* بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله ذى الجود والثناء ، والمجد والسناء ، والعز والكبرياء ؛ أحمده على سوابغ النعم وجزيل العطاء ، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له عدة (1) اللقاء ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء.
أما بعد ؛ فانك سألتنى أن أصنف لك كتابا مختصرا أبين فيه جملا توضح الحق وتدمع الباطل ، فرأيت اسعافك بذلك ، (رزقك) (2) الله الخيرات ، وأعانك على الخير (3) والمطلوبات.
* (1)
* [الله وصفاته (4) ]
* مسألة
ان سأل سائل فقال : ما الدليل على أن للخلق صانعا صنعه ومدبرا دبره؟ قيل (له) (5): الدليل على ذلك أن الانسان الذي هو فى غاية الكمال والتمام ، كان نطفة ثم علقة ثم لحما
صفحه ۱۸
ودما (وعظما) (1)، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الى حال ؛ لأنا نراه فى حال كمال قوته وتمام عقله لا يقدر أن يحدث لنفسه سمعا ولا بصرا ، ولا أن يخلق لنفسه جارحة. يدل ذلك على أنه فى حال ضعفه ونقصانه عن فعل ذلك أعجز ؛ لأن ما قدر عليه فى حال النقصان فهو فى الكمال عليه أقدر. وما عجز عنه فى حال الكمال فهو فى حال النقصان عنه أعجز. ورأيناه طفلا ثم شابا كهلا ثم شيخا ، وقد علمنا أنه لم ينقل نفسه من حال الشباب الى حال الكبر والهرم ؛ لأن الانسان لو جهد أن يزيل عن نفسه الكبر والهرم ويردها الى حال الشباب لم يمكنه ذلك ؛ فدل ما وصفنا على أنه ليس هو الذي ينقل نفسه فى هذه الأحوال ، وأن له ناقلا نقله من حال الى حال ودبره على ما هو عليه ؛ لأنه لا يجوز انتقاله من حال الى حال بغير ناقل ولا مدبر. مما بين (2) ذلك أن القطن لا يجوز أن يتحول غزلا مفتولا ، ثم ثوبا منسوجا ، بغير ناسج ولا صانع ولا مدبر ، ومن اتخذ قطنا ثم انتظر أن يصير غزلا مفتولا. ثم ثوبا منسوجا بغير صانع ولا ناسج كان عن (3) معقول (4) خارجا ، وفى الجهل والجا. وكذلك من قصد الى برية لم يجد قصرا مبنيا فانتظر أن يتحول (5) الطين الى حالة الآجر ، وينتضد
صفحه ۱۹
بعضه على بعض ، بغير صانع وإلا بأن ، كان جاهلا. واذا كان تحول النطفة علقة ، ثم مضغة ، ثم لحما ودما وعظما ، أعظم فى الأعجوبة ، كان أولى أن يدل على صانع صنع النطفة ونقلها من حال الى حال. وقد قال الله تعالى : ( أفرأيتم ما تمنون. أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ) (1) فما استطاعوا أن يقولوا بحجة انهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون. وقد قال الله تعالى منبها (2) لخلقه على وحدانيته : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (3) بين (4) لهم عجزهم وفقرهم الى صانع صنعهم ومدبر دبرهم.
فان قالوا : فما يؤمنكم أن تكون النطفة لم تزل قديمة؟ قيل لهم (5): لو كان ذلك كما ادعيتم لم يجز أن يلحقها الاعتمال والتأثير ، ولا الانقلاب والتغيير ؛ لأن القديم لا يجوز انتقاله وتغيره ، وأن يجرى عليه سمات الحدث ؛ لأن ما جرى ذلك عليه ولزمته الضعة (6) لم ينقل من سمات الحدث ، وما لم يسبق المحدث كان محدثا مصنوعا ؛ فبطل بذلك قدم النطفة وغيرها من الأجسام.
