بقينا ثلاثة أيام نسير في طريق وعرة، فنجتاز المجاري المتحدرة من أعالي الجبال، ونمر على خيم العرب المنتشرة هنا وهناك، كأنها صخور بيضاء تلمع خلال الأغصان، وعندما يهبط الليل نحل ضيوفا مكرمين على قبائل الفلاحين؛ فالشرق يكرم الضيف أيا كان، حتى سمعنا أجراسا تدوي في الأبعاد الشاسعة، فأدركنا أننا على مقربة من جبال الأرز، وما زلنا نسير حتى تراءت لنا أغصان الأرز، تلك الأشجار الجبارة التي غرستها يمين الله، وتوجت بها جبين ملك العواصف. ولما بلغنا إليها أحسسنا برهبة عظيمة تستولي على نفوسنا، وجعلنا نحدق إلى اللجج العميقة التي تكتنف تلك الأشجار الباسقة الغضة، فأشار الدليل إلى فرجة حفرتها المياه، ونحتت عليها نقوشا مختلفة، وإلى فرجة قاتمة تنفتح عن مطارح صعبة كئود يقوم في وجهها صخر كبير، كأنه جدار الطبيعة يتدلى عليه غصن من الأرز متهدل الأوراق، فبصرت بنقاط من الزبد عالقة بثنياته، تضطرب عليها أشعة الصباح المسكرة.»
كتاب لامرتين عن الشرق
لا مشاحة في أن لامرتين سلك في المؤلف الذي وضعه عن الشرق طريق الأدب، كما سلك طريق التاريخ؛ فهو قد شاء أن يزخرف بعض المشاهد، فبالغ في وصفها وتلوينها بحرية مطلقة، حتى إنه اختلق كثيرا من المشاهد التي استوحاها استيحاء من الشرق.
ولقد وضع الدكتور ديلاروايير، رفيقه في رحلته، كتابا موجزا عن الرحلة التي قام بها مع الشاعر الكبير، جاء تصحيحا وافيا للحقائق التي بالغت في أداءها مخيلة الشاعر، الذي عمد في تلوين مشاهده إلى مجاراة الكاتب الكبير شاتوبريان الذي تقدمه في وصف الشرق.
على أن الشاعر، وإن يكن وفق في ألوانه الساحرة، إلا أنه لم يستطع مجاراة متقدمه في الأنوار المنبعثة من الصور، وفي تحليل الألوان والظلال، وهو، وإن لم يكن استطاع أن يرتفع في دقة الفن إلى مستوى شاتوبريان، إلا أنه بقي أشعر منه وأشد حسا وعاطفة.
ولم يكن قصد لامرتين من سياحته في الشرق أن يضع مؤلفا، قال: «لا أظنني أضع كتابا عن رحلتي، وما قصدي من السياحة إلا البحث عن تأثيرات خاصة.» ولكنه لم يكد يعود إلى بلاده، حتى أخذ صديقه دارغو يلح عليه في كتابة مذكراته، وكان لامرتين في حاجة قصوى إلى المال، فلم يجد بدا من كتابة هذه المذكرات ونشرها، ولقد باع الثلاثة المجلدات الأولى بمبلغ مائة ألف فرنك دفعت نقدا.
وكأن المشاغل السياسية ألهته عن مواصلة العمل، فعاد إليه في منتصف صيف العام 1834، وفي 24 أيلول من هذا العام نفسه كتب إلى فيريو يقول: «لقد أنجزت نسخة مذكراتي السيئة ...» وفي 25 كانون الثاني من العام 1835 كتب إلى فيريو يقول: «سأرسل إليك قريبا أربعة مجلدات صغيرة تحتوي مذكراتي البائسة التي تطبع اليوم بعجلة. إني خجول بها، وكنت أود أن أسترجعها لو لم أكن بحاجة مزعجة إلى المال ...»
وظهرت المجلدات الأربعة في 6 نيسان 1835، فصادفت نجاحا كبيرا من حيث الرواج، إلا أنها أثارت انتقادات قاسية عنيفة، ولدى مرور شهرين على انتشارها كتب لامرتين إلى صديقه فيريو يقول: «هل قرأت مذكراتي؟ فقد أثارت انتقادات قاسية في جميع الأوساط السياسية والأدبية والدينية، إلا أن القراء المجردين أقبلوا عليها إقبالا عظيما وتذوقوها، فقد بيع منها عشرون ألف نسخة بين بلجيكا وهنا، أما ألمانيا وإنكلترا فقد طفحتا بها، وبين يدي الآن ترجمتان إنكليزيتان، وأما مقالات الصحف فهي مرة بحقي، وإني أشعر بالملكيين والجمهوريين ورجال القلم جميعا يهوون على ظهري، إلا أن هذا كله لا يؤثر بي أكثر من تأثري بقطرة مطر تسقط على قبعتي في عاصفة من عواصف الربيع ...»
انتصار البلاغة
في أواخر شهر آذار من العام 1833، في حين كان لامرتين يزور خرائب بعلبك، ناوله أحد الفرسان العرب رسالة من شقيقته، مدام ده كوبان، تطلعه فيها على أنه انتخب عضوا في مجلس النواب. ولم يكد لامرتين يدخل إلى المجلس حتى اتخذ لنفسه برنامجا خاصا؛ وهو اعتناقه المبادئ، واحتقاره الأحزاب السياسية بما فيها من قصر النظر والمساومات القبيحة. وما عتم الأمر أن راح زملاؤه يتجنبونه ويحذرون شره، وكثيرا ما كانوا يتهمونه بأنه يعالج سياسة شعرية خيالية. على أن تاليران كان ينظر إلى لامرتين بعين أصدق وأجلى؛ ففي أحد الأيام كان لامرتين مدعوا إلى وليمة دعي إليها تاليران، السياسي الفرنسي العظيم، وكان وقتئذ في الثانية والثمانين من العمر، فلما انتهى الغداء دنا تاليران من الشاعر وطلب إليه أن يتحدثا على حدة، وإذ اختلى الاثنان قال تاليران للامرتين: «لقد دخلت في المسائل دخولا جميلا.»
صفحه نامشخص