الباب الأول: حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
رجال الزورق
لصوص الماء
أين أصبحت لادياس؟
الملك بوليقراط
حياة ثم موت ثم بعث
في طلب الأميرة
ساكن الصخرة
حماس في الصخرة
كيف انتبهت لادياس
بوليقراط والدهر
قرية الوحش الهائل
زفاف لادياس لبهرام
الباب الثاني: الحوادث في مصر
نظرة تاريخية
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
أين اللوح؟
اتفاق غريب
كلكاس في مصر
توفر الشروط
الباب الأول: حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
رجال الزورق
لصوص الماء
أين أصبحت لادياس؟
الملك بوليقراط
حياة ثم موت ثم بعث
في طلب الأميرة
ساكن الصخرة
حماس في الصخرة
كيف انتبهت لادياس
بوليقراط والدهر
قرية الوحش الهائل
زفاف لادياس لبهرام
الباب الثاني: الحوادث في مصر
نظرة تاريخية
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
أين اللوح؟
اتفاق غريب
كلكاس في مصر
توفر الشروط
لادياس
لادياس
تأليف
أحمد شوقي
الباب الأول
حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
فلك الممالك أنت فيه ذكاء
يا ملكة في ظلها الأمراء
خلع الجمال عليك حلة عزه
وكستك ثوب جلالها النعماء
يا زينة اليونان أنت لأفقها
نجم وأنت لنجمها أضواء
حواء أمك أم كل مليحة
لكن مثلك لم تلد حواء
كانت «لادياس» بنت الملك «بوليقراط» صاحب «ساموس» إحدى ممالك اليونان في غابر الزمان، تتمشى في طريق نزهتها على البحر تحت الأزين الأنضر، من ألفاف الشجر الأخضر، وعند رمل أزهر، كأنه دينار واحد أصفر، والبحر فيما يلي، ينجلي ما ينجلي، وللريح نقر في صفحات الماء، كنقر الغزال في الحصباء، وقد قابل الأصيل مرآتي البحر والفضاء، فسالتا بنضاره الموهوم وسالت العوالم والأشياء.
وكانت لادياس فتنة الناس، بالبدر الطالع في الغصن المياس، لا من طينة البشر، ولا من أديم الشمس والقمر، ولكن صورة آية في الصور، فوق مبلغ الخواطر ومنال الفكر، وكانت لابسة حلة بيضاء، هي فيها حرير تحت حرير وضياء في ضياء، وعليها من عاطر الورق وبديع الزهر، في الرأس وفوق النحر، ومكان المنطقة من الخصر، ما يتجمع منه باقة زاهرة، لادياس فيها الزهرة النادرة، وقد اتحدت بهذه الحلة الباهرة، حتى تشابه المجموع وتشاكل الأمر، فكأنما زهر ولا لادياس، وكأنما لادياس ولا زهر.
وكان يساير الأميرة في نزهتها القصيرة، أتراب لها كريمات عليها، وقرينات من أحب الناس إليها، ربين معها في الصغر، ودمن على لزامها في الكبر، فكانت تحادثهن لاهية ناعمة، وهي تقول: ماذا تقلن يا صاحبات لادياس في شروط القران؟
فسألتها إحداهن بسرعة: قران من يا مولاتي؟
فأجابت الأميرة مازحة: قراني لا قرانك يا فاجرة. - وأي شروط يا مولاتي إلا أن يخطبك حبيبك، ويحبك خطيبك. - صدقت، لكن هذا يجوز على بعض بنات الناس، ولا يجوز على بنت الملك، إني أراك تجهلين الأمر، ولا تدرين ما يجري من الأحوال في القصر، فاعلمي أنه لا يكون من زواجي إلا ما أرضى أنا ويأذن الملك وتصادق المملكة بعد ذلك عليه، فأنا أقترح أن يكون المتعرض لخطبتي، الراغب في صحبتي، فتى بين العشرين إلى الثلاثين، فائق النظراء والأمثال في الشجاعة والحكمة والجمال، والملك يشترط أن يكون صهره ملكا، سواء نال الملك بكده وجده، أو توارثه عن أبيه بعد جده، والمملكة تريد أن يرفع بعلي لآلهة اليونان أربعين هيكلا مشيدة البنيان، في البلاد التي له فيها الملك والسلطان.
فلعب هذا الجواب برأس الفتاة، وساء موقعا عند سائر البنات، فصحن جمعاء قائلات: حقا، إن هذه لهي الثلاثة المستحيلات، فإن صح ما تقول الأميرة فلا هي متزوجة ولا نحن متزوجات.
فقالت لادياس وقد أضحكها غضب أترابها: وهل تكرهن أن تأخذن من حالاتي بنصيب، فإن تزوجت تزوجتن، وإلا عشتن أبكارا ما عشتن.
فسألتها فتاة: وكيف الطريقة يا مولاتي في معرفة من يفوق النظراء والأمثال، في الشجاعة والحكمة والجمال، أترجعون في ذلك إلى امتحان، أم عندكم أن الشهرة تغني الإنسان؟ - بل إلى الامتحان؛ حيث يكرم المرء أو يهان، فأما الشجاعة والحكمة فينظر الملك فيهما، ويختار لي من يستوفيهما، وأما الجمال فيعرض على عيني وقلبي، فلا يختاران منه إلا ما يصبي.
قالت: سبحان المنعم وجلت أيادي السماء ! فلو لم تكن مولاتي أسعد النساء وأنعم بنات حواء، لما أتيح لها أن تتزوج من الرجال من تشاء، بل عندي أن جميع ما سبق من إحسان السعادة إليك في كفة من ميزان، وهذه المنة بمفردها في الكفة ذات الرجحان، ولكن هل اقتصرتم يا مولاتي على شبان أبناء الديار، أو بلغتم ذلك إلى غيرهم من بني الممالك والأمصار؟
قالت: بل إن الملك بعث منشورا بذلك إلى أمراء الجوار، وإلى فرعون وكسرى وصاحب الهند، ملوك الوقت الثلاثة الكبار، وعما قريب تتوافد المراكب، حاملة الملوك والأمراء من الأجانب، مقلة الشجعان متقاطرين من كل جانب، وحينئذ ينظر فيمن يليق، ولا يفوز بي إلا الجدير الخليق.
قالت فتاة: إن جماعة القصر يا مولاتي يتساءلون عن نبأ عظيم، وأمر يقع الآن جسيم، إلا أنهم يذهبون في التكتم على خط مستقيم، كأنما يتجاهلون أو كأن ليس منهم رجل عليم.
قالت: وعم يتساءلون؟ - عن أمر أولئك القوم، الذين يقبض عليهم في كل يوم، ويزجون في السجن؛ سجن القصر، حتى كأن هناك عصيانا يتلافى الملك وقوعه، أو حزبا خفيا هو يحل نظامه ويفكك مجموعه.
قالت: لا عصيان ولا حزب مع ملك حكيم عادل مثل أبي، ولكن ربما كان للملك في ذلك مراد، لم يطلع عليه أحدا من العباد. - حسبت يا مولاتي أن للأمر علاقة بالأمير ابن عمك.
فأجابتها لادياس مغضبة محتدة: لا تقولي الأمير، وقولي الشقي النذل الحقير، وماذا بقي من أمر هذا الخائن الغدار، مما يشغل بال الملك من جهته أو يهمه إلى هذا المقدار، فهو قد كفاني شره حتى لأنا أتمثله من مكاني هذا سوقة ضائعا في مدينة من مدن اليونان، يمد يد السؤال إلى كل إنسان.
وما زال حديث الزواج يسرق البنات، خطواتهن والأوقات، حتى نبههن هجوم المساء، واشتمال الوجود بحلته السوداء، حدادا على الشمس الغريقة في الماء، وعندئذ ارتجلت الأميرة حركة إلى الوراء كالراغبة في الانثناء، فعارضتها الفتاة قائلة: إن وقت الرواح لم يجئ بعد يا مولاتي ونحن قد صرنا من حدبة البحر؛ بحيث تراها أعيننا وهي الغابة العجيبة الشأن، التي لم نرها إلى الآن، فماذا علينا لو مددنا لأرجلنا الخطى، فجئناها فتمتعنا منها بنظرة، ثم نعطي الرجوع من السرعة ما تأخذ منا زيارتها من الوقت؟
فصادفت هذه الدعوة أسرع ملب من طيش البنات، فما زلن بالأميرة يؤيدن عندها هذا الاقتراح، ويذهبن كل مذهب من الإلحاح، حتى أذعنت فسار هذا الملأ الكريم من الملاح، وما هي إلا ساعة مسير بحساب تلك الخطى الخفيفة، وهاتيك الأقدام الناعمة اللطيفة، حتى انفتحت حدبة البحر للبنات، فدخلنها بسلام آمنات، وهي غابة كثيفة متسعة، محدبة كاسمها مرتفعة، وليس فيها ما يبعث العجب، سوى شكلها المائل إلى الحدب، وكانت من أماكن الأمان والاطمئنان، التي لا يخاف من وجودها على إنسان، فلبث الفتيات فيها برهة من الزمان، في لهو ولعب واغتباط وامتنان، فلندعهن وما هن فيه الآن، ولنخض في شان غير هذا الشان.
رجال الزورق
كان في ساموس جانب من الجزيرة مهجور، بعيد عما حوله من المعمور، وكانت فيه كتلة من الصخر هائلة، منحنية على البحر مائلة، وهذه الكتلة فيها غار، سحيق القرار، وكان الأهالي يسيئون به الظنون، ويخلقون في أمره ما يخلقون، ففريق يزعم أنه مكامن الأشقياء، أشقياء الماء، وفريق يحسبه مبيتا لسبع جهنمي من سباع السماء، وعلى كل حال فقد طال ما تهيبوه، وحرمتهم الأوهام أن يقربوه.
ففي ذات يوم أقبل زورق فجرا من طراز زوارق الإمارة، أو هو واحد منها وعليه كما عليها الشارة؛ فرسا هنالك متواريا في الحجارة، ثم صدرت منه بالبوق إشارة.
فأشرف إنسان من الغار ينظر، فخاطبه رجل من الزورق قائلا: خذ ثوبك يا بيروس فالبسه كما لبسنا نحن ثيابنا، ثم إنه شد الثوب بحبل أرسل من الغار فرفعه بيروس إليه، ولم يكن إلا كلمح البصر، حتى ترك بيته وانحدر بكل سرعة وحذر، كما تنزل القردة من أعالي الشجر، فتلقاه أصحابه وفسحوا له فركب فجلس ثم حول الجميع المجاذيف إلى الطريق التي رسموا للزورق أن يسير فيها؛ فاندفع بهم ينساب، في بحر راقد العباب، مأمون المركب على الركاب، وكانوا سبعة رجالا، عراضا طوالا، بهما أبطالا كلهم قد غير شعاره، ولبس للحالة حليتها المستعارة، حتى صار رئيسهم يقول هذا من زوارق الملك وهؤلاء من البحارة.
فلما جد بهم المضي مع الماء، واحتجب بهم الزورق إلا عن العين التي في السماء. قال أحدهم: ألا تعلمون يا إخوان، ما يجري الآن، في مياه اليونان؟
قالوا: بلى، فخبرنا أنت بالخبر، ولا تطل كعادتك، فليس ذا وقت الهذي والهذر، ولا مقام الحكايات والسير التي تصيرها مملوءة بكثرة الأمثال والعبر.
قال: علمت يا إخوان، واللبيب يعلم، ومن لا يستفهم لا يفهم، أن بوليقراط ذاك الطاغية، السياسي الداهية، يعمل الآن عملا يحتذي فيه مثال كثيرين من ملوك اليونان الغابرين، الذين خالفوا الشرف والإباء، وحالفوا لصوص الماء، فاستراحوا وأراحوا الرعية من أذى هؤلاء الأشقياء، وإنها وأيم الحق لمقدرة من بوليقراط القادر، وآية من آيات دهائه النادر، بل ما بال سائر الملوك، لا يسلكون مثل هذا السلوك، فيحتالون ليتخذوا لصوص البحر قوة، مأمولة النفع بعد الضر مرجوة.
