Lessons by Sheikh Nabil Al-Awadi
دروس للشيخ نبيل العوضي
ژانرها
الجهاد في سبيل الله تعالى
إن الجهاد في سبيل الله هو سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، وإن أعداء الإسلام اليوم من داخل الصفوف وخارجها يتخطفون الأمة من كل جانب، فلا سبيل إلى النجاة ولا مخرج إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
فهذا خالد نازل الكفار في أكثر من معركة فما هزم في واحدة منها لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
أما نحن فقد قست قلوبنا بالشهوات، وأصابتنا العطالة والبطالة والتهور والكسل عن أفرض فرائض الإسلام وأكبر أركان الإسلام، وكذا عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله.
1 / 1
الجهاد في سبيل الله طريق للنصر والتمكين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذنًا صُمًا، وقلوبًا غُلفًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله! في زمن الفتن والمحن، إن أردنا أن ندفع عنا غائلة أعدائنا فالشرط قائم شرط وحيد واضعه رب العالمين: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:٧] خطاب للأمة في مجموعها، لا بد أن يكون نصر الله في ثنايا حياتنا في سياستنا، واقتصادنا، وتعليمنا، وإعلامنا في معاهدنا، وجامعاتنا، وبيوتنا، ومساجدنا، ومنتدياتنا، وأسواقنا؛ ننصر الله بالاستجابة لأوامر الله ننصر الله بالاستجابة لداعي الجهاد على كافة الأصعدة جهاد النفس عن نوازع الهوى، وجهاد أعداء الله، وأصحاب الهوى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:١١١].
الخفض والرفع بيد الله العز والذل بيد الله، والنصر والهزيمة بيد الله، وقد جعل الله لذلك طريقًا جعل الله للنصر طريقًا، وجعل الله للخلاص طريقًا، فما هو؟
إنه الجهاد في سبيل الله الجهاد طريق إلى الخلاص والحياة بعز.
لا إله إلا الله! كيف صوَّرَه المولى على هيئة مبايعة حقيقتها أن الله اشترى أنفس المؤمنين وأموالهم فلم يعد لهم منها شيء، والثمن هو الجنة، والطريق هو الجهاد، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، وسنة جارية لا تستقيم الحياة بدونها، لا بد للحق أن يكافح، ولا بد لكلمة الله أن تعلو، ولا بد للمقدسات أن تُحفظ وتُصان، مادام في الأرض أعداء للحق وأنصار للشيطان، الجهاد بيعة معقودة بعنق كل مؤمن: ﴿من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق﴾.
أمتي! في زمن الفتنة يجب أن يكون حديث الشباب، والشيوخ، والنساء، والأطفال، عن الجهاد، وعن العدة والاستعداد.
يا أمتي وجب الجهاد فدعي التشدق والصياحْ
ودعي التقاعس ليس ينصر من تقاعس واستراحْ
ما عاد يجدينا البكاء على الأقارب والنواحْ
لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماحْ
إنا نتوق لألسن بُكْمٍ على أيدٍ فصاحْ
1 / 2
واقع الأمة اليوم بين العزة والذلة
يا عباد الله! يا مسلمون! كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به، ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، لا يفكرون فيما وراء ذلك من عزة نفس، أو علو همة، فكأنهم لا يعقلون.
أولئك الصنف من الناس عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، إذا ما دعا الداعي للجهاد -ومواقف الجهاد تقتضي أن يتنازل الإنسان على رفاهيته، وأن يتخلى عن كثير من ضرورات حياته- إذا ما دعا الداعي هؤلاء نكص كل منهم على عقبيه، ورضي بأن يكون مع الخوالف، وحق عليه قول الله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج:١١].
ولا إله إلا الله! ما أكثر هذا الصنف بين المسلمين! وهو سبب الذل، والمهانة، والهزيمة، والعار، والهوان.
لكنَّ هناك صنفًا آخر -وإن عزَّ وقلَّ- لا يرضى إلا بالحياة العزيزة الكريمة يرفض العيش في ظل الاستعباد يرفض انتقاص الكرامة.
هذا الصنف إذا ما أذن مؤذن الجهاد: يا خيل الله اركبي! جعل الدنيا بما فيها من زينة وبهجة خلف ظهره، وحمل السلاح، وضحى في سبيل الله بكل غالٍ ونفيس، إنه يُضحي بأسرته؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ويُضحي بأمواله؛ والمال عند الكثير شقيق الروح، ويُضحي بالمسكن؛ والمسكن على القلوب عزيز، كل ذلك في سبيل من فراغ؟
في سبيل الله جل وعلا.
يحمل الإيمان في قلبه كالجبال، قبل أن يحمل السلاح، أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا.
1 / 3
خالد بن الوليد مواقف وبطولات
أيها المسلمون: حيرتنا الأحداث المتلاحقة، ولا ندري عم نتكلم وبم نتكلم، وقد تكلمنا ثم تكلمنا، لكن حسبنا أن نقف قليلًا مع سيرة فارس الإسلام مع سيرة ليث المشاهد وسيف الله خالد بن الوليد ﵁ وأرضاه، ليكون لنا نموذجًا في المحن والحوادث، وقدوة في زمن الحيرة، وأسوة في زمن رخص دماء المسلمين، في زمن لم يعد فيه لدم المسلم ثمن، بل قيمته شهوة حاكم، أو جرة قلم قيمته حلم طاغية بالامبراطوريات قيمته رغبة في التسلط وتلذذ بمناظر دماء المسلمين وهي تراق، مأساةٌ أن تذهب الشعوب الإسلامية ضحية أطماع المغامرين.
ما أحرانا أن نرجع إلى سيرة خالد، فنعم القدوة خالد، فهو من اقتدى بقائدنا محمدٍ ﷺ.
