ثمن الكتابة
إهداء
حينما ينهزم الرجل
من أجل المعرفة
شرارة من الداخل
قلبي الذي عصيته
عم عثمان
ابتسامة
ثمن الدم
حبي الوحيد
الجانب الآخر
لا شيء يفنى
لحظة صدق
نام الرجل بعد العشاء
ليلى تتزوج
نادية ... لم أستطع!
ثمن الكتابة
إهداء
حينما ينهزم الرجل
من أجل المعرفة
شرارة من الداخل
قلبي الذي عصيته
عم عثمان
ابتسامة
ثمن الدم
حبي الوحيد
الجانب الآخر
لا شيء يفنى
لحظة صدق
نام الرجل بعد العشاء
ليلى تتزوج
نادية ... لم أستطع!
لحظة صدق
لحظة صدق
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوه يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير ، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
كثيرا ما تألمت، ولكني لم أعرف ألما أشد ضراوة من ذلك الألم الذي يصيبني حين أكذب على نفسي. وكثيرا ما سعدت، ولكني لم أعرف سعادة أعذب من تلك السعادة التي أشعر بها حين أعيش مع نفسي لحظة صدق.
لتكن الحقيقة ما تكون، ولكنها تنطوي في أعماقها على شيء لا يكتشف إلا في لحظة الصدق التي نواجهها بها.
فإلى كل من ذاق حلاوة الصدق مع نفسه لحظة، وإلى كل من حرم حلاوة الصدق مع نفسه لحظة؛ أهدي هذه المجموعة من اللحظات.
نوال السعداوي
حينما ينهزم الرجل
جلس إلى مكتبه الذي تكدست عليه الأوراق الهامة وغير الهامة قلقا حائرا؛ شيء في أعماقه يدفعه إلى أن يترك مكتبه ويذهب إلى بيته ويأخذ حماما ساخنا ويبدل ملابسه، ويرتدي ملابس جديدة قبل أن يذهب إليها؛ فالليلة موعده معها، موعده الفاصل الذي جاء بعد مواعيد كثيرة، والذي سوف يحدث فيه شيء؛ شيء آخر غير ما كان يحدث كل مرة.
ونظر إلى ساعته، كانت السابعة، وموعده معها في التاسعة، أمامه ساعتان كاملتان، يمكن له أن يستعد لهذا اللقاء الحاسم.
وأغلق درج مكتبه بسرعة، وقال لمساعده الشاب إنه ذاهب لإنجاز بعض الأعمال الهامة، واستقل سيارته، وانطلق إلى بيته، ووضع المفتاح في شق الباب الصغير المظلم ولفه مرتين، ثم دفع الباب، فلفحت وجهه ريح باردة رطبة تسكن شقته دائما أبدا، صيفا وشتاء، لا تتغير كثافتها ولا رائحتها.
بالرغم من دورات الشمس والقمر والأرض، لكنها تظل دائما رطبة باردة قابعة في تلك الشقة الضيقة الواسعة، من دماء البشر أجيالا وقرونا، وواسعة بتلك الحجرات الخاوية العارية إلا من أثاث ضئيل صغير يستند متهالكا إلى زوايا الجدران، كأنه قطع أثرية تركت منسية في كهف من الكهوف.
ولم يكن يفكر من قبل في منظر شقته وأثاثها ورطوبتها، وكان يستضيف فيها فريساته من النساء، ويقضي معهن الليل على سريره المعدني البارد، لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك معها، كان حريصا على ألا يدعوها إلى شقته، وقال لها إنه هو الذي يجب أن يذهب إليها لا أن تأتي هي إليه كباقي النساء.
وجرى إلى الحمام وأشعل السخان، وخلع ملابسه ولبس ملابس البيت، وأحضر أدوات الحلاقة ووقف أمام المرآة يتحسس ذقنه بأصابعه، لقد حلقها صباح اليوم، ولكن لا بد له أن يحلقها مرة أخرى حتى تكون ناعمة كالحرير؛ إن موعده معها الليلة ليس كأي موعد سابق، سوف يقبلها حتما، وسوف يلامس وجهه وجهها، ولا بد لبشرته أن تكون ملساء.
ونظر إلى وجهه في المرآة وتحسس شعرات رأسه البيض، وأخذ يعدها شعرة شعرة كعادته كل ليلة، ولما وجد أن عددها ست وعشرون شعرة كليلة الأمس، انبسطت أسارير وجهه، لكن قلبه لم يلبث أن انقبض حين لمح خطين رفيعين تحت عينيه؛ هذان الخطان لم يكونا بالأمس، وفتح درجا في أسفل المرآة وأخرج علبة الكريم الطبي الذي يغذي البشرة، ووضع بأصبعه قطعة صغيرة تحت عينيه، وأخذ يدلك بشرته بأطراف أصابعه تدليكا خفيفا، حتى خيل إليه أن الخطين الرفيعين قد ذابا تماما بفعل الكريم الساحر.
نظر في عينيه يتأملهما فرأى سوادهما باهتا، تغشى بياضهما صفرة كئيبة جعلتها أشبه بعيون مرضى الكبد والصفراء، وأحس بالفزع فجرى إلى رف صغير في الحائط، وأخذ منه زجاجة دواء ، وابتلع منها قرصين ثم أعادها إلى مكانها، وسحب زجاجة أخرى وشرب منها معلقة كبيرة، ثم أخذ قطعة صغيرة من القطن وغسل جفنيه ورموشه.
وعاد ينظر إلى نفسه في المرآة، وأمسك بماكينة الحلاقة وراح يحلق ذقنه بعناية فائقة، وحلق نصف وجهه، وتحسس بأطراف أصابعه فإذا ما عثر على شعرة نافرة أو على بقعة خشنة عاد فأجرى عليها الماكينة، ولا يتركها إلا بعد أن يتحسسها ويجدها ناعمة نعومة الحرير.
وانتهى من حلاقة ذقنه، فأمسك المقص وشذب أظافر يديه وقدميه، ثم حمل ملابسه النظيفة على كتفه ودخل الحمام.
وأخذ ساعته معه وعلقها في مسمار في الحائط؛ كان خائفا من أن يسرقه الوقت الممتع الذي يقضيه غارقا لنصفه في الماء الساخن والصابون المعطر فيتأخر عن موعده معها، وهو حريص على أن يذهب إليها في الموعد تماما بالدقيقة؛ فقد حدث ذات ليلة أن ذهب إليها متأخرا خمس عشرة دقيقة، ولم يكن يبغي من هذا التأخير سوى أن يلهب شوقها إليها بشيء من الانتظار، لكنه حين وصل إلى شقتها وجدها مظلمة، وظل ضاغطا على الجرس زمنا طويلا حتى يئس ونزل، ولم يعرف ليلتها هل كانت بالبيت وتعمدت ألا تفتح أم أنها خرجت إلى موعد آخر، وحين سألها لم تعطه تفسيرا واضحا، وقالت في صراحة وصدق: لقد تأخرت، وأنا لا أطيق الانتظار. وأخذ يدلك جسمه بالماء وهو يسأل نفسه: أيمكن أن يصدر هذا العمل عن امرأة تحب؟! ولم يحاول أن يصدق أنها لا تحب، وكيف له أن يصدق أن هناك امرأة لا يمكن أن تحبه؟ لقد أحبته مئات النساء من قبل، ولا تزال تحبه العشرات والعشرات، وهو يبتكر في كل يوم أساليب جديدة للهروب من النساء. كيف لا تحبه هذه المرأة وتحترمه احتراما بالغا، ولسوف يخضع هذه الأنوثة الليلة إذن؟ هي تحبه بلا شك، ولكنها امرأة عنيدة تعتز بأنوثتها، ولسوف يحطم عندها وكبرياءها ...
وعادت إلى ذاكرته صورتها حين رآها لأول مرة؛ كان ذلك منذ عامين تقريبا، وكنت تجلس وسط عدد من الرجال والنساء، ووجد عينيه تمران بسرعة على كل الوجوه لتستقر على وجهها. كانت ملامحها غريبة بالنسبة لملامح النساء؛ ملامح متسقة متكاملة تنطق بأنوثة عارمة، ولكنها أنوثة غالية مثقفة، تثير في نفس الرجل المغرور برجولته بالذات رغبة عنيفة في تحديها وإخضاعها.
وكان تعود أن يخضع النساء، وأدمن لذة إذلالهن وإخضاعهن له حتى تضخمت رجولته وأصبحت القسوة على النساء صفته الأولى؛ فهو لا يشعر بلذة عناقه للمرأة إلا بعد أن يصفعها على وجهها بضع صفعات، ويجذبها من شعرها بقوة حتى تستلقي رأسها بين قدميه وتمرغ أنفها في ترابهما؛ بعد ذلك يقبلها.
علمته تجاربه مع النساء أن المرأة بغريزتها الأولى التي لا تستطيع منه خلاصا مهما تحررت وارتقت؛ فإنها تعشق موضعها عند قدمي سيدها الرجل، وتعبد قسوته وقوته وعناده وكبرياءه وجبروته، وتشمئز من رقته وحنانه وهيامه.
العذاب هو الخيط الحريري الرفيع الذي يربط المرأة به، المرأة تحب الرجل الذي يعذبها؛ فلماذا لا يعذبها ليلف حول رقبتها ذلك الخيط الحريري ويشدها وراءه؟
وأخذ يدلك أصابع قدميه بالصابون المعطر، ولاحظ كعادته أن أصبع قدمه الصغير أصغر من اللازم، لا يكاد يشبه أصبع الآدميين؛ فهو قصير سميك كروي، كأنه مخلب مكسور لحيوان أليف، أو برعم عقيم في شجرة عجوز. كثيرا ما كان يشعر بالاشمئزاز من جسده، وخاصة فتحتي أنفه حين يصيبه الزكام والرشح، فيشعر كأنهما فتحتا صنبور عتيق بليت جلدته وفي حاجة إلى قطعة غيار جديدة. وكثيرا ما ضاق من منظر أسنانه الصفراء، وتمنى لو خلعها جميعا وركب أسنانا جديدة.
ولكن هل يمكن لامرأة أن تكشف عيوبه التي يعرفها؟ إن المرأة كما فهمها ليست كالرجل؛ إنها تنظر إلى الرجال ككل وليس كأجزاء أو أعضاء، إن الرجل في نظرها سيد، إله؛ يمنحها الحياة واللذة والغذاء، فكيف لها أن تدقق النظر في جسد الإله؟ كيف تجرؤ على أن تنظر إلى أسنانه الصفراء المشرشرة وهو يقبلها، كيف تجرؤ على أن تتأمل أصابع قدميه حين يستلقي رأسها بينهما؟ يجب أن تغمض عينيها، كل النساء يغمضن عيونهن.
لقد فهم المرأة وعرفها بعد أن قضى من عمره عشرين عاما يتدرب على تقبيل النساء وعناقهن؛ حتى أصبح أستاذا للحب والغرام، وبلغ من عمره الأربعين عاما ولم يفكر في الزواج، وهو قد تزوج مئات المرات وأنجب مئات الأطفال؛ بعضهم تمزق أشلاء بيد الطبيب الجريء، وبعضهم يعيشون في بيوت أزواج من الرجال ويحملون أسماءهم ولا أحد يعلم الحقيقة إلا الزوجة وهو. وكثيرا ما كان يزور أحد هؤلاء الأزواج - ومعظمهم معارفه وأصدقاؤه - وينظر إلى عيني الطفل البريء ويرى فيهما نفس لون عينيه ونفس ارتفاع أنفه، لكنه لم يشعر قط بذلك الشعور الذي اسمه الأبوة، بل كان ينظر إلى الزوج الغبي الجاهل في لذة تفوق لذة الشياطين، ويشعر بالزهو لانتصاره على الرجال والنساء معا. وكان كلما فكر في الزواج تراءت له زوجته في أحضان رجل آخر، وتراءى له أطفاله يجرون في بيته وينفقون من ماله ويحملون اسمه وهم أولاد رجال آخرين، فترتعد فرائصه من الهلع ويلعن الزواج ويمجد العزوبية.
وصب الماء الساخن على جسمه وقدميه، ونهض واقفا وأمسك المنشفة، وأخذ يجفف جسده بعناية، واعترف بينه وبين نفسه أنه كان يسعى طوال حياته إلى الانتصار، الانتصار بأي شكل وبأي ثمن؛ إذا خالفه رجل في رأيه وكان صائبا فإنه يعاند ويتحمس ويناقش ولا يهدأ حتى ينتصر، وإذا رغب في امرأة ولم ينلها ظل يطاردها بأساليب مختلفة بعضها اهتمام وبعضها إهمال حتى تقع الفريسة بين يديه.
وكان يعلم أن انتصاره على المرأة يبدأ حين تسلم له جسدها؛ حينئذ يعلم أنها سلمت كل أسلحتها، وأنها سوف تلاحقه وسوف تستعطفه وسوف تستجديه، وأنه سوف يشدها من رقبتها وراءه بذلك الخيط الحريري المتين، فما الذي يبقى للمرأة بعد أن تمنح جسدها للرجل سوى الالتصاق الأبدي أو الندم والحسرة والهوان؟!
ولم يكن يؤمن بذلك الالتصاق الأبدي بالمرأة، بل لم يكن يؤمن بأي التصاق بها على الإطلاق؛ فلم يكن يبقى للمرأة منه إلا الهزيمة والهوان، وهو لا يشعر بانتصاره إلا حينما تغسل المرأة بدموعها قدميه؛ حينئذ يعرف أنه حقق الغرض الأسمى لرجولته، فتنتهي مهمته معها ويبحث عن فريسة أخرى يسلك معها نفس الطريق.
ووقف أمام المرآة يمشط شعره الأكرت، وشعر ببعض الارتياح؛ لقد اهتدى أخيرا إلى مفتاح المرأة الجديدة وتعرف على طريقها الوعر الشاذ. كانت قد عذبته عامين كاملين وهي ترفض قبلاته، حتى لمسات يديه كانت لا تصيبها بتلك الرعشة التي تصيب النساء فترتخي جفونهن. لكنها لم تقتل الأمل في قلبه، كانت تجلسه معه وتتحدث إليه وتدقق النظر في ملامحه، وخاصة إلى أسنانه التي لم يعجب بها قط طوال حياته، رغم إعجابه الشديد بعينيه وأذنيه.
واستطاع في هاتين السنتين أن يحول نظرها من أسنانه إلى عينيه وأذنيه، واستطاع أيضا أن يجعلها تعجب بكلامه؛ فرأى نظراتها القوية الثابتة تلين، ولمح بريق أنوثتها العارمة يتقد في عينيها؛ فاقترب منها وحاول أن يقبلها، لكنها ابتعدت عنه وقالت في عناد وكبرياء: هل تحبني؟ فنظر إليها مستغربا؛ كيف تجرؤ امرأة على أن تسأله هذا السؤال؟ لم تشترط عليه امرأة من قبل أن يعترف بالحب قبل أن يقبلها، فسألها بدوره: هل تحبينني؟ ولم يكن يشعر بحاجة إلى هذا السؤال، فهو يعلم أنها تحبه، وإلا فما الذي يدفع امرأة مثلها إلى أن توافق على لقائه! لكنها أجابت في قوة وصدق: لا، ليس بعد.
وأحس بالدماء تغلي في رأسه، وود لو صفعها على وجهها، لكنها سألته بجرأة: هل تحبني؟ ولم يستطع أن يكون في مثل قوتها وصدقها، فأطبق شفتيه في صمت؛ لم يكن يريد أن يمتهن رجولته الغالية ويشعر أنه رجل رخيص ككل الرجال يتاجر باسم الحب، ويكذب على المرأة بكلمة أحبك حتى ينال منها ما يريد، لقد عودته انتصاراته المتكررة مع النساء على ألا يكذب؛ فهو في غير حاجة إلى الكذب؛ كانت النساء يعطينه قلوبهن وأجسادهن دون أن يكلف نفسه مشقة الكلام عن الحب، وأصبحت كلمة الحب التي تخرج من بين شفتيه أغلى عنده من قلب أي امرأة ومن جسد أي امرأة. كانت رءوس النساء تستقر بين قدميه بلا مقابل، بلا ثمن، بلا وعد، بلا شيء على الإطلاق؛ بل أحيانا ما كانت المرأة هي التي تدفع له حتى لا يقطع صلته بها إلى الأبد، وتظل تخدع نفسها بذلك الأمل الكاذب في أنه سيأتي إليها يوما.
وفتح صوان ملابسه وارتدى بدلة أنيقة، وأخذ زجاجة العطر الثمين ووضع نقطتين تحت كل إبط.
وركب عربته وتطلع إلى المرآة الصغيرة، وأعجب بشكله إعجابا كبيرا، وشعر كأنه عريس جديد ذاهب إلى عروسه ليلة الزفاف، وتخيلها وهي جالسة في حجرة الاستقبال تنتظر قدومه. لا بد أنها قضت في الحمام اليوم كله، تدلك ذراعيها وساقيها، ولا شك أنها ترتدي فستانا عاريا يظهر مفاتن جسدها، ولا شك أنها تعطرت؛ إنها أنثى رغم عنادها وقوتها. وتخيل نفسه وهو يقبلها ويعانقها وهي تسلم له جسدها ثم تبكي، كل النساء يبكين بعد أن يستسلمن، وشعر بالزهو والانتصار حين تخيل دموعها؛ كم تشوق كثيرا أن يرى دمعة واحدة تطفر من هاتين العينين القويتين الجريئتين، وتخيل رأسها الصغير بين قدميه وهي تستجديه وتستعطفه أن يبقى، ولكنه لا يبقى، ثم تطلبه في اليوم التالي فيرد عليها في جفاء، فتطلبه مرة أخرى وأخرى، تحاول أن تفهم لماذا نهب جسدها وهرب، وهو لا يستطيع أن يشرح لها نفسه، لا يستطيع أن يقول لها: إنه لم يكن يريد جسدها لذاته، فهو هارب من أجساد النساء، ولكنه كان يريد أن ينتصر عليها بعد عامين من اللهفة والعذاب والانتظار؛ أن يخضع أنوثتها العنيدة، أن يشعر بها وهي ذليلة جريحة تتعثر في استسلامها له وتبكي على ضعفها وهزيمتها، أن يلف حول عنقها خيطه الحريري القاتل ويشدها وراءه.
ووصل إلى شقتها، ولم يستطع أن يخفي دهشته حين رآها، كانت كعادتها ترتدي رداء قاتما لا يظهر شيئا من ملامح جسدها، وشعرها مرسل دون عناية، ولم يشم رائحة أي عطر نسائي. وجلس أمامها ببدلته الأنيقة وشعره اللامع المغسول، وفاحت رائحة عطره في الشقة الصغيرة؛ فشعر بالخجل من نفسه، ورأى نظراتها الثابتة تتأمله، ولمح ابتسامة ساخرة تحوم حول شفتيها، وانتهزت أول نكتة قالها فضحكت ضحكا متواصلا وألقت برأسها إلى الوراء، وخيل إليه أنها سيغمى عليها من الضحك؛ فشعر بالغيظ، لكنه تظاهر بعدم الفهم وشاركها الضحك بلا مبالاة.
وتوقفت عن الضحك فجأة، ونظرت إليه ثم أطرقت إلى الأرض، ولم يدر ما الذي فعلته تلك الإطراقة، لم يكن رآها من قبل وهي تطرق برأسها، وظن أنها بدأت تضعف؛ فاقترب منها وحاول أن يضمها ويقبلها، ولكنها تخلصت منه، ونظرت إليه في جرأة وقالت له: هل تحبني؟ فأطرقت إلى الأرض مرة أخرى في صمت، فأمسك رأسها وحاول أن يقبلها، واستطاع أن يضع شفتيه على شفتيها وقبلها قبلة طويلة. ثم ترك شفتيها لحظة ونظر في عينيها قائلا: هل تحبينني؟ فابتسمت وهي تقول: لا، ليس بعد. وشدها من شعرها الطويل وأخذها بين ذراعيه وقاومته، لكنه استطاع أن يضمها إلى صدره بقوة وعنف، ولم يترك لها مجالا حتى لتتنفس، وسمعها تقول في عناد وهي تتملص منه: هل تحبني؟ وكان شعوره في تلك اللحظة قد تغلب على تفكيره وعناده؛ فخرجت من بين شفتيه كلمة أحبك مع أنفاسه الساخنة اللاهثة؛ فابتسمت. وهمس لها قائلا: هل تحبينني؟ فقالت: لا، ليس بعد. ولم يكن لديه ثمة قوة أو تفكير، فاستسلم لها استسلاما كاملا وأفاق بعد قليل؛ كيف شعر أنه هو الذي استسلم لها وليست هي التي استسلمت له؟ كيف يمكن لرجل أن يحس في مثل هذه اللحظة أنه هو الذي يعطي نفسه للمرأة وليست هي التي تعطيه؟ وأحس بمرارة في حلقه، هي نفس المرارة التي تشعر بها المرأة حين تدرك أنها استسلمت لرجل، ولرجل لا يحبها.
وأشعل سيجارة وجلس يدخن في صمت، وجلست أمامه صامتة. لماذا لا تتكلم هذه المرأة؟ لماذا لا تثرثر ككل النساء في مثل هذا الموقف؟
عيناها فقط تنظران إليه ... في قوة وكبرياء وعناد، كأنها لم تكن بين ذراعيه من لحظة، كأن شيئا لم يحدث بينهما على الإطلاق، بل لعل نظرتها ازدادت قوة وكبرياء وعنادا، وشعر برغبة في أن يصفعها ويقول لها: أنت لست امرأة، أنت رجل، أنت تحتقرين أنوثتك. ولكن كيف ينطق بهذه الكذبة الهائلة وبهذه السرعة الكبيرة؟ ولا شك أنها تفهم أن الرجل لا يتهم المرأة هذا الاتهام وفي هذا الموقف بالذات، إلا حين يشعر أمامها بالعجز، أو حين يحس أنها تحتقر رجولته.