قال البحارة: ما لنا يا كلكاس ولتواريخ الأولين والآخرين، وانتقاد أفعال الملوك الحاضرين منهم والغابرين، ألم ندعك لتوجز وتبين؟
قال: إذن، فخذوا الخبر، واسمعوا القول المختصر، إن بوليقراط يعمل الآن، عملا من الحكمة بمكان، سوف يكون له شأن، ويبقى ذكره على ممر الأزمان.
قالوا: وماذا تراه يعمل؟ فهذا الذي نريد أن نعرفه ولا نريد أن نعرف غيره.
قال كلكاس وقد أغضبه مقاطعة أصحابه: إن كان ولا بد من الاختصار، المذهب لطلاوة الأخبار، فإني أنقل إليكم الخبر على علاته، وأدع لعقولكم السخيفة على مفصلاته، سمعت من صاحب أثق به، ولا شك في عقله وأدبه، أن مياه اليونان، يجري فيها أمور الآن، لا يعلم بها إلا الملك وزعيم الأشقياء أورستان.
قال البحارة: أهذا كل الخبر يا كلكاس؟ - نعم، وإنه لو تعلمون لعظيم، ولكني عهدتكم منذ صحبتكم تحتقرون الأمر الجليل، وتسخرون من كل قال وقيل، وهذا لعمري منتهى السفه. - وأية فلسفة تريد أيها المهووس أن نستنبط من روايتك التي لا تقبل الزيادة، ولا تشير إلى وقوع حادثة فوق العادة.
قال وما يدريكم يا أغبى الناس، أن يكون لفعل الملك هذا مساس، بنا أو بعروس اليونان لادياس.
فقال بيروس: أما بنا فلا؛ لأنني أعلم علم اليقين، أن الملك أمسك عن مطاردتي من نحو ثلاث سنين، أي بعد أن اضطرني إلى الاحتفاء، وصيرني في زعم ميت الأحياء، العاجز عن كل عداء، وأما كون الحادثة قد تكون واقعة من أجل لادياس، فهذا يكذبه كتاب عنها، حديث العهد بخط أقرب الناس إليها.
وبينما القوم في هذا الذي نصفهم عليه يسخرون من كلكاس، وكلكاس يسخر منهم إذا بفلك أربعة، خفاقة الأشرعة، قد ملكت جهات الزورق، حتى كاد من شدة ضغطها يغرق، ثم وقفت وأطل من أحدها رجل فصاح يقول: ومن القوم، ومن أين وإلى أين؟
فوقع البحارة من أمرهم في معيص، ولم يجدوا لأنفسهم من الغرق من محيص إلا كلكاس، فإنه لم يمهل الرجل ريثما يستتم، بل وثب من مكانه وقال: نحن بحارة الملك أيها الرجل، ولولا أنك تغالط عقلك لكان الزي وحده ذلك، والآن فمن أنت حتى تسيء الأدب على هذه الشارة، وتهاجم الزورق وتستبيح حصاره، كأنك لا ترجو وقارا، لزوارق الإمارة، وحتى تقف لبحارة الملك في الطريق، وهم في الخدمة الشريفة التي لا يليق أن يعتريهم فيها تعويق؛ أليس هذا انتهاكا لحرمة الملك وعقوقا، وخروجا من واجب الطاعة ومروقا، ألا تقضي القوانين بالقتل، على مرتكب مثل هذا الفعل، فيا قوم ما أسماؤكم، وإلى من انتماؤكم، حتى نرفع ضدكم الشكوى، ونقيم عليكم - حال وصولنا - الدعوى؟
وكان أصحاب كلكاس حوله لسانا واحدا يدعوه ليختصر في قوله وهو لا يريد الإجابة، ولا يزيد إلا إهذارا في الخطابة، حتى قام في اعتقاد المهاجمين، أن رجال الزورق حقيقة من البحارة التابعين فحولوا عنهم المراكب للحين، ومضوا لسبيلهم تاركين كلكاس يهذي وحده كالخاطب في الناس ولا ناس، حتى أسكته أصحابه فسكت ثم التفت فقال: إن مع العي لغبنا، وإن من السكوت لجبنا، أعلمتم بعد مكاني، أرأيتم كيف نفعتكم فلسفتي وأغنى عنكم بياني!
قالوا: وهل جهلنا مقدرتك وإمكانك، حتى تعرفنا يا كلكاس مكانك؟ إنك لأعظمنا إقداما وبسالة، وأفصحنا منطقا ومقالة، وأصلحنا لبوسا لكل حالة، أليس هذا الزي نفع من مواليد رأيك المتبع، وتدبير فكرك الذي يسع من الحيل ما يسع؟
ثم إن الزورق استمر سائرا دائبا على بغيته، رائدا حتى ذهب معظم النهار، وتحفزت الشمس لتحتجب عن الأبصار، فالتفت بيروس عندئذ إلى أصحابه، وقال: لم يبق يا إخوان إلا أن ننحدر جهة الشاطئ فنسير بحيث نحاذيه.
قالوا: أوتدري أننا دنونا بعد؟
قال: نعم؟
قالوا: إذن، فإنا فاعلون!
ثم وجهوا السواعد بالمجاذيف جهة البر وظلوا يتقدمون، وبيروس يرشدهم أين يتوجهون، وقد غلب الغرام الفتى على أمره، وحل الإلمام عقدة صبره، فأجرى من الدمع ما لم يزد أصحابه علما بسره، واندفع ينشد من أعماق صدره:
يا ابنة العم رويدا
كدت للمفتون كيدا
أنت للعين سواد
أنت للقلب سويدا
كان لي في الدهر تاج
صار ذاك التاج قيدا
كنت مولى صرت عبدا
كنت عمرا صرت زيدا
أنا إن نالت شباكي
ظبية جيداء غيدا
لم أكن أول صب
أخذ الغزلان صيدا
حتى إذا تكامل للشمس الغروب وآن للنهار أن ينتحي والليل أن ينوب، دخل الزورق في ظل أشجار، متكاثفة هنالك مرتفعة كبار، فتقصى بيروس النظر، فوجد البقعة صالحة للمستقر، فأعلم أصحابه أنهم قد وصلوا، وأشار لهم أن يلقوا المراسي ففعلوا.
ثم نزلوا فتوارى الكل واستتر، بين الحجر والشجر، يتربصون للموعد المنتظر، فلندعهم وشأنهم الآن يتربصون على ذلك المكان، إلى أن نعود فنذكر من أمرهم ما كان.
لصوص الماء
لم يكن يمضي يوم على الملك بوليقراط بدون أن يفد عليه أورستان زعيم أشقياء اليونان، أو من ينيبه عنه من أعوانه الشجعان، فيلبث في حضرته برهة من الزمان، ثم يأمر الملك من يذهب معه إلى حيث يريد، فلا يأتي الليل إلا ويعود الرسول، ومعه أسير مكبل بالحديد، فتصدر الإشارة بإضافته إلى ما في السجن من عديد.
وظل الأمر كذلك تسعة وثلاثين يوما، بغير انقطاع وقع فيها مخالب أولئك السباع، تسعة وثلاثون أسيرا من بني الأمصار والأصقاع، ليس فيهم إلا ملك مطاع، أو أمير له الأمراء أتباع، أو بطل شجاع، شاع ذكره وذاع، وملأ الأسماع، ثم مرت سبعة أيام بدون أن يقبض على أحد أو يزاد السجن على ذلك العدد، وفي اليوم الثامن حضر أورستان يضرب الأرض برجليه كأنه شيطان وعيناه جمرتان، من الغضب متقدتان، فدخل على الملك فحياه، ثم قال: لقد كدت أيها البطل الشجاع، الذي لا من البشر ولا من السباع، لولا أن نفسه العالية الأبية، فضلت ورود المنية، فآثر الثواء بقرار البحر، على الوقوع في هوان الأسر. قال: ومن ذاك يا أورستان وما حديثه؟
قال: يا مولاي، فتى من مصر رفيع الرتبة في الضباط، تدل زخارف حلته على أنه من حرس البلاط، وكان على ذات شراع، ومعه ثلاثة من الأتباع، فدعوناه كعادتنا للاستسلام، فأبت نفس عصام، فزدناه حصارا، فزاد تأبيا واستكبارا، حتى بلغ من حيرتي ويأسي، أن مارسته بنفسي، فظهرت بسالة الفتى على قوتي وبأسي، حتى لو لم ينجدني رجالي لصير البحر رمسي، إلى أن خانه على مراسنا الجلد.
وكان أن أذعنت البسالة للعدد، فصرخ الفتى صرخة تذيب الأسد، قام لها البحر وقعد، وسمعته يقول: مكانك يا حماس، إن الجندي المصري لا يعرف التسليم للملوك، فكيف يسلم للص صعلوك، ثم لم أبصر يا مولاي إلا بالسفينة تحترق، ثم إذا بها قد غرقت وإذا بالفتى قد غرق، فشق على أن يموت وأن يفوت ساحة الوغى من عناقه ما يفوت، لكونه إنما خلق لها لا لبطن الحوت، فقفيته برجالي يغوصون عليه القرار، وينشدونه بين العبب والتيار، وما زلنا نفعل حتى مغيب النهار، فلما لم يجد الالتماس، ونفضنا أيدي اليأس، رجعنا نبكي فقده، ونبكي الإقدام والثبات بعده.
فقال الملك واغرورقت عيناه بالدمع: إن كانت ذاكرتي صادقة يا أورستان، فهذا اسم شاب مصري كان لنا وله فيما مضى شان.
قال أورستان: وما ذلك يا مولاي؟
كنت عرضت على فلاسفة اليونان، وحكماء سائر البلدان هذا السؤال، وهو: «لقد بلغت الزيادة قصاراها حتى أصبحت أتوقع النقصان، وطال أنسي بهذا الحال مع الزمان، حتى خفت تحول الحال ونفار الزمان، فهل من يصف لي ما يخرجني من هذا الوجل، وآمن به الدهر أن يأتي على عجل؟» فانهال علي من الأجوبة، ما ظهر فساد جميعه بالتجربة، حتى كتب إلي فتى من مصر بهذا الاسم يقول: «إن الحوادث أيها الملك لا يعرفن ليلا ولا نهارا، بل إنهن قد يطرقن أسحارا، وإني لا أرى الملك ما يدرج به النفس على احتمالهن قبل ارتجالهن، إلا أن يعمد لأعز ما يجب ويكرم من الأشياء فيبيده إبادة بقول الإرادة، ويحرم منه النفس وهي صاغرة منقادة، وهكذا تفعل بين الحين والآخر حتى يصير الصبر لك عادة.»
فكان هذا جواب الحكمة والصواب بإجماع أهل الخبرة، من أعظم الحكماء شهرة، وأبعد الفلاسفة صيتا وذكرى؛ وإذ كانت الجائزة المجعولة لمن يفيد، ويجيب الجواب السديد، أن يشتهي على ما يشاء إلا الملك، فقد كتبت إلى ذلك الشاب بالتمني، ولكنه لم يجب حتى الآن، فإن كان ذاك حماس هو الذي تبالغ في وصف بسالته وإقدامه، فنعم الصهر كنا نعتز به لو عاش يا أورستان، وهل لمحته عيناك وقت الاشتباك، قال: نعم يا مولاي أبصرته فأبصرت البدر عند التمام، وألفيته جميلا بقدر ما هو باسل مقدام.
قال: كذلك مصر ما زالت مرزوقة على ممر السنين، ميمونة مباركا لأهلها في البنين، وإن لأهلها لعذرا إذا ألهو بعض الناس منهم، فقد يجتمع للمصري من عظيم الخصال، ويتم على يده من جلائل الأعمال، ما يضيق عنه الطوق البشري وتنوء به عزائم الرجال.