* مسألة
فان قال قائل : لم زعمتم أن البارى سبحانه لا يشبه المخلوقات؟ قيل (7) (له) (8): لأنه لو أشبهها لكان حكمه فى
صفحه ۲۰
الحديث حكمها ، ولو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من كل الجهات أو من بعضها. فان أشبهها من جميع الجهات كان محدثا مثلها من جميع الجهات ، وان أشبهها من بعضها كان محدثا من حيث أشبهها ، ويستحيل أن يكون المحدث لم يزل قديما. وقد قال الله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) (1). وقال تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) (2).
* مسألة
فان قال قائل : لم قلتم ان صانع الأشياء واحد؟ قيل له :
لأن الاثنين لا يجرى تدبيرهما على نظام ولا يتسق (3) على احكام. ولا بد أن يلحقهما العجز أو واحدا منهما ؛ لأن أحدهما اذا أراد أن يحيى انسانا وأراد الآخر أن يميته لم يخل أن يتم مرادهما جميعا أو لا يتم مرادهما ، أو يتم (مراد أحدهما دون الآخر. ويستحيل أن يتم) (4) مرادهما جميعا ؛ لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا فى حال واحدة وان لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما ، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما (وان تم مراد أحدهما دون الآخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما) (5) فدل ما قلناه على أن صانع
صفحه ۲۱
الأشياء واحد (1). وقد قال الله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) (2) فهذا معنى احتجاجنا آنفا.
* مسألة
فان قال قائل : ما الدليل على جواز اعادة الخلق؟ قيل له : الدليل على ذلك أن الله سبحانه خلقه أولا لا (3) على مثال سبق ، فاذا خلقه أولا لم يعيه أن يخلقه خلقا آخر. وقد قال عز وجل : ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه ؛ قال من يحي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) (4) فجعل النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الآخرة لأنها فى معناها. ثم قال : ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) (5) فجعل ظهور النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على نداوته ورطوبته دليلا
صفحه ۲۲
على جواز خلقه الحياة فى الرمة البالية والعظام النخرة ، وعلى قدرته على خلق مثله. ثم قال : أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» (1). وهذا هو المعول عليه فى الحجاج فى جواز اعادة الخلق (2).
وهذا هو الدليل أيضا على صحة الحجاج والنظر ؛ لأن الله تعالى حكم فى الشيء بحكم مثله وجعل سبيل النظير ومجراه مجرى نظيره. وقد قال الله تعالى : ( الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ) (3). وقوله تعالى : ( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) (4) يريد وهو هين عليه فجعل الابتداء كالاعادة. فان قال قائل : زيدونى وضوحا فى صحة النظر (5). قيل له : قول الله تعالى مخبرا عن ابراهيم عليه السلام لما رأى الكوكب : ( قال هذا ربي ، فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني
صفحه ۲۳
ربي لأكونن من القوم الضالين» ) (1). فجمع عليه السلام القمر والكواكب فى أنه لا يجوز أن يكون واحد منهما إلها ربا لاجتماعهما فى الأفول ، وهذا هو النظر والاستدلال الذي ينكره المنكرون وينحرف عنه المنحرفون (2).
* مسألة
فان قال قائل : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى جسما؟
قيل له : أنكرنا ذلك لأنه لا يخلو أن يكون القائل لذلك أراد ما أنكرتم أن يكون طويلا عريضا مجتمعا ، أو أن يكون أراد تسميته جسما وان لم يكن طويلا عريضا مجتمعا عميقا. فان كان أراد ما أنكرتم أن يكون طويلا عريضا مجتمعا كما يقال ذلك للأجسام فيما يلينا فهذا لا يجوز ؛ لأن المجتمع لا يكون شيئا واحدا ؛ لأن (3) أقل قليل الاجتماع لا يكون الا من (4) شيئين ؛ لأن الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعا ؛ وقد بينا آنفا (5) أن الله عز وجل شيء واحد ؛ فبطل بذلك أن يكون
صفحه ۲۴
مجتمعا. وان أراد لم لا تسمونه جسما وان لم يكن طويلا عريضا مجتمعا؟ فالأسماء ليست إلينا ، ولا يجوز أن نسمى الله تعالى باسم لم يسم به نفسه ، ولا سماه به رسوله ، ولا أجمع المسلمون عليه ولا على معناه.