وانتهى من تدخين السيجارة، ووقف ومد لها يده مصافحا، وصافحته، وخرج مسرعا كأنما يطارده شبح.
ولم ينم ليلته بالرغم من الأقراص المنومة الشديدة، ظل مؤرقا حتى الصباح؛ أيمكن له بعد هذا العمر الطويل، وتلك الصولات والجولات في عالم النساء، وذلك الانتصار الساحق مع امرأة وأخرى؛ أيمكن له بعد كل هذا أن يشك في رجولته؟ أن يشك في سحره؟ أن يشك في قوته؟
وانتشر نور الصباح في حجرته وهو يبحلق في السقف، يحاول أن يرد على علامات الاستفهام الكثيرة التي بدأت تمزق خلايا مخه، وتحفر لنفسها مكانا عميقا في ذهنه.
ونهض من فراشه يجر جسده الثقيل جرا، ولمح التليفون، وشعر برغبة قوية في أن يطلبها، إنه يريد أن يسمع صوتها مرة أخرى، أن يحس فيه شيئا من اللهفة، شيئا من الاهتمام يسري عنه ويخفف من تلك اللوعة التي في نفسه، وأدار قرص التليفون عدة مرات، وجاءه صوتها الكسول الناعس ليس فيه ذرة اهتمام؛ لكنه كذب أذنيه وحسه وذكرها بليلة الأمس، فتمتمت بكلمات لم يسمعها، وسألها في لهفة: هل تحبينني؟ فقالت وهي تتثاءب: لا، ليس بعد. وغاص قلبه في قدميه، وأحس أن الجرح الذي في قلبه يتسع، يتسع ويزيد، وأن اللوعة التي في نفسه تشتد وتستفحل، وأن علامات الاستفهام في مخه تغوص وتفور.
وارتدى ملابسه في إعياء وذهب إلى مكتبه، وبدا له كل شيء كئيبا مفرطا في الكآبة، ولم يعد يتحمس لشيء، وجلس إلى مكتبه لا يستطيع أن ينظر في ورقة من الأوراق، وأخذ يختلس إلى التليفون نظرات متلهفة حزينة، وشعر برغبة عارمة في أن يطلبها مرة أخرى، لا بد أنها استيقظت تماما الآن وسوف يعود إلى صوتها اللهفة والاهتمام. لقد أصبح لا يريد منها شيئا على الإطلاق سوى أن ترد إليه ثقته بنفسه؛ ثقته برجولته.
وأدار قرص التليفون، وجاء صوتها هذه المرة نشطا مليئا بالنشاط، لكنه أحس أن هذا النشاط لا يمت إليه بصلة، فقال لها في استجداء: أريد أن أراك الليلة. لكنها اعتذرت في أدب لانشغالها ببعض الأعمال، ووضع السماعة وقلبه يختنق من الألم؛ ما هذا الذي يحدث له؟ إنه هو الذي يستجديها ويستعطفها وهي التي تهرب منه، لقد التف خيط العذاب الحريري حول عنقه هو وليس عنقها.
ولم يعرف لماذا حدث ذلك، لم يتصور أبدا أن تكون هناك امرأة مثله، فقد كانت هي الأخرى لا تريده هو بالذات، ولكنها كانت تريد أن تخضع رجولته المغرورة، أن تشعر به وهو ذليل جريح يتعثر في استسلامه لها، ويبكي ضعفه وهزيمته، أن تلف حول عنقه خيطها الحريري وتشده وراءها، كانت مثله تنشد الانتصار بأي شكل وبأي ثمن.
من أجل المعرفة
العربة البيضاء الصغيرة تنطلق بسرعة على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة، ونسمة الليل الدافئة تتخلل شعرها وملابسها، وتسري إلى جسدها فتبعث في روحها خدرا جديدا ترتخي معه نظراتها المتكسرة على صفحة النيل؛ لتلتقط من حين إلى حين صورة جانبية للأصابع العريضة التي تلتف حول عجلة القيادة في قوة وحماس، والعينان شبه الزرقاوين تتطلعان إلى الأمام في حدة تنم عن شوق عارم إلى بلوغ نهاية الطريق.
وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول وهو يخطف إليها نظرة متلهفة: سنصل بعد قليل.
قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجل حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها، وحملت نسمة الليل الرقيقة عن شفتيها ابتسامة ماكرة وطوحت بها بعيدا عن عينيه، وقالت: الليل في حلوان جميل.
ورمقها بنظرة مشحونة بالشوق وقال: أنت أجمل من الليل.
وهزها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف.
وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: أحبك.
وأغلقت شفتيها في صمت.
لكنه سألها: هل تحبينني؟
فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: ألا ترى هذه الأنوار؟
ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا حلوان. •••
أمسكت حقيبتها الصغيرة وسارت إلى جواره يتقدمها صبي صغير ظل يسير في طرقة طويلة متعرجة، ثم وقف أمام باب عليه رقم، وفتح الباب وانحنى في دأب ينتظر دخولهما.
واصطدمت عيناها بالسرير الواحد الذي يتوسط الحجرة، لكنها تجاهلته وسارت إلى النافذة وفتحتها وأطلت منها على الليل الساكن الرهيب تبرق فيه النجوم، وتنهدت وهي تستنشق هواء الليل الدافئ وقالت: المنظر من هنا رائع!
وشعرت به يقف إلى جوارها ويتطلع معها إلى الأفق البعيد، لكنها استطاعت أن تضبط عينيه وهما تختلسان رغما عنه نظرات خاطفة وجلة إلى السرير.
وأسندت مرفقها إلى النافذة وشردت نظراتها بعيدا وعادت بها إلى القاهرة، إلى حجرة مستطيلة، ومكتب صغير، وهو يجلس أمامها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تسحق قوتها وغرورها وتجعلها تنكمش عند ركبتيه وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة عنيفة حبيسة لا تجد سبيلا إلى الخلاص، حتى حينما يشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظن أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى مع كيانها وتفرح بالخلاص، ولكن حين يبعد عنها ذراعيه تسترد كيانها وتسترد معه عاطفتها عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها.
ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ويعود إليها التساؤل الحائر بلا جواب:
لماذا هو بالذات؟
لماذا لم يكن رجلا آخر؟
وهل يمكن أن يكون رجلا آخر؟
هل يمكن أن تعرف؟! •••
ورن صوت الرجل في أذنيها فشدت نظراتها من الأفق البعيد إليه، ورأته واقفا إلى جوارها، بين شفتيه كلمات متعددة المعاني، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار، ولكنها لا تسحق شيئا فيها، وحاولت أن تنكمش عند ركبتيه، وحاولت أن تلهث بأية عاطفة فلم تلهث بشيء.
وشدها إليه.
ورأت ذراعيه القويتين تحيطان بها، أكثر قوة من الذراعين الحبيبتين، أقوى عضلات وأغزر شعرا، ولكنهما لا تذيبان أي شيء فيها. •••
العربة البيضاء الصغيرة تنطلق على الشارع العريض الناعم، وهي تستند برأسها على حافة النافذة ونسمة النهار الدافئة تتخلل شعرها وملابسها وتسري إلى جسدها، فتبعث في روحها حماسا جديدا تستيقظ معه نظراتها الناعسة على صفحة النيل، وتسبقها إلى القاهرة إلى الحجرة المستطيلة والمكتب الصغير.
وأخرجت رأسها من النافذة ليداعب الهواء الدافئ شعرها وبشرتها، وسمعته يقول: أحبك.
قالها بزهو؛ ذلك الزهو الذي يملأ الرجال حين يعتقد أن المرأة قد أحبته وأنه قد ملكها.
وحملت نسمة النهار الرقيقة عن شفتيها ابتسامة ساخرة، وطوحت بها بعيدا عن عينيه. ورمقها بنظرة مشحونة بالعاطفة، عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت؛ كأنه لم يفرج عن شيء منها.
وهزها الحنين الصادق في عينيه، فأطرقت رأسها في خشوع واحترام، ولمحت يده وهي تترك عجلة القيادة لتبحث عن يدها، فأمسكت بها في حنان وعطف، وسمعته يقول وهو يضغط بقوة على يدها: هل تحبينني؟
فقالت وهي تقذف بنظراتها خارج النافذة: ألا ترى هذه البيوت؟
ونظر إلى الأمام وقال: لقد وصلنا القاهرة. •••
في الحجرة المستطيلة، وعلى المكتب الصغير، وهو يجلس أمامها، وبين عينيه نظرات سحيقة الأغوار تسحق قوتها وغرورها فتنكمش عند ركبته وتتكور، وتدفن رأسها بين كفيه، وتلهث في صمت بعاطفة حبيسة لا تجد سبيلا إلى الخلاص.
ويشدها إليه ويذيب كيانها بين ذراعيه، وتظن أن عاطفتها قد ذابت هي الأخرى، وتفرح بالخلاص، ولكن حين يبعد عنها ذراعيه تسترد كيانها وتسترد معه عاطفتها؛ عنيفة كما كانت، حبيسة كما كانت، كأنما لم تفرج عن شيء منها، ويعود إليها الشوق، ويعود إليها القلق، ولكن لا يعود إليها التساؤل الحائر: لماذا هو بالذات؟
شرارة من الداخل
لم تكن المسافة التي تفصل بينه وبينها تزيد على طول ذراعه، ولم يكن بالبيت أحد سواهما، وعلى المنضدة الصغيرة زجاجة الخمر المعتقة ودورق الثلج الصغير، وتأملها وهي تمسك كأسها في يدها وتحوطه بأصابعها، ثم تقربه إلى شفتيها في هدوء.
كانت صامتة، لكن عينيها كانتا تعبران لحظة عن الفرح ولحظة عن الألم، لحظة تتوهج بالعاطفة المجنونة، ولحظة تنطفئ بالعقل البارد، لحظة تغرق في حنان متدفق، ولحظة تجف في تحد قاس.
وظل يتأملها وهي تشرب الكأس وراء الكأس حتى التهب خدها بسخونة الخمر، واتقدت عيناها ببريق ينم عن فوران الأحاسيس، وشعر برغبة عنيفة في أن يمسك أصابعها الرفيعة ويضغط عليها بقوة حتى تتكسر بين أصابعه، ويصيح بها قائلا: التحدي في عينيك يرغمني على القسوة. أو أن ينتزع الكأس من بين أصابعها ويلقي بها من النافذة ويصرخ في وجهها: ألا يمكن أن تبادليني الحب بدون أن تفقدي الوعي؟ أو أن يجلس عند ركبتيها ويدفن رأسه في صدرها ويبكي ويقول لها: حنان عينيك يبكيني.
لكنه لم يفعل شيئا، ظل يتأملها ساكنا، وسعادة خفية تدغدغ خلايا جسده وقلبه وعقله، وكل شيء خارج هذه الحجرة الصغيرة تافه، حتى فنه؛ فنه الكبير الذي انتصر على كل اهتمام في حياته. ولماذا لا يكون الفن تافها؟ ألم يكن يكتب من أجل تحقيق شيء ... مثل هذه اللحظة التي يعيشها الآن؟ ألم يكتب سنين طويلة من أجل لحظة مثل هذه اللحظة، ولم تستطع الكتابة أن تعطيها له مطلقا؟ كل إنسان خارج حدود هذه الإنسانية لا وجود له الآن، حتى ابنته؛ ابنته الوحيدة الصغيرة التي انتصر حبها على كل حب في حياته. ولماذا لا يتلاشى وجود ابنته؟ ألم يكن يحبها لأنها نتاج حب قديم، وقد جاء الحب الجديد الذي يمحو القديم، والذي يمكن أن يعطيه نتاجا جديدا؟
ونظر في عينيها الجسورتين، لم تفعل الخمر بجسارتها شيئا؛ كأنما لم تشرب قطرة خمر واحدة، لولا تلك الحمرة الخفيفة التي شابت بياض عينيها، وتلك الومضات المجنونة التي تبرق فيهما من حين إلى حين.
وتأمل شفتيها وهما تنفرجان في محاولة للكلام، وابتسم لها مشجعا، إنه يريد أن يسمع منها شيئا وهي نصف واعية، وعقلها الصارم نصف نائم، ولكنها لم تقل شيئا، ابتسمت في صمت وعادت لتملأ كأسها من جديد.
ولم يتحمل، رأى يده ترتفع على الرغم منه وتمسك كأسها وتنتزعه من بين أصابعها، وقال وهو يحتوي أصابعها الساخنة بين أصابعه الباردة: كفى! ونظرت إليه في دهشة، وقالت وهي واجمة: أنت الذي أحضرت زجاجة الخمر. تذكر فورا اللحظة التي وقف فيها أمام بائع الخمر مترددا أيأخذ معه زجاجة الخمر؟ لم يسبق له أن تردد في شراء زجاجة قبل ذهابه للقاء امرأة؛ ولكنه لا يريد أن يذهب إليها حاملا خمرا، لماذا؟ لعله شعر أنه لن يكون بحاجة إلى فقدان وعيه، أو أنه سيفقد وعيه بلا خمر، أو أنه حين يجلس معها يصبح كل شيء تافها، حتى الخمر، حتى الخمر تفقد طعمها ومعناها وتأثيرها؛ ألم يشرب، ولا يزال عقله متقدا متنبها لكل حركة من شفتيها، ولكل ومضة في عينيها، ألا يزال واعيا؟ لم يخرج منه تلك الأحاسيس الدفينة التي يكتبها العقل وتحررها الخمر فينطلق يفعل ما يريد بلا تفكير؟ وسمعها تضحك ضحكة قصيرة وهي تقول: صدقتك حين قلت إنها علبة بسكويت، تصور غبائي! وابتسم في شيء من الحرج؛ لماذا ألبس زجاجة الخمر ثوبا تنكريا ووضعها في علبة بريئة من علب البسكويت؟ لعله كان يريد شراء علبة بسكويت بدلا منها، ولكن ماذا تقول المرأة حين يشتري لها الرجل علبة بسكويت؟ أتفرح ببراءتها وسذاجتها؟ أم تحزن لبراءتها وسذاجتها أيضا؟!
واقترب منها قليلا، وحاول أن ينطق بشيء، لكنه لم يقل شيئا. أيمكن أن تعبر كلمة الحب عن ذلك الزلزال الذي يرج عقله وقلبه وجسده؟ وأطبق شفتيه في صمت وأطبق أصابعه على أصابعها في قوة. آه لو تلاشى عقله أمام لحظة الجنون واحتواها بين ذراعيه، وظل يضغط عليها حتى تذوب؛ ولكنه ظل مترددا، لماذا هو متردد؟ ألا يجد في عينيها إجابة واضحة على السؤال الذي يصرخ في أعماقه: هل هي تحبني؟
ولكن تيارات التعبير المتباينة تمر بعينيها دون أن يلتقط جوابا، نظرة الحنان تحرك قلبه، ونظرة التحدي تثير رجولته، الأنوثة العارمة فيها إلى جانب تلك القوة التي تكاد تشبه قوة الرجولة؟ الأنوثة التي تشعره برغبة عنيفة في الالتصاق بها، والرجولة التي تشعره برغبة مثلها في الفرار منها، التناقض العجيب فيها، التناقض الساحر، سحر الحياة وسرها، وهذا الشعور العجيب، الشعور المتناقض، رغبته في الالتصاق بها ورغبته في الفرار منها، يربطه بها ربطا. هل هو ساحر مثلها؟ هل يحتوي كيانه على التناقض؟ هل يجمع مثلها بين رجولة قوية وأنوثة رقيقة؟ لم يقابل من قبل امرأة واحدة تجمع بين هذا التناقض، كانت المرأة إما أنوثة يرغب في الاتصال بها وإما رجولة يرغب في الفرار منها، ولكن أن يرغب في الالتصاق والفرار في نفس اللحظة وبنفس القوة؟ هذا هو الصراع الرهيب الذي يولد في أعماقه شرارة التردد، شرارة العقل الذي لا يغيب، شرارة العاطفة التي لا تهدأ.
وابتسم في إشفاق على نفسه وهو يحترق من الداخل بشرارة غريبة تضيع عليه فرصة الاستمتاع باللحظة التي يعيشها، لم يحترق من قبل بشرارة داخلية، كان يحس الشرارة خارجه وكان يطفئها بيديه أو شفتيه أو ذراعيه؛ ولكن كيف تصل أصابعه إلى تلك الشرارة المشتعلة في داخله؟
لا شيء سوى أن يعيش معها إلى الأبد؛ أن يتزوجها، أن يقترن كيانه بكيانها، وسمع نفسه يقول لها: لنتزوج!
ورآها تعتدل في جلستها ودموع كالندى تبلل عينيها، وقالت وهي حزينة: وزوجتك؟
آه! تذكر زوجته، وابنته، ولكن ليس لأحد وجود الآن في عقله وقلبه.
وقال في إصرار: أطلقها.
واعتدلت أكثر في جلستها، وبدأت تتكلم، وتكلمت كلاما نبيلا عاقلا، ولكن ما أقبح النبل في لحظة الحب! وما أقبح العقل في لحظة الجنون! وسمعها تقول: لا تطلق زوجتك من أجلي، ولا تفرق بين أم ابنتك وأبيها.
وشعر برغبة في أن يرد على نبلها بصفعة عنيفة على وجهها تخلع عن رأسها ذلك العقل القبيح، ذلك الكذب، ذلك النفاق، أيمكن لها أن تكون صادقة إذا كانت تحبني؟ أليست العاطفة طوفانا هائلا من الصدق والأنانية والجنون، يجرف في تياره كل ادعاء وكل نبل وكل عقل؟!
وكبح جماح غضبه واغتصب ابتسامة امتنان وتقدير وقال: أنت إنسانة نبيلة عظيمة.
ونهض في هدوء وارتدى سترته وقال في أدب ورقة: سأذهب.
نظرت إليه في دهشة؛ سيذهب؟ إلى أين؟ وبدا لها خروجه من بيتها شيئا عجيبا، لم يكن ضيفا وانتهت مدة زيارته، كان ... كان رجلها، رجل حياتها؛ زوجها، ابنها، وأباها، وبيتها هو بيته، أيخرج من بيته؟ وإلى من يذهب؟ وشعرت برغبة عنيفة في أن تحول بينه وبين الخروج، أن يتلاشى عقلها أمام لحظة الجنون، أن تطفئ شرارة التردد التي تشتغل داخلها شرارة الحب، ولكن الشرارة كانت داخلها، وأصابعها لا يمكن أن تصل إليها.
وأخفت دهشتها تحت ابتسامة نبيلة مهذبة، وصافحها في أدب شديد وخرج.
قلبي الذي عصيته
عيناي مفتوحتان لا تريان، والظلام كثيف ومخيف، والطريق ضيق حار، وأنفاسي بطيئة مخنوقة، وجسدي ثقيل مشلول.
أيمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه التعاسة؟
أيمكن أن تبدو الحياة كئيبة كهذه الكآبة؟
حين يفقد المرء بصره مع أن له عينين، حين يشتد الظلام في وسط النهار؟!
كان أحد الملايين الذين تمر وجوههم أمامي فلا أكاد أذكر منها شيئا سوى أنها آدمية.
لكنه أراد أن يشد عيني الشاردتين إليه، أراد ... ولم يكن يملك شيئا من الإنسان إلا إرادته.
واستقرت عيناي عليه لحظة.
أنفه منخفض قصير يوحي إلي بأنه شرير، وشفتاه رفيعتان مقوستان إلى أعلى كحاجب امرأة شريرة، وعيناه قاسيتان يرتج صفارهما الباهت الصغير في البياض الكبير كما يرتج الصفار داخل البيضة العفنة.
وأشحت بوجهي عنه لكنه استدار وواجهني.
تركت له المكان فتبعني كالظل، وركع على ركبتيه وبللت دموعه أرضي واعترف لي بالحب العملاق.
لم يصدقه قلبي ونفر منه؛ لكن عقلي صدقه، هو رجل، غني ناجح، مرموق.
كان قلبي يحتقر عقلي؛ يحتقر مفاهيمه وأساليبه، يحتقر أرقامه وموازينه وكشوف حساباته، ولم يكن لعقلي حول ولا قوة أمام جبروت قلبي؛ فيتكور كالطفل اليتيم في جمجمته الضيقة المظلمة، يجتر هزيمته في صمت منتظرا المأساة.
كنت أتبع قلبي دائما، وكنت أحزن، وأشقى، وأفلس، وأجوع، ولكني لم أفكر مرة واحدة في الخروج على قلبي.
لماذا؟ لا أدري.
ولكني صممت على أن أخرج عليه مع هذا الرجل، ولأجرب عقلي هذه المرة. •••
جلست أمامه أحاول أن أنظر إلى صفحة النيل العميقة بدلا من عينيه الباهتتين الضحلتين، وأحاول أن أجد في كلماته اللزجة المتكلفة الخالية من الفن والذكاء شيئا ذا معنى.
كان يتحدث عن التجارة، وعن العرض والطلب، وكيف يصطاد الزبون ليعطيه أبخس شيء بأغلى ثمن، ويسمي ذلك فنا وذكاء. •••
أحسست بقلبي يغلي بين ضلوعي اشمئزازا منه؛ لكن عقلي كان يبادر فيذكرني بجاهه وماله ونجاحه .
فلأروض قلبي على احترام فن التجارة.
جلست إلى جواره في عربته الوثيرة الناعمة، وأغمضت عيني لأغيب مع أحلام عقلي.
