرانها وإبلها وحبالها وعصيها، وكانت تسكن خياما من الجلد مطنبة بعمدان تذهب بها حيثما شاءت وأينما أرادت، وكانت منقسمة إلى عدة قبائل، وكل قبيلة كعائلة كثير نفرها، وكان يقال للكبراء العشائر الذين يديرون أمرها ويرأسونها «الآباء».
أمة بني إسرائيل: كان أشهر الآباء سيدنا إبراهيم الذي أتى إلى أرض فلسطين القريبة من نهر الأردن وأقام بها، وكانت رجال قبيلته تقول: إن الله سبحانه وتعالى وعد سيدنا إبراهيم بأن يرزقه ذرية، كثير عددها كعدد نجوم السماء أو أكثر، كما أنه قال لربه: إني مطيع لما يوحى إلي من عندك. وقد ظهر من قبيلة سيدنا إبراهيم أمتان عظيمتان شهيرتان ارتفع صيتهما إلى السبع الطباق، وهما: أمة العرب وأمة بني إسرائيل. وحينما كان سيدنا يعقوب أبا الإسرائيليين حصل جدب عظيم في أرض فلسطين، وإذ ذاك رحل سيدنا يعقوب إلى أرض مصر بقبيلته، وبها أقامت الإسرائيليون زمنا طويلا حتى إنه كثر عددها فيها وانتشر.
سيدنا موسى: كان يوجد بأرض مصر ملك يضطهد الإسرائيليين، ويستخدمهم في تشييد آثاره ويستعبدهم في أعماله، وكان جاعلهم كآلات صماء طوع يمينه، فسيدنا موسى ساقته أريحية الشفقة وحرض أمته على المهاجرة من أرض مصر وأن يرجعوا إلى حيث خرج سيدنا يعقوب، وقد صادف كلامه عند الإسرائيليين محلا، وصار له وقع في قلوبهم، وسافروا وهم تحت إمرته، وكان هو المشرع لهم بكتاب أنزله الله عليه، يطيعون أوامره ويجتنبون نواهيه، وكان يأمرهم بألا يشركوا بربهم أحدا، وأن يعبدوا الله مخلصين له، وكانت حياة سيدنا موسى قبل المسيح بألف وخمسمائة سنة.
الكلام على أرض فلسطين: قد مكثت الإسرائيليون زمنا طويلا في البادية، ثم أتوا إلى أرض فلسطين، وشنوا الغارة على الأمم التي كانت تسكنها، وما زالت الحرب واقفة على ساق وقدم إلى أن أبادوا هاتيك الأمم عن آخرهم وتوطنوا في البلد، وكانت الإسرائيليون إذ ذاك منقسمة إلى اثنتي عشرة قبيلة، كل واحدة لها سير مخصوص.
الملوك: لما أراد الإسرائيليون أن يكون لهم ملك يقاتل في سبيل الله معهم، ويرشدهم في أمورهم، ويرأس جيشهم، ذهبوا إلى نبيهم المسمى «أشمويل» لأجل أن يختار لهم ملكا، فاختار لهم «طالوت»، المسمى بالسريانية «شاول»، وسلمه زمام الملك، ودهن رأسه بدهن القدس، وقال له: أمرني ربي أن أملكك عليهم، فأبى - وذلك كان قبل المسيح بألف ومائة سنة تقريبا - ولكن لما رأى أشمويل أن شاول أبى وتنجى أن يكون ملكا، فرأى أيضا أمة بني إسرائيل يحاولون في عدم إقامته عليهم ملكا، فاختار أن يسلم زمام ملكهم إلى سيدنا داود. فلما استولى على الملك قمع أعداء بني إسرائيل، وأقام على جبل «سيئون» في مدينة بيت المقدس، ثم خلفه ولده سيدنا سليمان، وشيد قصرا من الخشب وأقام بيت المقدس، وذلك قبل المسيح بألف سنة.
أنبياء بني إسرائيل: بعد حكم سيدنا سليمان انشقت عصا الإسرائيليين ثانيا، وانحلت عراهم. فالعشر قبائل الشمالية كونوا مملكة فذة، وصاروا يعبدون الأوثان، واتخذوا من دون الله أربابا. وأما القبيلتان الجنوبيتان اللتان كانتا في ضواحي بيت المقدس، فقد اتخذتا اليهودية دينا لهم، وعبدتا الله غير مشركين به أحدا، وقد أطلق على سكان هذه المملكة اسم اليهود، ثم إنه وقعت حرب بين هاتين المملكتين، وما زالت واقفة على ساق وقدم إلى أن أتت ملوك «نينوى» و«بابل» بجيوش جرارة، فأثاروا النار في محصولاتهم، وأبادوا مدنهم، وأخربوا ديارهم، وسبوا نساءهم، وذبحوا أولادهم ورجالهم، واستولوا على «سيمبريا» عاصمة مملكة الإسرائيليين في سنة 711 قبل المسيح، وعلى «بيت المقدس» عاصمة مملكة اليهود في سنة 589 قبل المسيح. وفي هذا الزمن أرسلت إلى بني إسرائيل الرسل؛ ليهدوهم إلى الصراط المستقيم والدين القويم الذي ضلوا عنه، وأساءوا عملا؛ حيث عظمت فيهم الأحداث، وظهر فيهم الفساد، ونسوا عهد الله حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله عز وجل. وأشهر الرسل التي بعثت لبني إسرائيل هم: «حزقيل» الملقب بابن العجوز، و«إلياس» و«اليسع» عليهم السلام. وكانت الملوك طورا يتبعونهم، ومرة يضلون ويطغون.
المسيح: كانت اليهود الشهيرة أخذت أسرى إلى بابل، وأقاموا بها سبعين سنة، غير أن في هذا الزمن كانت ابتدأت الفرس (التي كانت أمة صغيرة بآسيا) أن تؤسس مملكة عظيمة مشيدة أركانها، فاستولى ملكها «كرش» على بابل، وأذن لليهود بأن تعود إلى بيت المقدس، ويبنوا ثانيا المعبد. وإذ ذاك ما كانت اليهود إلا شعبا صغيرا لا يملكون قطميرا، ولكنهم عللوا أنفسهم وقالوا: إننا ما عصينا الله وكنا مخلصين له، وإذا عاقبنا المولى الآن فلا بد أن يعفو عنا يوما، ويغفر لنا سيئاتنا، ويعيدنا في قوة وعزم متين كعهد سيدنا سليمان. وقد كانت الرسل أنبأت بأن الله سيبعث رسولا من ذرية داود ليرفع اليهود، وكانت منتظرة هذا الرسول الذي تسميه المسيح.
هدم بيت المقدس: انتظرت اليهود مدة خمسمائة سنة ظهور المسيح، ولكنه لما ظهر أبوا عن أن يعترفوا بأنه المسيح، ولما أتى إلى بيت المقدس حكمت عليه الكهنة بأن يصلب (وما صلب ولكن شبه لهم) وذلك بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة من عمره. وكانت إذ ذاك حكمت الرومانيون بلاد اليهود. وفي سنة سبعين بعد المسيح قامت اليهود ضدهم، ولكن ضلت مساعيهم وحبط عملهم، إذ إن جيشا جرارا من الرومان حاصر «أورشليم» واستولى عليها وحرق المعبد، وأخذت اليهود أسرى، والأغلال في أعناقهم وأيديهم وهم مقمحون، وبيعوا بثمن بخس كعبيد. ومنذ هذا الوقت لم توجد مملكة مخصوصة لليهود، بل تبددوا وتفرقوا في جميع البلاد، نجد منهم في «ألمانيا، وبولونيا، وفرنسا، وبلاد الجزائر، وآسيا، ومصر» ولم يزالوا محافظين على ديانتهم.
أهمية أمة اليهود: إن أمة اليهود صغيرة، ولكنها عظيمة الأهمية في تاريخ العالم؛ إذ إنها كانت تقر بأن الله واحد في مدة أن كانت جميع الأمم الأخرى تعبد الأوثان، وأن ديانة النصرانية تفرعت منها.
خلاصة ما تقدم من تاريخ الإسرائيليين
أولا: إن الآباء كانت تعيش في الصحاري بين نهر «الفرات» وجبل لبنان؛ مرتحلين من مكان إلى آخر بعائلاتهم ودوابهم. ثانيا: إنه خرج من سيدنا إبراهيم أمة العرب وبنو إسرائيل الذين هم من نسل سيدنا يعقوب. ثالثا: إن الإسرائيليين الذين كانوا مقيمين بأرض مصر خرجوا منها وهم مؤتمرون بأمر سيدنا موسى الذي أظهر دين اليهودية، وأمر اليهود أن يعبدوا الله وحده. رابعا: إن الإسرائيليين كانت تسكن أرض «فلسطين» التي كانت فيها منقسمة إلى اثنتي عشرة قبيلة. خامسا: إنهم كانوا تحت حكم ملوك، أشهرهم سيدنا سليمان. سادسا: إنهم انقسموا إلى مملكتين، وقد أبادوا العمالقة (أي السوريين)، وإذ ذاك ظهرت الأنبياء، ودعتهم إلى الدين القويم. سابعا: إن اليهود رجعوا إلى بابل، وأنشئوا مملكة صغيرة منتظرين المسيح. ثامنا: إن المسيح لما ظهر أنكروا عليه، وحكمت الكهنة بصلبه، وفي سنة سبعين بددت الرومانيون شمل الإسرائيليين. تاسعا: إن أمة اليهود لها أهمية بالنسبة لديانتها.
