ما أشد جزعه! .. كأنما اغتسل بماء شطة حامية .. الشمس حارة غليظة .. وجوه العباد كئيبة .. وكان فاضل قد سبقه إلى الدكان فاستقبله بابتسامة مشرقة ضاعفت من غيظه .. لعن الجو رغم ارتياحه المعروف لجميع الأجواء .. لا يكاد يرد تحية .. ولا يرحب بأحد .. لا يستبشر بكلمة أو وجه .. لا يضحك لدعابة .. لا يتعظ بعبور جنازة .. لا يسره وجه مليح .. ماذا جرى؟ ضاعف فاضل من نشاطه ليحول ما أمكن بين أبيه والزبائن .. وأكثر من زبون سأل فاضل همسا: ما بال أبيك اليوم؟
فيقول الفتى بامتعاض: به وعكة، لا أراك الله من سوء.
4
سرعان ما تكشف حاله لرواد مقهى الأمراء .. يقصدهم متجهما، يجلس صامتا، أو يحاور محاورة الشارد .. كف عن تعليقاته الضاحكة .. يضجر سريعا فيغادر المقهى .. يقول إبراهيم العطار: عضه كلب متوحش.
فيقول جليل البزاز: لقد فقدناه تماما.
ويقول كرم الأصيل صاحب الملايين وذو وجه القرد: حاله التجارية مزدهرة جدا.
فيقول الطبيب عبد القادر المهيني: قيمة المال تتبخر عند المرض.
فيقول عجر الحلاق الوحيد بين الجالسين على الأرض الذي يدس نفسه أحيانا في أحاديث السادة، يقول متفلسفا: ما الإنسان؟ .. عضة كلب أو قرصة ذبابة.
ولكن فاضل صنعان صاح به: أبي بخير، ما هي إلا وعكة تزول قبل شروق الصبح! •••
لكنه توغل في حال يتعذر الهيمنة عليها .. وفي ليلة التهم من المنزول قدرا مجنونا وغادر المقهى متوثبا لاقتحام المجهول .. كره الذهاب إلى داره فراح يتخبط في الظلام مشعث العقل والإرادة تسوقه أخيلة معربدة .. تمنى فعلا يمتص توتره الثائر ويريحه من العذاب .. وتذكر نساء من أهله شبعن موتا فتمثلن له عاريات في أوضاع جنسية تطفح بالإغراء فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا .. ومر بعطفة الشيخ عبد الله البلخي، ففكر لحظة في زيارته والاعتراف بين يديه بما وقع له ولكنه أسرع مبتعدا .. وعلى ضوء مصباح مدلى من هامة أحد أبواب الدور رأى بنتا في العاشرة ماضية في طريقها تحمل بين يديها سلطانية .. اندفع نحوها معترضا سبيلها متسائلا: أين تذهبين يا عروس؟
صفحه نامشخص