ما أجمل الثراء! ما أمتع أن أركب عربة فاخرة فارهة كالطائرة تسبح بي في شوارع القاهرة! ... بل ما أمتع أن أمتلك هذه العربة وأمتلك صاحبها أيضا!
وتقزز قلبي من أحلام عقلي.
أنا؟ أنا أفكر في الامتلاك؟ في الأخذ؟ أنا التي كنت أعطي وأعطي، وكانت سعادتي هي أن أعطي وأعطي؟
ولكن ماذا فعل لي العطاء؟
كنت أحزن، وأشقى، وأفلس، وأجوع، فلأجرب الأخذ هذه المرة، ولأعلم نفسي أن تأخذ وتأخذ. •••
رأيته يقترب مني وينظر إلي بعينيه المرجوجتين المائعتين، وأمسك يدي في يديه، فانتفض قلبي حانقا غاضبا؛ لكن عقلي تصدى له زاجرا ناهرا، فسكت.
واقترب مني أكثر وأكثر، ورأيت شفتيه الرفيعتين المقوستين إلى أعلى كحاجب امرأة عاهر تقتربان من شفتي، وقفز قلبي نافرا مشمئزا، لكن عقلي ذكرني بمواهبه؛ إنه ثري، وسوف يصبح ثراؤه ثرائي.
إنه غبي؛ وسوف يريحني من غرور الأذكياء. لم أحاول أن أدقق النظر إلى شفتيه أو عينيه، لم أحاول أن أدقق الفهم لحديثه أو حركاته.
واتهمت قلبي بالغباء والسذاجة، هذا القلب الذي يؤمن بأشياء تافهة لا منطق فيها ولا معنى.
عيناه عميقتان! أفكار ذكية! إحساس مرهف! نفس فنانة! قيم روحية! ...
أشياء تافهة حقا، مجرد أوهام يحس بها قلبي الساذج بلا واقع لها على الأرض وبلا مبررات وبلا مقاييس إلا مقاييس إحساسي المبهم الغاشم!
أغمضت عيني، وأغلقت أذني، وأوصدت صمامات قلبي، وناولته شفتي.
وقال بصوت ضحل: أتحبينني؟
كاد قلبي يصرخ ويقول: لا لا. لكن عقلي قفز أمامه وقال: نعم!
وقال بصوت قبيح: أتتزوجينني؟
حاول قلبي أن يولول ويقول: أبدا أبدا. لكن عقلي سد عليه الطريق وقال: نعم. •••
تربع عقلي على عرشه في انتصار وزهو يتأمل الجدران الشاهقة المنقوشة، ويتشمم الأطباق الشهية المتنوعة، ويتطلع إلى الملابس الفاخرة المتعددة، ويتحسس الفراش الوثير الثمين، ويطل على العربة الطويلة القابعة أمام القصر في خشوع وانتظار.
نعم، هذه هي الحياة؛ الحياة التي تستحق أن تعيشيها، أتلقين بكل هذه الأشياء الثمينة الغالية النادرة من أجل أوهام ترتع في قلبك؟!
تعلمي أن تحبي هذه الحياة، وأن تحبي هذا النعيم وهذا الترف، عودي حواسك على هذه المتع الجديدة.
ماذا كان يرضيك في ذلك الحرمان الذي كنت تعيشين فيه؟! تفضلين بضع كلمات ضائعة في الهواء على أكلة دسمة لذيذة، تفضلين رجفة القلب الوهمية على رجفة الجسد المحسوسة، تعلمي أن تعشقي جسدك وتشبعي حواسك. •••
جلست إلى المائدة الكبيرة الشهية، وأكلت وأكلت، فتحت صوان الملابس الفاخرة، ولبست ولبست، ركبت العربة الطويلة الفارهة، وسبحت وسبحت، تمددت على الفراش الناعم الوثير، ونمت ونمت، لفتني دوامة رهيبة، لها دوي كئيب شديد صم أذني، وسحب الضوء من عيني، وأوصد منافذ إحساسي وإدراكي، أحسست أنني نوع غريب من البهائم يمشي على قدمين، نظرت إلى نفسي في المرآة فرأيت وجها غريبا علي، مليئا باللحم والأصباغ، فارغا من الوعي والتعبير، وعينين مطفأتين جاحظتين كعيني الضفدع، وشفتين يابستين لا تقويان على الابتسام.
لم أعثر في وجهي على ملامح وجهي، ولم أعثر في أغوار نفسي على نفسي، رأيت نفسا أخرى متخمة مترهلة، وأحسست جسدا سميكا غليظا ليست فيه ملامح جسدي، وكأنما ضاع مني كل شيء، ضاع مني نور عيني، الابتسامة الطبيعية السهلة استعصت على شفتي.
لا شيء يواسيني، لا شيء يبعث في الأمل، لا شيء يثيرني، لا شيء يحمسني.
ذهب قلبي وذهب معه إيماني بوجودي وحياتي.
ورأيته يقبل نحوي.
من هذا الرجل الغريب الكئيب الذي يقتحم علي غرفة نومي؟
وسمعت صوته الضحل القبيح يقول: كسبت اليوم صفقة جديدة، استأصلت المصران الأعور بمائة جنيه. - كنت تجري هذه العملية بخمسين جنيها فقط؛ لماذا ضاعفت الثمن؟ - كان المصران غليظا.
نظرت إليه، فرأيت له أنفا منخفضا قصيرا يوحي إلي بأنه منحط، وشفتين رفيعتين مقوستين إلى أعلى كحاجبي امرأة رخيصة، وعينين قاسيتين مرجوجتين يرتج صفارهما الباهت الصغير في البياض الكبير كما يرتج الصفار داخل البيضة العفنة.
لماذا لم أصدق قلبي؟
قلبي صادق أمين رفيع، وعقلي حقير خسيس وضيع، ورشقت عقلي بنظرة احتقار بالغة وهو يحتمي مني داخل جمجمته الضيقة المظلمة يجتز انتصاره القبيح البشع؛ ولكن لا تظن أنك انتصرت، لا تظن أنك تربعت على عرشي.
سأهوي بك إلى أسفل! •••
تعمدت أن أذل عقلي، فتركت كل شيء، تركت القصر والسيارة، تركت المائدة الشهية والفراش الوثير، تركت حتى ملابسي وأحذيتي ونقودي وأوراقي وبطاقتي العائلية.
وقال لي بصوته الجشع: إلى أين؟ - إلى بيتي. - وهذا؟ - ليس بيتي. - ماذا حدث لعقلك؟ - عزلته. •••
عيناي مفتوحتان لا تريان، والظلام كثيف ومخيف، والطريق ضيق حار، وأنفاسي بطيئة مخنوقة، وجسدي ثقيل مشلول، أيمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه التعاسة؟
حين يفقد المرء بصره مع أن له عينين، حين يشتد الظلام في وسط النهار؟
وأنا أسير كالتائهة، أبحث عن شيء عزيز غال في أغوار نفسي، أحاول أن أعثر عليه لأعيده إلى عرشه، ولأتبعه وأتبعه وأتبعه، ولأحزن، ولأشقى، ولأفلس، ولأجوع، ولكن سيكون هناك شيء ما يواسيني، شيء ما يبعث في الأمل، يصنع طيفا من السعادة يلون صفحة الحياة أمامي بالرغم من كل شيء، يجعل الابتسامة الطبيعية سهلة على شفتي، يشعل الضوء في عيني، يجعل إيماني بوجودي وحياتي لا يتزعزع، لا يموت.
يجعلني أحيا، وأحتمل الحياة.
أنا أسير، وأنا أبحث عنه، ترى هل أعثر عليه مرة أخرى؟ لا أدري ... لا بد!
عم عثمان
كانت عيناها تتعلقان بشريط الضوء الرفيع الذي يمتد من الهلال المقوس الناحل، ويتسلل كنصل السيف في ظلمة السماء الداكنة، ثم لا يلبث أن ينكسر بين كتل الأشجار السوداء إلى قروش فضية لامعة تنساب متفرقة من بين غصونها وأوراقها المتشعبة، ثم لا تلبث أن تتماسك وتتجمع مرة أخرى لتصبح شريطا رفيعا يكاد يتهاوى في الجو لبضع خطوات حتى يسقط في النيل، ويتدحرج على صفحة الماء المتعرجة مستسلما معها لحركات الريح العابثة. وكأنما يلذ له ملمس الماء البارد فيغرق نفسه في النيل عمدا، ويستحم فيه كقرموط سمك ناصع البياض يتلوى نشوان مع نسمات ليل القاهرة الدافئ.
كانت عيناها نصف المغمضتين تلوذان من الخلود إلى النوم من فرط السعادة والهدوء بذلك الشريط الرفيع من الضوء، تتبعانه من أول طريقه في السماء إلى آخر مطافه غريقا طروبا، وشعرت ببرودة الماء من حول جسمها الساخن، فشعرت بسعادة جديدة وتمنت لو خلعت ملابسها وألقت بنفسها في أحضان الماء.
لكنها ظلت على كرسيها جالسة تكتفي بمتعة النظر والتأمل، وفجأة شلت نظراتها، كأنما سحبت منها كهرباء الرؤية، على صوت دقات ساعة الجامعة تأتيها من بعيد، وسرت كهرباء السمع في أذنيها تعد الدقات دقة دقة، والأمل والخوف معا يصوران لها أن الصوت سينقطع بعد تلك الدقة الأخيرة، لكن دقة أخرى تطرق أذنيها فيكاد يغوص قلبها في قدميها. وظل صوت الساعة يهدر في ظلام الليل كضرغام جائع حتى أكمل اثنتي عشرة دقة بالتمام والكمال.
وهنا أفاقت من نشوتها تماما واستردت بصرها ورأت الحقيقة ماثلة أمامها، الحقيقة المرة، ورأت زجاجة البيرة الفارغة وبجوارها كوبان كبيران فارغان من تحتهما منضدة خشبية حقيرة، ورأت أصابع يده الرفيعة تعبث بطرف المنضدة، ولم تكن تعرف أن أصابعه رفيعة إلى ذلك الحد، وهبطت نظراتها إلى قدميه ورأت حذاءه الأسود واستغربت منظره، وصعدت نظراتها إلى وجهه ورأت عينيه اللامعتين تنظران إليها فتذكرته. نعم، إنه هو، ولكن لماذا يبدو حذاؤه وكأنه حذاء رجل آخر؟ ولماذا تبدو أصابع يديه نحيلة رفيعة كأنها ليست أصابعه؟
وسمعت صوته الدافئ يقول: هل أخافتك دقات الساعة إلى هذا الحد؟ ماذا يضايقك؟ هل تأخرت؟
وارتعد جسمها الصغير وهي تقول: جدا، لم أتصور أن الوقت يمضي بهذه السرعة، كنت أظن أنها العاشرة فقط.
وارتسمت على وجهه ابتسامة الرضا الذي يفيض بالرجل حين صارحته بالحب الذي يفقدها الإحساس بالزمن، وقال يطمئنها: إن الأسرة سافرت إلى الإسكندرية، وليس معك بالبيت أحد إلا الخادمة العجوز، ولا بد أنها نامت من الساعة التاسعة؛ إن النساء العجائز لا يجدن شيئا مثل النوم العميق.
وقالت بصوت فاتر: هذا صحيح، ولكن ...
قال: ولكن ماذا؟
وقفزت إلى رأسها فجأة صورة عم عثمان بشاربه الكث الطويل كأنه حيوان بري يرقد على شفته العليا، ووجهه الأسود اللامع، وشفتاه الغليظتان الزرقاوان تنقلبان إلى أعلى وإلى أسفل لتبينا عن أسنانه البيضاء الكبيرة.
وانتفض جسمها الصغير، وهي تقول بصوت ضعيف: ولكن عم عثمان يسهر طول الليل على دكته كأنه لا ينام كبقية الناس، وسوف يراني حين أعود بعد منتصف الليل.
ورن صوت قهقهة في الليل الساكن، وألقى برأسه إلى الوراء في حركة تنم عن الطمأنينة وخلو البال: عم عثمان؟ وما شأن عم عثمان بك؟ إنه بواب العمارة فقط، ولا دخل له على الإطلاق في حياتك، تعودين أول الليل أو آخره هذا من شأنك أنت؛ إن وظيفة البواب هي أن يراقب الغرباء عن العمارة لا أن يراقب السكان.
وقالت في أسى: بل إنه يراقب السكان فحسب. - ها ها ها ... لم أكن أتصور أنك تخافين من عم عثمان إلى ذلك الحد.
قالت في تمرد: إنني لا أخاف منه، ولكني لا أحب أن يظن بي سوءا؛ إنه من أقاصي الصعيد حيث تلبس المرأة العباءة.
قال: ولكنه يعيش في القاهرة ويرى المرأة المتحررة التي تدخل وتخرج كالرجال.
قالت: إنه لا يفهم ذلك. لقد قالت لي الخادمة العجوز ذات يوم أنه حدثها عن سوء سلوك إحدى الساكنات لأنها تتأخر بالليل أحيانا.
قال: أليس من المحتمل أن عملها يؤخرها ليلا، أو أنها في حفلة، أو أي شيء من هذا القبيل؟
قالت: إنه لا يفهم سوى أنها امرأة، ولا بد أنها أمضت ساعات الليل هذه مع رجل.
وسادت فترة صمت طويلة، وتخيلت عينيه السوداوين الحمراوين تنظران إليها من تحت العمامة البيضاء الكبيرة نظرة شك وريبة، وتظل هاتان العينان تصوبان لها مثل هذه النظرة كل صبح وكل ظهر وكل عصر، كلما تخرج وتدخل من باب العمارة. وكأنما أحس بما يراودها، فقال لها: حسنا، حين تدخلين الليلة وينظر إليك نظرة الشك، قولي له إنك كنت مع خطيبك، وإنك ستتزوجين بعد أيام.
ورن صوتها في سكون الليل غاضبة: أتتصور أني أقف أمام ذلك البواب بعد منتصف الليل لأبرر له تأخري، وأشرح تفاصيل حياتي الخاصة كأنما هو ولي أمري؟ أليس هذا شيئا مهينا لي؟
قال: أنا مستعد أن أقول له أنا ذلك لو أردت.
قالت: إن ذلك أشد مهانة لي ولك؛ إنه البواب وليس المأذون.
قال في حيرة: ما هو الحل إذن؟ هل أسبقك إليه وأطلق عليه الرصاص قبل وصولك؟
وضحك ضحكة مرحة صافية، كأنما ليس هناك معضلة ليس لها حل في نظرها سوى أن يموت عم عثمان فعلا قبل أن تصل إلى باب العمارة، ولكنه يموت قضاء وقدرا، وليس قتيلا.
وأخذت تفكر في الأمراض التي يمكن أن تداهم الإنسان وتقضي عليه في الحال. ولم تكن تعرف شيئا عن الطب والأمراض، ولكنها سمعت عن أناس يموتون بالسكتة القلبية في ثوان، وقالت لنفسها: آه لو كانت تصيبه السكتة القلبية الآن، فيرقد ويغمض عينيه الحادتين الناريتين كفوهات البنادق.
ولكن صورة أطفاله الثلاثة ارتسمت في خيالها وهم جالسون إلى جواره على الدكة الخشبية يحملقون في الداخل والخارج بعيون بريئة جائعة مسكينة.
لا، إنها ليست بهذه القسوة. لا داعي للسكتة القلبية القاتلة، لماذا لا تمرض عيناه فيربطهما بأربطة ثقيلة من الشاش فلا يرى بهما أحدا؟ ولكن كيف تمرض عيناه بتلك السرعة؟ لقد رأته وهي خارجة من العمارة منذ ساعات قليلة ينظر كالصقر هنا وهناك وعيناه تقدحان شررا.
لا شيء إذن غير السكتة القلبية، وسوف تتبرع لأطفاله بجزء من طعامها كل شهر.
آه! لماذا تراودها تلك الأفكار السوداء، وإن الوقت يمر والليل يرتحل أكثر وأكثر. ونظرت في ساعتها وقالت له في ذعر: إن الساعة تقترب من الواحدة، ماذا أفعل؟ أريد أن أذهب إلى البيت.
وقال باسما: سآتي معك لأوصلك.
قالت: لا، سيراك عم عثمان، إنه سيظن حتما أنني كنت مع رجل، ولكن هذا أفضل من أن ينقلب ظنه يقينا ويرى الرجل بعيني رأسه.
وضحك ضحكة طلقة، ونظرت إليه وهي تقول: إنك لا تحس ولا تشاركني مشكلتي الفظيعة، إنك تضحك من قلب خلي. طبعا أنت رجل تعود إلى بيتك في أي وقت من الليل رافعا رأسك في تيه وكبرياء، ويقف لك البواب احتراما لمغامراتك مع النساء.
وقال في دهشة: إنني لا أصدق أن يكون عم عثمان هو بطل مشكلتك الفظيعة هذه! كأنك لم تتعلمي وتؤمني بحقك في ممارسة الحياة الحرة، فتصنعي لنفسك قيودا وهمية تقيدين بها نفسك دون داع.
قالت: إنك لا تستطيع أن تحكم لأنك لم تكن امرأة أبدا.
إن عم عثمان ليس هو عم عثمان وحده، وإنما هو المجتمع كله الذي أعيش فيه. إن المجتمع يحكم علي من خلال رأس عم عثمان الفارغ المعمم، وعينيه اللامعتين كعين الثعبان. إنها ليست مشكلة عم عثمان وحده التي تقلقني، إنها مشكلة المجتمع كله.
وشعرت بموجات من التمرد تعصف بكيانها الصغير، ولمعت عيناها فجأة ببريق العصيان والجموح وقالت: ولكن يجب علي ألا أعبأ بشيء، أنا حرة في حياتي الخاصة مثلك. لقد نلت الليسانس كما نلته أنت، وأشتغل كما تشتغل أنت، وأستلم ماهية مساوية لماهيتك؛ يجب أن أمارس حريتي كما تمارسها أنت.
قال: هذا ما يجب أن تفعليه كامرأة قوية لها شخصيتها واستقلالها.
قالت: سأفعل، والآن هل ستوصلني إلى باب العمارة؟
قال: إذا شئت.
وسارا في الطريق المظلم الخالي من الناس، وقد بدا أكثر اتساعا وأكثر نظافة، وأحست بأصابعه تلتف حول يديها في قوة وصدق، فهدأت نفسها واستكانت تحت ذراعيه وسارت بخطى بطيئة ناعسة كأنها في حلم لا تريد أن تصحو منه.
ولكنها سرعان ما تيقظت حين لمحت العمارة التي تسكن فيها من بعيد، وخفق قلبها وتسربت منها القوة التي أحست بها منذ قليل ونظرت إلى ساعتها، كانت الثانية صباحا، فقالت في صوت متخاذل: أظن من الأفضل ألا يراك عم عثمان معي في ذلك الوقت المتأخر.
وقال: ولكنك صممت منذ قليل على ممارسة حريتك.
قالت: نعم، ولكن لا داعي لذلك الآن، يمكنني أن أمارسها من الغد.
وضحك ضحكة خافتة حتى لا يرن صداها في سكون الليل الهاجع، وضغط على يدها وتمنى لها التوفيق ووعدها باللقاء في الغد، ثم انصرف.
وسارت وحدها في وجل تشد عضلات وجهها وجسمها وتشحذ أسلحتها كلها لمواجهة نظرة عم عثمان النارية المتشككة، ورفعت رأسها في كبرياء مصطنعة تحاول أن تخفي بها قوتها الهاربة.
ووصلت إلى باب العمارة، وسبقتها عيناها المهزوزتان إلى مكان دكة عم عثمان بجوار الباب، ورأت وهي تبتلع أنفاسها كتلة من الملابس البيضاء.
وساورها شعور غامض بأنه قد فارق الحياة، لكنها لم تدقق النظر في الكتلة البشرية لترى إذا ما كان يصدر منها أي حركة تشير إلى الحياة من قريب أو بعيد، فلم يكن يهمها في تلك اللحظة أن يكون حيا أو ميتا.
ومشت بجوار الدكة رافعة رأسها في قوة وكبرياء، ونظرت شزرا إلى الكتلة الراقدة، وقالت لنفسها في سخرية: ما كان أتفه تفكيري! أكنت أجلس بجوار النيل الساحر ومعي الرجل الذي أحبه، ثم أقضي الوقت وأنا أتخيل صورة عم عثمان؟ ما كان أجهلني! أضيع اللحظات الجميلة السعيدة وأنا أخاف من شبح تلك الكتلة الغائبة عن الوعي؛ ذلك البواب الذي آمره فيطيع ثم أعطيه أجره بضعة قروش.
وأعطت ظهرها للدكة الخشبية وسارت نحو السلم سعيدة بتلك القوة التي تحس بها، وسمعت من خلف ظهرها صوت شخير غليظ خافت، وتوقفت عن المسير لحظة، ثم استدارت خلفها ورأت عم عثمان يغط في النوم العميق على الدكة، ومصمصت شفتيها في إشفاق وهي تقول لنفسها: مسكين عم عثمان! إنه يرقد في الشارع بعد المجهود الطويل الذي يقوم به طول النهار وجزءا من الليل.
وصعدت السلم بخطى ثقيلة وهي تسأل نفسها في حيرة: كيف يتحول شعورها في لحظة من الخوف من عم عثمان إلى الشفقة عليه؟! وزادها شعور الشفقة إحساسا بقوتها وكبريائها، ووضعت المفتاح في الباب ودخلت بيتها وخلعت ملابسها، واستلقت على سريرها وهي تبتسم لنفسها في سعادة وراحة بال.