تاريخ اليونان
الشعب اليوناني: إن بلد اليونان التي ارتفع صيتها، وعلا قدرها، وكان لها دور عظيم من التمدن، لم تكن إلا بلدا صغيرة، لكن أهليها أذكياء، لهم فكر وقادة، وبصائر نقادة، تردوا بأردية الهمة والنشاط، فإنهم كانوا قبل الميلاد بثمانمائة سنة لا يفقهون شيئا غير تفليح الأراضي، وتربية الحيوانات، وما مضى قليل من الزمن إلا وسطع نور تمدنهم، وأضاء جميع الآفاق، وهب نسيم تقدمهم، فصنعوا السفن، وبنوا المدن، ونقشوا الحجارة، وصوروا التصاوير، وشادوا وسادوا.
مستعمرات اليونان: لما كثر عدد اليونان تفرق عدد عظيم منهم في البلاد، وسعوا في مناكبها ليأكلوا من خيراتها، ويتمولوا من أرزاقها، ويعمروا فيها مدنا يسكنونها، وهذه ما تسمى ب «المستعمرات»، فكانت توجد مستعمرات يونانية عديدة على سواحل «البحر الأبيض المتوسط»، وفي «آسيا، وأفريقيا، وإيطاليا، وفرنسا، وبلاد الأندلس»، وعلى شاطئ «البحر الأسود»، وفي «قبرص»، وكانت «مرسيل، ونيس، وأنتيب، واجد» مستعمرات لها في بلاد الفرنسيس.
مدن اليونان: اليونان أمة واحدة، بل كان كل ناحية بخلائها مكونة، لم تكن لأمة صغيرة منفردة بحكومتها وجيشها وعمارتها البحرية، وكانت نار الحرب مشتعلة بين هذه الأمم على الدوام، وكانت توجد مئات من تلك النواحي، كانت تسمى «مدن اليونان»، وأغلب هذه المدن كان صغيرا وأعظمها وأهمها مدينتا «أسبرطة» و«أثينا».
الكلام على مدينة أسبرطة: كانت أسبرطة مدينة جبليين وجنود، وكانوا يربون الأطفال فيها بكثرة، فكانوا يعلمونهم المكافحة والرماية، وكانوا يعودونهم على الوثوب والجري، ويعلمونهم تثقيف الأسلحة والرماح، وكان أهلوها متربين على الخشونة وشظف العيش، فكانوا ينامون على القصب، ويتوسدون الحجارة، ويضربون بعضهم؛ لأجل أن تصير أجسادهم جامدة.
وكانوا لا ينظرون إلى الترف، ولا يهتمون بزخرف الدنيا، ولا يوجهون آمالهم إلى نعومة الجسد، ولا يكترثون بالملابس الفاخرة، وكانوا يربون بناتهم كما يربون صبيانهم، وكانت الرجال تأكل معا على حدتهم، وبعد الأكل يقومون للتدرب على المصارعة، وكانوا لا يقرءون ولا يكتبون، غير أنهم بلغوا الدرجة القصوى في فن المصارعة؛ ولذا كان يشار إليهم بأطراف البنان، ويقال: إن سكان هذه المدينة صناديد بلاد اليونان، وكانوا يذهبون إلى القتال فرقا يقودهم صوت المزمار، وكل واحد منهم متسلح برمح ومعه بيضة ودرقة، وأغلب جسده عار. وكان لسكان «أسبرطة» نواميس استغربها معاصروهم ومن بعدهم، يعزونها إلى «ليكورغه» الذي كانت مدة حياته قبل المسيح بثمانمائة سنة تقريبا.
الكلام على أثينا
كانت أثينا بعكس ما كانت عليه أسبرطة؛ إذ كان للأثينيين بالقرب من مدينتهم مينا عظيمة تدعى «ببريه»، ترد إليها التجارة من آسيا ومصر، وكانوا موسرين ولهم ميل شديد إلى الأبنية الجليلة والزينة الفاخرة والتماثيل الجميلة والتشبب بالشعر، وكان أهل هذه المدينة أعظم مشخصي بلاد اليونان.
وبأثينا كانت المحافل تعقد للنظر في مصالح العامة في ميدان يقال له: «آجورا»، وفيها كانت تتلى الخطب الرائقة والمقالات الشائقة على الحاضرين، وكانوا متبعين قوانين صادرة عن حكمة وعقل، سنها لهم «سولون» الذي كانت حياته قبل المسيح بستمائة سنة.
حرب الفرس مع اليونان
كانت بلاد آسيا ومصر خاضعة للفرس الذين كانوا سادوا أغلب الأمم، وأخذوا البلاد، وامتدت سلطتهم من بلاد الهند إلى ديار مصر في ثلاثين سنة، فكانوا قادوا جزءا عظيما من آسيا، واستولوا على مصر، وكان الملك الذي يحكم الفرس هو أعظم ملك في زمانه، وأقوى شوكة، وأرفع قدرا وشأنا، وأعظم سلطانا من غيره؛ ولذا كانوا يسمونه الملك الأكبر. ولما أراد أحد ملوك العجم المسمى «دارا» أن تذعن لسلطانه وقدرته بلاد اليونان، وبعث لأهليها رسلا ليدعوهم إلى الطاعة، فمنهم من نزل الرعب في قلوبهم وامتثلوا لأوامره، ومنهم من فجر وعصى وتكبر وأبى الإذعان، وهم أهل «أسبرطة وأثينا». فلما بلغ هذا الفعل «دارا» اشتد غيظه، وأرسل عمارة بحرية بالقرب من أثينا في «مرتبان»؛ لإبادة أهليها، فعشرة آلاف جندي من الأثينيين نصبوا خيامهم تلقاء مراكب الفرس، وانقضوا عليهم انقضاض النسور، وقلبوا سفنهم في البحر وأغرقوا من كان فيها، وذلك كان قبل المسيح بأربعمائة وتسعين سنة.
وبعد مضي عشر سنين انتشبت نار الحرب ثانيا؛ إذ إن «اكزرسيس» الملك الذي خلف «دارا» أتى بنفسه مع جيش عرمرم، مركب من مليون جندي أشداء، وعمارة بحرية مؤلفة من خمسمائة سفينة حربية، فلما شاهد أهل أثينا وأسبرطة ذلك، ضموا قلوبهم معا، وشدوا أزر بعضهم، واتحدوا بقالبهم وقلبهم، وذهبوا إلى القتال، فأبادوا عمارة الفرس البحرية في «سلامين» في سنة أربعمائة وثمانين قبل المسيح، وأهلكوا الجيش البري عن آخره في «بلاتيه» في سنة أربعمائة وتسعة وسبعين قبل الميلاد.
عصر بركليس: بعد أن انتصر أهل أسبرطة وأثينا على الفرس، وسقوهم كأس الغلب، وهزموهم شر هزيمة، رجع أهل أسبرطة إلى ديارهم، مطمئني الفكر ثابتي الجأش، واستمر أهل أثينا على القتال بأن ساروا راكبين سفنهم لطرد جنود الفرس من جميع مدن اليونان وجزائرها وجميع مستعمراتها، ونجحوا في مساعيهم، وضربوا الضرائب على اليونانيين الأخر الذين كانوا أذعنوا للفرس وقتما بعثوا لهم الرسل، وبنوا بدراهم الضرائب معبدا فاخرا لآلهتهم، وشيدوا أبنية أخرى كثيرا عددها.
وأول من أوجد التياترات بأنواعها ك «الكوميديا»؛ أي التشخيص المضحك، «والتراجيديا»؛ أي التشخيص المحزن المبكي، هم اليونانيون. وكانت المهندسون والنقاشون والمصورون والفلاسفة والشعراء تجتمع بأثينا.
وكانت الأثينيون في ذلك الوقت تبجل وتعظم بركليس ابن وطنهم، وتصغي لكلمته، وتمتثل لكل ما يشير به؛ إذ إنه كان رجلا جليل القدر، عظيم الشأن، مدبرا عاملا، وفي عصره قد تفننت الفنون، وتقدمت الصنائع والعلوم، وطارت شهرة أثينا إلى السبع الطباق وانتشرت في جميع الآفاق، ولهذا السبب سمي العصر الذي كان فيه باسمه فيقال عصر بركليس.
الكلام على مقدونيا: إن أثينا لم تقم زمنا طويلا، وهي قوية الشوكة علية المقدار والشأن، إذ إن أسبرطة في سنة أربعمائة وإحدى وثلاثين قبل المسيح أعلنتها بالحرب، فقامت بينهما على قدم وساق، واشتعلت نارها في جميع الأنحاء، وطارت شرارتها إلى (آسيا وسيسيليا). وفي هذه الحرب دارت الدائرات على أثينا، ولحقها النكال، وانكسرت شوكتها، وهزمت شر هزيمة، وذلك كان في سنة أربع وأربعمائة قبل الميلاد. ولكن بعدما انتصرت أسبرطة أبت اليونانيون الأخر أن يذعنوا لسلطانها، فأضرمت الحرب ثانيا، وأذكى ضرامها وفدح أمرها، فكانوا يقطعون الأشجار، ويقتلون الرجال، ويسبون النساء، ويذبحون الأولاد. وفي هذا الزمن في كل مدينة كانت الأغنياء والفقراء يقاتلون بعضهم بعضا، ويوم ذاك كان يوجد في شمال اليونان بمقدونيا أمة صغيرة كانت خامدة الذكر ومعدومة الشهرة، ولكنها كانت أمة منتظمة قوية؛ إذ إن «فيليبش» ملكها نظم جيشا جرارا واستمال باقي اليونان إلى أن يصيروا حلفاء لقمع ملك الفرس، فأبى الأثينيون ذلك، وحصل قتال عظيم، وكان الفوز لفيليبش في «قيرونيه» في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة قبل الميلاد.