يأيها الشاب من هذه الأمة في هذا الزمن! بمثل خالد فتأسَّ، وبصحبه فاقتدِ، وعلى سيرته فاعكف؛ فإنها النور والسرور في حوالك الظلام وزمن الحيرة وانطفاء النور.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ
عبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراهُ
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
إنه خالد بن الوليد، مَن أبوه؟
أبوه كافر، صنم من الأصنام، لكن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها.
أخرج الله من صلب الوليد المجرم الكافر خالدًا الذي طبع على كل جسده بطابع الشهداء، ومات على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء!
إنه أبو سليمان، الذي نازل في أكثر من مائة معركة، فما هزم في واحدة منها، لأن شعار قتاله (لا إله إلا الله).
إنه شارب السم إنه المتوكل على الله، يُعرض عليه سم في قارورة كما ذكر ذلك الذهبي في سيره، يقول له مشرك وثني: إن كنتم أيها المسلمون تزعمون أنكم تتوكلون على الله فيكرمكم، فاشرب هذا السم يا خالد ولا تمت أو كما قال، فقال خالد بلسان الواثق من ربه: باسم الله توكلت على الله، ثم شرب القارورة كلها، فلم يصبه إلا العافية، وما زاده ذلك إلا عزة وكرامة.
من هو خالد؟
إنه من احتبس كل شيء في حياته لله دروعه وعتاده وماله في سبيل الله.
فيا من جعل الدنيا أكبر همه، قد جعلها خالد تحت قدميه، فرفع الله ذكره في العالمين.
1 / 4
ثناء النبي ﷺ على خالد
يقول عمر ﵁ وأرضاه: ﴿أرسلني رسول الله ﷺ لأقبض زكاة الناس وصدقاتهم، فقبضتها حتى انتهيت إلى خالد، فمنعني الزكاة، وأتيت العباس فمنعني الزكاة، وأتيت ابن جميل فمنعني الزكاة، قال: فعدت إلى رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله دفع الناس كلهم زكواتهم إلا عمك العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فتبسم ﷺ وقال: أما عمي العباس فهي عليّ ومثلها لسنتين، ألا تدري يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه؟! -أي: مثل أبيه، فأنا أدفعها عنه لأنني ابنه وهو في مثابة أبي- وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، لقد احتبس أدرعه وعتاده وماله في سبيل الله﴾ فكيف يزكي مالًا احتبسه كله في سبيل الله؟!
كيف يزكي دروعًا وسلاحًا وسيوفًا قد جعلها وقفًا في سبيل الله؟!
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال مَن هو باذلُهْ
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائلُهْ
ثم يقول ﷺ: ﴿وأما ابن جميل فما ينقم على الله إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله جلَّ وعلا﴾.
ها هو خالد ذلك المظلوم الذي ظلمه التاريخ والمؤرخون، سكتوا عن خالد وذكروا نابليون، وهتلر، ولينين، واستالين، أعداء الإنسانية، وقتلة البشرية، الذين دمروا المدن، وقتلوا الآمنين، وسفكوا دماء النساء والأطفال والرجال والمسلمين.
سكتوا عن خالد وظلموه وهضموا حقه لكن لن يظلمه رب العالمين سيوفيه حسابه، ويحفظ أجره ومثوبته: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
يقول خالد أتيت المدينة لأسْلِم بين يدي رسول الله ﷺ، دخلت حييًا خجلًا على رسول الله ﷺ، فلما رآني قام وحياني، وهش وبش في وجهي وعانقني.
عانقه ﷺ معانقة الأبطال، وحياه محيا الشجعان، لأنه سوف يكون سيفًا في يده ﷺ.
ومن تلك اللحظة أعطاه ﷺ حقه في الإسلام احترمه وقدره، وأنزله منزلته؛ لأن الله أخرجه حيًا من ظهر ميت كافر عنيد.
1 / 5
بطولات خالد يوم معركة مؤتة
وتأتي معركة مؤتة بين المسلمين والكفار، قريبًا من معان في أرض الأردن، ويحضرها خالد مع جنود الله مع الذين يشهدون أن لا إله إلا الله بحق، كانوا ثلاثة آلاف من المسلمين، والروم ما يقارب مائتي ألف مائتا ألف كافر يقابلون ثلاثة آلاف، قُتِل قواد رسول الله ﷺ الثلاثة؛ زيد، وجعفر، وابن رواحة، فنادى المسلمون بعضُهم بعضًا: أين أبو سليمان ليأخذ الراية؟ فأخذ الراية بيساره، ونزل في أرض المعركة نزول الأبطال، وقال للمسلمين: احموا ظهري وناولوني السيوف؛ ناولوه السيف الأول -كما يقول ابن جرير - فأخذ يضرب به من صباح النهار في صدور أعداء الله وفي نحور الفجرة المعارضين لدين الله حتى تكسر ناولوه السيف الثاني، والثالث، والرابع، حتى كسر تسعة أسياف في يديه وهو يضرب أعداء الله، وقتل عددًا كثيرًا من الكفار، وما ثبت في يده إلا صفيحة يمانية، كان يضرب بها في صدور الأعداء، وانتهت المعركة بالنصر لعباد الله الموحدين، استقبله ﷺ وحياه وعانقه، ودعا له بالأجر والمثوبة.
