فخرجوا وهم يحمدون الله على النجاة من مخالب العقاب.
وينقضي ذلك اليوم والأحرف البرقية تنبض بأسلاكها، والرسائل بين السردار ونائبه تروح وتغدو على وجهها، وتملأ أنباء الثورة فؤاد السردار رعبا، فيقول في نفسه: أفتنة في الجيش ولما أقم بالأمر فيه غير أيام معدودات؟! فيا سعد كتشنر، كيف تحولت لي نحسا؟ فيخف إلى العميد فينفض إليه جملة الخبر، ثم يستوزعه الرشاد في العمل، فيلقنه كلمات يلقى بها الأمير.
قد أخرجوه بكره من سجيته
والنار قد تنتضي من ناضر السلم
فيصدق الطير ويعود السردار وهو يحمل ذلك الأمر العالي
وهنا تمنعني هيبة الأمر عن التعرض لذكر ما جاء في الأمر، فالله عليم بذات الصدور.
كل ذلك وحركات السياسة الإنجليزية تجري فوق سكون الجيش، وهو كأنه فوق جارية في عرض البحار نام ربانها، وتولى الموج أمرها، فما لبث أن توج بها رأس الصخر، ثم جعلها سرا في جوف البحر. ولما ظفر السردار بمناه، راغ روغة فإذا هو بالسودان، وقد شمرت أيام عيد الفطر، فأمر بتجديدها، وأن تحشر له جنوده من السودانيين والمصريين، ونادى من قبله المنادي: معشر الجنود، كل من نابته ظلامة، أو نزلت به شكاة، فهذا باب السردار لا يحجبه عنكم حاجب! فطفق الضباط يتسابقون إلى بابه، وجعل يقابلهم على انفراد وهو كلما خلا بأحدهم بالغ في محاسنته ومصانعته، فلا يكلمه إلا وماء البشر يجول في محياه. وكذلك انقضى اليوم والسردار ينثر عليهم بدر المواعيد، فما خرجوا إلا ورءوسهم مملوءة بالأماني، وأيديهم بالآمال.
ولقد كان للنعمان بن المنذر بن ماء السماء؛ ملك الحيرة، في كل حول يومان: يوم جعله للنعيم، ويوم للبؤس، فكان يحبو من يلقاه في يوم نعيمه بما يجعله مكفي المئونة طول حياته، ويصب على من يعثر به في يوم بؤسه سوطا من العذاب، فأراد ملك السودان أن يجري في طريقة ذلك الجبار بإحياء سنته، ففعل شرواه، غير أنه زاد عليه فجعل للنعيم شهرا، وللبؤس شهرا، فمضى الأول منهما؛ وهو شهر النعيم، والجنود السودانية ترتع وتلعب، والسردار يعطي ويهب، وكبار الضباط تصبح وتمسي على الموائد، والمصريون كأنهم المعنيون بقوله تعالى:
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا .
فإذا أيام النعيم ولت، وإذا أيام البؤس حلت، وإذا الموائد رفعت، وإذا العهود نكثت، وإذا الصدور نفثت، علم المصري أنه غلب على أمره، والزنجي أنه جنى على غيره. وهنا يلوح هلال شهر البؤس يطالع في صحيفة الأفق أسماء أولئك الذين تقاسمهم العزل والطرد، فلم تشرق شمس يومه الأول حتى أصبحت دار الولائم ساحة لانعقاد المحاكم، وأمر السردار أن يكون التحقيق علنا بعد أن كان سرا. وإليك بيان ما وقع في السر والعلانية.
صفحه نامشخص