فتوحات إسكندر: جلس إسكندر ولد فيليبش على أريكة الملك في سنة ثلاثمائة وست وثلاثين قبل الميلاد، وبعد أن مكث سنتين على عرش ملكه ظعن بخمسة وعشرين ألف مقاتل لفتوح بلاد الفرس، فقابله ملكهم بجيش عرمرم أكبر من جيش إسكندر بعشرين مرة، لكن جنوده كانوا ضعفاء متسلحين بأسلحة عاطلة، وأغلبهم كان مجبورا على القتال، يطاعن بعزيمة فاترة، وهمة خامدة، مع كونه ليس متدربا على النزال، وأما جنود إسكندر فكانوا متسلحين بأسلحة باترة، وسيوف صارمة، ينزلون في ميدان الهيجاء وهم له راغبون؛ ولذلك ظفروا بالفرس ثلاث مرات، وقهروا جميع البلاد التي كانت خاضعة لملك الفرس. وقد شيد إسكندر عدة مدن لم تزل واقفة على قدم الوجود، وأشهرها إسكندرية التي بمصر. ثم ذهب إسكندر إلى بلاد الهند ووضع يده عليها، وعاد إلى ديار بابل، وقضى نحبه فيها بالحمى في سنة ثلاثمائة وثلاث وعشرين قبل الميلاد، وهو لم يبلغ من العمر إلا ثلاثا وثلاثين عاما.
تقسيم مملكة إسكندر: لما لم يترك إسكندر خلفا له يخلفه في ملكه، تنازع الملك قواد جيشه ، فكان كل واحد منهم يريد أن يكون ملكا، فحصل من ذلك شقاق أفضى بهم إلى القتال، وسفك الدماء، فمات منهم كثير، ومن بقي تقاسم الملك، واستولى كل واحد على نصيبه، وأصبح ملكا بعد ما كان قائدا. فكان يوجد يومئذ ثلاث ممالك عظام، وهي: مملكة مقدونيا، وسوريا، ومصر، وممالك أخرى صغيرة، ليست كهاتيك الممالك، وقد أقامت هاته الدول نحو قرنين تقريبا.
ممالك اليونان: إن رعايا هذه الممالك كانت آسيين، ولكن ملكهم كان يوناني الأصل، فكانت جنوده ومتوظفوه من جنسه، وكان يأتي بالعلماء والكتاب وأرباب الصنائع والفنون إلى دار خلافته من بلاد اليونان في هاته الممالك؛ فتعودوا بعوائد أهل اليونان على التدريج، وتخلقوا بأخلاقهم، وتطبعوا بطبائعهم، وانبثت في أرواحهم اعتقاداتهم، وتدينوا بدياناتهم، وآل أمرهم إلى أن أصبحوا لا يتكلمون إلا بلغة اليونان.
إسكندرية ومدرسة علومها وفنونها: كان بعض ملوك ممالك اليونان يصبو إلى العلوم، فأقيال مصر كونوا بإسكندرية في تخت ملكهم مكتبة عظيمة، ويومئذ كانت الأوراق والمطابع في عالم الخفاء، فكانوا يسطرون الكتب جميعها بأيديهم على «البردي» ثم يطوونه، وكان عزيزا إذ ذاك وجود الكتب، ولقلتها كانت غالية الثمن؛ ولشدة حرصهم على التآليف، وخوفهم عليها من أن تغتالها يد الضياع، إذ إنه ما كان يوجد من مؤلف إلا بعض نسخ قليلة؛ اعتنوا بجمع نحو ثلاثمائة ألف نسخة، ووضعوها في هاتيك المكتبة، ونظموا بستانا لدراسة علم النباتات، ومعملا للعلوم الطبيعية، وكانوا يطلقون على هذه المحلات اسم: مدرسة العلوم والفنون، وكانت الناس تهرع إليها من كل فج؛ ليتعلموا فيها، وما جادت الدنيا بمثلها ولا رأت العين غيرها في عالم الوجود.
فنون وعلوم اليونان: لا يتوقف تقدم أمة على كثرة عدد أهلها؛ إذ إن المصريين واليونانيين واليهود ما كانت إلا أمما صغيرة مع أنهم وصلوا إلى الدرجة الرفيعة، ووطئوا السماكين بأقدامهم، وسطع صيتهم، وعلت كلمتهم، انظر كيف فتح اليونانيون ديار مصر ومملكة الآسوريين وبابل وبلاد العجم، وتعلموا كل ما كانت تعلمه هذه الأمم، وزادوا عنهم بأشياء كثيرة، أخرجوها من حيز العدم إلى الوجود. فإن الأثينيين كانوا ينظمون الشعر وينشدون القصائد، ويتلون الخطب والمقالات في المحافل، ويؤرخون التواريخ، ويصنعون التآليف، وقد ترجمت تصانيفهم وأشعارهم من بعدهم، فكل من قرأها تقع عنده موقع الاستحسان، ويكاد يطير فرحا بها، وتشهد لهم بجودة أفكارهم وسمو ملكاتهم أشعار أشهر شعرائهم «مريوس، وهزيودوس، وأشيل، وسوفاكل»، وتدلنا على فطنتهم، وحدة ذكائهم؛ كتب «هيردوت» المؤرخ الشهير و«توسيديد»، وتنبئنا بشدة فصاحتهم خطب ديموستين، ومن قلدهم وحذا حذوهم أصبح خطيبا وأضحى كاتبا.
وقد شيدت اليونانيون معابد عظيمة، ورفعت تماثيل منقوشة بأحسن نقش وأبدع إتقان، وحفظوا بأوفر اعتناء كل ما أمكنهم وجوده من آثار القدماء.
واليونانيون هم أول من أوجد مبادئ العلوم وأوضح حجمها، فبقراط ابتدأ الطب، وكتب فيه عدة فصول مفيدة، وظهر بعده جالينوس وروفس وغيرهما، ووسعوا نطاق دائرته، وأرسطاطاليس أنشأ التاريخ الطبيعي، وأوكليدس أظهر الهندسة إلى عالم الوجود، وأرشميدس ابتدع علم «الميكانيكا» أي علم رفع الأثقال، وأرالوستينس ابتدع الجغرافيا، وهيباركس أوجد الفلك. وهذه المبادئ التي ولدتها اليونانيون من أفكارهم بدون معلم ولا موقف نمضي في تعلمها الأيام العديدة والليالي الطويلة، ونؤرق عيوننا وننضي جسومنا، وندخل المدرسة صبيانا ونخرج كبارا، وبالجملة نصل إلى معرفتها مع المشقة والعناء. أليس الفضل أن يكون لليونانيين؛ إذ منهم تعلمت الرومانيون أولا، ومن الرومانيين تعلمت الغربيون، وعلى الأخص أهل إيطاليا وفرنسا.
ملخص تاريخ اليونان: أولا: إن اليونانيين أمة صغيرة في غاية الذكاء والنشاط، وأسست مستعمرات عديدة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ثانيا: إن بلاد اليونان كانت منقسمة إلى عدة مدن صغيرة، وكانت الحروب منتشبة بينهما على الدوام، وأشهر هذه المدن مدينتا أسبرطة وأثينا. ثالثا: إن أسبرطة مدينة جبليين وجنود، وكانت أعظم بلاد اليونان جيوشا. رابعا: أن أثينا كانت مدينة بحريين، وكانت أشهر بلاد اليونان في التشخيص. خامسا: إن أثينا وأسبرطة اتحدا مع بعضهما، وشنا جملة غارات مع ملك الفرس من سنة أربعمائة وتسعين إلى سنة أربعمائة وثمانين قبل المسيح. سادسا: إنهما شنا الغارة مع بعضهما، وأضرما نار الحرب، وهزمت أثينا في هذه الحرب سنة أربعمائة وأربع قبل المسيح.
سابعا : إن مقدونيا كانت أقوى بلد في بلاد اليونان، وفتح ملكها إسكندر جميع مملكة الفرس من سنة ثلاثمائة وثلاث وثلاثين إلى سنة ثلاثمائة وثلاث وعشرين قبل الميلاد. ثامنا: إنه بعد ما مات إسكندر تقاسمت قواده مملكته. تاسعا: قد أسست جملة ممالك يونانية في الشرق، واشتهرت إسكندرية تخت مملكة مصر بمكتبتها ومدرسة علومها وفنونها.
عاشرا: إن اليونانيين اشتهروا في العالم؛ لأنه كان موجودا فيهم شعراء فصحاء وكتاب نبلاء، وصنعوا ونقشوا تماثيل جملوها بالإتقان، وأوجدوا جميع مبادئ العلوم وعلموا جميع الأمم الأخرى.
تاريخ الرومانيين القدماء
الكلام على تأسيس رومة: إن رومة كانت في الأعصر الخالية والسنين الماضية من أشهر ممالك الأرض، وأعظمها رفعة وشأنا، وأجلها قدرا، على أنها لم تكن في مبدأ الأمر إلا مدينة صغيرة مربعة مؤسسة على ربوة بالقرب من نهر «التبر» في وسط إيطاليا تقريبا، وأسست في سنة أربع وخمسين وسبعمائة قبل الميلاد. وإنما سميت رومة نسبة إلى بانيها «رومولوس»، ولم تقف المؤرخون على حقيقة تاريخه، وكذلك لم تعلم حقيقة خبر الملوك الذين حكموها في الأصل.