* مسألة
فان قال قائل : لم قلتم ان الله تعالى عالم؟ قيل له : لأن الأفعال المحكمة لا تتسق فى الحكمة الا من عالم. وذلك أنه لا يجوز أن يحوك الديباج النفارير (1) ويصنع دقائق الصنعة من لا يحسن ذلك ولا يعلمه. فلما رأينا الانسان على ما فيه من اتساق الحكمة كالحياة التى ركبها الله فيه والسمع والبصر وكمجارى الطعام والشراب وانقسامهما فيها (2) وما هو عليه من كماله وتمامه ، والفلك وما فيه من شمسه وقمره وكواكبه ومجاريها ، دل ذلك على أن الذي صنع ما ذكرناه لم يكن يصنعه الا وهو عالم بكيفيته وكنهه ، ولو جاز أن تحدث الصنائع الحكمية لا من عالم ندر لعل جميع ما يحدث من حكم الحيوان (3)
صفحه ۲۵
وتدابيرهم وصنائعهم يحدث منهم وهم غير عالمين ؛ فلما استحال ذلك دل على أن الصنائع المحكمة لا تحدث الا من عالم (1).
كذلك لا يجوز أن تحدث الصنائع الا من قادر حي ؛ لأنه لو جاز حدوثها ممن ليس بقادر ولا حي لم ندر لعل سائر ما يظهر من الناس يظهر منهم وهم عجزة موتى ؛ فلما استحال ذلك دلت الصنائع على أن الله حي قادر.
* مسألة
فان قال قائل : لم قلتم ان الله سميع بصير؟ قيل له : لأن الحى اذا لم يكن موصوفا بآفة (2) تمنعه من ادراك المسموعات والمبصرات اذا وجدت فهو سميع بصير. فلما كان الله تعالى حيا لا تجوز عليه الآفات من الصمم والعمى وغير ذلك اذ كانت الآفات تدل على حدوث جازت عليه صح أنه سميع بصير.
* مسألة
فان قال : أتقولون ان الله تعالى لم يزل عالما قادرا سميعا بصيرا؟ قيل له : كذلك نقول. فان قال : فما الدليل على ذلك؟ قيل له : الدليل على ذلك أن الحى اذا لم يكن عالما كان (3)
صفحه ۲۶
موصوفا بضد العلم من الجهل أو الشك (1) أو الآفات فلو كان البارى تعالى لم يزل حيا غير عالم لكان (لم يزل) موصوفا بضد العلم. ولو كان (لم يزل) موصوفا بضد العلم من الجهل أو الشك أو الآفات (2) لاستحال أن يعلم ؛ لأن ضد العلم لو كان قديما (3) لاستحال أن يبطل ، واذا استحال أن يبطل ذلك لم يجز أن يصنع الصنائع الحكمية. فلما صنعها ودلت على أنه عالم صح وثبت أنه لم يزل عالما ؛ اذ قد استحال أن يكون لم يزل بضد العلم موصوفا.
وكذلك لو كان لم يزل حيا غير قادر لوجب أن يكون لم يزل عاجزا موصوفا بضد القدرة. ولو كان عجزه قديما لاستحال أن يقدر وأن تحدث الأفعال منه.
وكذلك لو كان لم يزل حيا غير سميع ولا بصير لكان لم يزل موصوفا بضد السمع من الصمم والآفات ، وبضد البصر من العمى والآفات ، ومحال جواز الآفات على البارى ، لأنها من سمات الحدث ، فدل ما قلناه على أن الله تعالى لم يزل عالما قادرا سميعا بصيرا.