ابتسامة
صحوت من نومي فوجدت الحزن يملأ قلبي ونفسي، ويجعلني أشعر أن جسدي ثقيل، ثقيل كأنه مصنوع من الحديد، لا بد له من قاطرة تجره من فوق السرير إلى الأرض. وأخذت أقلب في رأسي وقلبي عن سبب هذا الحزن الكبير، فلم أعثر على شيء، حتى رأسي وقلبي لم يكن لهما وجود في تلك اللحظة.
وأحسست أنني أكره كل شيء في حياتي؛ عملي وفني وأمومتي وبنوتي وحبي وصداقتي، كل شيء حتى نفسي ووجودي، وأخذت أتأمل أطرافي الممدودة في الفراش كأنها مشلولة، فشعرت بموجة عارمة من الاشمئزاز من ذراعي وساقي، كأنما هي أطراف صناعية، وخيل إلي لحظة أن عقلي قد نسي تماما كيف يحرك هذه الأطراف، وأنها لن تتحرك أبدا ... أبدا.
وخفق قلبي من الرعب خفقة كبيرة قوية سحبت الدم من رأسي وقدمي وصبته في صدري، فالتهب من سخونة الدم وأصبح كبركان مغلق على جمر من نار، ووجدتني أقفز من السرير دفعة واحدة كأنما مس جسدي سلك كهربائي عنيف، ووقفت على الأرض، وانتصبت واقفة على قدمي ورحت أهزهما بعنف؛ لأتأكد من أنهما يعملان كما كانا كل يوم.
ومشيت في خطوات وجلة إلى صوان الملابس، وارتديت أقدم ملابس عندي، ومشطت شعري بلا عناية، ونظرت في عيني، ولم تمتد يدي إلى القلم الأسود لأرسم به فوق رموشي ذلك الخط الأسود الذي أرسمه كل يوم، وأمسكت حقيبتي في يدي وخرجت دون أن أشرب فنجان الشاي الذي أشربه كل صباح، وسرت في الشارع، وقادتني قدماي إلى محطة الأتوبيس كما تقود الحمار أرجله من الدار إلى الحقل.
وجاء الأوتوبيس منتفخا بالناس كالعادة، واستطعت أن أصعد إليه وأدخل فيه. كيف؟ لا أدري! ولكني وجدتني فجأة داخل أتون فظيع من الأنفاس الساخنة الكئيبة؛ بعضها دخان، وبعضها مرض، وبعضها بصل، ولم تكن بي رغبة في الحياة، أية رغبة لأهرب كعادتي إلى جوار نافذة من النوافذ وأخرج رأسي منها؛ كان الحزن الغامض الذي أذاب إرادتي وفتت عقلي ونفسي قد جعلني أقف حيثما وقفت غير عابئة بما حولي، غير مكترثة بتلك الأذرع اللزجة التي تحيطني من كل جانب.
وتساقطت نظراتي الغائرة العمياء على شيء ... وجه ... وجه طفل؟ وجه فتاة؟ وجه رجل؟ لا أدري، لم تستطع عيناي الكليتان أن تتبينا صاحب الوجه، لكني رأيت وجها، ورأيت على الوجه ابتسامة.
وشدتني الابتسامة إلى الدنيا فجأة كما تشد سنارة الغواص اللؤلؤة من قاع البحر إلى سطح الأرض، كأنما كنت في قاع عميق مظلم بعيد، ثم جذبوني بحبل إلى النور والهواء، وكأنما نسيت شفتاي الابتسام!
فنظرت مشدوهة إلى الوجه لا أدري كيف أرد على هذه الابتسامة العجيبة التي بدت لي لغة جديدة لم أتعلمها، وهززت رأسي بلا إرادة وبلا معنى لأرد على ابتسامته، وعيناي ثابتتان على وجهه، متعلقتان بشفتيه كغريق يتشبث بحبل النجاة.
وأحسست أن ثقل قدمي قد خف بعض الشيء، وأن جسدي الحديدي قد لان بعض الليونة، وفتحت فمي بلا وعي ووجدتني أنطق بلا إرادة: أشكرك.
ورنت الكلمة في أذني رنينا عجيبا؛ لم يكن لها نفس الرنين الذي تعودته أذناي، ولم يكن نفس المعنى الذي فهمه عقلي!
ولم أسمع رده على كلمتي كأنه لا يفهم تلك الكلمات العادية التي يقولها الناس أو لا يؤمن بها، لكني سمعت عينيه وهما تبتسمان لي، كيف سمعتهما؟ لا أدري، ولكني شعرت أن حواسي الميتة التي كانت ترى الناس جميعا كتلة واحدة سوداء قد عادت إليها الحياة فأبصرت، ورأيت نافذة إلى جواري فنظرت منها، ورأيت أشعة الشمس المشرقة تسقط على سطح مياه النيل الجارية كأنما هي أسلاك ذهبية من نور سحري عجيب، ورأيت الناس في الشارع يتدفقون في حيوية ونشاط كأنما الحياة قد بلغت ذروتها.
وتركت النافذة ونظرت إلى الوجه، فرأيته ينحني لي في تحية وداع والابتسامة العجيبة حية على شفتيه، ثابتة على ملامحه كأنما هي جزء منها، ونزل الوجه من الأتوبيس واختفى في زحام الشارع، لكن الابتسامة ظلت أمام عيني لا تغيب. وأدركني إحساس يشبه الإيمان بأن هذه الابتسامة لن تتلاشى أبدا من خلايا ذاكرتي، حتى الموت نفسه لن يستطيع أن يفعل، لو مات هذا الوجه يوما، وسيموت حتما، فلن تموت هذه الابتسامة أبدا، ستبقى في ذاكرتي وأنا أعيش. ولو مت أنا، ولسوف أموت، فإن هذه الابتسامة ستعيش في ذاكرة من رآها غيري. ولو مات غيري، ولسوف يموت، فستعيش في ذاكرة من رآها غيره؛ كأنما هي إله خالد جبار يوزع الحياة هنا وهناك بغير حساب.
وجاءني هواء منعش من النافذة فجذبت نفسا عميقا؛ جعل عضلات قلبي ونفسي ترتمي في راحة واطمئنان، وقلت لنفسي: إن الدنيا حلوة ... حلوة.
وجاءت المحطة ونزلت من الأتوبيس، ومشيت في خطوات خفيفة، أحسست أن جسدي مصنوع من الريش، ومشيت في الشارع كأنما أرقص، وسمعت صوتا في أعماقي يغني، ورأيت الوجوه كلها أمامي تبتسم لي فأرد على ابتساماتها بابتسامة سهلة طبيعية، كأنما ... كأنما لم تنس شفتاي الابتسام أبدا.
ثمن الدم
لم يكن يشعر وهو جالس على بلاط الحجرة أن زوجته تركت ابنها الرضيع على الأرض بجوار فوطة الخبز الفارغة، وزحفت إلى جواره وهزته في كتفه هزات رقيقة حزينة وهي تقول بصوتها الضعيف الممزق: أبو محمود، أبو محمود، أنت نمت؟
وسمع صوتها كأنما هو آت من بعيد، وأراد أن يفتح فمه ويقول لها: لا، أنا لم أنم، ولكني لا أرى ولا أحس.
ولكنه لم يستطع أن يفصل شفتيه الجافتين اليابستين عن بعضهما، أو لعله استطاع أن يفعل لكن صوته لم يخرج من بينهما، وضاع في ذلك السرداب الخاوي المظلم الذي يصل بين قلبه وشفتيه.
وعادت شفتاه إلى الالتصاق، لكن جفونه انفرجت عن عينين واسعتين بارزتين، يغرق سوادهما الصغير الباهت في صفار كروي كبير تتخلله شعيرات دموية حمراء.
ودارت عيناه حول نفسيهما فرأى وجه زوجته يستطيل تارة حتى يشبه البلطة، ثم يستدير تارة أخرى كالبلونة. - أبو محمود، أبو محمود، قوم ربنا يفتح عليك، النهار قرب ينتهي والبنك حيقفل.
وتنبه أبو محمود حين سمع كلمة «والبنك حيقفل»، ورفع رأسه الثقيل وطافت عيناه الصفراوان في الحجرة الضيقة كأنما تبحثان عن شيء، ورأى وابور الجاز على الأرض وإلى جواره صندوق خشبي كبير هو كل ما يملك من أثاث.
ورأى ابنه الرضيع يرفس بقدميه الصغيرتين على البلاط، وإلى جواره فوطة الخبز مبسوطة لا يعلوها شيء.
وقال في صوت ضعيف خائر: فين محمود وسنية يا أم محمود؟ - راحوا للست توحيدة. - مفيش فايدة فيها. - يمكن تحن برغيف يمسك بطنهم لغاية ما ترجع من البنك يا أبو محمود. قوم ربنا يفتح عليك.
واتكأ أبو محمود بذراعيه ونهض على قدميه يستند على الحائط الرمادي المبلل الذي نشعت فيه مياه المطر، وسعل سعالا حادا وهو ينتفض، ثم بصق على البلاط بصقة كبيرة حمراء.
ووضعت زوجته على كتفيه شيئا مهلهلا يشبه المعطف، وقالت وهي تحاول أن تشجعه: ربنا معاك يا أبو محمود؛ يا ريت أروح بدالك النهاردة، لكن أنا دوري بعد أربعة أيام.
وفتح أبو محمود باب الحجرة، فلفحت وجهه ريح باردة، ولف المعطف على رأسه وعبر السطح ثم نزل مستندا على الحائط عشرة أدوار كاملة، وتقطعت أنفاسه وتمزق سعاله حين وصل إلى الشارع الواسع، وأخذ ينقل قدميه بلا وعي، وخيل إليه أنه لا يسير بإرادته، وإنما شيء ما يدفعه من الخلف إلى الأمام.
وفجأة شعر بقبضة يد صلبة توجه إلى فكه لكمة قوية، وسمع صوتا خشنا يقول له في غضب: أنت أعمى؟ ولم يشعر بأي ألم في جسده أثر اللكمة؟ ولم يفهم لماذا يخاطبه ذلك الصوت الغاضب.
وواصل سيره يدب على الأرض بخطى واهنة ممزقة، ومر بقهوة الحاج بدوي وشم رائحة الدخان والشاي، وود لو جلس لحظة والتقط بعض أنفاسه من الجوزة المعمرة، وارتشف كوبا من الشاي الأسود الساخن؛ لكنه تذكر أن الحاج بدوي هدده بالضرب حتى الموت إذا اقترب من القهوة دون أن يحمل في جيبه الثلاثين قرشا التي تراكمت دينا عليه من شرب الدخان والشاي.
وأخفى رأسه في المعطف وحاول أن يسرع الخطو بعض الشيء وهو يمر أمام القهوة، وأدركته رغبة شديدة في السعال فكتمها في صدره حتى لا يسمعه الحاج بدوي الذي يستطيع أن يتعرف على صوت سعاله من بين المئات.
وما إن ابتعد عن القهوة حتى هدأ قلبه وأطلق رغبته المكتومة في السعال، وشعر بنوع من الراحة والحرية وهو يسعل بملء فمه دون أن يخشى شيئا، ثم بصق على الأرض بصقة كبيرة حمراء.
ولم يدر أبو محمود كم أنفق من الوقت وهو يسير من شارع إلى شارع، وينتقل من رصيف إلى رصيف، وقد ترك زمام نفسه إلى قدميه اللتين تعرفان الطريق كل المعرفة.
ووصل أخيرا إلى البنك، ورأى الطابور هو الطابور يقف أمام الباب، والوجوه هي الوجوه التي يلقاها كل مرة، والرائحة هي الرائحة التي يشمها، والصوت هو الصوت الذي يسمعه في كل مرة: إزيك يا أبو محمود. - الله يسلمك يا درويش. - فاكر اسمك ولا ناسيه؟ - أنا أنسى عمري ولا أنساه! - ما تعملش جدع، أجدع واحد فينا أحيانا ينسى اسمه، هو العقل دفتر؟ - على رأيك، هو العقل دفتر! - أنت لك كام اسم يا أبو محمود. - ثلاثة بس والله. - بسيطة، ها ها ها.
وضحك الرجلان وقد شعرا بنوع من السعادة لأنهما يستطيعان أن يتحايلا على شيء، ويستطيعان أن يخدعا أحدا، وقد اتخذ كل منهما اسما في كل بنك من البنوك التي تشتري الدم من الناس، حتى يستطيع أن يبيع دمه في ثلاثة أو أربعة بنوك دون أن يكتشفه أحد.
ورن ضحكهما كعواء كلاب مريضة ضالة، لكن سرعان ما التصقت ضحكاتهما بحلقيهما الجافين، وعاد العبوس يرسم خطوطه البشعة على وجهيهما الناحلين بعظامهما البارزة المدببة، ووقف كل منهما في مكانه من الطابور يلهث صامتا.
وقطع صوت الأنفاس اللاهثة صوت ينادي الأسماء، ويعقب تلاوة كل اسم رجل يخرج من الصف ويدخل من الباب، ثم يختفي ليعود بعد قليل وقد أمسك بذراعه وزاد وجهه شحوبا وتساقطت بعض حبات من العرق على جبينه.
ورن اسم «سعيد علي عوضين» في الجو، وسرت همهمة في الطابور، ثم أحس أبو محمود بلكزة في كتفه وصوت صديقه يهمس في أذنه: إنت نمت يا أبو محمود، ولا نسيت اسمك؟
وانتفض أبو محمود كأنما يفيق من غيبوبة ولف رأسه بالمعطف واتجه إلى الباب السحري، وسار في الدهليز الضيق القصير بضع خطوات يعرف طولها وعرضها كما يعرف طول ذراعه وعرضه، وانحرف إلى اليمين، ودخل حجرة صغيرة، ورقد على السرير المعدني الرفيع، وأحس باليد القوية، نفس اليد التي ترفع كمه القذر، ورأى نظرة الامتعاض والتأفف هي نفس النظرة، وأشاح بوجهه عن الإبرة الطويلة السميكة وهي تدخل في جلد ذراعه الجاف بصعوبة كما تدخل مسلة الإسكافي في نعل الحذاء.
ولم يشعر هذه المرة بالألم الذي كان يعانيه حين تغرز الإبرة في ذراعه، ولم يفتح عينيه ليرى لون دمه الأحمر القاني وهو يرتفع في الزجاجة حتى يصل إلى علامة تشير إلى رقم 50 سنتيمترا. وكان في كل مرة يتابع بعينيه صعود الدم من ذراعه إلى الزجاجة حتى لا تنساب منه قطرة تزيد عن الكمية المحددة، وتنتقل عيناه من ذراعه إلى الزجاجة في يقظة شديدة كما تنتقل عينا البقال من الميزان إلى علبة الزيت، وقد حرص على ألا تزيد قطرة، أو لعله حرص على أن تنقص قطرة.
لكن «أبو محمود» هذه المرة كان تائها، ولم يشعر بالقوة أو الرغبة التي تعينه على أن يفتح عينيه ويتابع بهما شيئا، وكان كل ما يريده هو أن يتركوه راقدا على السرير؛ لكنه سرعان ما أحس بلكزة في كتفه تدعوه إلى النهوض والخروج، وقام متثاقلا ولف المعطف على رأسه، واتجهت قدماه المدربتان إلى حجرة أخرى على اليسار، ووقف أمام نضد طويل، ومد يده مبسوطة ثم سحبها تقبض على ورقتين، إحداهما كبيرة ناعمة قيمتها جنيه، والثانية أصغر حجما وأقل نعومة قيمتها نصف جنيه.
وضغط بأصابعه النحيلة الطويلة على الورقتين في سعادة، وقال لنفسه باسما: سأشتري خبزا ولحما ودخانا وشايا وكل شيء.
وسار بخطواته المهتزة إلى الباب، ورأى الطابور الهزيل الواقف يتضاعف فجأة إلى أربعة طوابير، ورأى عيني صديقه درويش تتضاعفان فجأة إلى ثماني عيون تشخص إليه في فزع ودهشة.
ولم يدر أبو محمود ما سر ذلك التضاعف أو تلك الدهشة، لكنه رأى وجها كبيرا يقترب من وجهه، استطاع أن يتعرف فيه على ملامح صديقه درويش، ورأى عيونا بارزة صفراء كثيرة تحملق فيه.
ولم يفهم أبو محمود شيئا مما يدور حوله، ولم يسمع صوتا، لكن شفتيه اليابستين انفرجتا عن ابتسامة ضيقة، وخرج صوته في مجهود كبير وهو يمد يده قابضة على الورقتين: درويش، درويش، خذ الجنيه والنص وديهم لمراتي ولمحمود وسنية، وديهم يا درويش أوع تنس، أوع ... درويش ... الجنيه والنص ... عشان يشتروا بها العيش واللحم ... درويش.
وترنح جسمه الهزيل وتداعى إلى الأرض وأغمض عينيه ومات.
حبي الوحيد
كل امرأة خائنة وراءها رجل خائن
كان لون السماء في عيني غريبا، وكان طعم الخبز والجبن في فمي بعيدا كل البعد عن طعمها الذي عرفته، وكانت وجوه الناس وهم يمرون أمامي تبدو كوجوه العرائس المتحركة، حتى الهواء الذي كنت أشعر به يدخل صدري في صعوبة، كان غريبا في رائحته وكثافته.
ونظرت إلى يدي وهي تمسك بقطعة الخبز، فأحسست أنها غريبة عني أيضا في شكلها وحركاتها، وأصابعي تلتف حول الخبز رفيعة نحيلة كأنها أصابع دمية ليست فيها دماء، وليست فيها حياة.
كل شيء حولي يبدو كأنه ينتهي، أو انتهى منذ لحظات، وأحسست بمرارة الفناء في حلقي، ووقعت قطعة الخبز من يدي، ورأيت كلبا أسود يجري إليها، ويمسكها بأسنانه، وينظر إلي، ولا أدري ماذا كان في عينيه؛ دموع؟ جوع؟ ألم؟ وحدة؟ ... أم كل هذا؟
وفتحت فمي في دهشة، كأنني أعثر في هذا العالم، الذي رأيته منذ لحظة ينتهي، على قطعة من الحياة، أية قطعة وأية حياة، عثرت على عيني كلب أجرب فيهما شقاء، وفيهما جوع، وأشياء أخرى كثيرة تعبر عن الحرمان والألم، عن شيء تفصح، تقول، تنطق في ذلك العالم الأبكم، الميت.
واقتربت من الكلب أربت على رأسه وظهره، وأحس الكلب بالحنان، فبدت في عينيه الدهشة كأنما لم يربت أحد على ظهره أبدا، ثم انكمش واستكان تحت يدي كطفل يتيم ضائع. •••
وأحسست بدموع ساخنة تنحدر على وجهي، ونظر إلي بإشفاق، وترك قطعة الخبز تقع من بين أسنانه، وأخذ يتمسح بي كأنه يقول لي: لا تبكي؛ إنني معك!
ودهشت وقلت لنفسي: تلك كلمات لم يقلها الرجل الذي اسمه زوجي.
وابتسمت للكلب في امتنان، وربت على ظهره، وتركته ومشيت أفكر ... هل أعود إلى البيت؟ لا، مستحيل، سأموت هنا على قارعة الطريق ولا أذهب إلى البيت.
وغامت عيناي قليلا ورأيت زوجي جالسا في حجرة الطعام لابسا المنامة الجديدة التي اشتريتها له بدلا من أن أشتري لنفسي حذاء بدل حذائي القديم الوحيد ... منامة حريرية بيضاء.
وسمعت صوته يقول لي: من قال لك ذلك؟
قلت له: فلان وفلانة وفلانة.
وسكت قليلا.
وظننت أنه سيقول لي: كذابون. وينتهي الكلام ويخرج إلى عمله.
لكنني سمعته يقول وهو ينظر بعيدا عني: لقد صدقوا، إنني أحبها، وإنني أقابلها كل يوم، وأذهب إلى بيتها. ماذا تريدين؟
وفتحت فمي لأرد، لكن الكلمات تجمدت على شفتي وأحسست أن قلبي لم يعد يدق، وأن الحياة داخلي تجمدت، وانتهيت ... وأفقت بعد قليل ورأيت حولي عيونا كثيرة صغيرة تنظر إلي وتقول لي: ماما.
ولم أحتضنها ولم أقبلها، رأيتها عيونا غريبة عني، تشبه عيني الرجل الذي كان جالسا أمامي منذ لحظات، وأحسست أن أعماقي الميتة لم يعد فيها أثر لأمومتي. وما هي أمومتي؟ أليست هي امتدادا لحبي؟ أليست هي حبي لنتاج حبي؟
ومشيت بلا وعي. إلى أين أذهب؟ إلى أبي، إلى أمي، وماذا أقول لهما؟ زوجي يخونني! يا للعار الذي ينصب على رأسي قبل رأسه! يا للكرامة التي ستهدر التي هي كرامتي! لا، لن أذهب إليهما، لن يعرف أحد من الإنس أو الجن أن زوجي يخونني، بعض الناس يرونه مع امرأة ويشكون، ولكن الشك غير اليقين؛ إن كل الناس يشكون في كل الناس، هذا شيء طبيعي عام كالهواء والماء، ولكن اليقين! لا لن أبوح لهم بالسر الخطير. ومشيت، ومشيت، وأحسست أن قدمي تؤلمني. آه! ليتني اشتريت الحذاء بدلا من المنامة. إلى أين أذهب، إلى أين أذهب؟
ولا أدري كيف قفزت صورته في رأسي، رجل متوسط الطول له عينان زرقاوان ضيقتان، حينما رأيته مع زوجي لأول مرة كرهته بلا سبب، لعل حركات رقبته الكثيرة وهو يشد ربطة عنقه أثارت اشمئزازي، أو لعل صوته الرفيع الحاد الذي يشبه صوت النساء جعلني أنفر منه، لكن زوجي كان يحبه ويهتم به، فكان لا بد لي ألا أظهر نفوري منه، ورأيت هذا الرجل كثيرا مع زوجي. وفي مرة جاء ولم يكن زوجي بالبيت، وظننت أنه سيمضي، لكنه جلس وطلب فنجانا من القهوة، وأخذ يكلمني وينظر إلي؛ إلى ذراعي، وإلى صدري، وإلى ساقي حينما أمشي، وأحسست أن نظراته الغريبة تكاد تخلع ملابسي كلها من فوق جسدي. وكان جريئا وقحا، وسمعته يقول لي بصوت كئيب فيه شهوة فجة ماعت لها معدتي وأمعائي وأحسست برغبة في القيء: إن زوجك محظوظ. هذا الرجل، إني أحسده.
