لباب التأويل في معاني التنزيل
لباب التأويل في معاني التنزيل
ناشر
دار الكتب العلمية
شماره نسخه
الأولى
سال انتشار
١٤١٥ هـ
محل انتشار
بيروت
قوله ﷺ: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» وقول إبراهيم ﵇: «إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم» فهذا يقتضي أن مكة كانت محرمة قبل دعوة إبراهيم. القول الثاني: أنها إنما حرمت بدعوة إبراهيم بدليل قوله ﷺ: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» وهذا يقتضي أن مكة كانت قبل دعوة إبراهيم حلالا كغيرها من البلاد، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم، ووجه الجمع بين القولين وهو الصواب أن الله تعالى حرم مكة يوم خلقها كما أخبر النبي ﷺ في قوله: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض» ولكن لم يظهر ذلك التحريم على لسان أحد من أنبيائه ورسله، وإنما كان تعالى يمنعها ممن أرادها بسوء، ويدفع عنها وعن أهلها الآفات والعقوبات فلم يزل ذلك من أمرها حتى بوأها الله تعالى إبراهيم وأسكن بها أهله فحينئذ سأل إبراهيم ربه ﷿ أن يظهر تحريم مكة لعباده على لسانه فأجاب الله تعالى دعوته، وألزم عباده تحريم مكة فصارت مكة حراما بدعوة إبراهيم، وفرض على الخلق تحريمها والامتناع من استحلالها واستحلال صيدها وشجرها فهذا وجه الجمع بين القولين وهو الصواب، والله أعلم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ إنما سأل إبراهيم ذلك لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر فاستجاب الله تعالى له وجعل مكة حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وسبب هذا التخصيص أن إبراهيم ﵇ لما سأل ربه ﷿ أن يجعل النبوة والإمامة في ذريته فأجابه الله بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ صار ذلك تأديبا له في المسألة، فلا جرم خص هاهنا بدعائه المؤمنين دون الكافرين ثم أعلمه أن الرزق في الدنيا يستوي فيه المؤمن والكافر بقوله: قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ أي سأرزق الكافر أيضا قَلِيلًا أي في الدنيا إلى منتهى أجله وذلك قليل لأنه ينقطع ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي ألجئه وأكرهه وأدفعه إلى عذاب النار، والمضطر هو الذي لا يملك لنفسه الامتناع مما اضطر إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المكان الذي يصير إليه الكافر وهو العذاب.
[سورة البقرة (٢): آية ١٢٧]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)
قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ وكانت قصة بناء البيت على ما ذكره العلماء، وأصحاب السير أن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام فكانت زبدة بيضاء على وجه الماء، فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آدم إلى الأرض استوحش فشكا إلى الله تعالى، فأنزل البيت المعمور وهو من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر باب شرقي، وباب غربي فوضعه على موضع البيت، وقال يا آدم إني أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي وأنزل الله عليه الحجر الأسود، وكان أبيض فاسودّ من مس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من الهند ماشيا إلى مكة، وأرسل الله إليه ملكا يدله على البيت فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا له برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عباس: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وبعث الله جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له، من الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم ﵇. ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ويعبد فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهي ريح خجوج لها رأسان تشبه الحية، والخجوج من الرياح هي الشديدة السريعة الهبوب وقيل: هي المتلوية في هبوبها، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم، حتى أتت موضع البيت فتطوقت عليه كتطويق الحجفة، وقال ابن عباس: بعث الله ﷾ سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير، وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وقفت على موضع البيت، ونودي منها يا
1 / 80