* مسألة
فان قال قائل : لم قلتم ان للبارى (4) تعالى علما به علم
صفحه ۲۷
قيل له : لأن الصنائع الحكمية كما لا تقع منا الا عالم كذلك لا تحدث منا الا من ذى علم ، فلو لم تدل الصنائع على علم من ظهرت منه منا لم تدل على أن من ظهرت منه منا فهو عالم ، فلو دلت على أن البارى تعالى عالم قياسا على دلالتها على (أنا علماء) (1) ولم تدل على أن له علما (2) قياسا على دلالتها على أن لنا علما لجاز لزاعم أن يزعم أنها تدل على علمنا ولا تدل على أنا علماء. واذا لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا القائل.
فان قال ؛ فما أنكرتم أن لا تدل الأفعال الحكمية على علم العالم منا ، كما دلت على أنه عالم ؛ لأنه ليس معنى العالم منا أن له علما ؛ لأنه قد يعلم العالم منا عالما من (3) لا يعلم أن له علما؟ قيل له : ان جاز لك أن تزعم هذا جاز لغيرك أن يزعم أن الأفعال الحكمية تدل على أن لى علما بها ولا تدل على أنى عالم ؛ لأنه ليس معنى العالم أن له علما (4) لأنه قد يعلم الانسان منا أن له علما من لا يعلمه عالما (5). وأيضا الناسى (6).
صفحه ۲۸
وأيضا هذه الدعوى عندى فاسدة. وذلك أن معنى (1) العالم عندى أن له علما ، ومن لم يعلم لزيد علما (2) لم يعلمه عالما. فان قال قائل : فما أنكرتم من أن يدل الفعل الحكمى على أن للانسان علما هو غيره كما قلتم انه يدل على علم؟ قيل له : ليس اذا دل الفعل الحكمى على أن للانسان علما دل على أنه غيره ، كما ليس اذا دل على أنه عالم دل على أنه متغاير على وجه من الوجوه ، وأيضا فان معنى الغيرية (3) جواز مفارقة أحد (4) الشيئين للآخر على وجه من الوجوه فلما دلت الدلالة على قدم البارى تعالى وعلمه (5) استحال أن يكونا (6) غيرين. وأيضا فلو جاز لزاعم أن الفعل الحكمى (7) (8) يدل على أن العالم عالم ثم يعلم علمه بعد ذلك لجاز لزاعم أن يزعم أن الفعل الحكمى يدل على أن العلم علم ثم يعلم أنه لعالم بعد ذلك ، واذا لم يجز هذا
صفحه ۲۹
وتكافأ القولان وجب أن تكون الدلالة على أن العالم دلالة على العلم .
فان قال قائل : من أنه انما يدل الفعل الحكمى على علم العالم لأنه ممن يجوز أن يموت ويجهل. قيل له : لو جاز هذا لقائله (1) لجاز لزاعم أن يزعم أن الفعل الحكمى يدل أن العالم عالم لأنه ممن يجوز أن يموت ويجهل.
ومما يبطل قول من قال ان دلالة الفعل الحكمى على علم العالم منا دلالة على أنه غير العالم وأنه محدث أن العالم للعلم (2) ما كان عالما لا للغيرية ولا للحدث ، فوجب أن تكون الدلالة على أن العالم عالم دلالة على العلم ، ولم يكن العلم علما لأنه غير العالم ، ولا لأنه محدث لوجود غير ليس بعلم ومحدث ليس بعلم ، فلم يجب أن تكون الدلالة على أن العلم علم دلالة على أنه محدث أو أنه غير العالم. وأيضا فلو جاز لزاعم أن يزعم أن الدلالة على أن العلم علم دلالة على حدثه أو دلالة على أنه
صفحه ۳۰
غير العالم لزاعم أن يزعم أن الدلالة على أن العالم (عالم) (1) دلالة على حدثه وأنه متغاير فى ذاته.
والدليل على أن لله (2) تعالى قدرة وحياة كالدليل على أن لله تعالى علما. وقد قال جل ذكره : ( أنزله بعلمه ) (3) وقال : ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) (4) فثبت العلم لنفسه وقال تعالى : ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) (5) فثبت القوة لنفسه.
