وفجأة كست وجه ليلى مسحة من الجد، وزال عنها كل الخمول الذي كانت تحسه: كيف تنوي أن تنشئ هذا الطفل؟ - على حريته، سأترك له مطلق الحرية. - أي حرية؟! أموت ولا يكون هذا، لا، إلا هذا يا عباس، إلا هذا. - ماذا تريدين؟ - لا بد أن يعرف أسس دينه وقواعده، هذا واجبنا يا عباس. - حتى أنت التي درست الفلسفة في الكلية ترين أن هذا مهم؟ - لقد عرفت مما درست ومن عقيدتي أن الإنسان بغير دين ضائع، وبغير عقيدة يؤمن بها إيمانا ثابتا سيكون تائها في هذا الوجود. وعرفت أن القلق والضياع وتيه الأفكار التي لا تعتمد على المشاعر الروحية هي شر ما يلاقيه الإنسان في الوجود. - أنا لا أحس بذلك. - بل أنت، أنت بالذات أكبر مثل أمامي لهذا الذي أقوله. أرجوك يا عباس، اترك لي تربية ابني. - أتحسين أني ضائع؟ - أتظن أنني لم أحس بفترة القلق الطويلة التي عانيتها؟ - أنا الآن مطمئن. - مطمئن لأني أشعرك بالاطمئنان، مطمئن لأني هادئة بجانبك واثقة. إذا فقدتني ...
وقفز عباس من كرسيه صارخا: لا! لا تقولي هذا. - لماذا لا أقول؟ إنني بعد أسابيع قليلة سأكون بين يدي الله، إذا اختارني إلى جواره؟
وصرخ عباس مرة أخرى: أرجوك! أرجوك! أستحلفك بكل عزيز لديك، بالله، لا تقولي هذا. - يجب أن تتوقعه ويجب أن نتفق على الطريقة التي سيربى بها ابننا. إن شر ما نلقيه إليه هو الضياع وعدم الثقة والقلق. إياك، إياك يا عباس، إذا لم أعش. أنا ...
وقال عباس: أرجوك!
واستأنفت ليلى حديثها كأنها لم تسمعه: إذا لم أعش فبحياتي عندك، بحياتي عليك، بكل ما تؤمن به ولو أني أصبحت لا أعرف بماذا تؤمن. أستحلفك بأي شيء ذي قيمة عندك أن تجعل الولد يتلقى تعاليمه الدينية في إخلاص وفي إيمان عميق. - ما ترين، ما ترين فقط، لا تقولي هذا الذي تقولينه. - لماذا يا عباس؟ من يدري ما يخفيه لي المستقبل؟ - أنت لا تعرفين ما أنت عندي. - أعرف. - فإذا ... إذا فقدتك. - نلتقي في السماء. - أي سماء؟ - السماء، الحياة الثانية، اللقاء الذي لا انفصال له. - كيف أومن به؟ كيف أضمن هذا اللقاء؟ - يجب أن تؤمن بالله لتؤمن بهذا اللقاء. - أرجو أن أومن. - حاول.
وهز عباس رأسه وقد وضع يده على عينيه: لا، لا، لا أريد أن أفكر في هذا! لا أريد أن أفقدك! لا، أنا لن أفقدك! لن أفقدك أبدا، أبدا، أبدا.
وارتمى على كرسيه باكيا، واحتضنته ليلى وضمته إلى قلبها في حب وإعزاز كأنما تحتضن طفلا، وراحت تربت ظهره قائلة في تأثر وإيمان: لا تخف، لا تخف يا عباس. لن تفقدني، لن تفقدني أبدا.
ملأ الخوف قلب عباس منذ ذلك اليوم، أصبح يترك عمله ويسارع إلى البيت فيظل مقيما بجانب ليلى لا يتركها، وأحست ليلى الهلع الذي يحيا فيه فحاذرت أن تحادثه مرة أخرى عن موتها، وكانت هي نفسها تعجب كيف لا تخشى على نفسها الموت مثلما يخشاه عليها عباس، ولم تكن تحاول أن تحلل السبب في اطمئنانها وذعره، وإنما كانت تكتفي بالتعجب لهذا التناقض في الشعور. أما عباس فقد كان لا يستطيع أن يتصور الحياة بدونها، وكأنما جعله حديثه يفكر في يوم يفقدها فيه فهو في بحرين من الخوف والقلق، يصب غضبه حينا على أمها التي سعت إلى هذا الحمل، وحينا على هذا الجنين الذي يسعى طريقه إلى الحياة، وحينا يصب كل غضبه على نفسه أن اشترك في هذه الجريمة التي توشك أن تقع. أصبح ميلاد ابنه يتمثل في نظره كارثة وشيكة الوقوع لا يستطيع أن يذكرها إلا ويذكر هذا الحديث الذي ملأه رعبا.
ولم يستطع أن يفرغ لعمله كما تعود أن يفرغ له، وبدأ رئيسه في العمل يلاحظ عليه هذا التخلف فهو يناديه ويستقبله في جمود: وبعدين يا أستاذ عباس؟ - فيم؟ - ألا تدري؟ إن عليك واجبات لا بد أن تؤديها.
وقال في نفسه: «قيد آخر، وعبودية أخرى.» وصمت وقال الرئيس: أهي فوضى؟! تخرج كما تشاء وتدخل كما تشاء! ألا تدري أنها وظيفة أنت مقيد بها وملزم بقوانينها حتى تستحق ما تناله من مرتب آخر الشهر؟
صفحه نامشخص