قال: والآن ما رأي الملك بشأن الأسرى، هل يظل ممسكهم أو في النية فكهم؟ - بل سأفكهم وأردهم إلى بلادهم خائبين؛ لأنني لم أجد بينهم ضالتي المنشودة. - ذلك ما أرى أنا أيضا يا مولاي، ولكن أذكر أن بين الأسرى، أحد أشقاء الملك كسرى، فماذا ترى فيه وما عندك من الترضية لأخيه؟ - ليس لكسرى أن يحتج، ولا علينا أن نترضاه؛ إذ الأمر شخصي محض، ولا دخل للرسميات في خصوص المعاملات، وما علينا إلا أن نكتب إلى الملك بتفصيل ما جرى، ونخبره أن الامتحان أسفر عن خيبة أخيه خيبة فاضحة، فلم يعد ممكنا أن أركن إلى مصاهرته بعد أن ارتبطت بوعودي وعهودي أمام العصر والممالك والناس.
قال: نعم الرأي يا مولاي.
ثم إنه استأذن الملك في الانصراف، فأذن له فانصرف على أن يعود في الغد مغاديا.
وكان الليل قد أقبل يواشك، فالتمس الملك فتاته ليبلغها ما ظهر وبان من نتائج الامتحان؛ فقيل له إنها متغيبة لم تعد بعد من نزهتها اليومية على شاطئ البحر، فأراب الملك الأمر وشغله هذا الإبطاء، فجلس إلى نافذة مطلة على طريق رجوع الأميرة وأشرف ينظر؛ وإذا الطريق تنكشف لمدى البصر خلوا من الأقدام، لا دارج عليها إلا الظلام، فجد بالملك الارتياب، واضطرب فؤاد الوالد أي اضطراب؛ لا سيما إذ لم يكن من عادة لادياس أن تلبث خارج القصر بعد العشاء، فدعا الملك ثلاثة من غلمانه الأمناء، وقال لهم: اذهبوا فاستعجلوا الأميرة وهي عائدة، وقولوا لها: الملك بانتظارك على المائدة، فقالوا: سمعا وطاعة، وانطلقوا للحين، خفافا مسرعين، فما زالوا بالطريق يحيطون به طولا وعرضا، وتأخذه عيونهم سماء وأرضا، فلم يأت البحث بفائدة، ولا رأوا الأميرة لا ذاهبة ولا عائدة؛ وحينئذ ارتأى الغلمان، أن يبقى منهم على الطريق اثنان، وأن يتقدم الثالث إلى حدبة البحر، وهي الغابة التي سلف لها في الفصل الأول ذكر، لعل التلهي في المشي قد ساق الأميرة إليها، فلوت هي وأترابها عليها؛ فاندفع الغلام يجهد في السير الأقدام، إلى أن أتى مدخل الغابة فدخل يوغل فيها، ويضرب في جوانبها، ونواحيها، ولا وجلا ولا هيابا، ولا حاسبا للظلام حسابا، حتى بدهت أذناه بصوت أنين، له في جوف الغابة خفيف رنين، فالتفت وتفزع، ثم استجمع وأنصت يسمع.
فأوجس الغلام أيما إيجاس، وخشي أن تكون صاحبة الأنين هي لادياس، فاندفع حثيث السير، يهب هبوب الطير، لعله يوافيها قبل تناهي الشدة؛ فينجدها في كربها قبل فوات النجدة، وهو ينفذ على الصوت المدى، لعل أن يجد عليه هدى ، حتى بلغ موضعه، كما يبلغ الصدى مرجعه، وإذا مصدر التأوهات، ومنبعث الأنات، ثلاث من الفتيات حققهن الحارس في ضوء النبراس، فعلم أنهن ممن كن مع لادياس، وأن أبدانهن الناعمات، في الحبال موثقات، وبشدة الرابط موهنات، فحل على الفور ذاك الوثاق، ومزق تلك القيود والأطواق، ثم أنهضهن فما استطعن القيام، وخاطبهن فعجزن كذلك عن الكلام، فتركهن على هذه الحال، وابتعد قليلا؛ بحيث لا يفوته حفظهن ثم أخرج صفارة، وبادل رفيقيه الإشارة، فجاوباه فاستمر يصفر وهما يتوجهان، وجهة الصفير حتى أقبلا من أقصى الغاب يهرولان، فحين رآهما حدثهما حديث البنات، ثم دعاهما ليعيناه على حملهن حملا، والرجوع بهن إلى القصر، لأنهم من شدة الضعف؛ بحيث لا يمكنهن الحراك ولا الكلام، فضلا عن المشي على الأقدام، فوافق الصاحبان على ذلك، وتكفل كل واحد من الفتيان الثلاثة بواحدة من الفتيات الثلاث، ثم ساروا على هذه الصورة آيبين إلى القصر، فما قطعوا ثلث المسافة حتى التقوا في طريقهم بثلاثة آخرين من الحراس، أرسلهم الملك للبحث عن الأميرة، ومساعدين لمن سبقهم في هذه المهمة، فحين نظر رجال الوفد الثاني إلى أصحابهم وما يحملون، هالهم الأمر وسألوا عن السبب فأعلموهم بالحداثة، وأنهم اضطروا إلى العودة بالبنات إلى القصر؛ يشرحن واقعة الحال للملك، فينظر في ذلك نظر حكمة، أو يدبر لنفسه أمرا؛ فاستصوبوا عمل رفاقهم هذا، ثم اتفق الفريقان على أن يستمر الوفد في ذهابه إلى القصر، ليرفع الخبر إلى مسامع الملك، وأنه يجد الثاني في السير لعله يقف للأميرة على أثر، أو يجيء عن أمرها بخبر، على ذلك انطلق الأول آيبا، واندفع الثاني ذاهبا.
أين أصبحت لادياس؟
كانت لادياس كلما أصبح الصباح طلعت على آفاق ساموس بالجلال والجمال والشمس، كلتاهما في رونق ضحاها، وعند سرير مجدها وعلاها، لكن للادياس من الشمس مصبحها وليس للشمس منها ممساها.
كانت تصبح كل يوم، وإذا الملك لله ثم لها في بلاد أبيها، والأمر في القصر أمرها، وأهل القصر والملك الوالد في أولهم على قدم يخدمون إشارتها في كل مقترح.
كانت عيناها الزرقاوان لا تنفتحان إلا على نعيم الملك وعز السلطان، وما بينهما من صنوف السعادات وأنواع الملاهي واللذات.
فإذا لبست للإمارة حلتها، وأخذت تجاه المرآة زينتها، وافى الشعراء حضرتها، وإذا على لسان كل واحد منهم مرآة تنظر فيها الأميرة إلى محاسنها كيف كملت، وإلى آدابها كيف جملت، وإلى نسبها كيف شرف وارتفع، وإلى ملكها كيف عظم واتسع.
فإذا أتم الشعراء كلمات المدح والثناء أقبل العازفون وأهل الغناء فأجزلوا لها من الطرب، وكالوا لها من كل لحن عجب.
فإذا خرج هؤلاء دخل الأمراء والوزراء والكبراء والعلماء والحكماء، هذا يسجد وهذا ينحني، وهذا يقبل اليد ثم ينثني، وهذا يضحكها بنادرة يرويها وهذا يهز أعطافها بحكمة يلقيها، والكل بين المهابة فيها والإعجاب، يبالغون لعروس اليونان في الخطاب.
ثم يؤتى إليها من أقاصي المدينة بالتحف الغالية والهدايا الثمينة؛ برهانا إثر برهان على ولاء رعيتها الصادقة الأمينة.
وبالجملة، كانت لادياس في كل صبح هي العناية في ملك، والشمس الورود في فلك، ظل للرعية وعصمة، وسلام فيهم ورحمة، تمنح إذا الدنيا منعت، وترفع إذا الأيام وضعت، ولا تستشفع إلا شفعت.
إذا عرفت هذا شق عليك أن تعلم أن عروس اليونان؛ أصبحت في غد تلك الليلة النحيسة، لا تحكيها في شقائها وبؤسها وبلائها جارية في مملكة ساموس، بل في ممالك الأرض جمعاء؛ أصبحت في ظلمات تلك الصخرة الهائلة وسادها الحجر بعد الخز، ورداؤها الذل بعد العز.
ونكد الدنيا يتمثل لها في صورة ابن عمها وهو قائم عند رأسها يقول: انظري أين أصبحت يا لادياس.
قالت: في أسر شيطانك يا باغي وما أسرت إلا الجسم، ولن تملكه حتى تصير للدود، فلا تطمع مني بحب ولا قبول، ولا ظفر بمأمول.
بل اقتلني؛ فهو خير لك من طلب المحال، وأهون لي من عذابي بنحس وجهك المستمر.
قال: أما أني أقتلك أو أدعك تقتلين نفسك؛ فأمر لا يكون، وأما أني لا أنال ذاك المرام، فهذا يا لادياس كلام في كلام، فإن لم يكن لي أن أطمع، فإن لي أن أغصب الإرادة كما غصبت المريد.
قالت: إن للفضيلة والطهارة آلهة بهم اليوم اعتصامي، فإن لم يغنوا فإن غدا بهم انتقامي. والآن أطلب منك يا بيروس الراحة الصغرى بعد ما بخلت علي بالراحة الكبرى.
قال: مري يا ابنة العم.
فشق على الأميرة قبول هذه القرابة، وازدادت غضبا على غضب.
فقالت: إنني أحرمك يا بيروس أن تدعوني بيا بنة العم؛ فقد أخرجك الملك من قرابته. ولا يليق ببنت الملك أن تكون أول مخالف لإرادته.
قال وتبسم: ولكني أنا الملك هنا، وأنت لي كل الرعية يا لادياس، ومع ذلك فإني عبدك أسألك ماذا تأمرين.
قالت: لقد بخلت علي بالقتل، فلا أظنك تبخل علي بتركي وحدي، لعلي أجد بعض الراحة في الوحدة.
قال: ذلك إليك.
وكان حب الفتى لبنت عمه يداني الجنون، وهي بالعكس تبغض ابن عمها بغض الموت، فلم يثنه ما رأى منها وما سمع عن رجاء انقيادها، والوصول يوما إلى اجتذاب فؤادها. وهكذا كبير الغرام كبير المرام، فتركها وشأنها وما تبتغي من الخلوة؛ ظنا منه أن ذلك منها نفار ويزول، وصدود عنه ستحول، فنحن نتركه الآن يقضي الأيام في الأماني والأحلام. ويروم من عروس اليونان ما لا يرام.
الملك بوليقراط
الهم في الدنيا لنا شامل
لم يخل لا عال ولا سافل
حمل إذا شئنا وإن لم نشأ
فكلنا يوما له حامل
إذا حواه الملك في برده
أوعاه في كشكوله السائل
يرقى إلى الصاعد في عزه
ويلتقيه دونه النازل
ويعثر الراكب منا به
ولا يوقي العثرة الراجل
فقل لبقراط لقد كان ما
خفت وجد الزمن الهازل
أمسيت لا دارك مملوءة
أنسا ولا الصفو بها كامل
قد نام ذو جوع وذو غلة
ونام حافي الناس والناعل
ونام في السجن سجين به
ونام من أبعدت والواصل
وأنت في قصرك أنت السها
لا نوم لا إغفاء يا ثاكل
لما بلغ الخبر مسامع الملك بوليقراط كادت لآجله أن تصم من الذهول وشدة الغم، وكان البنات هن اللاتي قصصن عليه قصتهن، وما لقين في حدبة البحر، وكيف وصل البحارة إلى اختطاف الأميرة وصاحبتهما هيلانه، بعد ما ردوهن جمعاء إلى العجز وفقدان الحراك بقوة الحبال، وما أعدوا لهن في السلاسل والأغلال، فلما سمع الملك ذلك أيقن أن في الأمر مكيدة، وأن فتاته إنما وقعت في مصيدة.