الكلام على جمهورية رومة: كان الملك الذي يحكم رومة لا ينفذ حكما ولا يقضي بأمر إلا باتفاق كبراء الأمة، ومشاوراتهم في الأمر، وفي سنة عشر وخمسمائة قبل الميلاد تجمعت كبار الأمة وحكموا بطرد «تركوين» الذي كان ملكا يوم ذاك، واستولى على زمام الملك اثنان من القضاة، وتلقب كل واحد منهم بلقب قنصل؛ أي منفذ الأحكام، وكانت الأمة تنتخب هاته القناصل في كل سنة، وكانت رؤساء العائلات تجتمع في جمعية لتعطي آراءها فيما يعود بالصالح والمنفعة على الأمة، وهذه الجمعية كانت تلقب بجمعية «السناتو»؛ أي ديوان أعيان المملكة.
شقاق الأشراف والعامة: كانت سكان رومة منقسمة إلى حزبين؛ الأول يقال له حزب الأشراف، والثاني يدعى بحزب العامة. فكانت الرومانيون الذين من نسل العائلات القديمة تدعى «بالأشراف»، وأما من أتوا دخلاء في ديار رومة، واستوطنوا فيها، وليسوا من نسل الرومانيين القدماء، فكانوا يلقبون «بالعامة»، وكان عدد هؤلاء يزيد عن عدد أولئك بكثير؛ إذ إن أغلب سكان المدن المجاورة هرعوا من ديارهم، ودخلوا رومة، وانتظموا في عقد الأمة الرومانية، ولما أرادت الأشراف الاستقلال بالحكم، وطلبت العامة أن تشاركهم في الحكومة، وأبت الأشراف ذلك الطلب؛ نشأت من ذلك فتن أفضت إلى الشقاق والمشاجرات بين الطرفين. ومن ذلك ذهب العامة من رومة، وتخلوا عنها، فمجلس «السناتو» لأجل أن يرجعهم قرر بأن يكون منهم رؤساء يحامون عن حقوق الشعب، ويكون لهم الحق بأن يمنعوا القناصل عن عمل أي شيء سوى المحاماة، ثم حصل نزاع ثانيا بين الفريقين، مكث أكثر من مائة سنة، وفي آخر الأمر قرر الأشراف بأن تعين قناصل من العامة، وذلك كان في سنة ست وستين وثلثمائة قبل الميلاد، وعندئذ استتبت الراحة، وحصل هدوء من الفريقين.
الجيش الروماني: كانت الرومانيون موجهة جل عنايتها إلى فن الزراعة؛ حيث كانوا يعتبرون أمهر الحراثين كأفضل الناس، وكانوا مشتغلين أيضا بالتجارة، وكانوا قاطبة جنودا. وكانت العساكر تتدرع بالدروع وتتقلد بالصوارم، وتحمل الرمح والترس، وتلبس ثيابا حمرا تصل إلى ركبهم، وتضع على رءوسهم خوذا من نحاس بأهداب من شعر الخيل، وكانت تشيد معسكرات مشطورة يحتمون فيها، وكانوا بلغوا الدرجة القصوى في فن القتال حتى إنه كان يمكنهم المحاربة بمائة أو مائة وعشرين جنديا، وهذا منال لم تصل إليه أية أمة. وكانت قوانين العسكرية قسرية جدا؛ فكان الجندي الذي يترك موضعه يضرب بالسياط حتى يموت. وكان الواحد منهم يدخل في العسكرية وهو في السابعة عشرة من عمره ويمكث فيها مدة حياته. وقصارى الأمر كان الجيش الروماني في أحسن انتظام ومعتنى به كثيرا؛ ولذا فتح المعمورة بأسرها قليلا قليلا.
فتوح إيطاليا: لما تطلعت رغبة الرومانيين، واتجهت عزائمها إلى قهر أمم إيطاليا، أعلنتها بالحرب، ولكن ذلك كان عليهم أمرا عسيرا؛ إذ إن القتال قام بينهم عدة أجيال، وفي آخر الأمر فتحت بحيث جزيرة إيطاليا بأكملها في سنة اثنتين وعشرين ومائتين قبل الميلاد.
حروب قرطاجنة الثلاثة: كان يوجد بأفريقيا - قريبا من المكان الذي فيه تونس الآن - مدينة تجارية حصينة مبنية على شاطئ البحر تدعى «قرطاجنة »، أسسها جماعة من البحريين كانوا أتوا من «فينيقية»، وكانت هذه المدينة متمولة غنية من التجارة ومن استخراج معادن الفضة من بلاد الأندلس، وكانت سكان قرطاجنة لا تقاتل بنفسها، بل كانت تؤجر عساكر من الأمم المتوحشة التي تميل إلى القتال، وبهذه الجنود فتحت «بلاد الأندلس، وشمال أفريقيا، وسيسيليا»، ولما أرادت الرومانيون أن تستولي على سيسيليا، وقابلوا جنود قرطاجنة هناك، حصل نزاع وشقاق، وحينئذ ابتدأت الحروب بين رومية وقرطاجنة، وهذه الحروب تعرف بالحروب «البونيكية» وهي كانت ثلاثة؛ ففي أول واحدة منها من سنة أربع وستين ومائتين إلى سنة إحدى وأربعين ومائتين ق.م. طردت الرومانيون القرطاجيين من «سيسيليا». وفي الحرب الثانية التي كانت من سنة ثماني عشرة ومائتين إلى سنة أربع ومائتين قبل الميلاد سافر قائد قرطاجيني يدعى «أنيبال» من بلاد الأندلس واخترق بلاد الجول الجنوبية (أي: فرنسا) وجاز جبال «الألب» ونزل في إيطاليا، وفي مدة ثلاث سنين انتصر على الرومانيين في ثلاث وقعات، وبعد واقعة «كنس» أشهر هاتيك الوقعات أقام في «نابلي»، ولكن رومة ما فترت همتها و«أنيبال» لم يتجرأ على الإغارة عليها، ولأجل أن يجبر «أنيبال» على المبارحة من إيطاليا أرسلت إلى أفريقيا قائدا يدعى «سيبيون» بجيش عرمرم نزل قريبا من قرطاجنة، فلما رأى ذلك «أنيبال» اتبعه، ولكن هزم في «زاما» في سنة اثنتين ومائتين قبل الميلاد، وعند ذاك طلبت قرطاجنة الصلح، واستولت الرومانيون على الأندلس. وفي الحرب الثالثة التي من سنة تسع وأربعين ومائة إلى سنة ست وأربعين ومائة أرادت الرومانيون أن تتخلص من قرطاجنة، فذهبوا وحاصروا المدينة، وبعد ما وضعوا أيديهم عليها هدموها وفتكوا بأهلها فتكا عظيما، ورجعوا إلى رومة بالغنائم والأموال.
فتوح الشرق: كان يوجد في الشرق أثناء تقسيم مملكة إسكندر جملة ممالك يونانية فتحها الرومانيون واحدة بعد الأخرى، منها ممالك فتحتها بدون تكلف وبدون أدنى نزاع، ومنها ممالك فتحتها قسرا بالقتال وشن الغارات بأن هزموا شر هزيمة ملكين من ملوك مقدونيا وهما «فيلبش» في سنة سبع وتسعين ومائة و«برسية» في سنة ثمان وستين ومائة قبل الميلاد، وكسروا ملك «سوريا» المدعو «أنتيكوس» في سنة تسعين ومائة قبل المسيح، ثم أثاروا الحرب مع «متردات» ملك «بون» من سنة سبع وثمانين إلى سنة أربع وتسعين قبل المسيح، وكان لهم الظفر، وانتهت بهم الحال إلى أن أصبحوا ملوكا على «مقدونية، وبلاد اليونان، وآسيا الصغرى، وسوريا، ومصر».
فتوح الغرب: بعد ما فتحت الرومانيون الشرق التفتت إلى الغرب، وقد عرفنا قبل ذلك أنها استولت على الأندلس، وملكت زمامها من القرطاجينين، وكانت إذ ذاك فرنسا معمورة بالغاليين، وكان هؤلاء مهابين عند الرومانيين؛ إذ إنهم كانوا فتحوا إيطاليا قديما واستولوا على رومة، وبعد ما خضعت الغاليون (سكان إيطاليا) للرومانيين فتكت الرومانيون بالغاليين (سكان الجول) أي غالة «فرنسا» وظفروا بهم، وفتحوا ما بين جبال «الألب» وجبال «بدنيبة» في سنة مائة وعشرين قبل المسيح، وأسسوا فيه مدينتي «اكس وتاربون»، ثم فتح القيصر في ثماني سنين ما بقي من «غالة» إلى نهر «الران» من سنة ثمان وخمسين إلى سنة إحدى وخمسين قبل الميلاد.
الحروب المدنية: في أثناء هذا الزمن كانت رومة تحت حكم السناتو، وكانت جمعية الأمة تحتشد في محلات معلومة، فكانت تارة تجتمع في «الغوروم»؛ أي ساحة السوق، وتارة كانت تجتمع في ميدان الفعلة لتنظر في مصالح العموم، ومع هذا كانت لا تخرج عن طاعة السناتو، وكانت القناصل لا تفعل شيئا، ولا تقضي بأمر بدون ما تشاور هذا المجلس. وفي هذه الحروب قتل جم غفير من رجال الرومانيين حتى إنه كاد لا يوجد إلا القليل من الرومانيين الأصليين، فدخل حينئذ في الجيوش الرومانية أغراب وجماعات لا مستقر لهم، متنقلين على الدوام، ولم ينتظموا في سلك العسكرية إلا لاكتساب الدراهم، وسلب الأموال من الأمم المنهزمة.