1 / 6
موقف خالد يوم فتح مكة
ويأتي فتح مكة، يوم فتح الله على رسوله ﷺ مكة، يوم قال الله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح:١ - ٢] دخل ﷺ ومعه عشرة آلاف مقاتل من الصحابة، وقد أخضع الله له الشرك والمشركين تساقطت الأصنام بين يديه، ماذا فعل؟ هل تكبر كما يتكبر المتكبرون؟ هل تجبر كما يتجبر المجرمون يوم يروعون الآمنين، وينتهكون أعراض المسلمين، ويدَّعون أنهم مجاهدون، ويصفق لهم المتآمرون المدعون الإسلام وما أظنهم بمسلمين؟ لم يتكبر بل نكَّس رأسه، ودمعت عيناه ﷺ حتى أن لحيته تمس رحل ناقته، أما خالد فكان من أبطال هذا الجيش، كان من جهة شرقي مكة، من الخندمة يقود الكتائب المسلمة -كتائب تموج كموج البحر- فتلقاه عكرمة بن أبي جهل قبل إسلامه بجيش كافر يريد أن يصد هجوم خالد، فتظاهر خالد بالهزيمة وتراجع إلى الصحراء، فظن الكفار أنه انهزم، وما كان له أن ينهزم والله معه، فلما خرجوا إلى الصحراء، عاد بجيشه يُعْمِل سيفه فيهم حتى أدخلهم بيوتهم، ودخل أحد الكفار بيته وأغلق عليه بابه، وكان معه سيف يشحذه بالسم شهرًا، يقول: أقتل به محمدًا -يعني: رسول الله ﷺ فلما فر من خالد قالت له امرأته تعيره: أين سيفك؟ ما أغنى عنك شيئًا -تشحذه بالسم شهرًا فما أغنى عنك- قال لها مرتجزًا:
إنكِ لو شهدتِ يوم الخندمةْ
إذ فر صفوان وفر عكرمة
والمسلمون خلفنا في غمغمةْ
يلاحقونا بالسيوف المسلمة
لم تنطقي باللوم أدنى كلمةْ
ودخل خالد وشكر الله سعي خالد الذي لم يهزم في معركة.
1 / 7
بطولات خالد في قتال المرتدين
ثم تُفْجَع الأمة بموت رسول الله ﷺ، ويتولى أبو بكر الصديق، فيعرف أن خالدًا سيفٌ سلَّه اللهُ على المشركين ما كان له أن يُغمده، فأخرج الله وساوس الشيطان من رءوس المرتدين على يدِ خالد، وأوَّلُهم مسيلمة الكذاب، خرج في اليمامة يدَّعي النبوة، يدعي أن الله أرسله وأنه يوحِي إليه، نعم.
كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:١١٢].
لما سمع أبو بكر أن مسيلمة ادعى النبوة في اليمامة وقف على المنبر، وأخذ راية لا إله إلا الله، وقال: آدَّعَى مسيلمة النبوة؟! والله لأزلين وساوس الشيطان من رأسه بـ أبي سليمان خالد بن الوليد، قم يا خالد خذ الراية وقاتله حتى تقطع دابره من الأرض.
وخرج في جيش من أهل بدر، وغيرهم من الصحابة، فلما تلاقى الجمعان، كان جيش بني حنيفة كثيفًا جدًا، كالجبال يمور مورًا، فلما رآهم الصحابة قال بعضهم: فلنلتجئ إلى سلمى وأجا -جبلين في حائل - فدمعت عينا خالد، وقال: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين: [[لا إلى سلمى وإلى أجا، ولكن إلى الله الملتجا]].
لا إله إلا الله! ما أعظم اليقين! ثم تكفن، ولبس جيشه أكفانه، ولسان حالهم يقول: فإما حياة بعز وإلا ممات وشهادةْ.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حليًا وحاز الكنز والدينارا
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنمًا وجوارا
لما رأى بنو حنيفة خالدًا أصابهم الهلع والرعب في قلوبهم، وأنزل الله الهزيمة بهم: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:٤٥]، وقتل الله مسيلمة الكذاب، وانتهت هذه الأسطورة؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن قاتل بالله كان النصر في حوزته: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:٧].
1 / 8
خالد يوم اليرموك
وتستمر الأيام، وخالد من نصر إلى نصر، ومن معركة إلى معركة، ويصل إلى اليرموك، ويقف في جنود الله، في ثلاثين ألفًا يقاتلون مائتين وأربعين ألفًا، قال بعض المسلمين: [[يا خالد! ما أكثر الروم! قال له: اسكت، بل ما أقل الروم! إنما يكثر القوم بنصر الله، وددتُ أنهم قد أضعفوا لنا العدد وأن الأشقر قد برئ من وجعه]].
الله أكبر! شفاء عقب فرس خالد بربع مليون جندي.
لبس أكفانه، وقال: موعود الله أتى، وخرج وصفَّ جيشه، فخرج له قائد من قادات الروم يقال له جرجة عليه السلاح والرماح، فلما خرج على فرسه لقيه خالد فقال جرجة: يا خالد! اصدقني في هذا اليوم ولا تكذبني، لماذا خرجتم؟ قال: خرجنا لندعو الناس إلى (لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، قال له جرجة: فمن أطاعكم؟ قال: من كان منا وكان أفضل منا، قال: كيف يكون أفضل منكم؟! قال: لأننا رأينا رسول الله ﷺ ومعجزاته وآياته فصدقناه، ومن آمن الآن لم يره، فيؤمن بالغيب، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فأخذه خالد إلى خيمته، وأنزله فيها، وقال: اغتسل وتوضأ وصلِّ ركعتين، واخرج معنا، علَّ الله أن يرزقك الشهادة، فتوضأ بعد أن اغتسل وصلى ركعتين وخرج، فقاتل حتى استشهد، فقال خالد: رحمك الله! عَمِلت قليلًا وأجرت كثيرًا.