لا أدري كيف تذكرت هذا الرجل، مع أن هذه الحادثة وقعت من سنتين ولم تتكرر بعد ذلك، حتى إنني نسيتها. هل لأنه الرجل الوحيد الذي غازلني بعد أن تزوجت؟ هل لأنني أصبحت في حاجة إلى أن أستعيد كلماته لي: «إن زوجك محظوظ. هذا الرجل، إني أحسده.» وأحسست أن ثقتي بأنوثتي بدأت تهتز، وأغمضت عيني. آه! لا أريد أن أحس ذلك، لا أريد أن أرى أنوثتي وهي تحتضر أمامي. لا، لن أدعها تحتضر، سأنقذها من الموت!
وفتحت عيني في الطريق ومشيت أجري إليه، وكنت أعرف بيته، فقد كان زوجي يمر عليه كثيرا، ورأيت ملامحه تتقلص في دهشة كبيرة حينما فتح الباب ورآني، وظن أول الأمر أن حادثا وقع لزوجي، لكني جلست وجففت عرقي، وظللت ساهمة بعض الوقت، وقد تجسم نفوري منه حين رأيته بملابسه الداخلية فقط، وذراعاه وساقاه رفيعتان معوجتان ويغطيهما شعر كثيف أسود لا يبدو نظيفا، كأنه لم يستحم منذ شهور.
وقلت وأنا لا أنظر إليه: أريد أن أعرف، لماذا قلت لي في يوم من الأيام أن زوجي محظوظ وأنك تحسده؟ لماذا قلت ذلك؟ هل كانت مجاملة، مجرد مجاملة، أم أنك تعني ذلك؟
وسمعته يقول: كنت أعني ذلك، ولا زلت أعنيه.
وأحسست بدبيب الأمل يسري في أعماقي، ويمنح الحياة، بعض الحياة لأنوثتي الجريحة التي تحتضر.
وقلت: ولكنه تركني إلى امرأة أخرى.
قال: المغفل! كل الرجال مغفلون إلا القليل.
قلت: وأنت؟
قال: أنا من القليل؛ ولهذا لم أتزوج.
واعتدل في كرسيه وقال: كم سنة مرت على زواجكما؟
قلت: عشر سنين.
قال وهو يبتسم: وهذه أول خيانة له؟
وأحسست برغبة شديدة في أن أصفعه على وجهه، لكني تماسكت وسمعته يضحك ويتهته في سعادة كبيرة ويقول: أعني أول خيانة تعرفينها؟
وقلت له في اشمئزاز: تعني أنه كان يخونني؟
وقال: لا أدري، ولكني أعرف أن كل الرجال يخونون زوجاتهم، كل الرجال الذين عرفتهم.
قلت وقد زاد اشمئزازي منه ومن كل الرجال: إن الرجل بطبيعته خائن.
قال وهو ينظر بعيدا: ما دامت تلك هي طبيعته، فلا يمكن أن نسميها خيانة. - وماذا تسميها إذن؟ - ولماذا نسميها؟ إنني أكره الأسماء. ليس هناك اسم ينطبق انطباقا كاملا على الشيء الذي يرمز إليه. ليس في مقدور الإنسان أن يخلق اسما لشيء لم يخلقه هو، إن الطبيعة أكبر من الإنسان بكثير.
وسكت قليلا أفكر، وقلت: يا للرجل الغريب! يستطيع أن يبرر أي شيء بلسانه. لكني أحسست بشيء من الحياة يدب في عقلي المشلول، وأسندت رأسي على ظهر الكرسي، وقلت له وأنا شاردة: والمرأة؟
قال بلا تفكير: كالرجل تماما.
وانتفضت واقفة وأنا أقول: لا! إن المرأة لا تفكر في خيانة زوجها أبدا.
ورن صوتي في أذني قويا مؤمنا بما أقول.
ورأيته ينظر إلي نظرة ذات معنى، فقلت: إلا إذا عرفت أنه يخونها، وأنا لا أسميها خائنة في ذلك الوقت؛ لأنها تخون نفسها قبل أن تخونه، وتهدر كرامتها قبل أن تهدر كرامته، إنه نوع من الانتحار البطيء تفعله المرأة الجبانة التي تخاف من الموت السريع.
وسكت قليلا يفكر ثم قال وهو يبتسم: يا للمرأة الغريبة! تستطيع أن تبرر أي شيء بلسانها.
وابتسمت، فانتهز هذه الفرصة وقال: ماذا تشربين؟
قلت: فنجان من قهوة مظبوط.
وقام إلى المطبخ وتركني، وأخذت أتأمل الصالة التي أجلس بها والأثاث المتناثر هنا وهناك بلا ترتيب، وبلا نظافة. وعاودني اشمئزازي منه ومن حياته، يا للمنافق الكذاب! هل يؤمن بكل ما يقول؟ وهل يفهم الحياة حقا كما يبدو أنه فيلسوف كبير؟ وإذا كان هو متفوقا على الناس في عقله وفهمه للحياة، فلماذا تكون حياته أسوأ من حياتهم، وبيته أقذر من بيوتهم، وجسمه أقذر من أجسامهم؟ إن الفهم الصحيح يدفع إلى الأمام، إلى التقدم، وإن الحياة تختار الأصلح دائما.
وعاد يحمل في يده فنجانا من القهوة.
وقلت له: وأنت لا تشرب القهوة؟
فقال: أشربها، ولكن عندي فنجانا واحدا لا يمكن لنا أن نستعمله في وقت واحد.
وضحكت وأنا أنظر إلى شعر ساقه اللزج المتسخ وقلت: هل أنت سعيد في حياتك التي اخترتها لنفسك؟
قال لي في بساطة: وهل أنت سعيدة؟ وهل زوجك سعيد؟ وهل الناس سعداء؟ إنني لا أبحث عن السعادة في الحياة، ولكني أهرب من التعاسة فيها. اشربي القهوة قبل أن تبرد.
وأخذت أشرب القهوة في هدوء وبطء، وأحس بوقع نظراته على وجهي ويدي، لماذا ينظر إلي؟ غريبة! لقد كنت أظن أنه رجل سطحي تافه. يا للجهل! كثيرا ما تخدعنا الصور والأشكال. ولكن هل هو غير تافه؟ لا أدري. وما هي التفاهة؟ لماذا يستمر في النظر إلي كامرأة يريدها أو يشتهيها؟ هل يريد أن يساعدني أم يريد أن يستغلني؟ لا أدري شيئا.
وكأنما قرأ أفكاري وسمعته يقول: لا زلت أعتقد أن زوجك محظوظ وأنا أحسده، ولكني لن ألمس شعرة واحدة من شعر رأسك.
ونظرت إليه في دهشة وقلت: لماذا؟
وتقلصت ملامحه فجأة، وبدأ عليه الغضب والثورة، ورأيته يقف ويقول لي بلهجة جادة قوية: لن أكون السكين التي تغمدينها في صدرك، أنت تريدين أن تخوني نفسك وزوجك، ولكنك في الواقع ستخونين شخصا آخر قبل نفسك وقبل زوجك، وهذا الشخص هو أنا!
وخفق قلبي لهذه الكلمات الجادة العميقة، ولم أكن رأيته قط يتكلم بهذا الجد العميق، وأحسست بالدموع الساخنة تسقط على وجهي، وأطرقت ساهمة، وساد الصمت بيننا لحظات طويلة، وأمسكت حقيبتي، ووقفت وقلت له: أشكرك على القهوة.
ورفع عينيه دون أن يقف وقال لي: «إلى أين ستذهبين؟»
قلت: إلى بيتي.
قال: وزوجك الخائن؟
قلت: سأغفر له.
قال: لماذا؟
قلت: لن أبحث عن السعادة في الحياة، ولكني سأهرب من التعاسة فيها.
وضحك مقهقها، وقال: يا للعقل! يا للحكمة!
وضحكت وخرجت، وذهبت إلى بيتي ورأيت زوجي جالسا وحوله الأطفال، وأقبلوا علي يهللون فرحين: ماما ... ماما.
ولما هدأت الضجة وأصبحت أنا وزوجي وحدنا قال وهو يبتسم: لقد ذهبت لتنتقمي مني، لتخونيني؟
وظهرت على وجهي الدهشة وقلت: كيف عرفت ذلك؟
قال في بساطة وثقة: أنا أفهم المرأة.
وابتسمت وقلت: يا للرجل المغرور!
وأحسست بذراعيه القويتين حولي وهمس في أذني قائلا: أحبك، أحبك. وابتعدت عنه قليلا وأنا أنظر في عينيه في دهشة وقلت له: وتلك التي كنت تحبها في الصباح؟
وجذبني إليه وضمني إلى صدره أكثر وأكثر، وهمس: كان ذلك في الصباح، ولقد انتهى الصباح.
وجريت بعيدا عنه وقلت له في ثورة: يا لك من مخادع! تخدعها وتخدعني في نفس الوقت!
وقال وهو يبتسم في غرور: بل أخلص لك ولها في نفس الوقت.
وقلت في غضب: لا، إنني لن أعيش معك.
وسرحت لحظة ثم قلت في شرود: سأذهب إليه.
واعتدل جالسا وقال: من هو؟
قلت: صديقك الحميم.
وانفجر ضاحكا وهو يلقي برأسه إلى الوراء وقال في ثقة وغرور: لن يستطيع.
ونظرت إليه في دهشة وقلت: لماذا؟
فقال في بساطة: إنه مريض؛ ولهذا لم يتزوج.
ودارت الأرض بي لحظة، وقلت لنفسي: يا للرجل المنافق!
ونظرت إلى زوجي وهو راقد على ظهره، وعيناه تنظران إلي في جوع ونهم، وقلت لنفسي: يا للرجال المنافقين! كل الرجال!
وسمعت أصواتا صغيرة تنادي علي: ماما ... ماما. فخرجت من الحجرة أجري إليهم، كانوا كطوق نجاة ألقي إلي في عرض اليم، ونظرت إلى عيونهم البريئة وهي تنظر إلي فذكرتني بعيني الكلب الأسود الذي قابلته في الصباح؛ فيها جوع، وفيها ألم، وفيها حرمان.
واندفعت كالمحمومة إلى المطبخ وأعددت لهم الطعام، وجلست أتأملهم وهم يأكلون في لهفة، وأحسست بأمومتي تستيقظ فجأة، شعرت بلذة وسعادة لم أشعر بهما من قبل.
وألقيت جسدي المنهمك على الفراش وأنا أحس براحة واستقرار.
وقلت لنفسي: لا، إن أمومتي ليست امتدادا لحبي، وليست هي حبي لنتاج حبي، إنها ... حبي الحقيقي الوحيد.
الجانب الآخر
الدنيا ليل، ليل يونيو الدافئ الصافي، ونسمة القاهرة الرقيقة تدخل من نافذة العربة الطويلة، فتعبث بخصلات شعرها الأسود القصير، فيطير على وجهها وعينيها، ويحجب عنها الطريق الذي يجري سريعا تحت عجلات العربة، وترتفع أصابعها الطويلة الرفيعة من حين إلى حين تعيد خصلات الشعر إلى مكانها.
ونظرت حكمت إلى جوارها فرأته وهو جالس يمسك بعجلة القيادة وينظر إلى الأمام، ويبدو أنفه من الجانب مقوسا بعض الشيء، وعيناه غائرتان إلى حد ما. فشعرت بانقباض غريب؛ لقد رأته من قبل مرة أو مرتين ترى وجهه من الأمام، وكانت ملامحه توحي لها بالقوة والرجولة، عيناه عسليتان صافيتان تكشفان في صدق عن أغوار نفسه، وجبهته عريضة فيها سماحة ونبل، وشفتاه منفرجتان عن ابتسامة طيبة تعبر عن قلب إنسان كبير.
إن هذه أول مرة تنظر إليه فيها من الجانب.
ونظرت إلى وجهه من الجانب مرة أخرى؟ يا للغرابة! كأنها ملامح رجل آخر لا يمكن أن ترتاح إليه ولا يمكن أن تثق فيه. وكانت تود أن تقول له عد بي من حيث أتيت، ولكنها ظلت صامتة، وأخذت تنظر إلى الطريق وأصابعها تسوي خصلات شعرها الطائر.
ووصلا في النهاية، وأوقف العربة، ونزلا، وجلسا متقابلين تحت شجرة كبيرة، وسمعت صوته الرجالي القوي يقول: ماذا تشربين؟ - عصير ليمون.
وكانت أول مرة تخرج فيها معه؛ لماذا عرض عليها الخروج معه، مع أنه لم يرها إلا مرة أو مرتين؟ ولماذا استجابت لدعوته مع أنها رفضت دعوات الكثيرين؟
جلست حكمت شاردة تفكر في تلك الأسئلة التي تتزاحم في رأسها: هل لأنه رجل يمتلئ رجولة كما يبدو من صوته وملامحه وقوامه الفارع؟ هل أحست في مظهره بذرة الرجل الذي تبحث عنه منذ ثمانية وعشرين عاما التي تكون عمرها، الرجل الذي يحتوي عقلها وقلبها وجسدها، ويسكن عنده قلقها وحيرتها وأحزان حياتها؟
ونظرت إليه تفتش في ملامحه عن ذلك الرجل، وسمعت صوته القوي يقول: حكمت، انظري إلى هذه الشجرة وإلى هذه الأنوار التي تتخللها؛ كم هي جميلة!
ورفعت حكمت بصرها إلى الشجرة، كانت ضخمة تنتشر فيها لمبات النور الملونة؛ بعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أزرق، وقالت: إن الشجرة جميلة، ولكن تلك الأنوار الكثيرة تفسد جمالها.
وقال في حماس: بالعكس، إنها تزيدها جمالا. ومرت الدقائق وهو يتطلع إلى الأنوار، وقد انقلبت ملامح الرجل فيه إلى ملامح طفل صغير، ينظر فرحا إلى مجموعة من «البلونات» الملونة.
وأمسكت حكمت بكوب عصير الليمون، وأخذت ترشف منه في بطء، ثم رأته يلتفت إليها ويقول في سعادة ساذجة تتناقض مع قوامه الفارع وملامحه العنيفة: أنت جميلة، جميلة جدا. ولم تكن تنتظر أن يكون أول حديثه معها هذه الكلمة! إن أي رجل يجلس مع أي امرأة يقول لها: «أنت جميلة.» إنها كانت تتوقع منه أن يقول شيئا آخر، شيئا عميقا كبيرا يهز كيانها. إنه رجل عادي جدا، يبدو أنه لا يعرف أكثر مما قال! ولكن مظهره، ملامحه التي توحي بالعمق والقوة، صوته العميق، ذلك الإحساس الأول الذي شعرت به بأنه الرجل الذي تبحث عنه منذ ثمانية وعشرين عاما؛ هل كان شعورا كاذبا؟ ولكن لماذا يبدو صغيرا الآن؟ لماذا يبدو عاديا؟ وهل يمكنها أن تتجاهل فهمها وخبرتها ونضوجها وتقبل رجلا عاديا؟ ولكنها أشرفت على الثلاثين من عمرها ولم تقابل الرجل الذي تريده. هل تيأس من الحصول عليه؟ وهل ترضى بهذا الرجل الطويل العريض الجالس أمامها، والذي تتراقص عيناه في طفولة على لمبات النور الملونة؟
وانتفضت على صوته العميق جدا وهو ينظر في سذاجة وسطحية إلى يديها وهما تمسكان بكوب العصير، ويقول: إن يديك جميلتان جدا، صغيرتان. ما أجملهما!
ومد يده كالطفل وهو يقول: أريد أن ألمسهما، هل تسمحين؟
وكانت قد بلغت من النضج وفهم الحياة حدا لم تعد معه تخشى تجربة أي شيء، ولكنها تريد أن تختبر هذا الرجل، تريد أن ترى كيف يبدو حين يمسك يديها؛ هل سيكون ذلك الطفل الذي يلهو بالبالونات الملونة، أم أنه سيكون الرجل الذي يرتسم على ملامحه؟
وكانت تريد أيضا أن تمنحه الفرصة ليظهر عاطفته لها؛ هل يحبها؟ وما نوع هذا الحب؟ وكيف يعبر عن هذا الحب؟
ولم تكن تريد أن تحكم عليه بالإعدام من أول لقاء، لقد عودتها التجربة والخبرة أن تصبر، وأن تنتظر، وأن تتأمل. إن لحظة واحدة خليقة بأن تخلق حبا جديدا، وإن لحظة واحدة خليقة بأن تقتل حبا قديما.
وأعطته يديها الصغيرتين النحيلتين، فأمسكهما وقبلهما ووضع وجهه في راحتيهما، وراح يبتلع لعابه، وتفاحة آدم في رقبته تعلو وتهبط، وسمعته يقول لها: أحبك.
وكانت إنسانة رقيقة الحس والعاطفة ، لها قلب كبير، حان، يحترم شعور الإنسان أينما كان وكيفما كان، فنظرت إليه في ود وحنان وقالت بصوت يختلج بالصدق والحرارة: حينما رأيتك أحسست أنك قد تكون الرجل الذي أبحث عنه طوال عمري، ولكن ...
وسكتت؛ لم تكن تريد أن تصدمه، ولم تكن تريد أن تفجعه، ونظر إليها كأنه لم يسمع ما قالت وقال: إن يديك ناعمتان جدا! ما هذا؟ هل صنعتا من البلور؟
بلور؟!
ما هذا الرجل؟ إنه لا يرى إلا الأنوار والبريق والبلور؟
وأحست أنها بدأت تضيق به، فسحبت يديها من يديه، واعتدلت في كرسيها، وقالت له في جدية: الواقع أنك تحبني بطريقة غريبة علي، إن كلامك لا يصل إلى قلبي، بل لا يكاد يصل إلى أذني، ألا تعرف الحب؟
ونظر إليها في دهشة وقال: هل أنت غاضبة يا حبيبتي؟ لا، لا، لا أريدك غاضبة. اسمعي، سأقول لك آخر نكتة قيلت عن القرود: كان فيه قرد في حديقة الحيوان، وبعدين ... وقاطعته قائلة: أرجوك، أنا لا أحب النكت! وقال في دهشة: لا تحبين النكت! لماذا أنت حزينة يا حبيبتي؟ لماذا لا تكونين مرحة؟ إن مظهرك المشرق وابتسامتك الدائمة دلاني على أنك فتاة تحبين المرح. يا إلهي! كثيرا ما تخدعنا الصور!
وابتسمت حكمت وقالت: حقا، كثيرا ما تخدعنا الصور. لقد خيل إلي أنك رجل رصين!
وانتفض مذعورا كأنما لدغته عقرب وقال: رصين؟! ما معنى رصين يا حبيبتي؟ - أعني رجلا جادا.
وتطلع إلى الشجرة الملونة بالنور، ونظر إلى يديها وذراعيها وقال: أكون رجلا جادا؟ وكيف أكون رجلا جادا في مثل هذا الوقت، والطبيعة حولي ترقص، والجمال يجلس أمامي؟ إن وقت الحب يا حبيبتي لا يحتمل الجد.
ونظرت إليه في إشفاق كبير؛ ماذا تقول له؟ وكيف تشرح له؟ ترى هل يفهم لو قالت له إن وقت الحب هو أكثر أوقات الحياة رصانة وجدية، وإن أجمل ما في الحب هي تلك اللحظات الرصينة الجادة التي تطفر فيها الدموع، دموع الحب التي تختلط بالألم والفرح والأمل. ولكن هل يمكن لعينيه أن تطفر منهما دموع الحب ؟ تلكما العينان السطحيتان اللتان تتراقصان مبهورتين بكل لون فاقع صارخ؟ تلكما العينان اللتان تنظران إليها فلا تريان إلا سطحهما الخارجي ... البلور؟!
وقالت له في بساطة: إن مظهرك يدل على أنك رجل جاد. - إنني رجل بسيط، بسيط جدا، لا أعقد الأمور. لماذا تحب النساء تعقيد الأمور؟ - ولكني رأيتك في عملك، إنك تبدو فيه رجلا آخر غير الذي يجلس أمامي. - هذا طبيعي؛ ترى هل أكون في عملي وحولي رجال فيهم خشونة، كما أكون وأنا جالس مع فتاة رقيقة حلوة!
قالت: لا أقصد ذلك، وإنما تكون أنت نفس الرجل، وليس رجلا آخر يناقضه.
قال: إنني لا أعرف عن الحب إلا أنه جانب الحياة الجميل المرح! إنه الوعاء الذي ننفض فيه متاعب العمل والكفاح في الحياة.
وتنهدت حكمت في أسى وسكتت، فسمعته يقول: ابتسمي، اضحكي.
وفتحت شفتيها عن ابتسامة هادئة، لكن قلبها كان يجتر فجيعتها في الرجل الذي ظنت أنه رجلها، ولم تكن أول فجيعة في أول رجل، كانت تبحث دائما، وكانت تفجع دائما، ولم تكن تمل البحث، ولم تكن الفجيعة تسلمها إلى اليأس أبدا.