وهاته الجنود التي كانت تحارب لاتخاذهم الحرب حرفة لهم يكتسبون منها، لا لأداء واجب، ولا لتقديم خدمة نحو وطنهم، كانوا لا يطيعون الحكومة ولا يعرفون لهم حكاما يذعنون لهم إلا قوادهم، فلما رأت ذلك القواد أرادت أن تحكم على السناتو، وتجعل لهم إمرة عليهم، ولكن بما أنه يوجد جملة قواد ، وكل واحد منهم يريد أن يكون سيدا مستقلا بنفسه، حصل من ذلك شقاق ونزاع، أفضى بهم إلى قتال أهلي مكث ثمانين سنة، وهذا القتال كان في رومة وفي إيطاليا وفي جميع البلاد الخاضعة للرومانيين، فكانت حرب بين (ماريوس وسيلا) من سنة ثمان وثمانين إلى سنة اثنتين وثمانين، وبين «سيتوريوس» و«بوبيه» و«سيزار» من سنة تسع وأربعين إلى سنة خمس وأربعين، وبين «أنتوان» و«أوكتاف» من سنة ثلاث وأربعين إلى سنة ثلاثين قبل المسيح، وكان كل قائد ينتصر يصير حاكما مدة بعض سنين. ولكن هذا الحال لم يستمر على ذلك زمنا طويلا؛ إذ إنه لما ضجرت الناس وكلت، وأعيتها الحرب، سلمت جميع السلطة إلى «أوكتاف» آخر منتصر، ولقب باسم أغسطوس وإمبراطور في سنة ثمان وعشرين قبل المسيح، وما ألغى مجلس السناتو، ولكن لم يكن له أدنى سلطة، بل كانت السلطة والأحكام للإمبراطور، وفي حكم أغسطوس ولد المسيح.
الملخص
أولا:
إن رومة أسست في سنة أربع وخمسين وسبعمائة قبل الميلاد.
ثانيا:
إنها كانت أولا محكومة بملوك، ثم من سنة خمسمائة وعشر كانت تحت حكم القناصل ومجلس السناتو.
ثالثا:
إنه حصل شقاق بين الأشراف والعامة، مكث زمنا طويلا، وانتهى الأمر بأن الأشراف أطاعوا، وصارت المساواة بين الاثنين في درجة واحدة.
رابعا:
كانت الرومانيون من أعظم عساكر القرون الخالية، ولذلك خضعت لهم الدنيا بأسرها.
خامسا:
إنهم ابتدءوا في قهر إيطاليا من سنة عشر وخمسمائة إلى سنة اثنتين وعشرين ومائتين قبل الميلاد.
سادسا:
خضعت لهم قرطاجنة في ثلاث حروب، تدعى بالحروب «البونيكية» من سنة أربع وستين ومائتين إلى سنة ست وأربعين ومائة قبل الميلاد.
سابعا:
إنهم فتحوا بلاد الشرق بدون مشقة وعناء.
ثامنا:
إنهم قهروا الغاليين وأخضعوا بلاد الغرب.
تاسعا:
لما كانت الجيوش خاضعة لقوادها، وأرادت القواد أن تكون حكاما، حصل من ذلك حروب أهلية مكثت زمنا طويلا، وانتهى الحال بأن صار أحد القواد حاكما تحت لقب الإمبراطور في سنة ثمان وعشرين قبل المسيح.
الكلام على المملكة الرومانية وولاياتها
قد عرفنا قبل ذلك أن اليونانيين فتحوا بلادا عديدة خلال ما كانوا تحت حكم الجمهورية، وكذلك إمبراطرة الرومانيين استمروا على فتح البلاد وإخضاع العباد مدة مائة سنة تقريبا، ففتحوا البلاد التي تسمى الآن «إنكلترا، وإسبانيا، وفرنسا، وسويسه، وبافييروا، وأوتريش (أي بلاد النمسا)، وتركيا، وآسيا الصغرى، وسورية»، وفتحوا جميع شمال أفريقيا، وجميع هذه الفتوحات كانت منقسمة إلى ست وأربعين ولاية، وفي كل ولاية كان يرسل وال ليحكم عليها، ويبعث وكيل ليجمع الضريبة، وهاته الولاة كانت مشتغلة بنهب الرعايا عوضا عن أن يعاملوهم بالعدل والإحسان، ولكن لما رأى ذلك الإمبراطرة منهم صاروا يراقبونهم في أعمالهم، وأمروهم بأن يحسنوا الاستعمال معهم، ويعاملوهم بالرفق واللين، فسر من ذلك الرعايا سرورا زائدا، وفضلوا حكم الإمبراطرة على حكم الجمهورية.
الكلام على الاثني عشر قيصرا: كانوا يسمون الإمبراطرة الذين حكموا رومة من سنة ثمان وعشرين قبل المسيح إلى سنة ست وتسعين بعد المسيح قياصرة، وكان عددهم اثني عشر قيصرا، وكان لهذه القياصرة القدرة العامة والسلطة التامة، فكانت الناس تذعن لكل ما يأمرون به، ويشيرون بفعله، حتى إنهم كانوا يقولون: إن الإمبراطور هو «القانون الحي»، وكان بعض هذه القياصرة عادلا منصفا موجها جل عنايته إلى ما يعود بالمنفعة، ويأتي بالخير، ويجلب التقدم والشرف لحكومته، مثل: «أغسطوس فسيازيان» و«تيتوس»، وأغلبهم كان متبعا هوى نفسه مسحوبا بأحبال شهواته، سائرا وراء أغراضه الشخصية، منقادا لأوامر تلذذاته الجسدية، لا يلتفت إلا للدنيا وزخرفها، تاركا مصالح العباد، ومنهم من كان بخيلا ضنينا وجبارا عنيدا ظالما فاجرا، مثل: «تيبير» و«نيرون» و«دوميسيان»، فإنهم كانوا يقتلون كل من لم يعجبهم ويغتصبون أموال الأغنياء، ومنهم من كان يجبر الخلق على عبادته كإله، مثل: «كاتيجلا»، فإنه كان مجنونا، ومنهم من كان لا يكلف نفسه أدنى عناء في الالتفات نحو الأحكام، مثل: «كلودد» و«نيرون»، فإنهما كانا تاركين الحكومة في أيدي عبيدهم وعتقاهم يديرونها كيفما شاءوا، ويوجهون عنانها أينما أرادوا.
ثم خلف هاته القياصرة خمسة إمبراطرة عادلون منصفون، أشهروا الحق، وأوضحوا الطريق المستقيم، وحادوا عن طرق الفسق والعتو والفساد، واتبعوا خطة الرشاد، وسنوا قوانين صادرة عن عدل وإنصاف؛ إذ إنه كان كل قاض يسن قانونا بنفسه؛ ليحكم على مقتضاه، فمنعوا ذلك كلية، وحرروا نواميس عمومية لتحكم بنصها جميع القضاة، وكان قبل حكمهم السيد يقتل عبده إذا أراد، فمنعوا هذا الظلم الجائر والعتو الفظيع، وقد أخذت الأوروباويون بعض قوانين من نواميسهم، أدخلوها في شرائعهم، لم تزل موجودة إلى الآن، وهذه الإمبراطرة الخمسة كانوا صناديد ينزلون إلى الهيجاء بأنفسهم، ويحامون عن رعاياهم بقدم راسخ وقلب ثابت، فإنهم ردوا الأمم البربرية قاطبة الذين كانوا أغاروا على الحدود الرومانية من جهة نهر «الدانوب».
التمدن الروماني
إن الرومانيين كانوا أولا ناسا همجا متوحشين، لا يعرفون غير الزراعة والتضارب، ولكنهم لما اختلطوا بأهل آسيا واليونان تعلموا منهم القراءة والكتابة، وألفوا الكتب الجليلة، وألقوا الخطب الرائقة، وشيدوا الأبنية الفاخرة، ونصبوا التماثيل الجميلة، وبسببهم تمدنت أهالي «إيطاليا، وفرنسا، وأسبانيا، وإنكلترا»؛ إذ إنهم كانوا قبلهم أمما بربرية لا يدرون شيئا كالأنعام يرعون في الخلاء، وينامون في المغارات، وكان ليس لهم مدن يسكنونها، وكانت بقعتهم مملوءة بالأجمات والحشائش، فلما فتح الرومانيون هذه البلاد هيئوا فيها الطرقات، وشيدوا المدن، ورفعوا فيها المعابد والتياترات والحمامات، وعلموا الأهالي جميع الفنون التي تعلموها من اليونانيين، وتكلم يومئذ جميع سكان المملكة باللغة اللاتينية، وتعودوا بعوائد الرومانيين، وتخلقوا بأخلاقهم، وعاشوا كعيشتهم، وفي فرنسا موجود نحو مائة مدينة تقريبا كانت رومانية الأصل، وكثيرا ما وجد فيها أطلال وتماثيل من عصر الرومانيين، وأقوى دليل على أن هذه المدن كانت رومانية الأصل هو لغة الفرنساويين، فإن أصلها لغة لاتينية.