ولما رأى الروم هذا الموقف ذُهلوا! وأخرجوا له ابن قوقل وهو فاجر من الفجار، فلما رآه خالد أراد أن يدعوه كما دعا جرجة إلى الإسلام فعرض عليه الإسلام ولكن الله طبع على قلبه، ولو علم الله فيه خيرًا لأسمعه، فلما علم أن لا حل معه، قال ابن قوقل: يا خالد لماذا جئتم؟
قال: نحن قوم نشرب الدم، وسمعنا أن أحسن الدماء وألذها دماء الروم، فجئنا اليوم نشرب دماءكم، فأوقع الله الرعب في قلوبهم، وبدأت المعركة، وتنتهي بالنصر، وجاءوا بالشهداء، وجلس خالد يستقبل الشهداء، يُحملون على أكتاف الرجال، وجاء صديقه عكرمة، فوضع وهو مقتول بين يديه في آخر رمق، وفي آخر سكرة، وهو ينظر إلى خالد دموعه تسيل على خديه، ودموع خالد تسيل على خديه، ويؤتى بثلاثة من الشهداء في آخر رمق من الحياة، فيصيح خالد عليَّ بالماء؛ ليشربوا فقُدِّم لهم ماء بارد في شدة حرارة الصيف، وقد انتهوا من المعركة، فأعطى خالد الماء لـ عكرمة، فرفض أن يشرب وأشار إلى أخيه أن يشرب قبله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر:٩] أعطى خالد زميل عكرمة الماء، فأشار إلى زميله، وأشار الزميل إلى زميله، فعاد الماء إلى عكرمة، فإذا هو قد مات، وعاد إلى الثاني، فالثالث، فالرابع، فإذا هم قد ماتوا، فجهش خالد بالبكاء، ورمى بالكوب مليئًا بالماء البارد، وقال: [[يا رب! اسقهم من جنتك فإنهم تركوا الماء البارد لمرضاتك]].
وأثناء معركة اليرموك مات أبو بكر ﵁، وتولى الخلافة بعده عمر ﵁، فكان أول مرسوم اتخذه عمر في خلافته الجديدة أن يعزل خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، ويأتي الأمر أبا عبيدة، فيُخفي كتاب عمر، ولا يخبر خالدًا، ولما انتهت المعركة، قام أبو عبيدة وأخبر خالدًا، فقال خالد: [[ولِمَ لا تخبرني؟ والله ما قاتلتُ بالأمس لـ عمر، ولن أقاتل اليوم لـ عمر، ولكني أقاتل لله رب العالمين]] يقاتل لله وهو قائد، ويقاتل لله بعد أن يعزل وهو جندي، لأن من أراد بعمله وجه الله آجره الله، ورفع الله مثوبته، لا يهمه منصب ولا قيادة، ومن أراد بعمله الدنيا، فما له عند الله من خلاق.
ليت أبا سليمان وأمثال أبي سليمان يعلمون أننا اليوم قست قلوبنا بالشهوات أصابتنا العطالة، والبطالة، والتهور، والكسل عن أفرض فرائض الإسلام، وعن أكبر أركان الإسلام، وعن ذروة سنام الإسلام، نسكن الفلل، ونجلس على الفرش الوثيرة، ونركب السيارات أقوياء في الدنيا شجعان للدرهم والريال أذكياء في أعمالنا ووظائفنا، وفيما يجلب لنا العيش في هذا الدنيا؛ لكننا مع الله لم نقم بواجبنا، وصحابة رسول الله في جوع وشدة وعطش ولكنهم في جهاد، يقومون الليل ويصومون النهار، ويتلون كتاب الله، ويجاهدون في سبيل الله.
يا رب فابعث لنا مِن مثلِهم نفرًا يشيدون لنا مجدًا أضعناه
يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راحْ
إنهم أسود على بعضهم، نعاج مع أعدائهم.
يا أحفاد خالد! يا أبناء الكرام! يا أبناء من أنار بالإسلام المعمورة! يا أحفاد من بنى منائر الحق! مَن غير أجدادكم رفع (لا إله إلا الله)؟ مَن غير أجدادكم سجد لله؟ سلوا المحيطات والبراري والقفار والبحار عن أجدادكم:
سلوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحْمَدِيَّا
أنتم كَهُمْ، ومَن يشابه أبَهُ فما ظلم.
فلنعد عودة صادقة لهذا الدين، ولنتحمس لهذا الدين كيف لا يكون ذلك وآباؤنا هم الذين رفعوا راية الله، لكن قَدْ يَخْلُفُ النارَ رمادٌ، فنعوذ بالله أن نكون الرماد، ونعوذ بالله من شر خلف بعد خير سلف، ونعوذ بالله أن نضل أو نزل أو نظن أن غيرنا سبقونا إلى المجد والكرامة.
اللهم أصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
1 / 9
خالد بن الوليد بعد معركة اليرموك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: يجاهد خالد لإعلاء كلمة الله، حتى استقرت في غالب أصقاع المعمورة، ويأتي خالد ﵁ بعد أن تنتهي المعارك، بعد أن يسمع (الله أكبر) تدوي في غالب أنحاء المعمورة، يأخذ ﵁ فرسه، ويأتي إلى حمص في أرض الشام، ليعود إلى أهله بعد رحلة الجهاد الطويل، يقبل الناس بعدها على الغنائم وعلى رفع الدور والقصور، ويقبل خالد على آيات الله وكلام الله وذكره كان إذا صلى الفجر أخذ مصحفًا فينشره بين يديه ويقرأ حتى يقترب وقت الظهر.
يقول أهل العلم: كان إذا قرأ يبكي، ويقول: شغلني الجهاد عن القرآن يتحسر على حياته، ووالله ما ضاعت، إنها لحياة محفوظة عند الله، ما شغله عن القرآن إلا الجهاد؟!
فماذا نقول نحن ونحن في زمن الفتن؟! هل شغلنا الجهاد عن القرآن لنعتذر به عند الله يوم القيامة؟! لا والله، بل شغلتنا شهواتنا، ومعاصينا، ولهونا، ولعبنا شغلنا طلب الأماني والسهر على الأغاني، ما شغلنا الجهاد ولا شغلنا القرآن!
أوَّاهُ! في الليلة البهيمة في منتصفها، ما تسمع إلا أصوات الأغاني تفوح -والله- من بيوت المسلمين، لتفري كبد المسلم الغيور.