ومما يدل على أن الله تعالى عالم بعلم أنه لا يخلو أن يكون الله تعالى عالما بنفسه أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه. فان كان عالما بنفسه كانت نفسه علما ، لأن قائلا لو قال : ان الله تعالى عالم بمعنى هو غيره لوجب عليه أن يكون ذلك المعنى علما ، ويستحيل أن يكون العلم عالما (6)، أو العالم علما ، أو يكون الله تعالى بمعنى الصفات ألا ترى أن الطريق الذي يعلم (به) (7) أن العلم علم أن العالم به علم لأن قدرة الانسان التى (8) لا يعلم بها لا يجوز أن يكون علما. فلما استحال أن يكون البارى تعالى علما استحال أن يكون عالما بنفسه فاذا استحال ذلك صح أنه عالم يستحيل أن يكون هو نفسه.
صفحه ۳۱
فان قال قائل : ما أنكرتم أن يكون البارى سبحانه عالما لا بنفسه ولا بمعنى يستحيل أن يكون هو نفسه. قيل له : لو جاز هذا لجاز أن يكون قولنا «عالم» لم يرجع به الى نفسه ولا الى معنى ولم يثبت به نفسه ولا معنى يستحيل أن يكون هو نفسه ، واذا لم يجز هذا بطل ما قالوه.
وهذا الدليل يدل على اثبات صفات الله تعالى لذاته كلها : من الحياة ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، وسائر صفات الذات (1).
صفحه ۳۲
* (2)
* باب الكلام فى القرآن والإرادة
أن قال قائل : لم قلتم أن الله تعالى لم يزل متكلما وان كلام الله تعالى غير مخلوق؟ قيل له : قلنا ذلك (1) لأن الله تعالى قال : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) (2) فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله تعالى قائلا له : «كن» والقرآن قوله ، ويستحيل أن يكون قوله مقولا له (3)، لأن هذا يوجب قولا ثانيا ، القول فى القول الثانى وفى تعلقه بقول ثالث كالقول فى الأول وتعلقه بقول ثان وهذا يقتضي ما لا نهاية له من الأقوال وهذا فاسد. واذا فسد ذلك فسد أن يكون القرآن
(3 كتاب اللمع)
صفحه ۳۳
مخلوقا ولو جاز أن يقول لقوله لجاز أن يريد ارادته ، وذلك فاسد عندنا وعندهم ، واذا بطل هذا استحال أن يكون مخلوقا.
فان قال قائل : ما أنكرتم أن يكون معنى قوله تعالى : ( أن نقول له كن فيكون ) أى نكونه فيكون من غير أن (يقول له فى الحقيقة شيئا) (1) قيل له قال الله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) فلو جاز لقائل أن يقول لم يكن الله تعالى قائلا (2) لشيء فى الحقيقة ( كن ) وانما المعنى أن تكون فيكون ، لجاز لزاعم أن الله تعالى لا يريد شيئا. وانما معنى «أردناه» فعلناه من غير أن تكون إرادة) (3) على وجه من الوجوه. فان قال قائل أن يكون معنى (4) أن الله تعالى أراد الشيء أنه فعله وهو مريد له فى الحقيقة بمعنى أنه فاعل له؟ قيل له : لو جاز هذا لقائله لجاز لزاعم أن يزعم أن الله عز وجل قائل للشيء فى الحقيقة ( كن ) ويزعم أن معنى
صفحه ۳۴
ذلك أنه يكونه فيثبت الله قولا فى الحقيقة هو المقول له ، كما زعمتم أن لله تعالى إرادة فى الحقيقة هى مراده ، ولو جاز لزاعم أن يزعم هذا جاز الآخر أن يقول أن علم الله تعالى بالشيء هو فعله له.