وأسندت رأسها إلى ظهر الكرسي، ونظرت إلى السماء في شرود، وظل يتأملها طويلا ثم قال: لا تظني يا حكمت أنني ألهو بك، إن اللهو شيء والمرح شيء آخر. إني لا أريد أن أصنع من حبي مأساة درامية تذرف فيها الدموع، إنني أريد أن أصنع من حبي قصة مرحة كلها ضحك وابتسام. لا أدري لماذا تبحث النساء عن الآلام دائما؟
وقالت حكمت وهي تنظر إلى السماء: ليس هناك حب بلا دموع. وانفجر صائحا: يا إلهي! إنني لا أطيق منظر الدموع.
وأشار إلى الشجرة المضاءة وقال: انظري إلى هذه الأنوار، انظري إلى هذه الشجرة، انظري إلى الطبيعة الجميلة، إن الحياة جميلة تريد أن تسعد الإنسان، فلماذا يبحث الإنسان عن شقائه وتعاسته؟
وقالت وهي لا تزال تنظر إلى السماء: ولكن الألم أحيانا يسعد النفس والروح، والدموع أحيانا تكون فيها لذة تفوق لذة الابتسام والضحك.
وضغط بيده على المائدة في رفق وقال: أنا لا أفهم هذا الكلام.
وانقضت لحظة صمت قصيرة، وأحست حكمت بيديه تقتربان من يديها وتمسكهما، ووضع يديه في راحتيها، وقال: حكمت، حينما رأيتك لأول مرة أحببتك، وأحسست أنك تطابقين الصورة التي رسمتها لشريكة حياتي، لزوجتي؛ ولهذا طلبت منك أن نلتقي خارج العمل. إنني لا ألهو، إنني أريد أن أتزوجك، فهل تقبلين؟
وظل رأسها على الكرسي، وعيناها معلقتان في السماء ولم ترد، ونظر إليها في دهشة وقال: لماذا لا تردين؟
قالت في بساطة: أنت لا تفهمني، إن الحديث عن الزواج لم يحن موعده بعد. إني أرى أننا مختلفان في جوهرنا، قد تكون أعجبت بمظهري، وقد أكون رأيت في مظهرك الرجل الذي أبحث عنه، ولكن الجوهر، الأعماق، نظرتنا إلى الحياة، كل ذلك يختلف اختلافا كبيرا.
قال: إنه الاختلاف الطبيعي بين الرجل والمرأة.
قالت: إن الرجل والمرأة يختلفان في تكوين جسدهما، هذا طبيعي، ولكن القلب واحد.
قال: أنا لا أفهم كلامك أيضا.
وسكتت حكمت قليلا ثم قالت وأسى الفشل يتعلق بأهداب عينيها: هل نعود؟
قال في يأس: «كما تشائين.»
وركبت إلى جواره في العربة الفارعة الطويلة، وعادت النسمة الدافئة الرقيقة تدخل من نافذة العربة فتعبث بخصلات شعرها الأسود القصير، ويطير على وجهها ويحجب عينيها السوداوين الحزينتين، وقد تجمدت بين مآقيهما الدموع، ورفعت بأصابعها الطويلة النحيلة خصلات الشعر عن عينيها، ونظرت إليه، ورأت وجهه من الجانب، ولم تدهش هذه المرة؛ إن وجهه من الجانب يعبر عن وجهه الحقيقي.
وكان هو ممسكا بعجلة القيادة يفكر ويقول لنفسه: إنها فتاة غريرة تعيش في الأوهام. لم أتصور أنها ترفضني رغم مركزي وثروتي، يا لغبائها! ألا تحس بالمتعة وهي تجلس إلى جواري في هذه العربة الأنيقة؟! ألا تحس؟!
وكانت عيناها السوداوان شاردتين في الطريق الممتد الطويل، تفكر أيضا وتقول لنفسها: إنه رجل غرير يعيش في الأوهام، لم أتصور أنه يفكر في الزواج قبل أن يعرف الحب.
وكان كلاهما مخطئا، وكان كلاهما على صواب.
لا شيء يفنى
دوت الكلمة في أذنيها دويا غريبا جعل الحجرة تدور في اهتزازات قوية سريعة، رجت الأشياء رجا عنيفا ضاع معه تماسكها وتلاصقها، وانفصلت جزيئاتها وذراتها بعضها عن البعض، ففقد كل شيء لونه وحجمه وكثافته.
وجاهدت عيناها تبحثان عن الطبيب الطويل، أو عن معطفه الأبيض، أو عن منضدة الفحص الجلدية، أو عن الجدران الرمادية ... دون جدوى، فقد اختلط أمام عينيها البياض بالسواد، والإنسان بالجماد، والمساحات بالأحجام، وشعرت كأنما هي تغوص إلى قمة رأسها في مادة غريبة مخيفة، لها ملمس الطين، ولها ميوعة الماء، ولها سواد الليل، ولها عمق السماء.
وشعرت بذراعيها تثقلان وتثقلان كأنهما دكتا لآخرهما بالرمال.
ثم فتحت عينيها بعد لحظة، ورأت كل شيء في مكانه المعهود، ورأت الطبيب الطويل بمعطفه الأبيض، ورأت منضدة الفحص الجلدية والجدران الرمادية.
واقترب منها الطبيب في خطوات بطيئة ثقيلة، وسمعته يقول: كنت أظن أنك شجاعة.
ورنت كلمة شجاعة في أذنيها رنينا غريبا، كأنما فقدت معناها القديم.
وردت بلا وعي قائلة: شجاعة؟!
فقال الطبيب: نعم، عهدي بك شجاعة.
وقلبت في رأسها الكلمة وتساءلت عن معنى الشجاعة.
ما هي الشجاعة؟ أن تعيش الحياة؟! أو تموت الموت؟!
كانت الشجاعة منذ لحظات هي أن تركب الأتوبيس قبل أن يقف، وتشتري كتابا بعشرة جنيهات ليس معها غيرها، أو تقول لزميلها: أنت منافق. أو تقول لرئيسها: أنت مخطئ. أو تقول لبائع الخضر: أنت لص. أو تقول لصديقها: أنا أحبك! ولكن الشجاعة الآن أصبحت شيئا آخر، أصبحت شيئا مستحيلا يطلب منها المستحيل.
كيف وهي حية تتحرك وتتنفس وتحس دقات قلبها ونبضات روحها أن تعتبر نفسها ميتة؟ كيف لها وهي تتحسس خلايا جسدها الدافئة الحية أن تسلم بأن خلايا الموت الباردة تزحف على جسدها؟
كيف لها أن تصدق أن جسدها يمكن أن يحمل الحياة والموت في وقت واحد؟ ولكن لماذا لا تصدق؟ ألم ينطق الطبيب بالحقيقة الرهيبة؟ هل تنقصها الشجاعة لتصدق الحقيقة؟ أم تنقصها الحقيقة لتمارس الشجاعة؟ أم ينقصها العقل؟ أم ينقصها الإيمان؟
أم أن الأمر كله لا يحتاج إلا إلى ذلك التسليم اللامنطقي بالقضاء المحتوم!
وارتفعت ذراعها الثقيلة تتحسس صدرها باحثة عن الورم الصغير ، واستطاعت أصابعها أن تعثر عليه وسط النسيج الطري؛ كرة صغيرة لها حجم الليمونة ولها جفاف الزيتونة وكثافتها، تجري هنا وهناك بثقة وحرية واستهتار؛ استهتار بذلك اللحم المستقر الآمن، واستهتار بذلك الجلد الذي يغلفها ويحددها، فشدته إليها في تعاريج دقيقة كثيرة كتعاريج الوجه الغاضب.
كرة صغيرة من اللحم، من الخلايا الغاضبة الفائرة راحت تنقسم على نفسها في جنون، وتلتوي على بعضها البعض في صلابة وشدة، وتفسح لنفسها مكانا مريحا، وتأكل الخلايا الوادعة الآمنة أكلا. ما الذي أغضبها هذه الخلايا؟ وما الذي أشعل بها نار الجنون؟ أهي سمة الكائنات الحية أن تأكل بعضها البعض؟! هي سمة الموت الذي يعيش على الحياة؟! لا أحد يعلم؛ لا الطبيب، ولا الساحر، ولا رجل الدين. لا أحد يعلم على الإطلاق.
ورفعت عينيها الحمراوين إلى وجه الطبيب وقالت في شرود: هل من علاج؟
وقال وهو يبتسم: لا. وكأنه يقول نعم.
قالت: ولماذا لا تفتحون صدري وتخرجون منه هذه الكرة المجنونة؟
قال الطبيب بصوت بارد وكأنه يجيب على مثل هذا السؤال مئات المرات في اليوم: لا فائدة؛ لقد انتقلت بعض الخلايا المجنونة إلى الدم، وحملها الدم إلى الغدد.
وقالت في حماس: ولماذا لا تفتحون الغدد وتخرجون منها الخلايا المجنونة؟
قال الطبيب في بساطة: لا يمكن. - لماذا؟ - إننا لا نعرف عدد الغدد. - آه!
ونظرت إلى الطبيب في فزع وقالت: وما العمل؟
قال في برود: لا شيء. ننتظر.
وهبت من رقدتها مذعورة وقالت: ننتظر؟ ننتظر ماذا؟
قال في هدوء: معجزة من السماء، أو اكتشاف جديد في الطب، أو ...
ودارت الحجرة في عينيها مرة أخرى، واختلط السواد بالبياض، والإنسان بالجماد، والمساحات بالأحجام، وظهرت لها من حيث لا تدري صورتها وهي طفلة التاسعة من عمرها تسير في شارع طويل، وقد أرادت أن تعرف إلى أي شيء ينتهي، لكنها وجدت نفسها فجأة في مفترق طرق كثيرة متعددة فضلت طريقها إلى البيت، وأخذت تسير في الشوارع وهي تبكي حتى عثروا عليها بمحض الصدفة.
ولما فتحت عينيها لم تجد الطبيب، وتلفتت حولها في دهشة، وخيل إليها لحظة أنها كانت تحلم حلما فظيعا، وكادت تقفز من السرير من فرحة الخلاص والنجاة، لكن عينيها ارتطمتا بالجدران الرمادية وسرير الفحص الجلدي، فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبها.
واختلط عليها الواقع بالحلم، فرفعت ذراعها تتحسس صدرها، ولما عثرت أصابعها على الكرة اليابسة الكئيبة تأكد لها الواقع المشئوم، وجثم الذهول والحيرة على قلبها وعقلها.
كيف يمكن أن تعيش وهي تعلم أنها ستموت؟ ولكن كل الناس يعلمون أنهم سيموتون، ولكنهم لا يعلمون متى يموتون، وما داموا لا يعلمون فهم لا يصدقون، وما داموا لا يصدقون فهم ينسون، وما داموا ينسون فهم يعيشون.
وشعرت بشيء يلتف حول عنقها كأنما يخنق أنفاسها، فهبت من رقدتها وجرت إلى النافذة وفتحتها، وملأت صدرها من هواء الشارع، وأعاد لها الهواء الرطب المنعش بعض الحيوية والتفاؤل، وطمأنتها حركة الناس في الشارع على استمرار الحياة، فابتعد عن ذهنها بعض الشيء شبح الموت الكئيب.
واختطفت معطفها من فوق سرير الفحص، وغادرت المستشفى بسرعة دون أن تلقي نظرة على حجرة الطبيب، ومشت في الشارع تلتصق بالناس السائرين، تلتمس في دفئهم وحماستهم الرغبة في الحياة، وتنسى مع اندفاعهم وسرعتهم ذكرى النهاية الرهيبة، ووجدت نفسها تجري مع الناس، تجري كأنما تريد أن تلحق بقطار أو تصل إلى موعد هام، ولم يكن هناك قطار ولا موعد؛ لكنها استسلمت للجري بلا هدف، كأنما الحركة في حد ذاتها أصبحت هدفا.
وأخذت تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء في اهتزازات عنيفة، تريد أن تسقط عن خلايا عقلها فكرة الفناء البشعة، أو تريد أن تفصل عن خلايا صدرها خلايا الموت اليابسة.
وشعرت بشيء من الراحة إثر ذلك المجهود الكبير، وسارت على مهل تتأمل الشجر والماء، وتملأ صدرها بالهواء الرطب العليل، ولمحت زهرة بيضاء جميلة على جانب الطريق، فوقفت أمامها تتأملها، ولمست أصابعها نسيجها المخملي الناعم، فشعرت بنشوة غريبة، وقربت أنفها تشم عطرها الزكي، فأحست بسعادة تغمر قلبها وروحها، وتلفتت حولها مفتونة، وأسكرتها زرقة السماء العميقة منعكسة على سطح الماء الوادع، فجلست على شاطئ البحر وخلعت حذاءها ومددت جسدها على العشب المبلل الرطب.
وتراءى لها وسط الزرقة الفاتنة وجه طويل نحيل، وملامح هادئة باسمة، وعينان زرقاوان عميقتان، وأخذت تتأمل الوجه كما كانت تتأمله، وتغيب في أعماق العينين كما كانت تغيب، ويهمس صوتها الحالم باسمه كما كان يهمس، وامتدت يدها بلا وعي إلى جيبها وأخرجت ورقة صغيرة وراحت تتأمل كلماته إليها، وقلبت الورقة في يدها وأخذت تتحسسها بأصابعها، وعاد إلى أناملها من حيث لا تدري ملمس الكرة اليابسة في صدرها، وجاءتها كلمات الطبيب الكئيبة من مكان بعيد من ذاكرتها، وضغطت أصابعها على الورقة في دهشة.
كيف تبقى هذه الورقة الصغيرة الرقيقة بينما هي تموت؟
هذه الورقة الصغيرة تخلد في الحياة بينما هي تزول؟ ونظرت حولها في دهشة وحيرة.
ولكن هذه الورقة يمكن أن تزول، يمكن أن تذيبها مياه البحر أو تلتهمها نار المدفأة.
ولكنها لا تزول، إنها تتحول إلى رماد، إلى مادة أخرى فحسب. وهي؟ أهي تزول حقا حين تموت؟ لا، إنها كالورقة، يتحول جسدها إلى رماد، إلى مادة أخرى فحسب، كل شيء يبقى دائما، وتقلبت على العشب الناعم الرطب، وشعرت بضغط الورم تحت صدرها، لكنها ابتسمت في هدوء وقد تضاءلت أمام عينيها فكرة الموت السخيفة.
لحظة صدق
كل شيء في مكانه القديم، بشكله القديم، كل شيء هو هو كما كان دائما، الأريكة الصفراء الطويلة هي الأريكة، وإلى جوارها رف الكتب الصغير هو رف الكتب، ومن فوقها صورة البحر الكبير هو البحر، وعيناها هما عيناها، وتنظران إلي وتعكسان من حيث لا أدري صورة البحر في هدوئه وثورته وعمقه وغموضه الطبيعي الأبدي.
كل شيء في مكانه القديم، بشكله القديم؛ ولكن شيئا ما بدا جديدا، ونزعت عيني من عينيها ورفعتهما إلى البحر الكبير، ثم مررت بهما على الستارة الزرقاء الخفيفة الزرقة كأنها السماء.
هذا بيتها، نعم بيتها، وليست أول مرة أدخل بيتها، لعلها العاشرة أو المائة، لم أفكر في عدد زياراتي لها.
والأريكة الصفراء هي الأريكة الصفراء، وليست أول مرة أجلس على الأريكة إلى جوارها وحدنا، وحدنا تماما، إلا من ذلك الوجه الذي يطل علينا من فوق الحائط الرمادي دائما، من داخل إطاره المربع، وفي جبينه خط يرسم الأبوة والبنوة معا. والزجاجة الحمراء، وهي الزجاجة، وليست أول مرة أشرب معها النبيذ.
وهي هي؛ بجسدها، وشعرها، ووجهها، وعينيها، وكل ما عرفته عنها من سذاجة ومكر، وبراءة وعبث، وذكاء وشرود، وقوة وضياع، واستقرار وحيرة، وإرادة وفزع وقلق.
وأنا بجسدي ورأسي وشعري وأصابع يدي.
ولكن شيئا ما تغير، أشياء ما تغيرت، كل شيء تغير، كل شيء يبدو كأنه أول مرة.
ما الذي تغير؟ بيتها؟ لا، ليس بيتها، فكل شيء في مكانه القديم.
هي؟ لا، ليست هي، كل شيء فيها في مكانه القديم، الكذب في عينيها، والخداع على شفتيها، ورداؤها القديم على جسدها؛ رداؤها الكئيب الذي تدفن تحته أنوثتها، حتى رداؤها هذا لم تغيره. ما الذي تغير؟! أنا؟ لا، لست أنا، فأنا أعرف نفسي، ما من قوة على ظهر الأرض تستطيع أن تغيرني، أنا رجل قوي ناجح، لم يمنحني أحد القوة والنجاح، ولكني انتزعتهما نزعا من بين فكي العالم، وقد كنت في يوم ما صغيرا ضعيفا فقيرا، أدميت قدمي سيرا على الأرض لألحق بالذين يركبون، وصممت على أن ألحق بهم، وقد فعلت؛ ولكن هذا لا يكفيني، أريد أن أركب وهم يلهثون ورائي حفاة، وأقدامهم دامية كما كانت قدماي. ولقد ركبت، لم أعد أسير على قدمي، ولكن هم يركبون أيضا، وأنا لا أريد لهم أن يركبوا مثلي، لا أريد أحدا مثلي؛ فإن أحدا ليس مثلي، ولا يجب أن يكون.
إنني حين أمشي يفسح لي الرجال الطريق؛ هذا شيء طبيعي، يجب ألا يمشي أمامي أحد، وإني حين أريد امرأة فإنها تركع لي وتعطيني كل ما عندها دون أن أعطيها شيئا، هذا شيء طبيعي، النساء يجب أن يعطوني دون مقابل؛ إن مثلي لا يعطي، وإذا كان لا بد من أحد يعطي وأحد يأخذ، فلماذا لا أكون أنا الذي يأخذ؟
وهذه المرأة الجالسة إلى جواري، أليست هي كبقية البشر؛ إذا أعطت لا تأخذ، وإذا أخذت لا تعطي؟
ولكنها عنيدة ذكية ! يبدو أنها مثلي، مثلي تماما، من نوعي، من فصيلتي؛ إنها لا تعطي.
ولكن لا بد أن أنتصر عليها، لا بد أن أجعلها تعطيني، لا بد!
وأنا لا أريد أن أشعر أنني آخذ منها، لا أريد أن أشعر أنني أغتصبها؛ إن الاغتصاب يذكرني بالشرف، وأنا لا أريد أن أكون شريفا، أريد منها أن تركع عند قدمي وتعطيني، بل أريد منها أن تغريني وتتوسل إلي كي أقبل عطاءها.
أنا لم أولد شريرا، كان أبي قديسا، وكانت أمي راهبة، ولكن الحياة هي التي ولدت شريرة، الحياة التي حرمتني وأنا طفل من قطرة دافئة من لبن أمي، من مليم أحمر واحد أشتري به كيسا من اللب، من سن ريشة سليم أكتب به شقائي.
هذه المرأة الغريبة الجريئة الوقحة المخادعة! ما الذي يجعلها تجلس معي في بيتها، وتشرب معي النبيذ وحدنا؟
هل تريدني؟ لا، وإلا فما الذي يمنعها أو ما الذي منعها في كل المرات السابقة؟
هل تمتحن قوتها أو تمتحن قوتي؟
إنها تنظر إلي، تتفرج علي، تدرس ملامحي، تحفظ خطوط أنفي، تدقق النظر إلى أسناني، حتى حينما لويت عنقها وأنا أجذبها من شعرها الجامح، وأهوي برأسها الشامخ تحت رأسي، وشفتيها العنيدتين تحت شفتي، حتى في هذه اللحظة وأنا أكاد أضيع في أول قبلة معها كانت عيناها مفتوحتين واعيتين يقظتين، تتفرجان علي!
امرأة وقحة جريئة منافقة! لماذا لم تغب عن وعيها ككل النساء؟! لماذا؟! هذه المرأة الكاذبة التي تلعب بي!
أنا أكذب على كل الناس، وأتفرج على كل الناس، ولكن هذا حقي، هذا طبعي وأنا حر، ليس من حق أحد أن يناقشني.
ولكن أن تكون هناك امرأة مثلي؟ تمارس من الحرية ما أمارسها؟ تمارس من الكذب ما أمارسه؟ هذه المرأة يجب أن تسحق! وإني لقادر على سحقها.
هذه العنيدة المتكبرة! سأعلمها من أنا! سأجعلها تذكرني دائما، وكلما ذكرتني نفذ الخنجر المسموم إلى قلبها من جديد، الخنجر الذي طعنت به كرامتها وأنوثتها وشخصيتها.
شخصيتها! وهل هناك امرأة لها ما يسمى بالشخصية؟ إنهن جميعا نساء لا يخلصن إلا للرجل الذي يخون، ولا يخن إلا الرجل الذي يخلص. نساء! ولكن كيف عرفت ذلك؟ كيف عرفت ذلك؟ كيف عرفت هذه الحقيقة؟ عرفتها منها؛ تلك التي لا أنساها أبدا، تلك المرأة الوحيدة التي أخلصت لها فكانت هي الوحيدة التي خانتني! لماذا لا أنساها أبدا؟ لماذا؟ ألأنها الوحيدة التي ترفضني؟ أم لأنها الوحيدة التي رفضتني؟ أم لأنها الوحيدة التي لم تعطني فرصة لكي أرفضها؟
إنها تنظر إلي، وفي يدها كأس النبيذ، وإني أجلس إلى جوارها، في بيتها، وكل شيء في مكانه.