وكان قد اجتمع بالملك على الفور، كل الرجال ذوي الشأن في القصر، فبدأ الأخذ والعطاء وحمي الحديث وكثرت الظنون، فكان أول ما ذهب إليه الملأ، أن ناصب الشرك قد يكون أحد الأجانب القادمين إلى البلاد في طلب الزواج بالأميرة، فلما لم يستطع الوصول إلى ذلك؛ سولت له نفسه أن يأخذها غصبا، ففعل.
ثم تنقلوا من هذا الظن إلى غيره، فزعموا أن الكمين لا يكون إلا أحد الرجال ذوي المكانة في البحرية، بدليل أن خاطفي الأميرة هم كما أخبر البنات من جند السفن السلطانية، وأنهم يعرفون عادات الأميرة، وأوقات خروجها ودخولها، ولولا ذلك ما جاءوا في الوقت اللازم، ولا اهتدوا إلى المكان الملائم.
وفي آخر الأمر ذهب قليل منهم إلى أن الفخ لم ينصبه إلا بيروس؛ بدليل أنه ولي الثارات القديمة، وصاحب العداوة المستديمة، وأن الذي أخبر به البنات ليس إلا مستعارا، فهو حيلة انطلت على المخافر البحرية، حتى مر بيروس ورجاله في أمن وسلام.
وفي هذه الأثناء حضر أورستان، وكانت الرسل قد أرسلت تباعا في طلبه، وما هو إلا أن وصل حتى خاض في الحديث مع الخائضين، واشتغل بالمحادثة مع المشتغلين.
وكان رئيس السفائن السلطانية في جملة المتشرفين بمجلس الملك، فسأله أورستان: هل كان لكم زورق يسير اليوم في الخدمة الشريفة؟ قال: لا، اللهم إلا أن يكون جلالة الملك هو المسير له ولا أدري، فقال الملك: لا أذكر أني أخرجت زورقا اليوم، ولكن ما علاقة هذا السؤال بما نحن فيه يا أورستان؟ قال: ذلك يا مولاي أن رجالي أخبروني قبيل وصول رسلك إلي أنهم التقوا اليوم بزورق من زوارق الإمارة، فيه ثلة من البحارة، فدنوا منه وداروا به كالعادة، ولكنهم ما لبثوا أن خلوا سبيله؛ كرامة لذكر اسم جلالتك، فقد قام منهم رجل مهذار، يبالغ لرجالنا في الوعيد والإنذار، حتى ضحكوا منه بقية النهار، فإذا كنت يا مولاي لا تذكر أنك سيرت زورقا، والرئيس يقول إنه لم يخرج شيئا من ذلك، فلمن ذلك الزورق إذن، وما ذلك الزي وأين ذهب أولئك البحارة؟ إن الأمر لا محالة مريب، ولكني أتكفل لجلالتك بكشف دخيلته، ولا أسألك أكثر من ثلاثة أيام، ثم آتيك بالخبر اليقين، قال: أفعل يا أورستان ولك الشكر، ولكني قد وجدت الذي ينفعني في البحر، فمن لي الآن بالساعد المساعد في البر، لأنك تعرف أحوال الجزيرة، وتعلم أن المجاهل فيها كثيرة، فما يدرينا أن تكون لادياس نقلت إلى بعض المكامن؛ حيث هي الساعة مقبورة أو أسيرة، قال ذلك واغرورقت عيناه بالدمع فأمسك عن الكلام، وأطرق أورستان يفكر في طلب الملك، ثم التفت إليه وقال: قد وجدت الذي ينفعنا في البر يا مولاي، قال ومن ذاك قال: قد وعدت يا مولاي أنك تفك الأسرى، فإذا كنت فاعلا، فاجمعهم في مجلسك هذا، وأعلمهم بحقيقة القصد مما عوملوا به، وأنك لم ترد بهم الشر ولكن لتبلوهم أيهم أثبت جأشا وأعظم شجاعة وبسالة.
ثم أعلمهم بما كان من اختطاف الأميرة على أثر ذلك، وأن الفرصة قد تهيأت للشجاع منهم أن يظهر شجاعته، فمن وجدها منهم وردها إليك سالمة، كان بها أحق فلا يعطاها إلا هو، فوافق الملك على هذا الرأي، واستحسنه سائر أهل المجلس، فصدر الأمر عندئذ بإطلاق الأسرى والمجيء بهم معززين مكرمين.
ولم تكن هنيهة حتى جيء بالرجال وقد أبدلوا حالا من حال، فردت إليهم أسلحتهم وعوملوا بعد الحقارة بالإجلال، فلما دخلوا على الملك خف لهم فخف المجلس على إثره، ثم وقف موقف الخطيب فقال:
أيها الأمراء الأقيال والشجعان الأبطال
إن ما وصل إليكم في مياه مملكتي من الأذى، وما عانيتم بعد ذلك من السجن، لم يكن عن سوء قصد ولا ابتغاء الإضرار بكم، ولكن لنبلوكم أيكم أثبت في ساعة الهول جأشا وأعظم شجاعة وبسالة، وبالجملة لم نكن فيما عاملناكم به إلا مختبرين.
والآن برغمي أن أخبركم أن الأميرة قد اختطفت، وهي كما تعلمون واحدتي التي لا أعطي الصبر عنها، فمن وجدها منكم وردها إلي سالمة موفورة العرض أعطيته إياها فلا يفوز بها سواه، فاخرجوا الآن إلى مباشرة العمل، اخرجوا فانظروا ماذا أنتم فاعلون.
فما أتم الملك كلماته هذه حتى صار الملأ حيارى كأن بهم سحرا أو كأنهم لا يعون، حتى إذا استفاقوا من دهشتهم، وخرجوا هائمين على الوجوه، يخيل لكل أن لادياس بين عينيه وفي يديه، ولو كانت في السماء لصعد إليها قبل أن تنزل إليه.
وكان الليل قد انتصف أو كاد فأشار الملك لأصحابه بالانصراف فانصرفوا، وانقلب هو إلى مقاصيره الخاصة؛ حيث الملكة حالها كحاله، وأوجاعها وأوجالها من جنس أوجاعه وأوجاله، فقضى الوالدان كلاهما تلك الليلة سهادا هي حتى مطلع الفجر.
حياة ثم موت ثم بعث
إن كان عمر طويل
فما إليك سبيل
فالبحر حرز حريز
والبر ظل ظليل
ولا المخاوف إلا
حوادث وتزول
والبأس ليس بمرد
والجبن ليس ينيل
فكن كما شئت إلا
أن الجبان ذليل
علم القارئ أن (حماس) غرق في البحر على أثر التقاء مركبه بمراكب أورستان، وما وقع بينهما من الحرب العوان، وأن القوم غاصوا عليه طويلا فلم يجدوا له أثرا، وإذ أخذهم اليأس في أمره حولوا مراكبهم عن ذلك الموضع من البحر إلى غيره.
والآن نقول إن حماس لما ألقى نفسه في البحر كان لا يزال في أجله طول، فما صار تحت الماء حتى انسحب بتيار كامن خفيف، فلبث فيه هنيهة يجاريه بصدر قوي صحيح، حتى تمكن من إخراج رأسه من الماء، وإذا به بعيد عن أورستان وجنوده؛ بحيث يرى السفن ولا يراه من في السفن فما تواني أن ذهب سبحا في عريض الماء، يسلك طريقا غير طريق الأعداء، وكان البحر هادئا ساكنا إلا رجة فيه خفيفة، نشأت عن تلك المعركة العنيفة، وخصوصا عند سقوط السفينة المحترقة فيه، وكان الفتى طويل الباع في العوم فزاده الأمل بالنجاة، طول باع في ذلك اليوم، فما زال ينساب انسيابا، ويذهب في ثنايا الماء ذهابا، حتى أمسى وإذا هو بليل كموج البحر، في بحر كموج الليل، وكان الفتى قد وهت قواه، وبرئ منه ساعداه، بعد أن طالما ساعفاه، فوقف وقفة المودع للوجود، الساجد للسماء في الماء لو قدر على السجود، ثم تراخت أعضاؤه، وانحلت من الكلل أجزاؤه، فنزل قليلا قليلا يهوي إلى القبر الأعظم من عالم الدأماء.
ولكنه ما كاد يحتجب رأسه في الماء، حتى اصطدم كتفه بجسم صلب كادت تترضض بها عظامه، فتعلق بهذا الجسم من حيث يدري ولا يدري، فلم يشعر إلا بحياته قد انبعثت، وبجثته قد خرجت من ذلك القبر الهائل، ملآنة من روح الأمل بعد اليأس، وقوى الحياة بعد الموت، ثم لم يبصر إلا بلوح عظيم كأنه بقية من بقايا فلك منكسر وهو يتوكأ عليه ويتخذه سندا ليديه، فرفع إلى السماء عينا شاكرة، إلى آلائها ناظرة.
ثم تلا هذا النور نور الوجود بعد العدم، أضواء ضعيفة تبدو على بعد كأنها دنانير تهادى في الفضاء، فدب دبيب الرجاء في حماس، وفاء إلى الطمأنينة والإيناس، إذ رأى البر وأعلامه، وأيقن أنه عن قريب يجتلي وجه السلامة.
فلبث مدة يسيرة لا يجهد أعضاءه ولا يتحرك حتى أخذ لبدنه قسطه من الراحة، وامتلأ من القوة اللازمة لاستئناف السباحة، ثم دفع اللوح أمامه، واندفع يتخذه متكأه وزمامه، وهو يسرع في سيره تارة ويتأنى في مشيته طورا، ويستريح مرة ويصل العوم أخرى، وما زال كذلك نحو ساعتين من الزمان، حتى أشرف على البر بسلام وأمان.
ولكن تلك الأضواء التي وجد عليها الهدى كانت لا تزال تلوح له قصية واهية خفاقة، بل قد رآها وهو على خطوات من البر أضعف كثيرا مما كانت تبدو له وهو في أحشاء البحر، وقد قامت أمامه صخور هائلة لا نور عليها ولا سبيل مع الظلام إليها.
ومع ذلك فلم ير الفتى بدا من الوصول إلى اليبس، والمبيت تلك الليلة على الفراش العام الأمين، فراش السراة بالليل والمعدمين، فدنا من الشاطئ يدفع اللوح وهو به ضنين، حتى نالت يداه الأرض فأتبعهما الأقدام، وهو لا يدري أفي يقظة أم في منام، أم هو غريق يختنق وهذه سكرات الحمام، حتى إذا احتوت الأرض قدميه، كان أول ما فعل أن جذب اللوح إليه بكلتا يديه، ولو استطاع حمله في عينيه، ثم قال يناجيه:
أيها اللوح المنزل رحمة من السماء، المخرج عصمة من الماء، المسخر لإنقاذي من لدن الآلهة الكرماء، أقسم لك بأسمائهم العظيمة، وآلائهم الجسيمة، إني أحملك وأصحبك وأفي لك كما حملتني في اليم، وصحبتني في الغم، ووفيت لي فيما ألم، وأعدك وعد حر كريم، أني إذا أوتيت ملك مصر آمر بعودك فتصنع منك قوائم عرشها العظيم.
وبعد ذلك مشى في ضوء القمر الطالع يرتاد مبيتا بين كتل الصخر المتشعبة المتكاثفة هنالك، وهو لا يكاد يجمع أعضاءه من شدة النصب، فهداه حسن الحظ إلى مكان صالح بعض الشيء للمبيت، وهو مستوى من الصخر تنحني فوقه كتلة من الصخر كذلك؛ بحيث يحصل منهما للآوي وطاء وغطاء، ففرش اللوح أرضا واضطجع فأخذه النوم للحين.
فلما كان الصبح نبهته الشمس بشعاعها الأول وبشيرها إلى الوجود، فانتبه خفيف الجسم ناشط الأعضاء جاف الثياب من حر الشمس في الحجر.