أوَّاهُ أوَّاهُ الأولى بنا في هذا الوقت أن نعكف على كلام الله نقرؤه ونتدبره.
يا أمة القرآن! اعمروا لياليكم بالقرآن اعمروا لياليكم بذكر الله اعمروا لياليكم بالقيام اتركوا أصوات الشياطين، فالذي لا يحتسب عمره من اليوم، والذي لا يفكر في ثوانيه ودقائقه من الآن فليبكِ على عمره، والله لَيُسْلَبَنَّ عمرُه من بين يديه وهو ينظر، والله لَيَهْلِكَنَّ مالُه وولدُه، فلا يغني ولا يدفع، والله ليُسْأَلَنَّ عن كل شيء يوم القيامة على مرأىً ومسمع.
هاهو خالد! يقف ليُنْهي حياته بالقرآن، أما ليله فقيام وبكاء، وأما نهاره فتدبر لآيات الله، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون.
1 / 10
خالد أثناء مرض الموت
طلب خالد الشهادة في مائة معركة فما وجدها، لكنه وجدها على فراشه: ﴿من تمنى الشهادة صادقًا من قلبه رُزِقَها وإن مات على فراشه﴾.
قال عند موته: [[لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] وتفيض روحه إلى الله: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر:٢٧ - ٣٠].
ويأتي الصحابة يحملون جنازته -يحملون جثمانه على أكتافهم إلى القبر الذي سوف نعرفه إن جهلناه اليوم، وسوف ننزله إن هجرناه اليوم، وسوف نبصره ونراه إن تعامينا عنه اليوم- يحملونه وهم يبكون، تقول أخته وهي تبكي: إنا لله وإنا إليه راجعون!
أنت خير من ألفِ ألفٍ من القو مِ إذا ما كُبَّت وجوهُ الرجالِ
ومُهِين النفس العزيزة للذكْـ ـرِ إذا ما التقت صدورَ العوالي
1 / 11
حال عمر عند سماعه خبر موت خالد
ويأتي الخبر عمر ﵁ وأرضاه بـ المدينة، وهو الذي يعرف قيمة خالد، فيظل واقفًا يرتعش ويرتعد، ويقول: [[إنا لله وإنا إليه راجعون! والله يا أبا سليمان، لقد عشتَ سعيدًا، ومتَّ حميدًا، وما عند الله خيرٌ، ثم يبكي ﵁ ويقول: مضوا وخلفوني وحدي، مضوا وخلفوني وحدي]].
فترتج المدينة بالبكاء والنحيب لبكاء عمر ومصابهم بـ خالد.
ويأتي رجل إلى عمر، ويقول: يا أمير المؤمنين! إن نساءنا يبكين، ويندبن خالدًا، قال: [[ثكلتك أمك! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي]] لكن لا صراخ ولا قلقلة.
إي والله! على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي.
وتأتي وصية خالد لـ عمر: [[إنك أنت المتصرف في تركتي والقائم على أبنائي]] فرضي الله عنهم أجمعين.
نَمْ يا أبا سليمان حتى يبعث الله الناس ليوم لا ريب فيه؛ ليوفيك أجرك ومثوبتك وخدمتك لهذا الدين؛ لأنك بذلت كل غال ورخيص، وذهبت عن الفتنة وبقينا لها، جمعنا الله بـ خالد في عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
عباد الله! بمثل خالد وصحبه وبِفَهْمهم الواعي لمعنى الجهاد انطلق المسلمون في شرق الأرض وغربها، ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون راية الله، ليقف قائد من قادتهم أمام رستم -قائد الفرس- ويقول في عزة المؤمن: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
1 / 12
الجهاد في سبيل الله ماضٍ إلى قيام الساعة
يمضي المسلمون في تاريخهم الطويل، يؤكدون سنة الله في الأرض، فكان لهم النصر عاشوا لعقيدتهم يستعذبون الصعاب في سبيلها، أما إذا تخلوا عن طريق الجهاد فسوف يحيون مستضعفين في الأرض يتخطفهم الناس في كل مكان.
نعم! حين كانوا يخرجون لله يثبت الله أقدامهم وينصرهم على أعدائهم كانوا يخرجون وفي أذهانهم قول محمدٍ ﷺ: ﴿والذي نفس محمد بيده! ما من كَلِيْمٍ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِمَ، لونه لون دم، وريحه ريح المسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، والذي نفس محمد بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل﴾.
لا إله إلا الله! الجهاد سبيل انتصار المؤمنين في تاريخهم، وما زال إلى اليوم هو الطريق لعزتهم وكرامتهم، والأمة اليوم يتخطفها الأعداء من كل جانب أعداء من خارجها، وأعداء من داخل صفوفها، ولا مخرج ولا سبيل إلى النجاة إلا بالعودة إلى الله، ثم إعداد العدة للجهاد.
إن الأعداء لا يخشون إلا الأقوياء، فعلى المسلمين أن يأخذوا بأسباب القوة، فليكُن بأيدينا مثل السلاح الذي بأيديهم، والسلاح في يد المؤمن يزداد بإيمانه قوة.
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاحْ
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساحْ
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاحْ
شعب بغير عقيدة ورقٌ تذر به الرياحْ
أيها الأخيار! اجمعوا صفوفكم، ووحدوا كلمتكم، وثقوا بربكم، وارغبوا فيما عنده، واستعلوا على متعكم، وعيشوا واقعكم بمعرفة لا بغيبوبة، وتدربوا على فنون الرماية، واخدموا دينكم ما استطعتم، فالله سوف ينصر دينه على أيديكم أو على أيدي غيركم.
اغتنموا الفرصة وادخلوا في الركب، وكونوا من أنصار الله، وأعلوا كلمة الله، وسيروا في موكب الله، وأعِدوا أنفسكم للدفاع عن مقدساتكم، وللذوذ عن كراماتكم، يكتب لكم ربكم النصر والتوفيق.