الكلام على حكم الجنود: إن القياصرة الذين تولوا الملك بعد الخمسة إمبراطرة من سنة اثنتين وتسعين ومائة إلى سنة أربع وثمانين ومائتين لم يكونوا مطلقي الحرية في أحكامهم؛ إذ إن الجنود كانوا عتوا عتوا عظيما، وتمردوا حتى إنهم صاروا كسلاطين، فكان الملك الذي لا يعطيهم نقودا كثيرة لا يطيعون لحاكمه، ولا يذعنون لسلطانه، ويقتلونه ثم يقيمون بعده ملكا سواه على حسب إرادتهم. وكان يوجد يومئذ جملة جيوش رومانية متفرقة؛ فمنها جيش كان في إنكلترا ، وآخر كان على شواطئ نهر «الران»، وسواه على سواحل نهر «الدانوب»، وغيره في الشام، وكانت عصا هاته الجيوش غالبا منشقة، وعراهم منفصمة، لا يتحدون في كلمة، ولا يتفقون على رأي، فمن ذلك كان لكل جيش ملك، وكانت نار الحروب مضرمة بينهم على الدوام، وقد أقاموا نحو عشر سنين من سنة تسع وخمسين ومائتين إلى سنة سبعين ومائتين، وهم تحت إمرة عشرين إمبراطورا في آن واحد، ومن هذه الإمبراطرة ما كان غريبا مثل «إيليوجبل»، فإنه كان كاهنا من الشام وكانت عادة هذا الإمبراطور أن يتزيا بزي النساء.
تأسيس القسطنطينية: ثم أتى بعد ذلك جملة إمبراطرة قرروا لمنع الحروب الأهلية أن يحكم دائما إمبراطوران معا؛ أحدهما في الغرب، والآخر في الشرق.
ولما استولى الحكم «قسطنطين» شيد في سنة ست وعشرين وثلاثمائة القسطنطينية في أربع سنين، وأحضر فيها بالقهر سكان جميع المدن المجاورة لها، ونقل كرسي سلطنته إليها. ومن ابتداء هذا الوقت كان يحكم إمبراطوران معا؛ أحدهما بالقسطنطينية، والآخر بإيطاليا. وكانت عيشة هذه الإمبراطرة مباينة لعيشة من ولي الأحكام قبلهم؛ إذ كان الواحد منهم يتتوج بتاج مرصع بالجواهر واللؤلؤ، ويجلس في قصره على كرسي من الذهب لابسا ثوبا طويلا مزركشا بالذهب، وكان كل من يقترب منه يسجد أمامه على الأرض، وكان يجعل حوله دائما خدما وحشما يعبدونه كإله، وبالجملة كانت حاشيته تشابه لحاشية قدماء ملوك الفرس.
سقوط مملكة الرومانيين: لما احتاجت الإمبراطرة إلى نقود كثيرة لتصرفها على خدمهم وحشمهم وجنودهم، قررت على الأهالي فريضة من المال تدفعها سنويا، وإذا تأخر سكان مدينة عن الدفع كانوا يجبرون أصحاب الأملاك على قضائها عوضا عن جميع أهالي المدينة، فمن ذلك في مدة مائة سنة اندثرت حالة أصحاب الأملاك، وأصبحوا لابسين ثياب الإملاق، يشيرون ببنان الفاقة على ما لحقهم من الانحطاط، وأمست الإمبراطرة لا تجد رجالا لتلقيح الأراضي ولا للمدافعة عن بلادهم، ودخلت في مملكتهم أقوام من البرابرة من كل فج. وفي سنة أربعمائة وست وسبعين خلع «أدواكر» أحد رؤساء هذه الجماعات آخر إمبراطور من أرض الملك ، وما بقي إلا إمبراطور القسطنطينية.
الملخص
أولا:
إن البلاد التي أخضعتها رومة وفتحتها كانت تسمى بالمملكة الرومانية، وهي كانت منقسمة إلى إيالات، كل واحدة محكومة بحاكم.
ثانيا:
إن الإمبراطرة الأول كانت اثني عشر قيصرا، وكان حكمهم من سنة ثمان وعشرين قبل المسيح إلى سنة ست وتسعين بعد المسيح، وأغلبهم كان قاسيا ومجنونا.
ثالثا:
ثم أتى بعد هذه القياصرة إمبراطرة كان حكمهم من سنة ست وتسعين إلى سنة مائة واثنين وتسعين بعد المسيح، وهاته الإمبراطرة كانت اشتهرت بالعدل والإنصاف والعقل، وأتموا القانون الروماني بعد ما أصلحوا فيه.
رابعا:
إن المملكة الرومانية كانت إذ ذاك متمدنة مشيدة فيها المدن ومعبورة بالسبل، ولم يزل الأثر موجودا يدل على ذلك.
خامسا:
إن الجيوش الرومانية تسببت في دمار المملكة؛ إذ إنها كانت تشن الغارات مع بعضها على الدوام.
سادسا:
إن الإمبراطرة الذين أوجدوا النظام قسموا المملكة إلى قسمين؛ أحدهما شرقي والآخر غربي، وأسسوا القسطنطينية في سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
سابعا:
من هذا الوقت كانت الإمبراطرة تعيش كملوك الفرس محاطين بخدم وحشم.
ثامنا:
إن هذه الإمبراطرة تسببوا في دمار المملكة من الضرائب التي كانوا يأخذونها من أصحاب الأملاك، ولما وجدت الأمم البربرية أن أهالي البلاد لبسوا ثياب الاحتياج، وتركوا ديارهم، دخلوا فيها، ودمروا المملكة الغربية في سنة ست وسبعين وأربعمائة.
تاريخ القرون الوسطى
إغارة أمم الجرمان
كانت أمم الجرمان تسكن جرمانيا (البلد الذي يسمى في أيامنا هذه ألمانيا)، وكانت أناس هاتيك الأمم همجا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، ولا يعرفون التصوير ولا النقش، ولا يدرون كيفية تشييد المدن، لكنهم كانوا يحرثون الأرض، ويعتنون بتربية الأنعام، وكانوا يسكنون بيوتا من الخشب في الخلاء، وكانوا يصبون دائما إلى المضاربة، وكثيرا ما كانوا ينصبون لبعضهم أشراك المكافحة؛ حيث إنهم كانوا منقسمين إلى أمم صغيرة بينها البغضاء دائما.
وكثير منهم كان يذهب فرقا؛ ليبحثوا عن ثروة ينالونها، ولما ذهب أولئك الأقوام إلى مملكة الرومانيين، وأرادوا أن يسلبوا مدنها، قامت جيوشها ضدهم، ومنعوهم عن الذهاب بعيدا.
إغارة أمم الجوت
إن هذه الأمم كانت منقسمة إلى قسمين؛ قسم يقال له «ويزيجوت»، وآخر يسمى «أوستروجوت»، وكانت هاته الأقوام من أمم الجرمان. ففي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة كانوا هاجروا من ديارهم يبغون النجاة من أقوام يقال لهم «الهون» الذين هم أناس همج متوحشون، كانوا أتوا من آسيا، ودمروا كل ما لاقوه أمامهم، ثم دخلوا مملكة الرومانيين، فلما رأى ذلك الإمبراطرة أقاموا الحرب ضدهم، وأذلوهم وقادوهم بزمام الاحتقار، وقيدوهم بقيد الذل، وجعلوهم خدما لهم، ولكن «آلارك» ملك «الويزيجوت» ثار، فأخذ رومة وسلب ما فيها، والملك الذي خلفه ذهب مع أمته، وأقام في جنوب «فرنسا» وشمائل «أسبانيا».
إغارة أمتي البورجوند والفندال
لما أرادت الإمبراطرة أن تحامي عن إيطاليا وتدفع عنها العدو، أحضرت عساكر الرومانيين من الجول (أي غالة «فرنسا»)، وعند ذاك أصبح نهر «الران» خاليا من العساكر يمكن العبور فيه بسهولة، فلما رأت ذلك أمتان من الجرمان انتهزتا الفرصة في الدخول في بلاد «الجول»، فإحداهما وهي المدعوة بأمة «البورجوند» أقامت في وادي نهر السون وفي إقليم سلسلة جبال «الجورا».
والأخرى وهي المدعوة «بالفندال» عبرت جميع بلاد «الجول»، ثم جميع «أسبانيا»، وفتحت البلاد التي تسمى في أيامنا هذه «تونس والجزائر»، وكانت تدمر الأبنية التي تمر عليها، وتذبح القسس، ولكن دولتهم لم تقم زمنا طويلا؛ إذ إن «جيستنيان» إمبراطور القسطنطينية نزع من أيديهم البلاد التي كانوا استولوا عليها من أفريقيا في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
إغارة الإفرنج
كانت الإفرنج في بادئ بدء قاطنة ب «بلجيكا» منقسمة إلى جماعات؛ لأن إمبراطرة الرومانيين أذنوا لهم بالدخول في هذا البلد التي كانت في ذاك الوقت قاعا صفصفا ما بها أحد، واستخدمتهم الإمبراطرة، ثم قام رئيس إحدى الجماعات المدعو «كلوفيس» وبذل ما في وسعه حتى صار الإمبراطرة ملكا على جميع الإفرنج، وفتح جميع «الجول» التي أصبحت من ذلك الحين تدعى بمملكة الإفرنج.
إغارة الأنجلوساكسون
كانت إنكلترا تسمى يوم ذاك بريطانيا، وهي كانت تابعة الإمبراطرة الرومانيين، ولكن لما سحبت الإمبراطرة جنودها منها، وأصبحت سكانها لا تدري كيف تدافع عن نفسها من أهل «ائكوس »، ولحقها الخبال، استعانت «بالساكسون» الذين كانوا من «الجرمان»، فهؤلاء أتوا من جرمانيا راكبين سفنهم مع عائلاتهم، وأقاموا في جنوب إنكلترا، وبعدما توطنوا فيها ذبحوا السكان الذين دعوهم من بلادهم في سنة خمس وأربعمائة.
