فتساءل ساخرا: فكيف ينظر الأوغاد في المرآة كل ساعة؟!
وحنى الشيخ رأسه وهو يرتل: إن هي إلا فتنتك. وأغمض سعيد عينيه وهو يقول لنفسه: إني متعب حقا، ولكن لن يهدأ لي بال حتى أجيء بالبدلة.
الفصل الثامن عشر
وأذاب الإرهاق إرادته فنام رغم تصميمه على إحضار البدلة، واستيقظ قبيل الظهيرة فكان عليه أن ينتظر اللليل، وفي أثناء ذلك رسم خطة للهرب، ولكن كان عليه أيضا أن ينتظر حينا من الدهر حتى يغمض البوليس عينه عن منطقة طرزان وهو قطب الخطة، وبعد منتصف الليل ذهب إلى شارع نجم الدين، فرأى ضوءا في نافذة الشقة، حملق في النافذة مذهولا حتى تأكد مما يرى، ارتفعت دقات قلبه حتى أصمت أذنيه، واكتسحته فرحة فاقتلعته من دنيا الكابوس، نور في الشقة، أين كانت؟ سيعرف أسباب غيابها، ولكنها عادت، هي الآن تتساءل عن مكانه، وتعاني لفحات الجحيم الذي احترق فيه، إن قلبه يؤكد له عودتها؛ قلبه الذي لا يكذبه قط، وهموم التشرد ستتلاشى إلى حين، وربما إلى الأبد، وسيحتويها بين ذراعيه بكل قوة، ويعترف لها من قلب ممزق بالحب الأبدي. وتسلل إلى داخل البيت نشوان بالسعادة والنصر، ورقي في السلم وهو يحلم بدرجات من النصر لا حد لها ولا حصر، سيهرب ويستقر طويلا، ثم يعود يوما لينكل بالأوغاد، واقترب من باب الشقة وهو يلهث، أحبك يا نور، بكل قلبي أحبك، وأضعاف ما أعطيتني من حب، سأدفن في صدرك ضياعي وخيانة الأوغاد وجفول ابنتي، وطرق الباب، وفتح الباب عن وجه رجل! رجل قصير في ملابسه الداخلية، تبخر سعيد فلم يبق منه إلا رماد، وحملق فيه الرجل بدهشة وهو يتساءل: من حضرتك؟
وسرعان ما حلت محل النظرة المتسائلة نظرة شك وارتياع، أيقن سعيد أن الرجل سيعرفه، ودون تردد سد فاه بيسراه، ولكمه بالأخرى في بطنه، وتلقاه بين يديه، فأنامه على العتبة كيلا يحدث صوتا، وفكر في اقتحام الشقة تنقيبا عن البدلة، ولكنه لم يكن متأكدا من خلوها؛ وإذا بصوت امرأة يتساءل من الداخل: من الطارق يا معلم؟
وتحول عن موقفه يائسا، فقطع السلم وثبا حتى بلغ الطريق، وشق طريق المصانع إلى طريق الجبل، وهناك شك في أشباح تتحرك، فلبد عند أسفل جدار وانطرح على وجهه، ولم يستأنف سيره الحذر حتى خلا الطريق من أي أثر لإنسان، وتسلل مرة أخرى إلى مسكن الشيخ قبيل الفجر، وكان الشيخ في ركنه يترقب الأذان، وخلع بدلته وتمدد فوق الحصيرة دافنا وجهه في الجدار رغم يأسه من نوم قريب، وقال له الشيخ: نم فالنوم عبادة لأمثالك!
فلم ينبس، ونادى الشيخ بصوت خافت «الله»، وظل مسهدا حتى أذان الفجر، ثم ظل مسهدا حتى ترامى صوت بياع اللبن، ولم يدرك أنه نام إلا عندما رقد فوق صدره كابوس، ولما فتح عينيه رأى ضوء المصباح الواني منتشرا في الحجرة كالضباب، إذن لم ينم إلا ساعة على الأكثر، والتفت نحو فراش الشيخ فوجده خاليا، ورأى على كثب من كتبه المكومة شواء وتينا وقلة ماء، شكرا لك يا مولاي، ولكن متى جئت بهذا الطعام؟ وسمع خارج الحجرة أصواتا فعجب لذلك، وزحف على أربع نحو الباب الموارب فنظر من زيقه فرأى لدهشته أهل الذكر يفترشون الحصر، كما رأى عاملا يوقد الكلوب في أعلى الباب الخارجي، رباه إنه المغيب لا السحر كما توهم، وإذن فقد نام طيلة النهار وهو لا يدري، يا له من نوم عميق حقا، وأجل التفكير في أي شيء حتى يأكل، فالتهم الطعام وشرب حتى روي، وارتدى البدلة ثم أسند ظهره إلى كتبه ومد ساقيه إلى الأمام، وسرعان ما ازدحم رأسه بالبدلة الرسمية المنسية، والرجل الذي فتح له باب الشقة، وسناء ونور ورءوف ونبوية وعليش والمخبرين وطرزان والسيارة التي سيخترق بها الحصار، عصفت جميعا برأسه. ليس الصبر في صالحك ولا التردد، وبأي ثمن يجب أن تتصل بطرزان الليلة ولو ذهبت إليه زحفا فوق الرمال، غدا سينطح البوليس الصخر ويركب الرعب الأوغاد، وسمع في الخارج يدا تصفق وإذا بأصوات الرجال تسكت، وجلال الصمت يسود، وردد الشيخ علي الجنيدي ثلاثا «الله» فردد الآخرون النداء في نغمة رسمت في مخيلته حركة الذكر الراقصة، الله .. الله .. الله، وازدادت النغمة سرعة وارتفاعا ثم اختزالا مع زيادة في السرعة كصوت قطار منطلق، وتواصلت دون انقطاع فترة غير قصيرة، ثم أخذ يداخلها الوهن رويدا ثم التراخي في الإيقاع والبطء، ثم ترنحت وتهاوت في الصمت. وعند ذاك علا صوت رخيم مترنما:
واحسرتي، ضاع الزمان، ولم أفز
منكم، أهيل مودتي بلقاء
ومتى يؤمل راحة من عمره
صفحه نامشخص