التواضع
وبعد ذلك ننتقل فيما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه ﷺ، وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، بل كما قلت في أول الحديث: لو أنا أخذنا جانبًا واحدًا من هذه الجوانب وكان موضوع حديثنا، وسعينا إلى أن نتقصاه في كتب السنة لشعرنا أن الوقت يضيق بنا، وشعرنا أننا حين نريد أن نجمع من سيرة النبي ﷺ ما يؤيد هذا الجانب قد لا نطيق ذلك ولا نستطيعه، لكنها إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به ﷺ من تمام الخلق لتكون مجال قدوة وتأس لنا بهذا النبي ﷺ.
من أهم مجالات الخلق الحسن التي ينبغي أن نتحلى بها التواضع، وما أصعب هذا الخلق على من يكون له مكانة عند الناس بعلم أو جاه أو منزلة، فقد يشعر المرء أن منزلته ومكانته عند الناس تتطلب منه أن يترفع، وقد يكون في قلبه شيء من الكبر من حيث لا يشعر ويرى أن هذا من تمام الوقار ومن تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها بين الناس حتى لا تضيع.
وانظروا مثلًا ما الذي يسيطر على تفكير الأستاذ وهو بين يدي طلابه وتلامذته، وما الذي يسيطر على تفكير الرجل الوجيه عند الناس وهو بين عامة الناس، فأي رجل له منزلة ومكانة كالنبي ﷺ؟ وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه ﷺ؟ ومع ذلك كان ﷺ متواضعًا، كما حكى عنه عبد الله بن أوفى ﵁ فيما رواه النسائي والدارمي يقول: (كان النبي ﷺ يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما).
وكان ﷺ كما روى عنه أنس يخالط أنسًا وأهل بيته حتى كان يمازح أنسًا ﵁ فيقول له: (يا ذا الأذنين) وكان ﷺ يقول لأخ لـ أنس أصغر منه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان له طائر يلعب به، فجاء النبي ﷺ فرآه حزينًا كاسف البال، فسأل ﷺ أهله عن شأنه فقالوا: مات نغره أو طيره الذي كان يلعب به، فقال ﷺ: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟).
هاهو ﷺ الذي يناجي ربه ﵎، والذي يتنزل عليه الوحي، والذي يحمل الرسالة، ويعلم الأمة كلها أجمع، لا يستنكف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة، وأن يمشي مع المسكين، وأن يقضي للناس حوائجهم، وأن يمازح الصبيان ويداعبهم ويسلم عليهم ﷺ، فعجبًا لهذا الرجل ﷺ! يقول عنه أحد أصحابه وهو يتحدث عنه ويصفه: لقد أقوم مقامًا لو يقوم به يرى ويسمع ما قد أسمع الفيل لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل كان أصحابه لا يحد أحدهم النظر إليه إجلالًا له ﷺ، إذا تحدث النبي ﷺ خفضوا أصواتهم، وكان ﷺ كما شهد بذلك أبو سفيان: (ما رأيت رجلًا يحبه أصحابه كما يحب أصحاب محمد محمدًا) ومع هذه المنزلة العالية كان هذا شأنه ﷺ وتواضعه مع سائر الناس، وصدق ﷺ وهو القائل: (ما زاد الله عبدًا بتواضع إلا عزًا).
8 / 15