وكان الجوع والعطش قد أخذا من الفتى كل مأخذ، فأخذ يدبر لمعدته أمرا، فلم ير إلا أن يخرج إلى فضاء الأرض يبتغي من فضل الله، فتأبط اللوح وهم بالنزول من مكانه العالي.
ولم يكد يتحرك حتى نظر أمامه شيئا أدهشه، واضطره إلى البقاء بعد ما عزم على الرحيل، وذلك أنه أبصر على البعد زورقا يلقى المراسي، وقد نزل منه رجل قصير القامة كثير اللحم والشحم وله زي الصيادين، فجذب الزورق إلى الشاطئ حتى صار كأنه جزء منه، ثم أخرج منه قدورا وقربا مملوءة، وأشياء أخرى كثيرة، وجعل ذلك كله على الأرض بعضه بجنب بعض، ثم تركه ومشى يسلك طريقا في الصخر كثير الاعوجاج، فأمهله حماس ريثما ابتعد، ثم نزل مستعجل الخطو خفيف الحركات، يرقب بإحدى عينيه الزورق ويتقي الصياد بالأخرى، حتى بلغ المكان والرجل ماض في طريقه مجد في سيره، لا يلتفت وراءه إلى أن توارى شخصه.
وعندئذ دنا حماس من الزورق تأمل ما بجانبه من المتاع، وإذا هو بكمية وافرة من أنواع السلاح، فسر بذلك كثيرا، وقال في نفسه الآن رددت على الأسد مخالبه، فلنبدأ بها فإنها هي الزاد الباقي لا جوع معها ولا خوف، ثم قلب الأسلحة فتخير منها خنجرا وسيفا ورمحا وترسا وقوسا ومقدارا من السهام، فتقلد جميع ذلك حتى صار فيه حصنا لا يرام، وأسدا كل الأرض له آجام، ولوى بعد ذلك على القدور ففتحها واحدة واحدة، فإذا فيها من اللحوم والبقول ما يكفي جماعة من الناس مدة من الزمان، ثم فتح القرب فوجد بعضها مملوءا ماء والبعض الآخر يفيض من أنواع النبيذ، فأكل هنيئا وشرب مريئا حتى كاد يؤذى من الري والشبع، ثم لم يكتف بذلك بل أخذ ما قدر على حمله من الزاد والماء والنبيذ، وانثنى آيبا إلى مأواه، فأودعه هناك وأقام بعد ذلك يترقب.
وقد كان أول ما خطر على بال حماس، أن يعيد جميع ما على الأرض إلى الزورق ثم يركب فيه فيسير، حتى يبلغ ما خلف تلك الصخور من المعمور، إلا أنه راجع فكره فبدا له أن هذه الكمية الوافرة من الزاد والماء والسلاح لا يمكن أن تكون لذلك الصياد وحده، وأن الرجل ليس صيادا كما توهم لأول وهلة بل هو لص من لصوص الماء، يأوي إلى تلك الصخور ضمن عصابة من الأشقياء، فخشي الفتى عاقبة التسرع، وخاف أن يبصر به القوم وهو في الزورق يسير به فيرموه بسهام لا طاقة له بها، ولا دفاع معها، فاختار أن يرجع إلى جحره فيبقى فيه حتى يظهر من ذلك السر خافيه.
فلم يمض إلا القليل حتى تراءى شخص الصياد عائدا من حيث ذهب، ثم ما زال يقترب حتى صار بين الزورق وبين القرب والقدور، فلما رآها على تلك الصورة من الخراب والنقصان غشيه من الفزع ما غشيه، وضاقت الدنيا في عينيه، فوقف حيران لا يدري ماذا يصنع، ثم اندفع يبكي ويتوجع.
وكان حماس قد نزل إليه كأنه الأسد في فريسته بين يديه، فلم يشعر الرجل إلا بيد قوية قد ضربته على كتفه ضربة قاسية، كادت تكون هي القاضية، فالتفت مذعورا فرأى شيئا في طول النمر إذا النمر انتصب، وله خفة إذا هو وثب، فترامى على قدمي الفتى يقول: الأمان الأمان أيها الشيطان، فتبسم حماس ضاحكا وقال: قم أيها الجبان إني لست شيطانا، ولو تأملتني ما وجدتني إلا إنسانا قال: إذن؛ فالأمان أيها البطل الكريم إني ورأسك لست منهم، وإنما أنا رجل تاجر أبيع للص الحقير، كما أبيع للملك الكبير.
قال: وأنا أعطيك الأمان بشرط أن تعرفني من أنت ومن أين أتيت، وإلى أين ذهبت ثم عدت، وما هذه الدخائر ولمن هي؟ تكلم، وحذار من الكذب.
قال: أنا يا مولاي رجل تاجر أعامل عصابات كثيرة من اللصوص، ومن جملتها الشرذمة الآوية إلى هذا المكان، فأربح منهم المال الطائل، وهذا الزورق مصنوع؛ بحيث يمكنني في ساعة الخطر أن ألقي جميع ما به في البحر بدون أن يمس الزورق سوء، ولي زمان أعامل أصحاب هذا المكان ويعاملونني، وهم لم يأتوا إليه إلا من نحو شهر.
قال: وأين كانوا قبل؟ - كانوا في الصخرة الجهنمية ثم انتقلوا إلى صخرة الحدبة، فلم يلبثوا فيها إلا يوما بليلة، ثم جاءوا إلى الصخرة الملساء، التي هم فيها الآن مقيمون. - وأين هذه الصخرة الملساء؟
قال - وأشار بيده - هي تلك التي تناغي السماء، ولكنك لا ترى إلا ظهرها وهي قريبة منا؛ ولهذا لا أرى من العقل أن نطيل الوقوف هنا، فإما أن تركب معي في الزورق فأنجو بك وبنفسي، وإما أن تدعني أذهب وحدي، فإنهم يا مولاي شداد أقوياء، لا تنفعك معهم شجاعتك.
قال: هذا لا يعنيك أيها الرجل. - وهل عمري لا يعنيني يا مولاي؟
قال: ثبت جأشك أيها الرجل، فلو حضر لصوص الأرض أجمع ما ملكوا لك من دوني أمرا، لا خيرا ولا شرا، والآن قل لي كم عدة أصحابك اللصوص؟
قال: سبعة بما فيهم رئيسهم يا مولاي.
قال: وكيف أنت ماض وتارك هذا الزاد ؟ - بذلك أمرت يا مولاي. قال: فإن علي أن أودع بضاعتي هنا وأذهب بعد ذلك فأخبرهم بحضورها، ثم عليهم أن يأتوا متى شاءوا فيأخذوها؛ لأنهم لا يتحركون حركة إلا بحساب.
قال: إن أمرهم إذن لمريب فهل تعلم دخيلته؟
قال: لا يا مولاي. والآن ائذن لي بفضلك أن أمضي لسبيلي؛ فإن لي أطفالا صغارا يموتون بموتي.
قال: ذلك لك بعد أن تقول ما المسافة بيننا وبين المدينة. - ثلاثة أيام في البحر بسير الزورق، وأربعة في البر بمشي الأقدام، إلا أن البر أوطأ مركبا وآمن في هذه الجهات سبيلا. - قد عرفت ما تهمني معرفته، فخذ زورقك الآن واذهب بسلامة، فانحنى الصياد إجلالا، ولعثم كلمات فيها شكر ودعاء، ثم أتى الزورق فركب وأعمل مجذافيه بقوة، فصار الزورق في عريض الماء؛ وعندئذ لم يدر حماس إلا بذلك الخادع قد صفر صفيرا امتلأت من دويه الآفاق، وعلى إثر ذلك انحدر من الصخرة رجلان يهدران، كأنهما فحلان يتبادران، فحين رأى الفتى ذلك لم يلتفت إلى القادمين، بل بدأ برجل الزورق فسدد نحوه سهما كسهم المنون، ثم رمى فأصاب مقاتله فصرخ صرخة واحدة ثم لم يثن، فأيقن حماس أن سهم الانتقام قد أصاب، وأن الكذب قد قتل الكذاب.
ثم إنه استعد للقاء الرجلين وكانا قد تقدما حتى صارا منه وجها لوجه، فصاح به أحدهما يقول: من الرجل وما يبتغي؟ - ومن أنت يا لص الخنا حتى تسأل هذا السؤال؟
ثم لم يزد على أن اندفع يتهادى ذات اليمين وذات الشمال ويشيد بهذا النشيد الذي اعتاد أن يقوله في مثل هذه الحال:
إني أنا حماس
لي في الحروب باس
من خير جنس في الورى
تعنو له الأجناس
أريكتي ما أمتطي
وتاجي النحاس
وصولجاني صارمي
والرمح والأتراس
وما استتم حتى بدر إليه أحد الرجلين يلعب بالرمح لعبا، ثم حاول أن يطعنه فتخلى حماس فاستجمع الرجل ليطعن الطعنة الثانية، وحماس لم يهم ولم يطعن، بل اقتصر على خطة الدفاع مع منازله، وكان يلقى معظم باله للرجل الآخر يراقب حركاته وسكناته، فثنى الرجل فتخلى حماس كذلك إلا أنه عانق منازله في هذه المرة عناق مغتصب قدير، فصرخ اللص صرخة المطعون ثم سقط على الأرض مضرجا بدمائه، كأنما جاءه الموت من ورائه، فلم يزده حماس على أن قال له: بيد صاحبك لا بيدي يا لص الخنا.
وبالحقيقة لم يكن هلاك الرجل إلا على يد صاحبه، وهذا السهم الذي قتله إنما سدد نحو حماس مخالسة وغدرا، ولكن الفتى لحظ ذلك فارتقب حتى حان وقت الرمي، فلم يرسل السهم إلا وحماس متدرع بخصمه الأول، فكانت الجناية على الدرع وحده.
أما الرجل فإنه لما رأى ما حل بصاحبه هم بالفرار، فقفاه حماس بسهم اخترقه من ظهره إلى صدره، فألحقه بأخيه جزاء خيانته وغدره.
وبقي الفتى هنيهة كما كان، وحيدا على المكان، وقد دخل في جنون القتال وأخذه ما يأخذ الأبطال، في سرعة الكر والنزال، فوقف يطلب الضرب وحده والطعان، طلاب شجاع لا طلاب جبان.
وذي جنون عاشق القتال
منفرد كالأسد الرئبال
لا يرتوي من مهج الرجال
يقلب الأرض عن الأبطال
يسألها هل من فتى نزال
له الردى اليوم أو الردى لي
إني أنا بالموت لا أبالي
وفي هذا الأثناء أقبل ثلاثة آخرون من اللصوص يتحدون من أعالي الصخر، وكأنما نظروا إلى رفيقهم وقد أصابهما من بأس حماس ما أصاب، فلم يدر الفتى إلا بالسهام تساقط حوله تباعا آتية من عل، فتزحزح قليلا قليلا حتى خرج عن مرماها، ثم تخير لنفسه مرتفعا من الصخر يحتمي فيه ويرمي منه، فصعد إليه ثم شرع يرسل سهامه التي لا تطيش ولا تخيب، فأصاب واحدا منهم في أم فؤاده فسقط ميتا.
فحين رأى الآخران ذلك أيقنا أن جنود الملك على المكان، وأنهما حيث صار رفاقهم صائران، فألقيا سلاحهما ونزعا ثيابهما ثم انغمسا في الماء فلم يخرجا منه إلا على الزورق للطيران، وهما لا يصدقان بالنجاة ويظنان أن كل لجة جنديا من جنود السلطان.
فلما شاهد حماس ذلك ورأى المكان قد عاد فخلا به، نزل عن مكمنه مسرعا يتقدم نحو الصخرة الملساء، مستخفا بمن بقي من الأعداء، حتى إذ صار تحتها رفع عينيه يتأملها، فإذا بها كتلة واحدة في صورة البرج لا تصل الأيدي إليها، ولا تنبت الأقدام عليها، فوقف يدعو من فيها للنزول فالنزال، متغنيا بنشيده الذي يقوله في مثل هذه الحال.