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة أمثال: خالد، وسعد، وزيد، وجعفر.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُذَلُّ فيه أهلُ معصيتك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا في الظَّلَمَة يومًا أسود كيوم فرعون، وهامان، وقارون.
اللهم أرنا في صدام ومَن شايعه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم زلزل الأرض تحت قدميه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم لا تسلطه على المؤمنين، اللهم أنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم لا ترفع له راية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمِنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق علماءنا.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، واختم بالصالحات أعمالنا، واشفِ اللهم مرضانا، وارحم موتانا.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، ولا تخيب اللهم فيك رجاءنا.
اللهم لا تسلط علينا البعثيين والملحدين والكافرين.
ربنا إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين، ولا مفتونين.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
1 / 13
حروف تجر الحتوف
إن من أعظم ما يفكك بنيان الأمة، ويهد أركانها، ويهدد الفضيلة الطعن في الأعراض والاستطالة على الحرمات، خاصة في حق أبناء الأمة المخلصين من علماء وطلاب علم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ هذا الخطر ببيان شاف، ومواعظ بليغة
2 / 1
حالة الأمة اليوم تقتضي الاستيقاظ والتأهب
2 / 2
مقدمة ترحيبية وابتهالات
الحمد لله
الحمد لله عظيم المنة وناصر الدين بأهل السنة
نحمده وفقنا إلى الهدى حمدًا كثيرًا ليس يحصى عددا
وبعد حمد الله إني أشهد أن لا إله مستحقًا يعبد
إلا الإله الواحد الفرد الصمد من جل عن زوجٍ وكفءٍ وولد
اللهم إني أحمدك على ما علمت من البيان، وألهمت من التبيان، وأسبغت من العطاء، وأسبلت من الغطاء.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، وشرة اللسن ومعرة اللكن، والسلاطة والهذر والعي والحصر، اللهم إنا نسألك أن تكفينا الافتتان بإطراء المادح وإرضاء المسامح، وأن تقينا إزراء القادح وهتك الفاضح، نستغفرك اللهم من نقل الخطوات إلى الخطيئات، وسوق الشهوات إلى الشبهات.
اللهم هب لنا توفيقًا إلى الرشد، وقلوبًا تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقًا يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، وأنفسًا تأنف الخنا، اللهم أسعدنا بالهداية، وأعضدنا بالإعانة على الإبانة، اللهم قنا غوائل الزخرفة، فلا نرد مأثمة ولا نقف مندمة، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا.
أشهد أن محمدًا عبدك ورسولك؛ ختمت به النبيين، وأعليت درجته في عليين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين:
يا رب صل على النبي المصطفى ما لاح برق في الأباطح أو قبا
يا رب صل على النبي المصطفى ما قال ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا
اللهم اجعلنا لهديه متبعين، وانفعنا بمحبته واتباعه أجمعين.
أما بعد:
فيا معشر الإخوة والأخوات والبنين! أشرف التحايا ما مازج النفس وخالط الروح، وأثار المشاعر وحرك الضمائر، ولا والله الذي لا إله إلا هو لا أعلمها إلا تلك التحية الفطرية؛ التي جاء بها دين الفطرة رمزَ أمان وعنوانَ إيمان، فالسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
تحيةً ينبعث معها الروح إلى القلوب، وينبث معها الاطمئنان إلى الجنوب، قدمتم خير مقدم، ووقيتم المأثم والمغرم والمندم، وبؤتم بحسن المنقلب، اللهم أعذني وإخوتي من قول الزور، وغشيان الفجور، ومن الغُرور والغَرور، اللهم لا أكون وإخوتي مستكثري حجج، كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع أنفه بكفه، فنلحق بالأخسرين أعمالًا ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:١٠٤].
بك يا رب نعتضد، ونعتصم بك مما يكون، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وبك نستعين وأنت المعين:
أنت ربي في تصاريفك خير الأحكمين
أنت بي أعلم مني أنت خير الأكرمين
أنت أولى بي مني فأعني يا معين
2 / 3
وجوب التلاحم والاتحاد وشكر نعمة الإسلام
معاشر الإخوة! لا يخفاكم أن الجراح في أمتنا غائرة، وفي أنفسنا قائمة بالغة:
جراحنا بالغات تعيي الطبيب الفطينا
وجرح دون جرح
جرح الحسام له آسٍ يطببه وما لجرح قناة الدين من آسٍ
إن الفرد والأمة في يومها ينبغي أن تكون في حالة استنفار وجهاد مع النفس وحظوظها وسهام الأعداء وزحوفها وسمومها، ويا عار وهزيمة فردٍ أتيت الأمة من ثغرة يقوم على حراستها!
أما إن التقصير في جهاد النفس وأداء الواجب وشد بنيان الأمة والشعور بالجسد الواحد اليوم يعد جريمة، لأن حالنا اليوم كحال اليتيم الضائع الجائع؛ إذا لم يسع لنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لديننا، ووجهنا سهامنا إلى صدورنا؛ فمن ذا يقوم على ثغر أمة الإسلام؟ أمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم؟ أمن يقولون: إنا معكم حتى إذا خلوا بأسيادهم قالوا: إنما نحن مستهزئون؟ أمن يمنعون الماعون، ويداوون الحمى بالطاعون، ويترصدون بالأمة الغوائل؛ يرقبون الخلس، ويدرعون بالغلس؟ إن كان ذلك فقد وهى السقا، وأهرق بالفلاة الماء، واتبع الدلو الرشا، وهلك الناس من الظما، ولم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود.
