كلا، حتى نظرة الرثاء غير المجدية لن تحظى بها، امرأة بلا نصير في خضم الأمواج اللامبالية أو المعادية، وسناء كذلك قد تجد نفسها يوما بلا قلب يهتم بها، وتقبض قلبه في خوف وغضب فتناول مسدسه، ثم سدده في الظلام كأنما يحذر المجهول، وتأوه من الأعماق في يأس، وهكذا طال به هذيان الصمت والظلام حتى صرعه النوم في آخر الليل.
وفتح عينيه في ضوء النهار، وسرعان ما تنبه إلى أنه استيقظ على يد تطرق الباب، نهض منزعجا، ثم سار على أطراف أصابعه إلى مدخل الشقة والطرق متواصل، وارتفع صوت امرأة مناديا: «يا ست نور ... يا ست نور!» من المرأة؟ وماذا تريد؟ ورجع إلى الحجرة ثم عاد بمسدسه على سبيل الحيطة؛ وإذا بصوت رجل يقول: لعلها خرجت فقالت المرأة: في مثل هذا الوقت تكون في البيت، ولم تتأخر من قبل في دفع الإيجار. إذن فهي صاحبة البيت، وطرقت المرأة الباب طرقة غاضبة ثم قالت: اليوم الخامس من الشهر ولن أصبر أكثر من ذلك! وابتعدت هي والرجل وهما يتبادلان التعليق في لهجة وعيد.
وآمن سعيد بأن الحوادث تطارده كالبوليس، لن تصبر المرأة طويلا على الانتظار، وسوف تقتحم الشقة بوسيلة أو بأخرى، وخير ما يفعل هو أن يغادر الشقة في أقرب فرصة ممكنة.
ولكن أين المفر؟
الفصل السابع عشر
عادت صاحبة البيت إلى طرق الباب عند العصر ثم عند المساء، ورجعت آخر مرة وهي تقول: لا لا يا ست نور، لا بد لكل شيء من آخر.
وغادر البيت متسللا عند منتصف الليل، وبالرغم من أنه فقد الثقة في كل شيء إلا أنه مشى مشية طبيعية جدا ومتمهلة كأنما يتريض، وخيل إليه أكثر من مرة أن المارة والمتسكعين ليسوا إلا مخبرين، فتوثب لدخول آخر معركة يائسة، ولم يشك في أن البوليس يحتل منطقة طرزان كلها بعد معركة أمس، فمضى نحو طريق الجبل، وكان الجوع ينهش بطنه، ووجد نفسه يفكر في مسكن الشيخ علي الجنيدي كمرفأ مؤقت حتى يتسع له مجال التفكير والمغامرة، وتسلل إلى فناء البيت الصامت، وعند ذاك فحسب تنبه إلى أنه نسي بدلته الرسمية - بدلة الضابط - في حجرة الجلوس ببيت نور، فغضب لذلك أيما غضب، ولكنه واصل سيره إلى حجرة الشيخ، ورأى الشيخ على ضوء المصباح متربعا في ركن المصلى غارقا في نجوى هامسة، فذهب إلى جدار الحجرة حيث ترك كتبه وجلس في إعياء، واستمر الشيخ في نجواه، فقال سعيد: مساء الخير يا مولاي!
فرفع الشيخ يده إلى رأسه ردا على تحيته دون أن يقطع نجواه، فقال سعيد: مولاي، أنا جائع!
فخيل إليه أنه قطع النجوى، ورنا إليه من عينين غائبتين ثم أومأ بذقنه إلى خوان قريب، فرأى سعيد فوقه تينا وخبزا، فنهض إليه دون تردد ثم التهمه بنهم حتى أتى عليه، ووقف ينظر إلى الشيخ بعينين تنطقان بعدم شبعه، فسأله: أليس معك نقود؟ - بلى! - اذهب واشتر شيئا تأكله.
فعاد إلى مجلسه صامتا، وجعل الشيخ يتأمله مليا، ثم سأله: متى يا ترى تستقر؟ - ليس على سطح هذه الأرض! - لذلك فأنت جائع رغم نقودك! - ليكن ... - أما أنا فكنت أردد شعرا عن الأحزان، ولكن بقلب مبتهج. - أنت شيخ سعيد!
صفحه نامشخص