إني أنا حماس
لي في الحروب باس
من خير جنس في الورى
تعنو له الأجناس
أريكتي ما أمتطي
وتاجي النحاس
وصولجاني صارمي
والرمح والأتراس
وعندئذ أشرف من ذروة الصخرة رجل كأنه زنجي لكثافة شعر وجهه فقال: من الرجل وماذا أتى بك إلى هنا؟
قال: أنا من أنا أيها الرجل وقد أتيت لألحقك بإخوانك الخمسة، ثم لي ولسابعكم شأن. - وأي ثأر لك عندنا يا سيدي «من أنا»؟ - وأي ثأر للناس عند الوحوش غير كونها مضرة يجب إزالتها، فإما أن تنزل إلي أيها الرجل مسلما صاغرا، وإما أن أصعد إليك فأجعل هذه الصخرة قبرك.
قال: أما أن هذه الصخرة تكون قبري فهذا ما أشتهيه بعد عمر طويل؛ فإن فرعون - على فخامة جاهه - لو علم بها ما طلب أن يدفن إلا فيها، وأما أني أنزل إليك وأزايل هذه الصخرة ولو لحظة، فهذا يحول دونه حفظ العهد وأداء الأمانة.
قال: وما هذا العهد وهذه الأمانة أيها الرجل؟
قال: هذه أسرار أخفيها، وشئون لا دخول لك فيها، فإن شئت فاذهب بسلام، وإن شئت فابق حيث أنت حتى يأتيك حينك في الظلام، ثم وقف كالمتحمس وراء حصني وترنم بهذا النشيد.
إني أنا كلكاس
البطل الدواس
تنجدني فطانتي
والرأي والمراس
لا في اغتيالي حيلة
ولا علي باس
وصخرتي في بعدها
كأنها البرجاس
فإن أردت فانصرف
أو فابق يا حماس
فلست منها خارجا
حتى يزول الراس
ثم إنه احتجب في صخرة كما يمعن الضب في جحره، وغادر حماس حيران قلقا، ينظر من جهة فيما يكون من أمر تلك الأسرار، وما يعاني كلكاس مراسه من الشئون الكبار، ومن جهة أخرى يمعن في الصعود إلى الصخرة كيف يكون، وهي كأنها عمود عال طلي بالصابون.
في طلب الأميرة
كان في جملة الأجانب الذين ذهبوا تحت كل كوكب، في طلب الأميرة يفتشون عن مكانها، ويعللون النفس بوجدانها، شقيق ملك العجم، وقد تقدم لنا القول بأنه خاب في الامتحان، فكان نصيبه مما أمل نصيب سائر الأقران.
وكان فتى جميلا جريئا، كما تحب المعالي وتهوى العظائم، فحين قال الملك للقوم ما قال، وكان الأمير معهم يسمع ويرى، شجعته رؤية الأب الحزين وجزع على ذلك الكنز، فخرج مسرعا، فطلب من أحد الخدم أن يجمعه برئيس الركائب الملوكية، فجاءه الخادم به فنزع الأمير خاتما من الياقوت كان في إصبعه وناوله الرجل قائلا: هذا الخاتم أيها الرئيس من أنفس ما حمل الملوك والسلاطين، وأنا أودعه لديك على شريطة أن تذهب بي الساعة إلى المرابط العامرة، لأختار من خيل الملك جوادا أركبه، فإذا أنا عدت سالما رددت إليك الجواد ولم آخذ الخاتم، وإذا عاجلني حيني في سفري وهلك الجواد لهلاكي، كان لك التصرف في الوديعة لذلك، فتبيعها وتشتري من ثمنها ما شئت من بدل لأمانتك.
فأخذ الرجل الخاتم وتأمله، فإذا به يسوي دواب الملك جمعاء، فالتفت ينظر هل من مطلع عليهما، ثم أشار للأمير أن يتبعه فتبعه وسارا تحت ستار الظلماء حتى وصلا الإصطبل العامر، وهنالك فتحت له الحجر واحدة واحدة، وإذا في إحداها ثلاث أفراس من أكرم ما اتخذ الملوك للرباط، أحدها فارسي والثاني أشوري والثالث مصري، فأراد الأمير أن يختار فقال له الرئيس: لو أخذت المصري يا مولاي كان ذلك أخف بلية وأدنى إلى السلامة، قال: ولم؟
قال: لأنه للأميرة خاصة، وما دامت غائبة كما تعلم، فالملك لا يسأل عنه فرارا من ذكراها برؤيته، قال: وأنا قد تفاءلت فلا آخذ إلا هذا المصري، لعل الأميرة أن تعود عليه، قال: هو لك يا مولاي، ثم قرب منه مربط الجواد وهو يحكمه إسراجا وإلجاما حتى تهيأ للركوب، فركب الأمير وسار، يريد أن يسبق إلى لادياس النهار، فما زال يصل السرى في ليل غاب نجمه، وكثف غيمه، حتى طلع الصبح عليه وهو خارج المدينة، في أماكن صخرة يستعصي على أرجل الخيل دوسها فيها من غير خطر.
وكانت المدينة لم تغب بعد عن ناظر الأمير الغريب، وإن هو بعد عنها مسيرة ساعتين على الجواد، فحين رأى أنه يسلك طريقا ليس بالمأمون، وأنه قطع كل تلك المسافة ولم يمرر بغياض الحدبة، مع علمه أنها لا تبعد كل هذا البعد عن البلد، خشي أن يذهب سعيه سدى، فثنى عنان فرسه يريد أن يتخذ له طريقا غير الذي هو فيه، فالتفت فوجد وراءه رجلا سوقة لا يرى له شأن، وإن بدت مخايل الشجاعة عليه، فعجل الرجل إليه يقول: لعلك ضال أيها البطل، فإنما تسير على الدرب الأصفر وهو مملوء من المخاوف والأخطار، فقل لي إلى أين تريد الذهاب؟ وأنا أدلك على الطريق، قال: بل بغيتي هذا الدرب الأصفر، قال: إذن فأنت من العصابة. قال: نعم.
قال: ولكن هذي أولى مرة أراك، قال: وأنا أيضا لم أرك إلا اليوم، فلعل أحدنا قد دخل حديثا في العصابة، والآن قل لي ما مخاوف هذا الطريق؟ قال: ليس فيه مخاوف، وإنما حسبت أنك أجنبي عنا، فأردت أن أوهمك كما وهمنا على الناس من قبل، فلم يعد أحد يستطيع المسير على الدرب الأصفر، قال: وما وقوفك الآن هنا؟ قال: ألم ترني كدت أرجعك من حيث جئت لولا أني علمت أنك من رجالنا. قال: إذن فأنا أشكر لك سعيك، وأعدك ثناء جميلا حال التقائي بالإخوان.
ثم إن الأمير اندفع يسير وهو يحمد تلك المصادفة الحسنة. وعلى الخصوص قوله للرجل في ابتداء المحادثة «بل بغيتي هذا الدرب الأصفر.» إذ لو لم يلهم هذا الجواب ما علم بوجود تلك العصابة، التي لا يبعد أن يكون لها شأن في الحادثة عظيم، وكان قد عرف من كلام الرجل وإشاراته أين يبتدئ الدب الأصفر، فأطلق لجواده العنان فيه، حتى احتجب بين صخوره وفيافيه.
ساكن الصخرة
ما زال بيروس منذ وقعت الأميرة في أسره يلين لها وتخاشن، ويشرح هواه كما يشرح المظلوم شكواه، أو السائل فقره وبلواه، وهي عنه في صمم لا ترثي لحاله، ولا تلقي بالا لأقواله، حتى انتهى الرجل إلى اليأس، فانقلب العاشق فصار أحقد حاقد، واستحال الغرام إلى عداوة وانتقام، فعقد بيروس العزم على الفتك ببنت عمه قبل أن تهتدي حكومة الملك له ولجماعته، فترجع لادياس إلى العز القديم، وعندئذ يعطاها من تشاء وتختار، ولا يعطى هو إلا عاجل الدمار.
وكان هناك عاملان مهمان، يستحثان في الفتى نية العدوان، جنون اليائس وخصوصا إن كان أهل العشق كما هي حال بيروس، ووجود تلك الفتاة الخائنة هيلانه أكبر قرينات الأميرة، وجملة الخبر عنها إلى الآن أنها كانت الشيطان السائق للادياس إلى الشرك المنصوب، من أجل ثأر لها عند بنت الملك، وهذا الثأر لا يتعدى شخص بيروس، فإن هيلانة كانت تحب هذا الشقي لا تكتمه حبها إياه، وذلك قبل أن ينزل عليه سخط الملك، فلما غضب بوليقراط على ابن أخيه وأخذ ماله وجرده عن ألقابه، فر من العاصمة واختفى تاركا هيلانة على العهد، تزداد وجدا على وجد، فما لبثت أن استعملت كل حول وحيلة، لمواصلة عشيقها في الخفاء.
أما بيروس فكان من الغرام ببنت عمه؛ بحيث لا يمكنه أن يملك هيلانة فؤاده، بعد ما وقف على لادياس وقفا لا شرط فيه، ولا حاكم غير الهوى ينفيه.
وكنت إذا التمست لكم بديلا
أعاتبكم به عز البديل
إلا أن الفتى لم يكن يبغض التي تحبه، كما أنه لم ير من الحكمة أن يأبى على هيلانة جمائلها وخدماتها المستقبلة، وهي أعظم القرينات منزلة في القصر، ولا سيما في فؤاد الأميرة، فبقاء المواصلة ولو سرية بينها وبينه في منفاه؛ أمر فيه نفع وليس فيه ضرر، وبالاقتصار فإن بيروس خدع هيلانة حتى نال بغيته، بحسن مهارتها، وجميل سفارتها.
حتى إذا مضت الأيام على وقوع لادياس في قبضة عدويها، بدون أن ينجح بيروس فيما حاول من استمالتها إليه، وجدت هيلانه مجال العمل ذا سعة، فعملت بكل دهائها ومكرها حتى أخرجت لادياس من قلبه بسحرها ودخلت هي ظافرة الغرام، تتخذ ذلك القلب آلة للانتقام.
فلما كان صبح اليوم الذي دهم الأشقياء فيه ما دهمهم، انتبه بيروس من منامه وقد صمم أن يقتص من بنت عمه أشنع قصاص، فجمع أصحابه وقال لهم: أيها الأصحاب إني خارج اليوم في بعض الشئون؛ فإذا طلع القمر ولم أعد فادخلوا على لادياس، فخذوا أنسكم منها بقوة أحدكم فيريق دمها الأثيم. قالوا: سمعا وطاعة، ثم خرج بيروس وسار، تاركا الفتاة على أعظم الأخطار، وهي تستجير بهيلانة فلا تجار، وتود لو وجدت سبيلا إلى الانتحار، فرارا من هول ذلك العار.
