إلا أنه لم يكد يمر أسبوع حتى ظهرت على السيارات علامات غريبة؛ فقد بدأت أعمدتها الداخلية تتساقط، والمسامير المثبتة في جدرانها تقع، وتلفت أبوابها الأوتوماتيكية، وانهارت أجزاء من جدرانها، كما تمزقت الإطارات المطاطية لنوافذها، وطارت الصواميل المثبتة للوحات القيادة فظهرت أحشاؤها.
ومع صمت الصحف عن هذه الظاهرة العجيبة تعددت التفسيرات بشأنها؛ فمن قائل إن سوء الصيانة هو السبب، ومن أرجعه إلى طبيعة الخدمة الشاقة في بلادنا، أو إلى عدم كفاءة السائقين ولامبالاتهم.
لكن الأنواع الأخرى من سيارات الأوتوبيس التي كانت تجري إلى جوار سيارات «كارتر» في حالة جيدة، رغم مضي سنوات على بداية تشغيلها، ورغم أن بعضها تم تجميعه في الورش المصرية، ألقت ظلالا من الشك على صحة هذه الاستنتاجات.
وسواء كان السبب هو الإحباط الذي شعر به الناس لعجزهم عن تفسير هذه الظاهرة، أو ما درج عليه العامة في كل زمان ومكان، من تحوير الأسماء والصفات حتى يتلاءم نطقها مع مستوى ثقافتهم ومحدودية وعيهم، فإنهم سرعان ما دعوا السيارات المذكورة بأوتوبيس «طرطر».
وجذب هذا التطور اللغوي - في حينه - اهتمامي، فلجأت إلى المعاجم حتى عرفت أن «طرطر» من الأفعال القديمة في اللغة العربية، ومعناه فخر بما ليس فيه، ومنه اشتقت كلمة «طرطور»، الذي يلبس فوق الرأس، أو تطلق على الوغد الضعيف. أما «الطرطر» كاسم فمعناه راسب الخمر المصفى، ومن هنا - في الغالب - جاء فعل التبول في اللغة الدارجة.
ومن الطبيعي - في ضوء الأحداث التي وقعت لي أخيرا، وأدت إلى تنشيط عقلي وانشغالي بالتعمق في الظواهر ومحاولة تفسيرها - أن اهتمامي بالأمر انتقل من الجانب اللغوي إلى لب الظاهرة نفسها، فتعمدت أن أستقل سيارات «طرطر» مرات عديدة، أقبلت خلالها على فحص أجزائها ومكوناتها فحصا دقيقا، لكن النتيجة ضاعفت من غموض الأمر في نظري.
فقد اكتشفت أنها مصنوعة من أردأ المواد وأرخصها، بدءا من معدن الهيكل الخارجي، إلى المسامير المستخدمة في تثبيت الأرضيات. ولا يعقل أن تسير سيارة بهذا الشكل في شوارع نيويورك، ولو حتى في أحياء الزنوج. ولا يعقل أن تكون مصنعة لنا خصوصا (كما في حالة الأدوية)؛ إذ لا أتصور أن صناعة أقوى وأغنى دولة في العالم يمكن أن تخرج - ولو بالقصد - مثل هذا الإنتاج الهابط. أما إذا كانت الولايات المتحدة قد أرسلت لنا المحركات وحسب، وتم تجميع السيارة في بلادنا، فإن هذا أيضا لا يفسر الأمر؛ لأننا نعرف منذ الستينيات صناعة التجميع، وما زال عدد من المحظوظين يحتفظ بما أنتجته المصانع المصرية وقتذاك من سيارات قوية متينة.
وعند هذه المرحلة من التفكير بدأ أنفي - الذي دربته روائح الصحف القديمة - يرتعش من الانفعال.
إلا أن تطورات علاقتي باللجنة لم تتح لي الفرصة كي أصل إلى نتائج ذات بال. وظل الأمر في نظري - كما في نظر الآخرين - لغزا يستعصي على الفهم.
تذكرت هذا كله وأنا أشق طريقي بين الركاب المتدافعين، فوق الدرج الخلفي للسيارة، متلمسا عبثا ما أستند إليه خلال عملية الصعود. وكانت أمامي سيدة ممتلئة الجسم، وقورة الهيئة، ارتقت الدرج بمشقة، وما إن استقرت في الداخل، وأنا خلفها، حتى تحركت السيارة فجأة، ففقدنا توازننا.
صفحه نامشخص