ثم أتى قوم من بلاد «دانيمركا» يقال لهم «إنجل» من أقوام الجرمان أيضا، وفعلوا مثل ما فعل أوائلهم. وفي القرن السادس وجد في البلد أربع ممالك من «الساكسون» في الجنوب، وثلاث ممالك من «الإنجل» في الشمال، ومن ذاك الوقت سميت البلد بإنكلترا أي (أرض الإنجل).
إغارة الأوستروجوت واللومبار
كانت أمة الأوستروجوت توطنت بإيطاليا في سنة تسع وثمانين وأربعمائة، وأسست فيها مملكة سمتها باسمها، و«تيودوريك» ملكهم الذي حكم من سنة تسع وثمانين وأربعمائة إلى سنة ست وعشرين وخمسمائة كان مسالما للرومانيين، وحكم إيطاليا مثل ما حكمتها الإمبراطرة القدماء تقريبا، ثم «جسيتنيان» إمبراطور القسطنطينية بعث جيشا استولى على إيطاليا في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، ولكن بعد قليل عبرت «اللومبار» (الذين هم من أمم الجرمان أيضا) سلسلة جبال الألب في سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأقامت في وادي نهر «البو»، وكونت مملكة سمتها باسمها، ويطلقون لفظ لومباردي أيضا على جزء من وادي نهر «البو».
نتائج الإغارات
إن الإغارات مكثت هكذا نحو مائتي سنة تقريبا وحصل منها انقلاب عظيم؛ إذ قبل الإغارات كان يوجد مملكة واحدة رومانية، ولكن بعدها وجدت جملة ممالك بربرية.
وفي هذه الممالك كان يوجد نوعان من السكان: النوع الأول «أمم الجرمان» الآتية مع الملك، والنوع الثاني رعايا الإمبراطرة المقيمة في البلدة التي كانت تدعى بالرومانيين. وعاش كل من النوعين مع الآخر، وصارت الجرمان متمدنة نوعا، وقل توحشها عن الأول، وشمت عرف التمدن، وأما الرومانيون فإنهم ضلوا عن سبيل التمدن فأصبحوا لا يهيئون الطرق، ولا يقيمون الآثار، وقطعوا أسباب التعلم، وفصموا عرى التقدم، وظلت البلدة لا يكترث بأمر زراعتها، حتى إن الأجمات والعواسج غطت جزأ عظيما منها.
الملخص
أولا:
كانت الجرمان أمما وحشية تسكن ألمانيا، وكثير منهم كان يرحل إلى مملكة الرومانيين؛ ليبحث عن ثروة ينالها.
ثانيا:
هربت أمة «الجوت» من أمة «الهون»، ودخلت في المملكة من سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وخدمت الإمبراطرة أولا، ثم استولت على رومة وأسست مملكة الويزيجوت في «أسبانيا».
ثالثا:
لما وجدت أمة «البورجوند» و«الفندال» أن وادي نهر «الران» ليس محميا بالجنود، دخلتا في بلاد «الجول» في سنة ست وأربعمائة، وأسست أمة البورجوند مملكة في «برجونيا»، وأقامت «الفندال» مملكة بأفريقيا.
رابعا:
إن الإفرنج المقيمين ببلجيكا صاروا أكابر «الجول» وهم تحت سلطة الملك «كلوفيس»، ومن ذاك اليوم سميت «الجول» بمملكة الإفرنج.
خامسا:
إن أمتي «الساكسون» و«الإنجل» دخلتا في بريطانيا العظمى بعدما تركها الإمبراطرة، وأسستا فيها ست ممالك، وعندئذ سميت بإنكلترا إلى وقتنا هذا.
سادسا:
إن الأوستروجوت كانوا أسسوا مملكة في إيطاليا، وصاروا أقوياء أشداء وهم تحت سلطة «تيودوريك»، ثم خلفهم أمة اللومبار في سنة ثمان وستين وخمسمائة.
سابعا:
مكثت إغارات البرابرة نحو القرنين، وبسببها تكونت جملة ممالك نصفها روماني ونصفها بربري، وأقل تمدنا من مملكة الرومانيين القديمة.
تاريخ الإسلام
بينما كانت الجرمان مشتغلة بفتح المملكة الغربية، كانت العرب موجهة عظيم عنايتها إلى فتوحات المملكة الشرقية، وكان النصر دائما معقودا بأعراف خيولهم، والظفر معلقا في سنان رماحهم، ومتى اتجهت عزائمهم إلى فتح أي بلدة وطئت سنابك خيلهم أرضها، وأذعن أهلها لهم وهم صاغرون، فكأن النصر ما خلق إلا ليكون طوع سيوفهم. وما أذعنت العرب أصلا للرومان، ولا دخلوا في الدين المسيحي؛ إذ كل قبيلة من قبائل العرب كان لها معبود مخصوص تعبده، إلى أن أنار بدر الحق وأضاء نور سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله الهاشمي
صلى الله عليه وسلم
من مكة. وفي سنة عشر وستمائة، في ليلة القدر، أتى سيدنا محمد بالرسالة، ثم أنزل عليه القرآن منجما على حسب الوقائع؛ ليأمر الناس باتباع الدين القويم، وبعد ذلك بثنتي عشرة سنة ثار أهل مكة فأمره الله بالمهاجرة، فهاجر إلى يثرب في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهي السنة الثانية والخمسون من عمره تاريخا للهجرة. وفي السنة نفسها حصل خلاف عظيم أفضى إلى النزال والقتال فصارت أصحابه
صلى الله عليه وسلم
تقاتل كل من خالفه، إلى أن دخل في مكة والنصر يقدمه في سنة ثلاثين وستمائة، وخضعت له أغلب قبائل العرب وأتوا له مذعنين.
الخلفاء
لما انتقل النبي
صلى الله عليه وسلم
من دار الفناء إلى دار البقاء في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، تولى الخلافة سيدنا أبو بكر ثم سيدنا عمر ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي، وكانت العرب تطيع كل خليفة كما كانت تطيع النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان الخليفة إماما وقائدا، وكانت مدة الأربعة الخلفاء من سنة اثنتين وثلاثين وستمائة إلى سنة إحدى وستين وستمائة، وفي مدة خلافتهم فتحوا بلادا عديدة في مدة قليلة تدهش اللب، ووسعوا دائرة الإسلام ورفعوا أعلامه ووطدوا دعائمه.
فتوحات الإسلام
كان يوجد جملة كتائب إسلامية، فكل كتيبة متى وصلت أية جهة خضعت لها أهلها وأتوا لها مذعنين؛ إذ إن كل مسلم كان يذهب إلى القتال وهو منشرح الصدر، يدافع بقلبه وقالبه راغبا في ذلك؛ لأنه متيقن أن كل من جاهد في سبيل الله ومات مات شهيدا، فكان ينزل إلى الهيجاء كأسد ضار لا يرهب الموت ولا يخشى بوادره؛ فلذلك فتحت المجاهدون جملة بلاد، ففتحوا بلاد الشام في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وديار مصر في سنة أربعين وستمائة التي كانت تابعة لإمبراطور القسطنطينية، وفتحوا مملكة الفرس في سنة اثنتين وأربعين وستمائة، وأقامت الخلفاء إذ ذاك في دمشق ببلاد الشام في سنة إحدى وستين وستمائة.
ثم إنهم استمروا في الحرب، ففتحت جيوشهم من جهة الشرق بلاد «التركستان» وشمال الهند في سنة سبع وسبعمائة، ومن جهة الغرب فتحت تونس والجزائر ومراكش، ثم مرت من بوغاز جبل طارق، وفي واقعة واحدة فتحت جميع الأندلس في سنة إحدى عشرة وسبعمائة، وامتدت مملكة الخلفاء من البحر المحيط إلى نهر «الإندوس»، فما رأت عين ولا سمعت أذن بمملكة أكبر من هذه.
وكان يوجد أيضا مسلمون، تركب سفنهم وتخترق البحر الأبيض المتوسط، وكلما تقابل نصرانيا تأخذه أسيرا، وكثيرا ما كانت تنزل من سفنهم على سواحل إيطاليا وفرنسا؛ لتنهب القرى وتسلب الأولاد والنساء، وقد استولت على جميع «سيسيليا» وجزء من جنوب إيطاليا، وكان لها قلعة بالقرب من «نيس»، وبالجملة قد علت كلمة العرب، وقويت شوكتها، وخضعت لها أغلب سكان المعمورة، واستولت على الغبراء والخضراء.
الكلام على انشقاق مملكة العرب
إن مملكة الخلفاء لم تقم زمنا طويلا؛ إذ إنها انقسمت بين خليفتين؛ أحدهما كان ببغداد بالقرب من نهر الفرات، والآخر كان «بكوردو» في بلاد الأندلس، ثم تكونت جملة ممالك أخرى إسلامية بمصر والشام والجزائر ومراكش والفرس. ثم في سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف خربت أقوام المونجول بغداد وانحطت دولة الخلفاء، ولكن البلاد التي دخلها الإسلام لم ينفصم حبل دينها، ولم يتغير، ولم يزل إلى الآن شديدا، رغما عن حوادث الزمان، وانقلاب الأيام، وهذا مما يدل على وثوق عرى الإسلام وصحة أساس مبناه، ويبرهن على أنه موطد بدعائم الحق اليقين، ويوجد في المعمورة ما يربو على مائتي مليون من المسلمين تقريبا.
