ما له لا يقوم؟ لقد أصبح لا يدري، أو هو يخيل له أنه يدري، وهو في نفسه عاجب من هذا الذي يدريه ولا يدريه. أي جديدة تراوحه من هذا المجلس الذي تعود أن يضيق به، والذي كان يخلق به أن يضيق منه الآن أكثر من أي وقت مضى؟! ولكن ها هو ذا جالس يلتذ حيرته، لا يأبه بهذا الخذلان الذي يلاقيه كلما وجد لنفسه ثغرة لحديث لا تلبث أن تقفل في وجهه إذا تحدث؛ فقد قطع جملته قبل أن تتم، أو تنزل جملته إذا اكتملت في مجال لا يرحب بها. وهو مع هذا مقيم، حائرا أو غير حائر، داريا أسباب إقامته أو غير داريها، فهو مقيم، مقيم، حتى يأتي الشيخ سلطان فيشتت الشمل الجميع، وإن كان قد حيا ليلى ولطفي في ترحاب وإيناس.
الفصل الرابع
عاد مرقص أفندي من الوزارة، وقد كانت نفس مرقص أفندي تعود إلى طبيعتها في اللحظة التي يصل فيها إلى باب شقته، وليس قبل ذلك. كأنما هو ونفسه الطبيعية المرحة الطيبة الصاخبة في بعض الأحيان، كأنما هو ونفسه هذه على موعد من المكان، يلتقيان عند باب شقته في عودته من الديوان، ويفترقان عند باب شقته في خروجه إلى الديوان. بل لقد كان يفارق نفسه أيضا إذا ما خرج إلى القهوة بعد الظهر، فهو وإن كان يلتقي ثمة بأصدقاء قدامى، إلا أنه لا يحس نفسه على سجيتها الكاملة إلا في بيته مع زوجته وابنته إيفون. فإذا جاء زائر مهما يكن قريبا - حتى وإن كان أخوه شفيق الذي يحبه ويقدره - عاد مرقص أفندي إلى اصطناع ما لا يصطنعه في بيته من حذر في الحديث، فلا يتكلم إلا إذا فكر فيما هو قائل، بل هو حتى إذا ضحك لم تنطلق ضحكته كرد فعل طبيعي لما استدعى الضحك. لا ، إنه يفكر هنيهة، هنيهة لا تكاد تلحظ، ثم هو يضحك. وهو إن فعل يترسل في ضحكته، ويخرج كل ما يكتمه في أغوار نفسه من قلق، وكأنما يخشى ألا يجد شيئا يضحكه بعد ذلك، وكأنما وجد فيما سمعه فرصة لا سبيل إلى مثلها؛ فهو ينتهزها في إقبال مطمئن، وقلما يطمئن مرقص أفندي.
كان يحس كلما خرج من بيته أنه في سبيله إلى مجهول من الحياة غامض، ليس فيه حنان أو شفقة. كان إحساسه بهذا المجهول مرهفا، وكانت نظرته إلى الأيام القادمة نظرة حافلة بالمخاوف والشك، فهو يصانع هذا المستقبل ويترضاه ما وسعه الجهد. وهو طيب النفس بطبيعته؛ فهو مع زملائه في المكتب لا يرد لهم رجاء، وهو مع رؤسائه مطيع كيس، وهو مع مرءوسيه مهذب يصدر الأمر بالرجاء، ويوجه اللوم بالهمس، ويستمع إلى شكواهم في أبوة، ويعين ضعيفهم على الأيام؛ ولكنه إلى هذا جميعا لا يسمح بتقصير يعرضه هو إلى غضب من رؤسائه، فإذا آنس من أحد مرءوسيه إهمالا متعمدا، أو تقصيرا لم يجد فيه اللوم الهادئ؛ انقلب الرجل الطيب إلى صراخ هائج عنيف، قد يصل في كثير من الأحيان إلى طلب خصم من مرتب الموظف المقصر. بل وصل في يوم من الأيام إلى رفت أحد مرءوسيه وقد أضاع أوراقا على جانب من الأهمية.
وقد كانت مكانة مرقص أفندي في الديوان خليقة أن تشيع الهدوء في نفسه، وتنفي عنه هذا القلق الذي يعانيه، ولكن كيف؟ قد صحبه هذا القلق منذ لا يذكر متى، فكيف يتركه؟ إنه لا يحاول ذلك؛ فقد كان يدري أنه لن يبلغ من محاولاته إلا الفشل ومزيدا من القلق.
لقد تعود هذا القلق، وتعود أن يتركه بجانب الباب الخارجي من منزله، فلا تراح نفسه إلا حين يدخل البيت ويثق أنه دخل، ثم يغلق الباب من خلفه ويثق أنه أغلقه. فإن خرج من باب البيت عاوده القلق. تعود أن يجده في نفسه كما تعود أن يجد طربوشه بجانب الباب من الداخل، هناك على المنضدة التي يضع عليها الطربوش بعد أن يترك القلق ويدخل، ويغلق من دون الحياة المخيفة خارج البيت بابه.
لم يكن مرقص أفندي سعيدا في يومه هذا، وما لبثت زوجته الست مريم أن تبينت على وجهه هذه الوجمة من العبوس التي تعرف حين تراها أنه يحمل في نفسه ألما. وقد تعودت مريم أن تتركه هو ليفضي إليها بدخيلة نفسه، وتعودت أيضا أن تبحث له عن موضوع من الحديث بعيد كل البعد عما يضطرب فيه من حياة، لعلها تصرفه بحديثها عما يلح عليه من ألم وأحزان.
وما أسرع ما تجد مريم الحديث! وما أبرع ما تلبس حديثها بالجد الصارم حتى ليحسب من يراها أنها لا تريد فيما تقول إلا أن تبسط ما يعرض لها من مشكلة تضيق بها! - تعال يا سي مرقص شف بنتك.
وتمص شفتيها، ثم تكمل الحديث: بنات آخر زمن. لا يعجبها ذوقي. لقد رفضت أن تفصل ما اشتريت لها من قماش.
ويقول مرقص أفندي في طيبة: يا ستي دعيها تختار ثيابها كما تريد، ما شأنك بها؟ هل أنت التي ستلبسين أم هي؟
صفحه نامشخص