فان قال قائل : أليس قد قال الله تعالى ( جدارا يريد أن ينقض ) (1) ولا إرادة للجدار فى الحقيقة وانما قال «يريد» توسعا. والمعنى أنه ينقض قيل له نعم فان قال : فما أنكرتم أن يكون معنى ( أن (2) نقول له كن ) أى نكونه فيكون؟ قيل له : الفرق بين ذلك الجماد يستحيل مع جماديته أن يكون مريدا والبارى تعالى فى الحقيقة لا يستحيل عليه أن يريد أو يقول ، فلذلك لم يكن قوله : ( أن نقول له كن فيكون ) بمعنى فكونه. وأيضا فلو كان قوله : ( أن نقول له ) ليس معناه اثبات قول له وانما معناه أن نكونه كما أن قوله «جدارا يريد أن ينقض» معناه أن ينقض ، لجاز لزاعم أن يزعم أن (معنى) (3) قوله «أردناه» : فعلناه ، وهو فى الحقيقة لا يريد فعله. كما أن قوله : «جدارا يريد أن ينقض» معناه أنه ينقض ، وهذا أولى فى حقيقة القياس ، واذا لم يجب هذا لم يجب ما قاله (4).
ويقال لهم : اذا كان معنى أن الله تعالى أراد فعل الشيء أنه
صفحه ۳۵
فعله ومعنى أراد حركة الشيء أنه حركه ، فما أنكرتم أن يكون الجماد فى الحقيقة مريدا لحركة نفسه بمعنى أنه متحرك ، وأن لا يكون للبارى (1) تعالى على الجماد مزية (2) فى الإرادة ، وأن لا يكون له مزية على من وقع فعله وهو غير مريد له لأنه قد حصل له معنى فاعل كما حصل للبارى تعالى معنى فاعل.
فان قال : فما معنى قوله تعالى : ( قالتا أتينا طائعين ) (3) قيل له : معنى ذلك أنهما قالتا فى الحقيقة : ( أتينا طائعين ).
ومما يدل من القياس على أن الله تعالى لم يزل متكلما أنه لو كان لم يزل غير متكلم وهو ممن لا يستحيل عليه الكلام لكان موصوفا بضد الكلام ولكان ضد الكلام قديما ولو كان ضد الكلام قديما لاستحال أن يعدم (4) وأن يتكلم البارى ، لأن القديم لا يجوز عدمه كما لا يجوز حدوثه ، فكان يجب أن لا يكون البارى قائلا ولا آمرا ولا ناهيا على وجه من الوجوه (5) وهذا فاسد عندنا وعندهم ، واذا فسد هذا صح وثبت أن البارى لم يزل متكلما قائلا.
فان قال قائل : ولم زعمتم أنه لو كان لم يزل غير متكلم
صفحه ۳۶
لكان موصوفا بضد الكلام (1) قيل له لأن الحى؟ اذا لم يكن موصوفا بالكلام كان موصوفا بضده ، كما أنه اذا لم يكن موصوفا بالعلم كان موصوفا بضده ، وذلك أن الحى فيما بيننا ذلك حكمه ولم تقم دلالة على حي يخلو من الكلام وأضداده فى الغائب كما لم تقم دلالة على حي يخلو من العلم وأضداده حتى يكون لا موصوفا بأنه عالم بضد العلم ، فقد اجتمع الأمر فيهما : أنه مستحيل فيما بيننا حي غير (عالم ولا موصوف بضد العلم ، وأنه مستحيل فيما بيننا حي غير (2) متكلم ولا موصوف بضد الكلام ، وأنه لم يقم على ذلك دلالة فى الغائب. فلو جاز أحد الأمرين وهو حي غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام لجاز الأمر الآخر وهو حي غير عالم ولا موصوف بضد العلم. وأيضا فأنه يستحيل فيما بيننا عالم يوصف بضد العلم مع علمه ، ومتكلم يوصف بضد الكلام مع كلامه ، فلما اجتمعا فى الاحالة وجب أن يكون من جوز متكلما فى الغائب يوصف بضد الكلام مع كلامه ، كمن جوز عالما فى الغائب يوصف بضد العلم مع علمه ، فكذلك يجب أيضا لما استحال فيما بيننا حي غير عالم ولا موصف بضد العلم ، وجب أن يستحيل فيما بيننا حي غير متكلم ولا موصوف بضد الكلام (و) (3) أن
صفحه ۳۷