لقد كنا -معشر الإخوة- في عصرنا هذا أول من نام وآخر من استيقظ، فمن الحزم أن نتلاحم، ثم لا نقطع الوقت فيما يكره الله من قيل وقال، وهلهلة البنيان، واغتيابٍ وعتاب، وملام وطعن، وحرب بالكلام، فإن ذلك إطالة للمرض، وزيادة في البلاء على المريض، وذلك عين ما يريده أعداء الدين.
أما إن التبعة كبيرةٌ ثقيلةٌ جدُّ ثقيلة، إننا نحتاج في يومنا إلى أن نرفع الأنقاض، ونبني ونعمر، ونؤدي فريضة الوقت، ونقضي الفوائت، ونؤدي الكفارات مع العوائق والمثبطات، ومن كان هذا حاله شمر وانبرى، وجد وبذل وضحى، وضبط حياته بوحي الله؛ شكرًا لله ﷾ على نعمته، وأجلها أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من خير أمة، أعني أمة خاتم النبيين، عليه صلوات وسلام رب العالمين.
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٤] فكم وكم لله من نعمة سابغة للعبد في هدايته أولًا، ثم في أعضائه وجوارحه ومنافعه وقواه غير ملتفت إليها ولا شاكرٍ عليها! ولو عرضت الدنيا بما فيها بزوال واحدة من هذه النعم، لأبى المعاوضة، وعلم أنها معاوضة غبن: ﴿إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم:٣٤] ولو فقد شيئًا منها لتمنى أنها له بالدنيا وما عليها، فاللهم لك الحمد
الحمد لله العزيز الباري ما ذكر الرحمن في الأقطار
وزين السماء نجم ساري
عبد الله! ومن شكر نعمة الله عليك في جوارحك؛ ضبطها بوحي الله، العين لا ترى، والأذن لا تسمع، واللسان لا ينطق، والعقل لا يفكر ويخطط، والقلب لا ينعقد، واليد لا تكدح، والرجل لا تسعى ولا تخطو إلا فيما يرضي المولى؛ حالك:
أنا أدري غايتي أعرف منهاج حياتي
قد تجلى لي مصيري إذ تلوت النازعات
أو كحال عروة ﵀ حين قطعت رجله لآكلة دبت فيها فغشي عليه، ثم أفاق وحمد الله، وأخذ ساقه المبتورة، وقال وهو يقلبها في يده: أما والذي حملني عليك في عتمات الليل إلى المساجد؛ إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرامٍ قط فيما أعلم:
خلق ورثنيه أحمد فجرى ملء دمائي وشغافي
لم يزلزله على طول المدى بطش جبارٍ ولا كيد ضعافِ
أو كحال أحد السلف وقد كانت له زنجية مملوكة غمته بعملها، فرفع السوط عليها يومًا، ثم قال: أما والله لولا الله ثم القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكني أبيعك ممن يوفيني الثمن أحوج ما أكون إليه؛ اذهبي فأنت حرة لوجه الله!
فيا لله من مواقف يعجز اللفظ أن يعبر عنها!
فالسكوت هو اللسان الفصيح.
2 / 4
اللسان سلاح ذو حدين
معشر الإخوة! الجوارح جوارح، وأخطرها شأنًا أداة البيان اللسان، ترجمان الجنان، كاشف مخبئات الصدور، زارع الضغينة والفتنة في الصدور، تسل السيوف وتدق الأعناق بكلمات، تقوم صراعات وتثور فتنٌ بكلمات، تضيع أوقات، وتشاع اتهامات، وتقذف محصنات غافلاتٌ مؤمنات بكلمات، تهدم حصونٌ للفضيلة وتزرع الهموم والحسرات بكلمات.
بكلماتٍ يقال على الله بلا علم وذاك قرين الشرك أكبر الموبقات، السبُّ والهمز واللمز واللعن والغيبة والطعن والنميمة والقذف والفحش والبذاءة كبائر بكلمات، إنها شجرات لا قرار لها؛ مجتثات مستأصلات خبيثةٌ سماؤها وأرضها وماؤها.
فإن شئت عنا يا سماء فأقلعي ويا ماءها فاصبب ويا أرض فابلعي
وفي المقابل تستيقظ الضمائر، وتحيا المشاعر، وتلين الجلود، وتحيا القلوب، وتذرف العيون، ويسعد المحزون، وتعلو الهمم بكلمات، إنما هي شجراتٌ طيبات، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله رب الأرض والسموات.
بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها؟!
البيان ما البيان؟
إنه ذو حدين أحدهما -وهو المقصود- خطر جسيم، وشأنٌ عظيم، سلاحٌ فتاك؛ إن لم يضبط أهلك الحرث والنسل وزرع الشتات، يلدغ كالأفعى؛ ويحرق كاللظى، بحروفٍ تقطع الأواصر وتفصم العرى، وتكدر النفوس، وتضيق الصدور، ويهجر المسلم أخاه وأمه وأباه:
وهاجت سيوف وماجت حتوف وسال دم فوق مجرى دمي
وأصبح القول والأسماع تنبذه كأنه نسمٌ في جوف موءود
2 / 5
أم المؤمنين تهجر ابن الزبير بسبب كلمات
روى البخاري من حديث عوف بن الطفيل وعروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير ﵄ أحب البشر إلى خالته عائشة ﵂ بعد رسول الله ﷺ وأبيها أبي بكر ﵁ وأرضاه، وكان أبر الناس بها، وكانت تكنى به، فيقال لها: أم عبد الله، والخالة بمنزلة الأم، وهي هنا أم لجميع المؤمنين بنص كتاب الله، وكانت ﵂ لا تمسك شيئًا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت به
لأن راحتها بحرٌ وليس لها ردٌ ومن ذا يرد البحر إن زخرا
بحرٌ ولكنه صافٍ مواهبه والبحر تلقى لديه الصفو والكدرا
فقال عبد الله حدبًا على خالته في بيعٍ أو عطاءٍ عظيم أعطته، وقيل: في دارٍ باعتها وتصدقت بثمنها؛ قال: والله لتنتهين خالتي عائشة أو لأحجرن عليها، ينبغي أن يؤخذ على يديها.