ولكن هناك شيئا جديدا! أين؟ أين؟ في صورة البحر؟ على رف الكتب؟ على الحائط الرمادي؟ في كأس النبيذ؟ في عينيها، إنه في عينيها العنيدتين المخادعتين، نعم في عينيها؛ شيء جديد، شيء غريب، شيء ندي طلي يشبه الدموع، يشبه الصدق!
الصدق؟ كيف تراودني أنا هذه الكلمة؟ أو كيف تراودها هي؟ وهل يمكن لعينين أن تجمعا بين الصدق والكذب في وقت واحد؟
هل أصدقها؟ كأنما هي تحبني. يا للمرأة الغريرة!
كانت تريد أن تخدعني فأحبتني.
ولكن هل يمكن لي أن أصدق نظراتها؟ لا، إنها تكذب! يا للممثلة القديرة! إن في عينيها كذبا كبيرا! وهل توجد امرأة تعرف الحب؟
كم كنت أود أن تصدق، تصدق لحظة واحدة، أريد أن أشعر بحب حقيقي، أريد أن أكون شريفا، إن في أعماقي طاقات كبيرة من الشرف، والحب، والصدق، ولكن لمن أعطيها؟ لمن؟ من ذا الذي يستحق؟
أنا! أنا أفكر في العطاء؟! أنا أفكر في الحب، والشرف، والصدق؟!
هل أنا؟ هل أنا أتغير؟ أتغير؟! كيف؟ متى؟ لماذا؟ آه! لقد تعبت ... تعبت من الكذب، من الخداع، من النفاق، من الكراهية. إني لأحن إلى الصدق، إلى الحب!
إنها تحبني، نعم تحبني؛ أرى في عينيها الصدق. الآن ... هذه اللحظة إنها تقترب مني، اقتربت، ولامست يدها يدي. شيء ما عنيف يدفعني نحوها، لكن شيئا آخر أكثر عنفا ينزع يدي من يدها. - لا، لن يحدث شيء. إني ذاهب! - لا تذهب؛ سأعطيك كل شيء! - لا أريد منك شيئا. - ولكنك كنت تريد. - كنت. - أنت كذاب. - نعم، أنا كذاب.
ونزعت نفسي من بين ذراعيها الدافئتين وجريت إلى الباب، يجب أن أهرب هذه اللحظة قبل أن تذوب إرادتي، يجب أن أهرب قبل أن أمسها.
وفتحت الباب وخرجت، وسرت في الشارع البارد.
ما هذا الذي فعلت؟ ألم أكن أريدها؟ ألم أكن أدبر الخطط لأنالها؟ ثم حين تواتيني اللحظة أزهد؟ ولكني أحسست بشيء جديد؛ شيء يشبه الصدق في عينيها، وشيء يشبه الصدق في أعماقي، كانت لحظة خاطفة كالبرق حملتني من الصدق إلى الحب إلى النبل، ومن النبل إلى الزهد.
ولكن لن أعود إليها أبدا، فأنا لا أستطيع أن أكون صادقا دائما، لا أستطيع أن أكون نبيلا دائما، لقد حملتني الحياة الشريرة بفطرتها في طريقها، وقطعت شوطا بعيدا عن الصدق، ولا أستطيع أن أعود أدراجي، لا أستطيع، لقد بعدت كثيرا عن البداية، واقتربت كثيرا من النهاية.
سأنساها ... بعد يوم، بعد سنة؛ ولكني سأنساها حتما في دوامة حياتي. ولكن شيئا واحدا لن أنساه، إنني رغم أنفي كنت قادرا على أن أعيش لحظة صدق كاملة ضحيت فيها برغبة عذبتني فترة طويلة.
نام الرجل بعد العشاء
نظر في وجوه الناس وهو جالس على كرسي مذهب عال يرتفع عن الأرض ارتفاعا جعل رءوس الناس في مستوى قدميه، وعجب كيف ينظر الناس إلى قدميه في احترام بالغ مع أنه نسي أن يلبس الحذاء.
كيف نسي أن يلبس حذاءه.
كان هذا السؤال الذي يجوب في أنحاء نفسه ويكاد يسلمه إلى نوع من الذهول يطغى على ذلك الحزن الشديد الذي كان يشعر به كلما نظر إلى قدميه الحافيتين، وهما تستندان قاعدة الكرسي الموشاة بالذهب.
وشعر بالعرق يتصبب من وجهه، رأى أصابع قدميه متسخة وأظافرها سوداء، وتعجب كيف نسي أن يلبس الحذاء قبل أن يخرج من بيته، مع أنه تعود على أن يلبسه كل يوم منذ خمسة وأربعين عاما، واشتد عجبه حين رأى الناس ينظرون إلى قدميه في احترام وإجلال.
وأخذت نظراته المتسائلة الذاهلة تنتقل في قلق من قدميه الحافيتين إلى وجوه الناس الخاشعة، محاولا أن يكتشف الحقيقة ويعرف من الأعمى؛ عيناه أم عيون الناس؟ لكنه لم يستطع؛ وكيف له وحده أن يعلم؟ لا بد من حكم، واستبدت به الرغبة في معرفة الحقيقة، فأشار بأصبعه الصغيرة إلى رئيس حاشيته، فانتفض الرجل للإشارة وترك مكانه على رأس الصفوف وأسرع إليه ومثل بين يديه راكعا.
وأشار في ترفع إلى قدميه، وقال بلهجة ملكية آمرة: انظر!
واهتزت عينا الرجل في خوف ونظر إلى قدميه، وقال في خشوع: نظرت يا مولاي!
فقال في غضب: انطق!
وارتجف صوت الرجل وهو يقول: ماذا تريد مني أن أقول يا مولاي؟
قال في ثورة: قل ما تراه عيناك!
وبربش الرجل بعينيه الفزعتين وقال: أرى صاحبتي السعادة قدميك يا مولاي.
وصاح في غضب شديد: هل أنت أعمى؟ ألا ترى شيئا غريبا بالنسبة لهما؟
وقال الرجل مرتعدا: غريبا؟
لا ... لا ... يا مولاي!
وأحس ببعض الارتياح، فهدأت أعصابه قليلا ثم قال له: هل يعجبك لون حذائي؟
وشعر الرجل ببعض الطمأنينة والثقة وقال في حماس: كيف لا يعجبني يا مولاي! إنه رائع، أكثر من رائع!
وابتسمت أسارير وجهه ثم قال له: اذهب! فذهب.
وجلس على كرسيه المذهب في كبرياء، لكنه عاد فرأى قدميه الحافيتين، فساوره الشك مرة أخرى.
كيف له أن يتأكد؟ لا بد من حكم آخر.
وأشار إلى رجل ثان من رجال حاشيته وسأله نفس الأسئلة، فأجاب نفس الإجابة، فسأل رجلا ثالثا ورابعا وخامسا حتى سأل كل رجال حاشيته، وكان جواب الجميع واحدا.
إلى هنا تبدد شكه، وأيقن أنه يلبس حذاءه، وأن نسيان الحذاء لم يكن إلا وهما صوره له خياله المرهق، وطاف إلى سطح ذاكرته ذات القلق الشديد الذي استولى عليه ليلة الأمس، فجعل خياله مرهقا، بالرغم من الفراش الوثير الدافئ، وبالرغم من مروحة ريش النعام الناعمة التي كانت ترفرف على وجهه طول الليل، تمسك بها أنامل دقيقة.
وكان من حين إلى حين يمد أصابعه في الظلام ويتحسس الجسد الحريري ويضمه إليه في قوة.
ويسمع الصوت الناعم وهو يقول: هل أدلك صاحبتي السعادة قدميك يا مولاي؟
فيقول وهو مغمض العينين في تراخ وكسل: نعم، نعم، دلكيهما يا امرأة.
وكان من الممكن أن تمر الليلة على خير كأية ليلة سابقة لولا أنه تذكرها ففتح عينيه، ونظر في وجه المرأة ثم صاح غاضبا: اذهبي أيتها الجارية! كفى!
ونادى على رئيس الحاشية في غضب شديد، وقال: أين هي؟
وارتجف الرجل في هلع وقال: لقد رفضت أن تأتي يا مولاي؟
وزمجر في غضب: رفضت؟! كيف هذا؟ ألم تقل إن هذه هي رغبة الملك؟
قال: نعم يا مولاي. ولكنها رفضت.
وصاح في ثورة: ألم تقل لها إنني أستطيع أن أستولي على بيتها وأطردها من مملكتي؟
قال: نعم يا مولاي. ولكنها رفضت.
وانفجر غاضبا: ألم تقل لها إنني أستطيع أن أرسل لها جنودي، فيجروها من شعرها ويسوقوها إلى المشنقة؟
قال: نعم يا مولاي. ولكنها رفضت.
وانتفض حانقا: كيف هذا؟ امرأة في أرضي تعصي أمري؟!
إني ذاهب إليها بنفسي، أعد لي الجواد.
قال: سمعا وطاعة يا مولاي.
امتطى الملك الجواد وسار في الطريق الطويل المظلم، ورأى باب البيت مغلقا، والنوافذ مسدودة، وأطل له البواب من فتحة صغيرة في الباب.
فقال له بلهجة ملكية آمرة: افتح! أنا الملك!
وفتح الرجل الباب وهو يرتعش، ونزل الملك من فوق الجواد وسار في ممر البيت المظلم حتى رأى بصيصا من نور يطل من إحدى الحجرات، واقترب متخفيا ورأى من خلال الباب المرأة الحسناء مستلقية على أريكة خضراء وإلى جوارها رجل! لا، في أحضانها رجل!
ووقف الملك مشدوها، واستطاع رغم ذهوله أن يتعرف على وجه الرجل، وعرف أنه رجل من الشعب.
وعاد الملك متخفيا إلى قصره كما جاء، وجمع الحاشية وقرر إعدام الرجل ومثول رأسه بين يديه على صينية من الذهب. وجاء رأس الرجل، ونظر إليه الملك متشفيا وقال له: أنت الذي كنت تقف في طريقي أيها الصعلوك!
وتمدد الملك في فراشه الوثير الدافئ وأمر بإحضار المرأة.
وجاء الرسول مرتجفا يقول: لقد رفضت يا مولاي!
وانتفض الملك واقفا في غضب وامتطى جواده، وذهب إليها، ورأى نفس البصيص من النور ينبعث من نفس الحجرة، ومن خلال الباب رأى المرأة الحسناء مستلقية على الأريكة الخضراء وفي أحضانها رجل!
فعاد كالمجنون وأمر برأس الرجل الثاني على صينية من الذهب، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس حتى نفدت صواني القصر.
ووضع الملك رأسه بين يديه حائرا، ثم أرسل في طلب أكبر حكماء البلد.
وجاء الحكيم ومثل بين يدي الملك، فحكى له الحكاية، وارتسمت على شفتي الحكيم بسمة أهل العلم والفلسفة، وقال: وهل جاءت المرأة إلى هنا يا مولاي ورأت قصرك وكنوزك وعرشك وحاشيتك وسطوتك؟
قال الملك: لا.
قال الحكيم: إنها لا تعرفك إذن أيها الملك، ولا تعرف كنوزك وقوتك وعظمتك.
قال الملك: وماذا ترى؟
قال الحكيم: أرى أن تدعوها إلى هنا لترى بعينيها؛ فيبهرها هذا الملك العظيم يا مولاي ولا تملك إلا أن تخضع لك.
وسعد الملك بهذا الرأي، وأمر بإقامة حفل كبير ودعاها إلى قصره.
وجلس الملك على كرسيه المذهب العالي، وطاف الحكيم بالمرأة يطلعها على كنوز الملك وقصوره وحاشيته وقوته، ثم ذهب بها إلى الملك.
وانتفخ الملك على عرشه الرفيع العالي الذي يرتفع عن الأرض ارتفاعا يجعل رءوس الناس في مستوى قدميه.
وقال لها: لماذا لم تطيعيني؟
ونظرت إليه في دهشة ولم ترد.
وصاح غاضبا: ما الذي يدهشك؟ لماذا لا تردين؟
وقالت في هدوء: يدهشني أن أرى قدمي الملك حافيتين!
وانتفض الملك فوق عرشه مذعورا.
وفتح عبد الإمام عينيه فرأى وسادته القذرة تحت رأسه، وسمع شخيرا إلى جواره، ورآها راقدة كالجثة الهامدة كما كان يراها كل ليلة منذ عشرين عاما.
ولكزها في كتفها وقال في غضب: ناوليني كوبا من الماء يا امرأة.
وزمجرت المرأة وهي تحلم، ثم واصلت شخيرها.
فلكزها مرة أخرى وصاح غاضبا: قومي يا امرأة واسقيني، كتم الله أنفاسك كما كتمت أنفاسي بعشائك الدسم!
وتقلبت المرأة في فراشها وزمجرت، ثم قامت تستند على عمود السرير الأسود وقالت لنفسها في ضجر: لماذا لا تسقي نفسك أيها البغل! وذهبت لتأتي له بالماء.
ليلى تتزوج
مسرحية من فصل واحد
الشخصيات
ليلى:
فتاة في السابعة والعشرين من عمرها، متوسطة الجمال رغم إسرافها الشديد في الزينة والمكياج، صحفية ناشئة، تستعد لحفل عقد قرانها.
ديدي:
خالة ليلى؛ امرأة في الأربعين، بدينة غير مثقفة، ولكنها ثرية تحاول أن تبدو «مودرن».
سهير:
فتاة في العشرين، طالبة بكلية الطب، ابنة ديدي، جميلة بالرغم من بساطتها.
محمود:
شاب في الرابعة والثلاثين، مهندس ناجح، خطيب ليلى.
المنظر (حجرة استقبال يبدو على أثاثها الفخامة والثراء دون البساطة في منزل ديدي. ليلى تقف في وسط الحجرة تلبس فستانا أبيض طويلا، وديدي تدور حولها تنظر إلى الفستان.)
ديدي :
جنان! يا ليلى جنان! ألم أقل لك إن هذه الخياطة ممتازة؟!
ليلى (في نشوة وهي تنظر إلى نفسها في المرآة) :
ذوقك يا تانت ديدي المدهش، هو أنت تعرفي حد إلا إذا كان ممتازا.
ليلى (تقبل نحو ديدي في امتنان) :
لا أدري كيف أشكرك يا تانت ديدي ...
تانت ديدي :
الآن انتهينا من الفستان، بقيت بطاقات الدعوة.
ليلى :
نعم، بقيت بطاقات الدعوة.
انظري يا تانت ديدي، لقد طبعت خمسين بطاقة. (ديدي تمسك بطاقة تتأملها قليلا.) (ليلى تفكر بعض الوقت، ثم تمسك ورقة وقلما وتكتب بعض الأسماء.)
ليلى :
أولا فيفي وزوجها. (ديدي تقترب منها وتجلس بجوارها.)
ديدي :
فيفي وزوجها؟ فما هما؟ أنت لم تذكري لي اسميهما من قبل أبدا.
ليلى :
إن فيفي امرأة أنيقة جدا، رأيتها مرة أخرى في الجريدة، وعرفني نائب رئيس التحرير عليها ودعوتها لتشرب القهوة في مكتبي، وجاءت وجلست معي أكثر من ربع ساعة.
ديدي :
وزوجها؟
ليلى :
سعاد هانم وزوجها طبعا.
ديدي :
طبعا. سعاد هانم سيدة مجتمع درجة أولى؛ إنها تعرف الفرنسية، وهي سكرتيرة جمعية إنقاذ المغلوب على أمرهم، ولكن هل تظنين أنها ستأتي؟
ليلى :
طبعا، إنها تعبد شيئا اسمه صحفي أو صحفية، وإلا فكيف تنشر أخبارا في الصحف؟ لقد كلمتها مرة في التليفون وكانت تكلمني بلهجة شديدة، ولما عرفتها أنني صحفية تغيرت لهجتها وكادت تأخذني بالحضن لولا التليفون.
ديدي :
وزوجها؟
ليلى :
لا، إن زوجها ليس شخصا مهما، ولكنه وسيم جدا، وسعاد هانم تسحبه معها كالكلب الأليف في كل مكان.
ديدي :
عال جدا. ومن أيضا؟
ليلى :
وعزمي وزوجته. إن عزمي هو محرر قسم الأخبار في الجريدة، وإن حضوره الحفل يضمن لنا أنه سينشر الخبر ثاني يوم في الجريدة.
ديدي :
عال جدا، تعجبني أفكارك يا ليلى، لقد ورثت الذكاء من خالتك ديدي. تصوري يا ليلى أنني أحس أنك تشبهينني أكثر من ابنتي سهير.
ليلى :
طبعا يا تانت، أصل سهير ورثت أباها.
ديدي :
على رأيك، لقد ورثت عمتها زكية من سوء حظي. تصوري يا ليلى بقى لي أكثر من عشرين سنة أحاول أن أرقي أسرة زوجي. لا فائدة، الفلاح يفضل طول عمره فلاح، إن التعليم لم يغير من طباع زوجي شيئا.
ليلى :
معلهش يا تانت ديدي. على العموم إن حظك أفضل من حظ أمي؛ إن زوجك رجل غني على الأقل.
ديدي :
غبية، طول عمرها غبية، مع إنها أكبر مني ثلاث سنوات. لا أدري كيف وافقت على أن تتزوج هذا الموظف الفقير. (ليلى تسكت قليلا وتشرد.)
ديدي (تربت على كتفها) :
لا تحزني يا ليلى، إني آسفة أن أقول ذلك على أبيك.
ليلى :
أبدا، أنا لا أفكر في ذلك، ولكني أفكر كيف أقدم أبي وأمي إلى خطيبي. إن وجهي يلتهب من الخجل كلما فكرت في ذلك، بل إنني لا أدري كيف سأقيم الحفل في شقتنا المتواضعة في تلك الحارة القذرة.
ديدي :
لا تحملي هما يا ليلى، إن بيتي تحت أمرك.
ليلى :
ولكنها مهما لبست فإنها لا تعرف كيف تتكلم، يا ليتك كنت أمي!
ليلى (تكلم نفسها) :
آه، لو كان الناس يختارون آباءهم وأمهاتهم. (يدق جرس التليفون.) (تجري ديدي إليه وترفع السماعة.)
ديدي :
ألو ... أهلا كاميليا ... ليلى موجودة ... حاضر أناديها. (تنادي على ليلى):
ليلى كلمي كاميليا.
ليلى (تأخذ السماعة في امتعاض) :
ألو ... الله يسلمك ... ها ها ها ... أبدا ... سمعت من مين؟ ... تقريبا ... إن شاء الله ... أيوه ... مع السلامة.
ديدي :
ما هي الحكاية؟ ألم تدعي كاميليا؟
ليلى :
طبعا لا، هل أنا مجنونة لأدعوها؟!
ديدي :
لماذا؟ إني أعرف أنها أعز صديقة لك ، لقد كنت لا أسمع منك إلا اسم كاميليا، وكنت تقضين معها الليل والنهار! هل حدث شيء؟
ليلى :
أبدا لم يحدث شيء، كانت كاميليا صديقتي صحيح، ولكن ذلك كان قبل الزواج، أما بعد الزواج فيجب علي أن أختار صديقات أخريات.
ديدي :
وصديقاتك القديمات؟
ليلى :
أختار منهن ما يناسب حياتي الجديدة.
ديدي :
وكاميليا، ألا تناسب حياتك الجديدة؟
ليلى :
لا.
ديدي :
لماذا؟
ليلى :
إن كاميليا غير متزوجة، وهذا يجعلها خطرة على حياتي. كما أنها جذابة، ولها عينان ساحرتان، زيادة على أنها ألمع مني في الصحافة واسمها معروف عن اسمي. لا، لا يمكن لزوجي أن يعرفها أو يراها، من يدري؟ ربما يعجب بها، بل هذا مؤكد.
ديدي :
أنت ذكية يا ليلى، هذا هو عين الحكمة والعقل. إن ابنتي سهير ليس لها نصف ذكائك مع أنها في كلية الطب.
ليلى :
الحياة شيء آخر غير الدراسة في الكليات، إنني أفهم الحياة لأنني عشت فيها وقاسيت منها الكثير، وأعرف مقالب الناس ولا أطمئن لأحد.
ديدي :
لك حق يا ليلى، وأظن أن كاميليا كانت تعرف كل أسرارك، وقصة حبك مع خالد. (ليلى تسكت قليلا ويظهر على وجهها الوجوم.)
ليلى :
طبعا، لم نكن نخفي شيئا عن بعض.
ديدي :
لا يا ليلى، اقطعي صلتك بها نهائيا.
ليلى :
هذا ما فعلته الآن.
ديدي :
كيف؟
ليلى :
لم أقل لها إنني سأتزوج، ولكنها فاجأتني وقالت إنها سمعت من بعض الزملاء في الجريدة أنني سأتزوج، وسألتني عما إذا كان العريس هو خالد، فقلت لها إنه هو.
ديدي :
كذبت عليها؟
ليلى :
نعم، كان لا بد أن أفعل ذلك.
ديدي :
ولكنها ستعرف الحقيقة غدا.
ليلى :
وماذا يهمني منها؟
ديدي :
ربما تحقد عليك لانقلابك عليها وتحاول أن تنتقم منك.
ليلى :
لا، إنك تعرفين كاميليا، إن قلبها طيب جدا، لا يمكن أن تحقد على أحد أو تفكر في الانتقام من أحد مهما أساء إليها، لقد كنت أستغل طيبتها الزائدة كثيرا.
ديدي :
إنها ليست طيبة؛ إنها غبية. إن الطيبة عندي هي الغباء سواء بسواء.
ليلى (تضحك) :
يعجبني ذكاؤك الشديد يا تانت ديدي.
ديدي :
والآن نكتب أسماء بقية المدعوين.
ليلى (تمسك الورقة) :
نعم. الأستاذ عزيز وزوجته.