ثم ما كان مما ذكرناه، ولم يبق في الصخرة سوى كلكاس وهيلانة، وقد أبى أن ينزل إلى حماس بل تركه غضبان حائرا يصول كل مصال، ويطلب الطعن وحده والنزال، وانثنى إلى داخل الصخرة فقص على هيلانة الخبر، فأشفقت واضطربت وأوجست خيفة من سوء العقبى، وكان الليل قد أقبل أو كاد، فشرعت الخائنة تطلب من كلكاس بإلحاح أن يفعل ما أمره به بيروس، وأن ينوب عن سائر إخوانه في إمضاء إشارة الرئيس، وهو يتثاقل عن تلبية دعوتها السابقة الأوان، ويخبرها أنه ما دام القمر لم يطلع فإن يديه مغلولتان، ويدخل معها في أبحاث فلكية ما أنزل الله بها من سلطان، وكان القمر حقيقة قد طلع وبدا نوره والتمع؛ فحينئذ عيل صبر الفتاة فطفقت تتهدد كلكاس وتوعده، وتمثل له غضب بيروس وانتقامه في أفظع الصور، حتى تملكه الخوف فاستل خنجره، ودخل على بنت الملك حجرتها وهو لا يكاد يمسك قدميه، أو تمسكه قدماه إشفاقا من هول ما هو قادم عليه؛ لأن الرجل كان رحيم القلب سليم النية بقدر ما كان جريئا مهذارا، إلا أن هيلانه كانت خلفه تدفعه إلى الجريمة كأنها شيطان القاتل المسلط عليه، حتى صار أمام لادياس وكانت الفتاة قد سمعت الحديث، كما جرى بين بيروس وأصحابه في أول النهار، وبين كلكاس وهيلانه في آخره، فحين دهاها الرجل لم يزدها بقصده علما؛ بل ألفاها بهيئة قيام، وفي خشوع تام، لآلهتها وتسألهم حسن الختام.
حماس في الصخرة
كان حماس قد قضى بقية النهار بأسفل الصخرة لم يبرحها لحظة واحدة، حتى إذا جاء الليل توارى خلف حجر يعصمه من بغتات العدو في الظلام، ثم أقام يرقب فلم تمض ساعتان من الليل حتى طلع القمر يرسل أشعته على الصخور فتضيئها من كل جانب، فاستبشر الفتى لهذا الملاك الهادي والزائر المؤنس، ثم بدت منه التفاتة، فإذا هو بظل يقبل من بعد وكأنما يطير طيرانا من سرعة السير، فازداد حماس أنسا على أنسه، وهنأ النفس على حفيد جديد، ولكنه دخل في الحجر كل الدخول؛ بحيث صار منه بالمخبأ الأمين.
وما هي إلا دقائق قليلة، حتى تجسد ذلك الظل فصار إنسانا طويلا عريضا يتقدم نحو الصخرة وثبا، كأنه الليث النافر وهي عرينه، ثم إذا هو بأسفلها وقد صفر صفيرا دوى له الفضاء، فأخرج حماس عندئذ رأسه وخالس الرجل نظرة، فرأى له هيئة أصحابه الذين عرفهم في أول النهار، فهم بالخروج إليه ليلحقه بهم ولكنه رأى سلم حبل يدلى به من أعلى الصخرة ليصعد الرجل عليه، فخشي إذا هو تحرك أن يتنبه من في الصخرة فيرفع الحبل بعد ما أرسله، فأمهل حماس غريمه ريثما نزل الحبل تماما، ثم خرج إليه وهو لا يشعر به، كما يخرج الذئب إلى الشاة، وكان الرجل قد تعلق بالحبل أو كاد فتعلق حماس معه، وقد أمسك الحبل بيد وغرس بالأخرى خنجره المسلول في أم فؤاد اللص، فنزل يهوى جثة لا حراك بها، واستمر حماس صاعدا حتى بلغ مدخل الصخرة، وهناك استقبله كلكاس وهو يحسب أنه بيروس صاحب الإشارة، وحامل الصفارة، فانتصب حماس أمامه كأنه عزرائيل قد أتى بلا ميعاد، ثم قال له بصوت أنكر من صوت الرعد: من الرجل وما شأنك؟
فأخذ كلكاس الذعر شر مأخذ، فوقف يتلعثم بكلمات متقطعة، وأسنانه يدق بعضها بعضا من الرعدة وهو يقول: عفوا أيها الملك، إن الأميرة بخير. - لا تؤذني أيها الشيطان. - لعلك عفريت بيروس! - سامحني يا سيدي حماس.
إلى غير ذلك من لغة الذهول حتى أضحك الفتى حاله، فتركه وتقدم في جوف الصخرة، فوجد بها حجرة فيها قليل نور فدخلها، وإذا هو بمنظر هائل ؛ إذ رأى فتاتين إحداهما قتيلة لم تجف دماؤها بعد، والأخرى قائمة عند رأسها وفي يدها خنجر تقطر صفحتاه من دماء تلك الفتاة، فصرخ حماس بها يقول: من أنت أيتها الشريرة وما هذا المشهد الفظيع؟
فألقت الفتاة سلاحها وقالت: حلمك أيها الرجل، فليست الشريرة إلا طريدة الحياة هذه (وأشارت للفتاة القتيلة)، وأنا إنما قتلتها مدافعة عن عرضي وحياتي، قال: وما حديثكما؟ قالت: أنا بنت بعض الناس وقد وقعت في أسر عصابة من الأشقياء يرأسها طريد المملكة بيروس، ثم إنها حدثت حماس أخبارها، من يوم وقعت في قبضة العصابة إلى الساعة التي هي فيها، ثم قالت: وأعلم أيها البطل أنه لولا بعض رحمة في قلب الرجل الذي مد لك الحبل، لكنت الآن مكان هذه الآثمة الظالمة، وكانت مكاني أنا البريئة المظلومة، فإنها ما زالت تدفعه إلى الجريمة دفع الأبالسة الناس إلى الشر، حتى دخل علي ليقتلني كما هي إشارة بيروس، فجاءني كسلان متراخيا كأنما يريد أن يمهلني ما استطاع إمهالي، وفي هذه الأثناء سمع صفير الصفارة فخطفت هذه الشقية الخنجر من يد الرجل، وخرج هو ليدلي الحبال كما هي العادة، فكان من حسن حظي أن الخنجر سقط من يد كلكاس وهي تحاول أخذه منه، فوثبت فسبقتها إلى موضعه من الأرض، ثم حملت عليها وطعنتها به الطعنة القاضية، وإذ كنت قد سمعت طرفا من جدالك في هذا النهار مع كلكاس، مما جعلني أطمئن بعض الشيء، فقد وقفت وقفتي التي رأيتني عليها الخنجر بيدي، وأنا مستجمعة لأقتل بيروس فإن لم أتمكن فنفسي.
وكانت الفتاة تتكلم ولباس الجرم ينحل عن جسمها الطاهر، كما تماط الستور عن تمثال بديع فاخر.
فما استتمت حتى رفع حماس عينيه فأبصر، ولم يكن رأى من قبل شيئا فإذا هو بملك يبرئ نفسه وهو البراءة متجسمة، ويتكلم ولو سكت لكان الطهارة متكلمة.
وكانت لادياس قد وصفت من قبل لحماس، فحين تأملها عرفها بتلك الأوصاف، وسبقت فراسته لسانها إلى الاعتراف، فدنا منها وهو يقول بأعذب هتاف:
يا ملكا فوق الثرى
قد هام فيه الناس
إن صح أخبار الورى
فأنت لادياس
فلما سمعت الأميرة هذا الكلام، وكان قد دخلها من الفتى ما داخل الفتى منها؛ أقبلت نحوه صامتة وعيناها تتكلمان، فنظرت إليه نظرة لا يقوى على مثلها جنان، ولئن أطاقها فؤاده فلأنه من حديد أو صوان.
ثم قالت مجيبة بأعذب بيان:
أنت الجميل المفتدى
والبطل الدواس
وأنت لي من الردى
وم الخنا لباس
فلست أنساها يدا
أسديت يا حماس
قال: وهل تعرفين اسمي يا منية حماس؟ قالت: عرفته منذ النهار؛ إذ أنت تحت الصخرة تنشد نشيدك تدعو كلكاس للنزول، قال: لقد ذكرتنيه فأين هو؟ قالت لا ينل كلكاس منك أذى؛ فإنه بالكرامة أحق يا مولاي، ثم إنهما برحا الحجرة ففتشا عن كلكاس، فلم يجدا له أثرا في الصخرة، وكان الحبل مدلى لا يزال، فعلما أنه نزل وفر على عجل، فالتفت حماس عندئذ إلى الأميرة، وقال: لم يبق إلا أن نحذو حذوه فننزل نحن أيضا، قالت: الأمر لبطل الصخرة الملساء.
فمسك حماس الحبل بيمناه وجعل اليسرى سند لادياس، ثم نزل متئدا محترسا، كمن ينزل بحمل من زجاج، حتى مس الأرض، فاستقر به وبالأميرة النزول، وأول ما نقلت لادياس القدم تعثرت في جسم اللين والصلب، فذعرت لأول وهلة وارتدت مجفلة، فدعاها حماس لتطمئن قلبا، وأعلمها أن تلك جثة شقي من الأشقياء، فدنت حينئذ منها وتأملتها فعرفت القتيل، فرفعت عينها نحو السماء مبتهلة للعناية، ثم قالت ما معناه:
يا سماء اللطف شكرا
قتل الباغي وديسا
لك مجرى العدل طرا
وعلينا أن نقيسا
فسألها حماس: ومن هذا الباغي يا مولاتي؟ قالت: هذا بيروس ابن عمي ومختطفي ورئيس العصابة الهالكة، قال: إذن فقد قطع رأس الأفعى، وأصبح الطريق مأمونا من هذا الصخر إلى القصر.
وكانت لبيروس ذؤابة يعتني بها، ويبالغ في تسريحها وتطبيبها، بقدر ما بلغت الخلقة في تذهيبها، فأعجب حماس بها، وأراد أن يتخذها علامة على ما جرى له في ذلك اليوم مع الأشقياء، وذكرى لوقائع الصخرة الملساء، فاستأذن الأميرة في ذلك فأذنت له، فاستأصل الذؤابة من جذورها ثم تمنطق بها فكفت ووفت.
والتفت بعد ذلك إلى لادياس، فقال لها: الآن اجعليني أيتها الأميرة زمامك، وثبتي أقدامك، ولا تبصري إلا قدامك، فإن ذلك أمضي سلاح يتقلده الإنسان، في مكان مخوف مثل هذا المكان. قالت: سمعا وطاعة. ثم مشى البطل المصري ومشت أميرة ساموس بجنبه كأنها ظله المديد، أو رمحه السديد وهو يتوجه بها؛ حيث وصف له ذلك الصياد، وينظر في سهل الطرق ويرتاد، فيهبط الأغوار ويعلو الأنجاد، وتسلمه الهضاب إلى الوهاد، حتى أقامه السرى في طريق مستوية منبسطة يشرف عليها الصخر من الجانبين فكأنها مضيق بين جبلين.
وكان قد ذهب من الليل ثلثاه والقمر لا يزال ملتمع الضياع، وهاج السراج في الأرض والسماء، فمال بالأميرة السرى، ومالت إلى الكرى، فاشتهت من حماس لو سامحها في الاضطجاع ولو هنيهة من الزمن، فلم ير من بأس في تلبية هذا المقترح، وفتش للحين عن جانب من الأرض يصلح لضم ذلك الجسم الناعم، فلما وجده عرضه عليها، فاضطجعت واضطجع هو أيضا دون قدميها، فأخذهما كليهما النوم فناما مثقلين بالمتاعب، ثملين من كأس السرى الناصب.
فحين تملك حماسا المنام، وسرت روحه من دنيا الأوهام إلى عالم الأحلام، رأى في نومه كأن الشعب في سيبس (عاصمة مصر يومئذ) يلبسه تاج البلاد ويجلسه على عرشها، ثم كأن الأمة بأسرها موكب له يسير فيه إلى الهيكل الأعظم، ثم كأنه دخل الهيكل فمثل سدة الآلهة فحمدهم وأثنى عليهم، ثم هم بأداء يمين الطاعة والأمانة لهم، فسمع عندئذ من وراء الحجاب صوتا يقول «ليس للملك يمين، وعند اللوح الخبر اليقين.» فتذكر حماس على الفور أقسامه ووعوده للوح، فانتبه من نومه مبغوتا مذعورا، فنظر إلى لادياس فإذا هي لا تزال في أسر النعاس، فحدثته نفسه المضطربة أن يرجع إلى حيث ترك اللوح، فيأتي به قبل أن تهب الأميرة من رقادها، فنظر إليها نظرة معتذر خجل، ثم تركها في حفظ الآلهة وانطلق يعدو في طلب اللوح، فلو رأيته حسبته يقظان وهو نائم لم يستفق بعد من النوم، وإنما تلك حال كانت تعاوده في منامه، فيبلغ إلى مثل هذا الحد في أحلامه.