قد فاته القول الرقيق فمال نحو غليظه
فقالت ﵂ وأرضاها: أيؤخذ على يدي؟ أهو قال ذا؟ لله علي نذر ألا أكلم ابن الزبير أبدًا.
يقول ابن حجر ﵀: عائشة أم المؤمنين وخالة عبد الله، ولم يكن أحدٌ في منزلته عندها بعد رسول الله ﷺ وأبيها، ورأت في كلامه هذا نوع عقوق، والشخص يستعظم من القريب ما لا يستعظمه من الغريب، فكان جزاؤه عندها أن تركت كلامه كما نهى النبي ﷺ عن كلام كعبٍ وصاحبيه لتخلفهما عن تبوك، ثم إن هجر الوالد ولده والزوج زوجه لا يتضيق بثلاث، فقد هجر النبي ﷺ نساءه شهرًا، ويحمل على ذلك ما صدر عن عائشة ﵂ وكثيرٍ من السلف من الهجر لبعضهم مع علمهم بالنهي عن المهاجرة والله أعلم.
وطال الهجر على ابن الزبير، وضاقت به الأرض، وضاقت نفسه حتى صار:
كأنه فارس لا سيف في يده والحرب دائرة والناس تضطرب
أو أنه مبحرٌ تاهت سفينته والموج يلطم عينيه وينسحب
أو أنه سالك الصحراء أظمأه قيظ وأوقفه عن سيره التعب
فاستشفع إليها بالمهاجرين، فقالت: والله لا أشفع فيه أحدًا، ولا أتحنث في نذري ولا آثم فيه لكأنك به وهو يهمهم ويقول:
وضاقت بي الأرض حتى كأني من الضيق أصبحت في محبسي
وعندها كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود، وهما من أخوال النبي ﷺ، وكانت أرق شيءٍ لهما لقرابتهما من رسول الله ﷺ، فقال لهما: ناشدتكما الله لما أدخلتماني على خالتي عائشة! فإنه لا يحل لها أن تنذر قطيعتي إلى أبد، إن كانت عقوبة على ذنبي، فليكن لذلك إلى أمد فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلنا، قالت: نعم كلكم -لا تعلم أن معهما ابن الزبير - فقالا له: إذا دخلنا، فاقتحم عليها الحجاب، فلما دخلوا اقتحم عليها الحجاب، فاعتنق أمه عائشة وطفق يناشدها ويبكي، والمسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان لها: يا أم المؤمنين! قد نهى ﷺ عما علمت من الهجر، وأكثرا عليها من التذكرة والتحريم، وطفقت تذكرهما وتقول: نذرت والنذر شديد، ولم يزالا بها يكلمانها حتى كلمته وعفت عنه.
فلا تسل لكأنه عبدٌ مملوكٌ أعتقته، أرسل إليها بعد ذلك عبد الله بعشر رقاب فأعتقتهم جميعًا لوجه الله، ثم لم تزل تعتق حتى أعتقت أربعين رقبة، كل ذلك مبالغة منها في براءة ذمتها ﵂، وكان يكفيها عتق رقبة، ولكن:
طابت منابتها فطاب صنيعها إن الفعال إلى المنابت تنسب
يا بنة الصديق طيبي وانعمي ذاك حكم الله خير الحاكمين
وكانت تذكر نذرها ذلك، فتبكي حتى تبل دموعها خمارها، فرضي الله عنها وأرضاها:
بعض المعادن قد غلت أثمانها ما خالص الإبريز كالفخار
بين الخلائق في الخلال تفاوت والشهد لا ينقاس بالجمار
وكم من حروفٍ تجر الحتوف!
2 / 6
خطر اللسان وعاقبته على الأعمال
إنها الحروف لو قُدِّر كون بعضها سائلًا ثم مزج بماء البحر لأفسده وغيَّره، بحروفٍ ملفوظةٍ أو مكتوبة يهوي المرء أو يرفع، ويرضى عنه أو يسخط عليه، قال ﷺ فيما ثبت عنه كما في الصحيحين: ﴿إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجاتٍ في الجنة -وفي رواية: يكتب الله له رضوانه بها إلى أن يلقاه- وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا؛ يهوي بها في جهنم﴾ وفي رواية: ﴿يكتب الله له بها سخطه إلى أن يلقاه﴾.
ضوابط دقيقة وزواجر عظيمة: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:١٨] ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [الإسراء:٣٦]!
وكم من الحروف تجر الحتوف!
وإن الإنسان -معشر الإخوة- يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والربا والسرقة وشرب الخمور والنظر المحرم وغير ذلك، ومع ذلك يصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى إنك لترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب كما قال ابن القيم ﵀.
فكم رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول، وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى ما رواه الإمامان مسلم وأحمد: ﴿أن رجلًا مجتهدًا وجد أخاه على ذنب فقال له: أقصر، فاستمر على ذلك، فلم يزل يكرر عليه أقصر أقصر، فغضب منه ذلك، وقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ فقال هذا الغيور: والله لا يغفر الله لك يا فلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، أكان بي عالمًا وعلى ما في يدي قادرًا؟ قد غفرت له وأحبطت عملك يقول أبو هريرة ﵁: والذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه﴾
فكان أضيع من لحمٍ على وضم وصار يقرع منه السن في ندم
وفي صحيح الترغيب للألباني بسندٍ حسنٍ لغيره: ﴿أن غلامًا استشهد يوم أحد، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من شدة الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه، ثم قالت: هنيئًا لك يا بني الجنة، فقال النبي ﷺ: وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه﴾ يالله!
يستحسن البعض ألفاظًا إذا امتحنت يومًا فأحسن منها العجم والخرس
2 / 7