فليت لي بك زوجا أن أشرت له
هذا العدو أتى أصلاه نيرانا
تلك هي الكلمة التي مارت لها جزيرة القوم، واهتز العرش البريطاني، وطار نوم حاكم السودان، ومرت أمامه حوادث حرب الاستقلال مرور الصور المتحركة، تلك هي الكلمة التي اجتمع لها البرلمان، وقرر تخفيض الجيش، وحكم على كل مصري فيه بسوء العيش. ولقد كنت أحد أولئك الذين ضرب عليهم بالقداح. ها أنا ذا وليس وراء ما بي من سوء الحال غاية، ولو لم أكن متخرجا في المدرسة الحربية لكفاني العلم ذلة الفقر والسؤال، ولكنني خرجت منها كأني المعنى بقول من قال:
الجهل شخص ينادى فوق قامته
لا تسأل الربع ما في الربع من أحد
فلقد لبثت في الجيش مع من فيه بضع سنين، فصبرنا على ما لا يصبر على بعضه كل أولئك الذين سخروا لبناء الأهرام، وإقامة البرابي، وما باتت الإنس والجن مطوية الضمير على الطاعة لسليمان كما باتت تلك الجنود المصرية لرؤسائها الإنجليزية. نعم، ولا لاقى جيش الإسكندر في فتوحاته، ولا جيش نابليون في غزواته، بعض ما لاقته هذه الفئة المصرية في الأقطار السودانية. فلو حاول الإنجليز وصل الكرة الأرضية بإحدى السيارات بمد السكك الحديدية، لما وجدوا من يصابرهم على هذا العمل غير ذلك الجيش، فلقد استفرغوا جهدهم لصيرورة الجيش إلى الحال التي تراها، فتمكنوا فيه من النفوس، وحكموا على الضمائر، فلم تخطئهم وساوس الصدور، ولم تفتهم خطرات الأفكار.
دخلوا مصر وفي جيشها من هم أولى سابقة في الفضل، وخصيص في العلم، ومن حنكته السن، وغزته التجربة، وخبطته الحروب، فكنت ترى فيهم المهندس الماهر، والكيماوي الباهر، والمحيط بفن الحرب وعلم التكتيك، ممن تذاوقوا معهم سجال الحرب يوم طرقونا، فأشفقوا أن يكون هؤلاء أمام سياستهم صفا صلدا، فزحزحوهم عن أماكنهم حتى أصبح الجيش عطلا من كل رجل ركين، ثم نظروا فإذا المدارس الحربية تغذوا أشبال تلك الأسود لبان العلوم والمعارف، فهالهم أمرها، وأسرعوا في سلبها كنز علومها، وتجريدها من حلي فضائلها، حتى أصبحت كالأخيذة السليبة.
ثم يتموها أساتذتها، وأراد ربك فأمست وهي أشبه شيء بمصانع الدجاج، يدخل فيها التلميذ فلا يسلخ ستة أشهر حتى يغدو وعلى جنبه سيف صقيل، فهو يوم دخل فيها مثله يوم خرج منها، لا يزيد علمه في الحالين عن يوم خروجه من بطن أمه، وما كانت قوة التصوير الشمسي بأسرع في أخذ الصور من تلك المدرسة في تهيئة التلامذة للدخول في الجيش.
فأصبحت بفضل القوم كما ترى، وقد جمدت فيها روح العلوم، ونضبت سيول المعارف، وأقفرت غرفها من نجباء التلامذة، وقام ينعق فيها ذلك القائم بالأمر والنهي هناك، وبات يطلبها كل فدم وجاهل كما تطلب اليوم الضيعة الخربة.
يمشي الكبير من الإنجليز في معسكر الجنود السودانية فيعثر بأولادهم وهم يلعقون فضلات الطعام، وكأنهم وقعوا على تمرة الغراب، فيقف عليهم ويتفرس فيهم، ثم يختار من تدركه السعادة منهم فيقذفه بمنجنيق إرادته على أسوار المدرسة الحربية، فلا يحول الحول حتى ترده إليه وعلى كتفه نجمان من نجوم النحوس، فيغدو
صفحه نامشخص