كان مرقص أفندي قد اتفق مع الأسطى جبر أن يأتي لابنته كل صباح ليذهب بها إلى المدرسة ويعود بها منها مقابل مائة قرش في كل شهر. وكان الأسطى جبر صادقا في مواعيده، وقد كان صدق مواعيده هذا هو الجحيم الذي يصلاه عباس.
فما استطاع يوما أن يختلس كلمة من إيفون، وما استطاع يوما أن يقترب منها، وكيف له بهذا والأسطى جبر بمشهد؟ وأما البيت فأهول من الأسطى جبر وأشد نكاية.
إن أمه لن تسمح مطلقا بجلوسه مع إيفون، بل إن أخته وهيبة أيضا لن تسمح. بحسبه أن يدخل إلى الحجرة مصطنعا أنه لا يدري أن أحدا غير أخته بها، أن يصطنع سؤالا عند وهيبة، وما هي إلا ريثما تلتقي العيون بومضة من نجوى، أو تلتقي الأيدي بلمسة من شوق عارم، حتى تفترق الأعين وتنفصم الأيدي ... ثم تمر الأيام ثقالا بطيئات حتى يذهب مرة أخرى إلى مرقبه، أو تأتي هي بلا دعوة من وقفته الصامتة على الطوار الآخر من منزلها.
ولم يكن يستطيع أن يذهب في كل يوم؛ فسكان المنازل المجاورة يعرفونه ويعرفونها، وهم يعرفون ألا عمل له بهذا الشارع، فإذا تعودوا رؤيته فلن تلبث الألسنة أن تتحرك، وما يلبث أبوه أن يمده وينهال عليه بعصاه التي لم يعفه منها أنه أصبح على أبواب الجامعة.
ولكن رجلا بعينه العجوز استطاع أن يراه وأن يتعود رؤيته أكثر من مرة في كل أسبوع. إنه رجل تعود أن يرى ويحسن الرؤية، وتعود أن يلاحظ ويحسن الملاحظة. وعلمته الأيام أن هذه الوقفة لا بد تخفي من ورائها شيئا. ولم يطل به التفكير فيما تخفيه؛ فما كان أيسر أن ينظر وراءه بعد أن يسعى بتلميذته إلى المدرسة، حتى يرى الواقف قد تحرك وعيناه ملتصقتان بظهر العربة لا تريمان عنها.
تحرى الأسطى جبر أن يأتي مبكرا عن موعد نزول إيفون، وكرر ذلك أياما متتالية حتى كان اليوم. ولم يضع الأسطى جبر وقتا؛ فقد أوقف العربة أمام منزل مرقص أفندي وقصد مسرعا إلى عباس في وقفته. وذهل عباس وأوشك أن يولي الفرار، ولكن رجليه لم تسعفاه، وما أسرع ما جابهه الأسطى جبر: ماذا تفعل هنا يا أفندي؟! - و... و... وأنت ما لك؟! - عجيبة! ... أنا ما لي؟! أأخبر أباها ليودي بك في داهية؟! - أنا ... أنا ماذا فعلت؟!
وابتسم الأسطى جبر وقال في حنان: أتعرفك هي؟
ودهش عباس من هذه اللهجة الناعمة، وسارع يقول وكأنما خشي عليها عاديا يمس سمعتها: لا ... لا ... أبدا.
وقال الأسطى جبر في ابتسامة: خسارة. - ما الخسارة؟ - لو كانت تعرفك لتغير الوضع. - كيف؟! - لو كانت تعرفك ... يعني لو كانت ... لو ... - هيه ... ماذا يحصل لو كانت تعرفني؟ - كنت جعلتك تركب معها. - ماذا؟! ... ماذا تقول؟! - ولكنها لا تعرفك.
وصمت عباس مستخزيا أن يبين عن كذبه، ولكن الأسطى جبر العجوز ذو دربة ومراس: يا بني قل الصراحة لعمك جبر.
صفحه نامشخص