فقال الشيخ بعتاب: توضأ واقرأ:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، واقرأ:
واصطنعتك لنفسي
وردد قول القائل: «المحبة هي الموافقة، أي الطاعة له فيما أمر، والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر.»
ها هو أبي يسمع ويهز رأسه طربا، ويرمقني باسما كأنما يقول لي: اسمع وتعلم، وأنا سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة، أو أرمي طوبة لأسقط بلحة، وأترنم سرا مع المنشدين، ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مقبلة تحمل سلة، جميلة وجذابة، طاوية هيكلها على جميع ما قدر لي من هناء الجنة وعذاب الجحيم. ماذا كان يعجبك من إنشاد المنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى، ورأيت الهلال ووجه الحبيب، لكن الشمس لم تغرب بعد. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكوة، أمامي ليلة طويلة، هي أولى ليالي الحرية، وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، ولكن هل من مأوى آخر آوي إليه؟
الفصل الثالث
قلب صفحات جريدة «الزهرة» حتى عثر على ركن الأستاذ رءوف علوان، وراح يقرأ بشغف وهو لم يزل على مبعدة أذرع من بيت الشيخ علي الجنيدي، حيث قضى ليلته، لكن من أي مداد يستمد رءوف علوان وحيه؟ ملاحظات عن موضة السيدات، مكبرات الصوت، رد على شكوى زوجة مجهولة! أفكار لذيذة حقا، ولكن أين رءوف علوان؟ بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية، الحماس الباهر الممثل في صورة طالب ريفي، رث الثياب، كبير القلب، والقلم الصادق المشع، ترى ماذا حدث للدنيا؟ وماذا وراء هذه الأعاجيب والأسرار؟ وهل ثمة أحداث وقعت كأحداث عطفة الصيرفي؟ حوادث نبوية وعليش والبنت الصغيرة المحبوبة التي أنكرت أباها، علي أن أقابله، الشيخ أعطاني فراشا فوق الحصيرة للنوم، ولكني في حاجة إلى نقود، علي أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان، أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لدي في هذه الحياة التي لا أمان لها، وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف، ضخم حقا، بحيث لا يسهل السطو عليه! وهذا الطابور من السيارات المحدق به كحراس الجدران الرهيبة، وأصوات المطابع وراء قضبان البدروم، كهينمة الراقدين في العنابر، ودخل ضمن تيار الداخلين، ثم وقف أمام مكتب الاستعلامات وسأل بصوته الغليظ النبرات: الأستاذ رءوف علوان؟
فرمقه الموظف فيما يشبه الامتعاض لنظرة عينيه اللوزيتين الجريئة لحد الوقاحة، وأجابه بجفاء: الدور الرابع.
قصد من توه المصعد، فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء، وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحادة الجريئة، وأنفه الأقنى الطويل، ولمح بين الواقفين فتاة فلعن في سره نبوية وعليش، وتوعدهما بالويل، وما إن انتهى إلى طرقة الدور الرابع حتى مرق إلى حجرة السكرتير قبل أن يتمكن الساعي من اعتراضه، وجد نفسه في حجرة كبيرة مستطيلة زجاجية الجدار المطل على الطريق، وليس بها موضع لجالس، وسمع السكرتير وهو يؤكد لمتحدث في التليفون أن الأستاذ رءوف مجتمع برئيس التحرير، وأنه لن يعود قبل ساعتين، شعر بأنه غريب حقا، لكنه وقف دون مبالاة، يحملق في الوجوه بوقاحة كأنما يتحداهم، وقديما كان يرمق أمثالهم بعين تود ذبحهم، فما حال هؤلاء اليوم؟ أما رءوف فلن يصفو له هنا، وما هذا المكان بالملتقى المناسب للأصدقاء القدامى، ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدا كهذه الحجرة، ولم يكن فيما مضى إلا محررا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد علي، ولكنها كانت صوتا مدويا للحرية، ترى كيف أنت اليوم يا رءوف ؟ هل تغير مثلك يا نبوية؟ هل ينكرني مثلك يا سناء؟ ولكن بعدا لأفكار السوء، هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة، وسكرتاريته الرفيعة، وإذا كانت هذه المجلة لن تمكنني من عناقك، فمن دفتر التليفون سأعرف مسكنك!
افترش العشب الندي عند كورنيش النيل بشارع النيل، ومضى ينتظر، انتظر طويلا على كثب من شجرة حجبت ضوء المصباح الكهربائي، تحت سماء غاب عنها الهلال مبكرا تاركا النجوم تومض في ظلمة رهيبة، وجرت نسمة رقيقة لطيفة مقطرة من أنفاس الليل عقب نهار أحمر، طغى فيه الصيف طغيانه، ولم تفارق عيناه الفيلا رقم 18 لحظة واحدة، موليا النيل ظهره، شابكا راحتيه حول ركبتيه، يا لها من فيلا خالية من ثلاث جهات، والجهة الرابعة حديقة مترامية، وأشباح هذه الأشجار تتناجى حول جسد الفيلا الأبيض، منظر قديم طالما شهد بالثراء وذكريات التاريخ. ولكن كيف؟ ما الوسيلة؟ وفي هذه المدة القصيرة؟ حتى اللصوص لا يحلمون بذلك، اعتدت في الماضي ألا أنظر إلى الفيلا هكذا إلا عند رسم خطة للسطو عليها، فكيف آمل اليوم مودة وراء فيلا؟! رءوف علوان أنت لغز، وعلى اللغز أن يتكلم، أليس عجيبا أن يكون علوان على وزن مهران؟! وأن يمتلك عليش تعب عمري كله بلعبة الكلاب؟
صفحه نامشخص