ديدي :
من هو الأستاذ عزيز؟
ليلى :
إنه رئيس التحرير عندنا.
ديدي :
أوه! طبعا طبعا، هذا أول المدعوين، وكذلك كل الشخصيات البارزة عندكم في الجريدة وزوجاتهم.
ليلى :
طبعا وزوجاتهم، لن أدعو رجلا وحده، وإلا ظن محمود أنه كان صديقي قبل أن أتزوجه.
ديدي :
هذا حق، كوني حريصة جدا يا ليلى.
ليلى :
لا تخافي علي يا تانت ديدي. (تدخل سهير ابنة ديدي. تسلم على ليلى وتجلس وتنظر إلى الأوراق على المنضدة.)
سهير :
ما هذا؟
ديدي :
بطاقات دعوة فرح ليلى، عقبالك يا سهير.
سهير :
لا؛ أنت تعرفين يا أمي أن الزواج ليس هو أملي في الحياة، إن أملي هو أن أحصل على بكالوريوس الطب وأشتغل.
ديدي :
ثم تتزوجي؛ إن نهاية البنت هي الزواج، أليس كذلك يا ليلى؟
ليلى :
طبعا، البنت خلقت للزواج، أقسم لك يا تانت ديدي إنني كنت أجلس في مكتبي وأفكر طول الوقت في أنني بلغت السابعة والعشرين ولم يتقدم أحد للزواج مني.
وكنت كلما تصورت أنني سأبلغ الثلاثين دون أن أتزوج تدور رأسي وأحس بالإغماء.
سهير :
لا يا ليلى، لا تحكمي على الأمور من وجهة نظرك أنت.
ليلى :
إنني أتكلم الصراحة وأقول الحقيقة؛ لقد كنت أتمنى في كثير من الأحيان ألا أكون تعلمت واشتغلت، وإنما تزوجت وأنا في السادسة عشرة من عمري. تصوري، كان من الممكن أن يكون عندي طفل في الحادية عشرة من عمره الآن. تصوري!
ديدي :
هذا صحيح، إنكن تضيعن شبابكن وأجمل سني حياتكن في الدراسة والكليات.
سهير :
إنك لم تتعلمي يا ليلى بكل أسف؛ فالتعليم ليس أن تتخرجي من كلية الصحافة وتصبحي صحفية، إن التعليم هو أن تتخلصي من عقد المرأة الجاهلة القديمة التي كانت تعتقد أن لا حياة لها إلا في ظل الرجل.
ليلى :
وهل يمكن للمرأة أن تعيش بلا رجل؟
سهير :
نعم، يمكن للمرأة المثقفة العاملة أن تعيش بغير الرجل؛ أي إنها تستطيع أن تأكل وتشرب وتلبس وتسكن وتمارس الحياة بدون الرجل، وكانت لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا من خلال عرق الرجل وعمله، كان الرجل يطعمها فكان لا بد له أن يحكمها بأمره، أما إذا أطعمت نفسها فإنها تصبح مثله، تلتقي به حين تشاء راضية بدلا من أن تلتقي به حين يشاء هو مرغمة كارهة، وإذا أساء إليها تركته دون أن تخشى الجوع والعري.
ديدي :
والزواج، هل تستغني المرأة عن الزواج؟
سهير :
لا، أنا لا أقول ذلك، ولكنها تتزوج لأنها تريد أن تعيش مع رجل تحبه وتنجب منه أطفالا، ولا تتزوج لأنها تريد أن تأكل وتشرب وتلبس؛ إن الزواج في الحالة الأولى وسيلة لممارسة الحب الكامل، وفي الحالة الثانية غاية امرأة عاطلة تبحث عن عائل.
ليلى :
لقد كنت أقول هذا الكلام يا سهير حينما كنت طالبة في مثل سنك، ولكن بعد أن خبرت الحياة عامة والرجال خاصة، ومارست حريتي على أوسع نطاق، أقول لك إن الفتاة التي لا يكون الزواج غايتها تضل الطريق وتشقى كثيرا، ثم يأتي عليها يوم تتمنى فيه الرجل؛ أي رجل يقول لها أتزوجك.
أنا معك في أن المرأة يجب أن تتحرر من الرجل، ولكن كيف تتحرر وهو لا يريد أن يحررها؟ إن حياة المرأة في يد الرجل؛ زواجها، طلاقها، شرفها، عارها، كرامتها، كل شيء في يد الرجل وهو يعطيه للمرأة متى أراد. لنفرض أنك تخرجت في كلية الطب وأصبحت دكتورة مشهورة ناجحة، هل يمكنك أن تختاري زوجك؟
سهير :
نعم، ولماذا لا أختاره؟
ليلى :
لأنه لن يختارك. إن الرجل هو الذي يختار، وهو دائما لا يختار المرأة التي تختاره؛ إذن سيتركك الرجل الذي تريدينه، ولن تجدي أمامك إلا حلين؛ إما أن تجري خلفه وتهدري كرامتك ولا تفوزي به أيضا، وإما تنتظري الرجل الذي يختارك وترضي به كارهة، وهو نفس الوضع الذي كانت عليه المرأة قبل أن تتعلم وتعمل.
سهير :
إن هذا ضعف يا ليلى، ورثته المرأة من سني الذل والجهل والعبودية التي عاشتها، ويجب عليك أن تغيري أفكارك.
ليلى :
حاولت أن أغيرها كثيرا، لكن تلقيت صدمات كثيرة كادت تهلكني، وأخيرا سلمت بالواقع. إن مجتمعنا يا سهير لا زال ينظر إلى المرأة على أن مكانها وراء الرجل وليس إلى جواره.
ديدي :
وإن المرأة نفسها تحب من الرجل أن يكون أمامها.
سهير :
أوه! لا فائدة من المناقشة، إن الزمن وحده كفيل بتغيير نظرة المجتمع وعقلية كل من الرجل والمرأة.
ليلى :
وحتى تتغير عقلية الرجل والمرأة يجب أن نعيش في الواقع. (ليلى ساخرة):
سوف يتغير رأيك بعد سنوات قليلة.
سهير :
لا.
ليلى :
لا لا.
ديدي :
إن رأسها ناشف كرأس أبيها تماما. (يدخل في هذه اللحظة محمود خطيب ليلى.)
ديدي :
أهلا محمود بك. اتفضل، أهلا وسهلا.
ليلى :
أهلا محمود. (محمود يصافح ليلى وديدي وسهير.)
محمود :
أهلا بكم. كيف حالك يا ليلى؟
ليلى :
الحمد لله. كيف أنت؟
محمود :
الحمد لله.
ديدي :
فاتتك مناقشة طريفة جدا عن الرجل والمرأة.
سهير :
فكرة جميلة! لماذا لا نأخذ رأي الأستاذ محمود بصفته رجلا؟
محمود (ضاحكا) :
إنني سأتعصب للرجل طبعا.
سهير :
لا أعتقد ذلك. الآن ما هو رأيكم: هل الزواج بالنسبة للمرأة وسيلة أم غاية؟
محمود :
إن المرأة هي التي تجيب على هذا السؤال، لكني أستطيع أن أحكم من تجاربي في الحياة أن المرأة مهما تعلمت فإن غايتها الزواج، إنها تفكر في الزواج قبل الحب.
ليلى :
لأن الرجل لا يمنحها حقا في الحب؛ إنه لا يعترف ولا يحترم أي عاطفة تربطه بالمرأة ليست هي الزواج.
محمود :
ولماذا لا تأخذ هي حقها في الحب بيدها؟ لماذا تنتظر من الرجل أن يمنحها أو يعترف أو لا يعترف؟
سهير :
هذا صحيح؛ إن المرأة يجب أن تأخذ حقها بنفسها. إن الرجل لا يملك حق الإعطاء أو المنع.
ليلى :
الرجل هو القاضي وهو الحاكم وهو المشرع وهو صاحب الحق، وهو المشرف على التنفيذ؛ إن مجتمعنا مجتمع رجالي مائة في المائة.
سهير :
كان ذلك في القديم الغابر.
ليلى :
ولا زال حتى الآن؛ إن علاقة الرجل بالمرأة لا زالت تربطها القوانين القديمة التي كانت قائمة منذ مئات السنين.
محمود :
إذا كان ذلك صحيحا، فإنني ألوم المرأة مهما تعلمت، فإنها تحن دائما إلى العبودية، إلى أن يكون الرجل سيدها وحاميها.
ليلى :
هذه هي طبيعة الأنثى يا محمود، لا يمكن أن ننكر الطبيعة.
سهير :
لا ليست الطبيعة، إنها مسألة عادة؛ لقد تعودت المرأة أن تجد لذتها في الضعف والذل، وتعود الرجل أن يجد لذته في البطش والسيطرة.
محمود :
إذا غيرت المرأة عادتها فإن الرجل لا يجد مفرا من تغيير عادته.
ليلى :
إن المرأة لا تستطيع أن تغير عادتها.
سهير :
بل تستطيع.
محمود :
هذا يتوقف على المرأة إذا كانت قوية أم ضعيفة.
سهير :
المرأة القوية تستطيع.
ليلى :
إن المرأة تبدأ قوية، فإذا ما دخلت التجربة خرجت ضعيفة. إن الواقع كفيل بإضعاف أي امرأة متحمسة للتغيير.
سهير :
ليس هذا صحيحا.
ليلى :
أنت لا تستطيعين أن تحكمي يا سهير؛ إنك لم تدخلي التجربة بعد.
محمود :
وهل أنت دخلت التجربة يا ليلى؟ (ليلى تفكر لحظة ثم تتظاهر بالبراءة الشديدة.)
ليلى :
طبعا لا. (ليلى توافق في بساطة.)
فعلا، أنا لا أستطيع أن أحكم. (محمود ينظر إليها متشككا.)
سهير :
نفرض أنها دخلت التجربة، هل هذا يضايقك؟ (محمود يفكر وينظر إلى ليلى. ليلى تنظر بعيدا عنه.)
محمود (في ارتباك) :
لا، لا يضايقني. (سهير تشعر أنه يكذب، وليلى تفهم أنه يكذب، لكنها تتظاهر بتصديقه.) (تمر لحظة سكون طويلة.)
سهير :
أنت لا تقول الحقيقة.
ليلى :
لا، إنه يقول الحقيقة. أرجوك يا سهير، دعينا من هذه السفسطة التي تضيع الوقت. (سهير تغيب في تفكير عميق.)
ديدي :
انظر يا محمود بك، هل رأيت بطاقات الدعوة؟
ما رأيك؟
محمود :
جميلة جدا. وما هذه الأسماء؟ المدعوون؟ (محمود يتأمل الورقة التي بها الأسماء بعض الوقت.)
ديدي :
إن صديقات وأصدقاء ليلى جميعهم من الشخصيات البارزة. (محمود يواصل قراءة الأسماء بينه وبين نفسه.)
محمود :
ولكن أين اسم كاميليا؟
ليلى (في دهشة) :
كاميليا؟ هل تعرفها؟
محمود :
لا، عرفتها اليوم فقط.
ليلى (في فزع) :
اليوم؟ أين؟ متى؟
محمود :
مررت اليوم على مكتبك بالجريدة، وكنت أظن أنك هناك، ولكني قابلت زميلة لك تدعى كاميليا.
ليلى :
وماذا قالت لك؟
محمود :
لا شيء. عندما سألتها عنك رحبت بي وطلبت لي فنجانا من القهوة، وقالت إنها صديقتك الحميمة.
ديدي :
إنها تدعي ذلك؛ إنها ليست صديقة ليلى، إنها زميلتها في العمل فقط.
سهير :
ماذا تقولين يا أمي؟
ليلى :
كانت صديقتي في يوم من الأيام، ولكن أخلاقها لم تعجبني ف ...
سهير :
ماذا؟ إنني أسمع هذا الكلام لأول مرة.
ديدي :
اسكتي أنت يا سهير، أنت لا تعرفين شيئا، اذهبي إلى حجرتك وراجعي دروسك؛ لقد ضيعت وقتا طويلا. (سهير تخرج وقد بدا عليها الغضب والدهشة.) (محمود يطرق إلى الأرض في تفكير عميق.)
ديدي :
قم يا محمود بك، قم لا بد أنك جائع. هيا بنا نتناول الغذاء، هيا يا ليلى، دعكما من هذا الكلام الفارغ.
ليلى :
ماذا عندك يا تانت ديدي؟
ديدي :
أرانب بالملوخية مدهشة. تفضل يا محمود بك. (تقترب من محمود وتأخذه من يده. تخرج ديدي ومعها محمود.) (ليلى تبقى وحدها وتضع رأسها على يدها في أسى وتفكير. تدخل سهير.)
سهير :
أنا لا أفهم شيئا.
ليلى (ترفع رأسها وتقول في شدة) :
لا داعي لأن تفهمي شيئا، ولكن اعلمي أنك مخطئة! وسوف تعرفين ذلك بعد عشر سنوات حين تصبحين في مثل سني.
سهير :
لقد كنت أظن أن السنوات التي ستضاف إلى عمري تزيد من قوتي دائما.
ليلى :
بالعكس، تزيد من ضعفك وخوفك واحتياجك إلى الرجل. إن المرأة في الثلاثين أضعف منها في العشرين.
سهير :
لا، لا يا ليلى، إن رغبتك في الزواج تعميك عن حقائق كثيرة.
ليلى :
إن المجتمع يا سهير لا يعترف بالمرأة وحدها أبدا، إنه يسأل دائما لماذا لم تتزوج؟
سهير (في ثورة) :
المجتمع! إني لا أعترف بهذا المجتمع!
ليلى (تضحك) :
ها ها ها ها (تقوم وتمسك سهير من يدها) .
هيا بنا، هيا بنا يا سهير نأكل الأرانب بالملوخية.
لقد سبقنا محمود وتانت ديدي. هيا.
سهير (تقف وتقول في حماس) :
لن أتغير يا ليلى. لن أتغير!
ليلى :
لا داعي لأن نتكلم عما سيأتي، لا أحد يعلم الغيب، ولكني الآن سأتزوج محمود، يجب أن أتزوجه، ويجب أن أحافظ عليه؛ لقد قاربت على الثلاثين ولا أستطيع أن أعيش بلا رجل، هل فهمت؟
سهير :
وهل معنى ذلك أن تكذبي عليه وعلى نفسك؟
ليلى :
إن الحقيقة في حياة المرأة هي أخطر شيء على حياتها. إن المرأة الصادقة هي أتعس امرأة في حياتها، ولا يمكن لها أن تعيش مع رجل.
سهير :
كيف هذا؟
ليلى :
إن الرجل يفضل أن يصدق أكاذيب المرأة وهو يعلم أنها أكاذيب عن أن يسمعها تقول الحقيقة. (سهير تفكر في شرود.)
سهير :
إن المشكلة مشكلة الرجل.
ليلى :
لقد فهمت أخيرا ... أخيرا! (ديدي تدخل مندفعة.)
ديدي :
ليلى، سهير، أتجلسان هنا وحدكما ومحمود بك ينتظركما على المائدة؟ هيا هيا، الملوخية ستبرد. (يخرج الجميع.) (ستار)
نادية ... لم أستطع!
فرك جفنيه وتثاءب وتمطى، وشعر بارتخاء يسري في روحه وجسده؛ الارتخاء اللذيذ الذي يحدث في اللحظة العجيبة التي تتأرجح بين غيبوبة النوم ويكون العقل الواعي لم يستيقظ بعد ... من كلا الزمان والمكان، الضائعة من كلا الوعي واللاوعي. وشعر أنه تحرر من العقلين معا، وتخلص وجدانه من ثقلهما فأحس أنه خفيف كالريشة، شفاف كالبلور.
وانفرجت شفتاه عن متعة غير محدودة لتنزلق من بينهما حروف متماسكة كحبات اللؤلؤ، وكاد يهتف: نادية. لولا أن إحساسا غريبا تسرب إلى أنفه ومسام جسده مع رائحة الجدران الجديدة والعطر والفراش الجديد، فانزلقت اللحظة الناعمة لتسقط من الوجود والتصقت الحروف اللؤلؤية بحلق فمه، وشعر بالحقيقة المرة تخترق منافذ جسده وروحه مع الصوت الممطوط يقول: الفطور جاهز يا ...
وفتح عينه، ورفع ذراعيه يتحسس السرير، وأمسك اللحاف الأطلس بيده، وضغط عليه ليتأكد من الحقيقة، وأمسك ساقه وقرص فخذه بأصابعه ليستوثق من أنه هو نفسه بشحمه ولحمه وليس أحدا سواه. وسمعها تردد بصوتها الممطوط: «الفطور جاهز يا ...» وتقلصت عضلات وجهه في ابتسامة تشبه التكشيرة. لماذا لا تناديه باسمه؟ لعلها مثله؛ على طرف لسانها حروف اسم آخر لا تقوى على الانزلاق من بين شفتيها، أو لعله الخجل أو الحياء. ولكن أيمكن أن يصفها بشيء من هذا القبيل بعد ما شهده منها في الليل؟
وتثاءب وتمطى وهو يقول: متشكر يا ... وحاول أن ينطق اسمها ويقول «يا علية»، ولكنه لم يستطعه، فإن عقليه معا الواعي والباطن لم يتعودا أن يجمعا في رأسه سوى حروف نادية، ولسانه لم يألف إلا اسم نادية ملتصقا بطرفه ... إلى رأسه، وأسماء وأسماء مرت بلسانه دون أن تتعلق بطرفه أو تلتصق.
وشعر بيد عروسه الرقيقة تلمس كتفه وصوتها الممطوط الناعم يردد: الفطور جاهز يا ... وفتح عينيه على آخرهما تفضح منابت شعر كثيف اقتلع من جذوره حديثا، وابتسم ابتسامة بليدة تشبه التثاؤب وقال: متشكر يا ... وجند كل خلايا عقله وكل عضلات لسانه ليقول: «يا علية، يا علية»، ولكنه لم يستطع.
ورآها وهي تتلوى أمامه في ثوب شفاف، فشعر بغثيان خفيف يشبه الغثيان الذي شعر به في أول شبابه، حين خلعت المومس ملابسها في اللحظة التي وضع فيها قدمه على باب حجرتها؛ ذلك الغثيان الذي جعل رجولته كلها تتسرب من روحه وجسده، وتتركه شيئا عاجزا هامدا كأنما فارقته الحياة.
وتأمل عروسه وهي تتبختر أمامه شبه عارية، وتساءل: أيمكن أن تكون هي نفسها الفتاة البريئة الساذجة التي أرخت جفنيها في حياء وخفر منذ يومين اثنين وهي تقدم صينية القهوة في بيت أبيها؟ أيمكن لمثل هذه الفتاة أن تخلع ملابسها بهذا الشكل أمام رجل غريب بلا معرفة وبلا تفاهم؟ وما الفرق بينها وبين المرأة المومس؟ كلتاهما خلعت ملابسها أمام رجل غريب من أجل ورقة صغيرة، المومس ورقتها تدفع فورا، والزوجة ورقتها تدفع مؤخرا، ولكل امرأة ثمن؛ غال أو رخيص، يدفع مقدما أو مؤخرا. ولكن نادية؛ نادية الوحيدة التي لم يعرف ثمنها، لم تكن لها مطالب تشبه مطالب النساء، كانت تشمئز من الهدايا، وكانت تحتقر الفساتين وحلي النساء، ولم تكن تنظر إلى الذهب أو الورق باحترام.
ورأى زوجته وهي تحوط ذراعيها برأسه، ووصل إلى أنفه رائحة عطرها النفاذ مختلطا برائحة جسمها وروحها، فشعر بالغرابة تحوطه من كل جانب، لكنه حوطها بذراعيه في اطمئنان، فهو يعرف ما يرضيها ويستطيع أن يرضيها دائما دون خوف أو قلق. وشعر بها وهي تنزلق كقطعة الصابون الناعمة إلى جواره، وسرى دفء جسدها إلى كيانه، جسم المرأة يثيره ويرضيه، ولكن نادية كانت تزلزل كيانه، ترج روحه وجسده، فينتفض انتفاضة عنيفة تخلع عنه غروره الأكبر.
لم يكن استسلام المرأة الكامل يرضيه بمثل ما كان يرضيه منها تلك اللمعة العنيفة الصادقة التي تتألق في روحها حين يلتقي معها في فكرة أو إحساس، لحظة عجيبة يشعر معها أنه استطاع أن يرضيها هي بالذات؛ قلبا وعقلا وجسدا، ولو للحظة قصيرة. هي نادية، التي كان يشعر من حيث لا يفهم أن شيئا ما لا يمكن أن يرضيها.
ولكن أي شعور بالقلق يدفعه من أجل هذه اللحظة القصيرة؟
أن يستطيع أن يرضيها، كان في حد ذاته شيئا كبيرا، أكبر من غروره، وأكبر من ثقته بنفسه ورجولته، بل أكبر من طموحه في عمله الذي كان ينسى في غماره أي إنسان. ولكن أي ثمن باهظ ثمنها؟! كيف يأتي لها بفكرة جديدة كل مرة؟! وكيف يأتي لها بإحساس جديد كل لقاء؟! أي شعور بالخوف ... الخوف من الفشل في إرضائها؟!
وسمع صوت زوجته الممطوط الناعم يقول: أنت عاوز تنام يا ... وتمطى في كسل وهو يقول: أيوه يا ... وحوطها بذراعيه، فانكمشت كالقطة الصغيرة بينهما، وانفتحت عدسة مخه على عيني نادية العميقتين تتطلعان إليه في تساؤل: تتركني وتتزوجها؟ ودفن رأسه في صدر زوجته هاربا من العينين العسليتين، واختنق قلبه بكلمات أوشكت أن تنزلق من بين شفتيه: نادية ... لم أستطع!
صفحه نامشخص