تمدن العرب
إن العرب كانت صناديد ورجال حرب، وكانت تصبو إلى القريض والعلم متحلين بحلي الفصاحة والنباهة، أصحاب عفة ومنعة وعزة، لا يعرف الكرم إلا ديارهم، ولا يصبو فؤاد المجد إلا لهم، ولا يتحلى الفضل إلا بهم، ولا ينزل العدل والإحسان إلا في بيوتهم. وقد أسسوا ديار العلوم ببغداد ودمشق وكوردو، ولا يخفى شهرة مدرسة «سالرن» التي كانت أقدم مدرسة في الطب بأوروبا، واشتغلت العرب كثيرا بعلم الكيمياء، وهم الذين أوجدوا الكئول، وشيدوا القصور والجوامع العجيبة، وكان الخلاء حول مدنهم مفروشا بالخضرة كحديقة أخذت زخرفها وازينت، تروق الناظر وتدهش الخاطر. وبالجملة فإن تمدن العرب كان بلغ الدرجة القصوى والنهاية العظمى.
الملخص
أولا:
إن سيدنا محمدا
صلى الله عليه وسلم
أظهر دين الإسلام في سنة عشر وستمائة، وفي سنة ثلاثين وستمائة خضع لأوامره أغلب الأعراب وأتوا له مسلمين.
ثانيا:
إن المولى سبحانه وتعالى أنزل على نبيه
صلى الله عليه وسلم
القرآن يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
ثالثا:
إن الخلفاء الذين خلفوا النبي
صلى الله عليه وسلم
من سنة اثنين وثلاثين وستمائة إلى سنة إحدى وستين وستمائة فتحوا بلادا عديدة ووسعوا دائرة الإسلام.
رابعا:
إن جيوش الإسلام كانت دائما منتصرة، ففتحوا الشام ومصر ومملكة الأعاجم وجميع شمال أفريقيا وبلاد الأندلس.
خامسا:
إن مملكة الخلفاء انقسمت في القرن العاشر إلى جملة ممالك ولم يتغير دينهم.
سادسا:
إن العرب بلغت درجة رفيعة في التمدن، وأسست جملة مدارس، واشتغلت بعلم الطب والكيميا، وأقامت آثارا عجيبة، وعملت أعمالا غريبة، تشهد لها على ممر الأيام ومر الأعوام، وتخلد لها ذكرا جميلا ومجدا رفيعا؛ حتى كان صنعها أحمد الصنع، حسن الذكر إلى تمام الدهر، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بحمد الله والصلاة على رسوله الأعظم قد نجز طبع هذا الكتاب الموسوم ب «لب التاريخ العام فيما صدر من غابر الأعوام» فجاء يسر المطالع، ووافق تمام طبعه أواخر شهر صفر الذي هو من شهور عام خمسة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أزكى التحية.
تقريظ
ورد لنا هذا التقريظ من المجيد البارع والأديب بلا منازع، شاعر العصر ومنشئ أبناء الدهر، المتحلي بفرائد الأدب، المنتقى من أطيب الحسب، من لا تزال غيوث مكارمه تهمي عزتلو سليم بك رحمي، قال حفظه الله:
علم التواريخ للألباب مقباس
وكشف أسراره للعقل مقياس
وحسبه شرفا إيداع مجمله
كتب الإله؛ لهذا اشتاقه الناس
فمنه للمرتقي آفاقه سطعت
شمس النهى، وتسامى منه نبراس
فانعش بأرواحه أرواحنا طربا
ففيه ما لم تحزه الراح والكاس
التاريخ هو العماد الأقوى لارتقاء الأمم وتقدم الممالك، به تدرك الألباب مزايا الفضائل فتتنافس في السبق إليها، وبهداه تعتصم من غي الخطأ فترقى ذرى الكمالات، وبنور كواكبه تستضيء الأكوان فيهتدي كل إلى السبل الواضحة، وتحفظ الأجيال لأبنائها والأبناء لآبائها جميل الذكر ورفيع القدر، ويمهد بما استكنت صدوره، وطوت سطوره، لمن استمد بأنوار عرفانه، وشموس حقايقه أسباب الفوز بما تحن النفوس الشريفة لإحرازه، وتهيم الألباب المطهرة لإدراكه، فهو بهذا السر الجليل مرآة يرى فيها الناظرون صور الأعمال وحقائق الأحوال، فيتهيمون بمحاسن ما تبديه، ويتباعدون عما يشين مجد الفتى ويزريه؛ ولذا كان المجدون في كشف غوامضه أحرص الناس على إعلاء منار المعارف، وأقومهم عزما في تعميم مزايا التهذيب، وتقريب ما عساه أن تحيد عنه الألباب القاصرة والهمم الفاترة.
نعم، إن رجال هذا الفن الشريف قد تدفعهم الغايات لما تنطمس دونه أقماره النيرة، فيحبط مسعاهم ولا تحسن عقباهم. ولكن يقظة المتأخرين وفطنة الخبيرين لم تجعل لتلك الأغراض على مصنفاتهم سرادق، فكانت بين هاتيك التآليف كالبدر بين الكواكب، والضياء الوهاج يمحو الغياهب، فأزالت ما كان اعترى وجه التاريخ من الغمم، وأزاحت عن رياضه الزاهرة جنح الظلم، وبذا ارتقى نيره الأعلى، وعم الوجود نفعه الأجلى، فتسابقت الأمم لاجتناء ثماره، واستنشاق عبير أزهاره. ولم تكتف أمة بالاطلاع على أنبائها، وسير أمرائها، بل صار الكل حريصا على سعة الاطلاع، وازدياد الثمرة، وتعميم الانتفاع، فعلمت آل المشارق شئون من بالمغارب، ولاح للمستبصرين في أعمال الجميع كل ساطع وغارب، وحينئذ أصبح العلم بتلك المكنونات لجميع المخلوقات من آكد المندوبات، وأوجب الضروريات.
وليس بين أولئك المطلوب من يمنعه عن إظهار الحقائق حجاب؛ رغبة في تبرئتهم مما نسب لسابقيهم، وليكون فضل تصنيفهم قدوة للاحقيهم؛ إذ كان من سلفوا يجعلون المصنفات وصلة للغايات؛ فمنهم من كان يسلك الخرافات؛ لجهل قومه، أو لسوء فهمه، فضل وأضل، واستضعف واعتل؛ ومنهم من خشي السطوة، وحاذر من المعاملة بالقسوة، فنوه ولم يتفوه، وأوهم وأيهم، وورى ووارى، وأضمر وتطير، فجاءت خطوط يراعهم ناطقة بانعكاس طباعهم؛ ومنهم من سلك بين ذلك قواما، ونال بالاحتيال للتخلص من الأذى مراما، فتداولت الأيدي ما سطره، ووعت الأسماع ما أظهره، وقدمه وأخره، ونمقه وحبره. ولكل في هذه الأحوال منهاج ومنوال.
أما مؤرخو هذا العصر، فقد برأتهم التجارب من هذا الوزر، وأيقنوا أن التواريخ ليست إلا بمثابة شاهد عدل بأعمال من قبل، وأن للمطلعين حق الحكم والاحتكام في صدق ما تسطره الأقلام، وتجول في ميادينه الأفهام، فإن طابقت المقدمة النتيجة، وتضوعت بشذاها رياضهم الأريجة، ساغ لديهم جناها، وحمدت سرائره سراها.
وقد رأيت من أجل المصنفات الوسيمة والكتب التاريخية ذات المنافع العميمة، المصنف الرائق الذي تدفق من ينابيع بيانه الحقائق، الكتاب المسمى «لب التاريخ العام» الذي أتى - بفضل منشئه - شاهدا، ويعلو مكانته في دولة العرفان مؤيدا. كيف لا، وقد حاز من براعة العبارة ولطف الإشارة وانتساق الأوضاع ما تألفه الأسماع، وتصبو الأرواح لاجتنائه، وتهيم ألباب العارفين لحسن تنميقه وازدهائه؛ لاشتمال أساليبه البينة المفعمة بالإجادة، والإبداع في صحة الترجمة.
فلله تصنيف لناسج بردة
مدى الدهر يسمو ذكره الأحمد الحسن
تقريظ آخر
ورد إلي هذا التقريظ والتأريخ من صديقي الفاضل، الأديب الشاعر المنطبق حضرة الشيخ أحمد مفتاح، فتلقيته بيد الشكر، وها هو يتلو بين يديكم سورة البلاغة، قال رعاه الله:
أدرت طرفي في رياض هذا المؤلف البديع، فألفيته روضا تلونت أزهاره، وتنوعت بدائعه المزدهرة، واحتوى على نبذة من التاريخ وهي في الحقيقة مجموعة، كيف لا، ومؤلفه الشاب النجيب والجهبذ المهذب المتضلع من فنون الأدب: «أحمد أفندي حسن» ما زال يهدينا من حدائق فكره ما تبتهج له نفوسنا، وتسكن إليه أفئدتنا، وتروي به غلل الظمأ، كما عهدناه من قريحته المجيدة، وشمائله الحميدة. فلله هذا السفر من كتاب يحق أن تتناوله أيدي الفكر، قابضة عليه بأصابع الاجتهاد، وعاضة عليه بنواجذ الطلب.
كتاب حين أشرق لي سناه
بغير الحسن منه لم أعذه
وقلت لمن يروم العلم: أقدم
فهذا السفر للتاريخ خذه
سنة 1305ه
أحمد مفتاح
صفحه نامشخص