ولما انتهيا من تعريف السعادة، وانتهيت إلى داري، غادرتهما يضعان من تعاريف الأشياء ما يرسمه لهما الخيال، وتملي عليهما الآمال، فدخلت الدار وروحي مجروحة بشكوى ذلك الموتور، فما زلت أفكر في آلام الشرقي وشقاء المصري حتى ضاق الصدر، وعزب الصبر، فقمت إلى ربيع الأرواح ومسرح النفوس، وأعني به اللزوميات، فطويت بفتحه كتب الأوهام، ومحوت بسطوره سطور الآلام، وجعلت أطالع حتى تبينت الخيطين، وميزت ما بين الفجرين، فحن الجنب إلى المضجع، ومالت العين إلى الهجوع، فنمت ما شئت، وانتبهت وقد اكتهل النهار، فأصلحت من شأني، وخرجت وأنا على غير عجلة من أمري لفسحة الوقت، وبعد ساعة اللقاء، فمشيت مشية المتفرج حتى بلغت المكان المعهود، فإذا فيه إنسان تنطق معارف وجهه
8
عما انحنت عليه ضلوعه من سأم العيش وضجر الحياة، فدانيته وحييته، فرد التحية بأحسن منها، فقلت له: ما لي أراك هكذا كاسف البال، سيئ الحال، وما لي أرى في عينك أثر البكاء، وألمح على وجهك غبار الشقاء؟
فقال وهو يخفي من شجونه ويغيض من شئونه: «إني امرؤ خفيف الحال، ثقيل الأعباء، رزئت بفقد أبي قبل أن أبلغ الغاية التي إليها مدى أملي وأمل الأهل والأقارب، فانقطعت عن الدرس في مدارس الحكومة لقصر يدي عن بلوغ نفقة التدريس التي اشتطت فيها، فأصبحت عيالا على أهلي، ولبثنا نعيش جميعا من فضلة كانت لنا حتى أمسينا ذات ليلة ولم نجد ما نستصبح به في الظلام، فكرهت أن أجمع عليهم بين خفة الحال وثقل وجودي بينهم، فخرجت أقصد وجوه الرزق؛ لعلي أصل إلى عمل أكسب منه ما أدفع به عني شرة العوز وذل السؤال، فأخطأني التوفيق؛ لأنني لم أكتب من أهل الشهادة، فما زلت أنظر في وجوه الأعمال، وأتبصر في أيها أقل مئونة وأكثر ربحا، حتى فتق لي الذهن أن ألقي بنفسي في غمار المحررين، وأن أنشئ صحيفة أسبوعية، فصحت عزيمتي على الدخول في زمرة الكتاب، وإن لم أكن منهم، وأقدمني على ذلك ما أراه كل يوم من ترامي الناس على احتراف تلك الحرفة، وغفلة أهلها عن الذود عنها، حتى عبث بها الدعي، وغض منها اللصيق. ولما طوعت لي النفس ذلك، أصدرت الصحيفة، وجعلت أكتب في الفضيلة، وأدعو الناس إلى الأخذ بها، وأستعين بما سطره الأول وجرى عليه الأخير، وأستمد من بطون الكتب أحكم الأمثال وأمثل العظات، وأكد ذهني في الاستنباط، وأنصب بدني في السعي، وأغشى الأدباء في دورهم، فأطلب إلى هذا مقالة في الأدب، وإلى ذاك كلمة في الفضيلة، حتى فاضت أنهار الصحيفة بالنصائح، وجرى تيارها بالملح والطرائف، ولكن فاتني أن أنظر نظرة في أخلاق الأمة التي أكتب لها، وأن أجول بالفكر جولة في وجوه عاداتها، فلم تنفق لذلك سلعتي، ولم تنتشر صحيفتي، فجعلت أبحث عن علة ذلك الكساد، وعدم تنفيق تلك السلعة، حتى اهتديت بعد كد القريحة إلى أن ذلك راجع إلى فساد الأخلاق، وأن العامة قد نامت عنها وعاظها، فيبس ما بينها وبين الفضيلة، وأخصب ما بينها وبين الرذيلة، وذكرت قول ذلك الشيخ الحكيم: «هلاك العامة فيما ألفت.» فوددت لو أنني كنت من رجال العلم وفرسان البيان، فأشن الغارة على تلك العادات والأخلاق، وأشك باليراع أضلاعها، حتى أراها تأنق لغير المجون، وتأبه لغير السباب، ولكن حال بيني وبين ذلك قصر في الباع، وجفاف في اليراع، وخلة
9
أشكوها، وحياة أستمرها
10
فقلت لنفسي: أيتها النفس، لقد أعذر
11
صاحبك وما قصر، فأنت اليوم بين أمرين: إما الفضيلة والنعش، وإما الرذيلة والعيش. وكانت من غير تلك النفوس المطمئنة، التي بشرها الله بالجنة، فشمست
صفحه نامشخص