كيف انتبهت لادياس
بينما كان حماس يخبط في أحلامه، ويأخذ ليقظته من منامه، وقد حل سلطان النوم عقدة من أقدامه، فانطلق مستعجل الخطو، حثيث الهدو، يكفر عن ذلك السهو، كان فارس آخر لا يقل عنه حسنا وجمالا ولا تكاد العين تفرق بينهما شكلا واعتدالا، يطلق لفرسه في الطريق العنان، ويتقدم بسرعة نحو ذلك المكان، حتى إذا صار على مقربة من مرقد الأميرة جفل فرسه وكاد يكبو به لولا شدة احتراسه، فكان ذلك للفارس بمثابة الإنذار، فأخذ لنفسه من الموقف الحذار، ثم أرسل النظرات تباعا فوقعن على إنسان قد توسد الأرض، فتوهمه لأول وهلة قتيلا، فترجل من فوره ودنا منه ثم حققه في سنا الفجر، فخيل له بادئ بدء أن المكان للآلهة وهم عليه رقود، وأن الفجر إنما يستمد لآلئه من ذلك العمود الممدود، فوصل التأمل فإذا هو بفتاة ما خلق الجمال إلا لها، وعليها من الحلل والحلي ما يمثل الملك وشعاره، وتبين عن عز الإمارة، فلم يقم بنفسه شك أنها لادياس، تأخذ لعينيها بقسطيهما من النعاس، ففرح أعظم الفرح بقربها، وتقدم فاضطجع بجنبها، ثم أقام يراقب حركاتها، وينتظر انتباهها من طويل سباتها.
وفي هذه الأثناء لمح الفارس عند قدمي الأميرة سيفا ملقى، فتحرك فأخذه وتأمله ثم تقلده، ووجد مكان السيف أثر رقاد فعلم أن السلاح سلاح حماس، ولكن لم يعلم أين ذهب منقذ لادياس.
وكانت الأميرة قد هبت من نومها، فالتفتت إلى صاحبها وقالت: أين نحن الآن يا سيدي حماس؟ قال: في الدرب الأصفر يا مولاتي، وبيننا الآن وبين المدينة مسيرة يوم كامل، فحين سمعت لادياس هذا الصوت أنكرته مسامعها، كما أنكرت عيناها هيئة الفارس من أول نظرة، فنفرت عنه كالمنبغتة، ثم قالت: من أنت أيها الفارس، ومن جعلك مكان البطل حماس؟ قال: أنا هو ذا يا مولاتي أنا حماس بعينه، وما مسخت ولا جعل أحد مكاني ولكن شبه لك، فتأملته الفتاة مليا وكانت فيه مشابه من بطل الصخرة الملساء، فما ازدادت الأميرة إلا انبغاتا وهمت أن تتهم الظلام، وأن ترى في ثياب الفارس منقذها الهمام، فلما آنس الفتى منها ذلك أقبل عليها ملاطفا، يقول: وحماس أيضا اسم وضعته لي أوهامك، ولا أحسبك إلا قد استفقت مما كنت فيه من الذهول، فكادت هذه العبارة تخرج عقل الفتاة من رأسها، وألفاها الفتى غادية على خطر الجنون، فأردف في الحال بأن قال: ما بالك يا مولاتي باهتة باغتة كأنك تشكين في أمري، ألست مبيدا لعصابة الأشقياء؟ ألست بطل الصخرة الملساء؟ ألم يكن لي ولأعدائك الشأن العجيب؟ ألم أدخل عليك الصخرة وكلكاس فيها، فحين رآني لم يملك ليديه حراكا، ولا لقدميه انفكاكا، ألم أجدك أسيرة ففككت، ومهددة فأمنت، ألم نفتقد كلكاس بعد ذلك فما وجدناه؟ فما بالك وهذه دلائلي وأماراتي لا تزالين لي بالجحود، ولا تعودين لأنسك المعهود، فراجعي يا مولاتي عقلك واعلمي أنك ما كنت إلا في خيال، وما اختبلك إلا رؤية تلك الأهوال، والآن أنت بحمد الآلهة ناحية سالمة، وعن قريب على أبيك الملك قادمة، فلا تجعلي جزائي عما قاسيت بالأمس، أن يقال ردها وبها مس.
وكان الفتى يتكلم ولادياس تسمع، ولا تكاد تعي من شدة الدهش، إلا أن ما أشار إليه الفارس من حوادث الأمس قد أنزل عليها بعض السكينة، كما أن مشابهته لحماس كانت تدعوها للطمأنينة، فما لبثت أن اتهمت ظنونها وأوهامها فرجعت إلى الفتى آمنة مطمئنة تسأله: ومن أين لنا هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لقد آن أن يمحى هذا الاسم من لوح خاطرك الشريف؛ إذ ليس له في الحقيقة وجود إلا في وهمك، قالت: فكيف أسميك إذن؟ قال: الأمير بهرام شقيق ملك ملوك ميديا وفارس، فاهتزت لادياس لهذا الاسم وهذا اللقب، وانحنت فحيت الأمير، ثم قالت: من أين هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لا حول لنا الآن في هذا الذهول ولا حيلة، فتأملي الجواد أيتها الأميرة لا تجديه إلا جوادك، فدنت لادياس من الفرس فوجدته - حقيقة - جوادها المهدى إليها من مصر، فقالت: ومن أعطاك إياه.؟ قال: أخذته من مرابط الملك لهذه الغاية، والآن لم يبق يا مولاتي إلا الركوب لعلنا نختصر من الزمن، فلو علمت حال الملك من الوجد عليك، لاخترت أن تطيري إليه مع الريح، قال هذا وأخذ بيد الفتاة فأركبها ووثب بعد ذلك فصار خلفها، ثم أطلق للجواد العنان وهو يهنئ النفس على هذه الغنيمة الباردة.
بوليقراط والدهر
قد بلغ من شقاء بوليقراط على أثر اختفاء فتاته أنه زهد في الدنيا ولذاتها، وتسلى عن الإمارة وطيباتها، وأصبحت نفسه على نعيمها الموفور تحسد سائر الأنفس على كافة حالاتها، بالجملة فقد حقت كلمة الدهر على طاغية ساموس وعلت الحوادث فوق عليائه، فدهمته بضراء أنسته ما كان من سرائه.
إلا أن البحث عن الأميرة في كل ناحية من نواحي المملكة كان كل يوم في ازدياد، خصوصا أورستان فقد كادت سفنه تقلب الأمواج، عن تلك الدرة الساقطة من التاج.
وكانت نتيجة البحث تعرض على الملك ومجلسه في كل يوم بل في كل ساعة، فلا يزداد إلا بأسا على بأس من لقاء فتاته العزيزة، بل حياته الغالية.
وللوالد العذر؛ فإنه لم يقبض في خلال ذلك الشهر النحيس إلا على رجلين قليلي الشأن، لا يمكن أن يبني على وجهيهما أدنى أمل بكشف الحقيقة، أما أحدهما فأخذ في البحر وفتش زورقه فوجد بأسفله ثقبا صناعيا ينفتح لدى الحاجة وينسد لدى الحاجة كذلك، فكان ذلك مجلبة للريبة في أمره فقبض عليه وسيق إلى السجن، وأما الآخر فوقع في قبضة الشرطة حديثا، وهو وافد على البلد من طريق مهجورة مريبة وبهيئة منكرة مشككة، فلما سئل تظاهر بالبله والعته فلم يزد النفس إلا جناية عليها، وكان نصيبه من البلاء نصيب صاحبه الصياد، وقد تعبت الحكومة وتعب رجالها في بلادة الرجلين وبلاهتهما وتصميمها على الجحود والإنكار، فاكتفت بتركهما في السجن، وكان منها عليهما نسيان طويل.
فبينما الملك ذات يوم كالعادة يشاور أهل مجلسه ويشاورونه في خطبه الجلل، وقد ظهر الضعف عليه وبال وأخذ يهرم قبل الأوان، لم يدر الجميع إلا بالقيامة قد قامت في المدينة وكان الوقت الضحى والحركة في الطرق والأسواق عظيمة، فساعد ذلك على نمو تلك الضجة الهائلة حتى بلغ صداها عنان السماء.
فأشرف الملك من نافذته ينظر ماذا طرأ، وأشرف من معه من سائر النوافذ؛ فإذا هم برجال كالرياح أو أسرع جريا ووجهتهم القصر، فاستبشر بوليقراط برؤيتهم ووجد يعقوب ريح يوسف من أول وهلة، ثم ما هي إلا هنيهة حتى اقترب الرجال من القصر كل الاقتراب، ثم سبقهم إلى الجدار المشرف منه الملك رجل كأنه سارية، فوقف ثم صاح بصوت كادت تميد له جوانب القصر يترنم بما معناه:
بشراك يا ملك البلاد
إن الذي ترجوه عاد
عادت أميرتنا إليك
ولم يطل منها البعاد
فحين سرت هذه البشرى في حزوق المسامع السلطانية، لم يكن على الملك ساعتئذ إلا خاتم في إصبعه من أنفس ما حمل الملوك والسلاطين، فرمى به إلى البشير فتلقفه وانقلب شاكرا داعيا.
ثم تلت وفد البشرى وفود من الشعب تترى، مهنئة الملك بأناشيد المديح، من كل وزن ومعنى مليح.
ثم أقبل رسول من الأمير بهرام يحمل رسالة مختومة منه إلى الملك، فقوبل من باب القصر إلى الحجرة السلطانية بالوجوه الباشة والصدور الرحبة، حتى إذا مثل بين يدي الملك رفع إليه الرسالة، فتناولها وقرأها؛ فإذا هي قد جاء فيها ما معناه:
مولاي الملك الموقر
قد توفقت بفضل الآلهة ويمن تضرعاتك الأبوية المستجابة لوجدان الأميرة العزيزة، وأنقذتها من يد الشقي بيروس ورجاله بعد شدائد جسيمة، وأهوال عظيمة، والآن نحن عند الباب الثاني للمدينة ننتظر من حكومة جلالتك أن تهيئ لنا موكب الوصول إلى القصر، وهناك أرد إلى الملك فتاته الكريمة كما أخذتها من يد العناية، محفوظة بأكمل السلامة وأتم الرعاية.
التوقيع: الأمير بهرام شقيق ملك ملوك ميديا وفارس
فلم يكتف الملك بقراءة الرسالة في نفسه، بل تلاها على الملأ بلسان تثقله نشوة الطرب، فاشتغل المجلس للحين بتهيئة الموكب المطلوب، وحملت إلى الأميرة وإلى منقذها الأمير ملابس الزينة اللائقة بمقامهما الخطير، هذا بعض ما اتخذت الحكومة من التدابير، وما أعدت من الاحتفال لاستقبال الأميرة والأمير، فما بال الشعب وقد عرف القارئ مكان لادياس عنده، وكيف كان يحبها جهده، ولا يريد أن يولي سواها عهده، فلا تسل عن مجالي أفراحه، ومظاهر سروره وانشراحه، وحدث بما شئت عن معالم الأنس في المدينة، وما أضفى عليها توا من حلل الزينة.
فلم يكن الأصيل إلا والبلد قد أزين، والموكب قد سار بين إعظام الخلائق والإكبار.
وكان الملك في انتظار وفود الأميرة بالقصر، فحين أقبل موكبها استقبلها هو وسائر أهل مجلسه، كما يستقبل الشحيح كنزه المفقود، أو العليل الفاني عائد الوجود، وهنأها الجميع على نجاتها من شر الأشقياء، ثم أقبلوا على الأمير بهرام وكان متوجا بأكاليل الغار، علامة على الفوز والانتصار، وعنوانا على كسب المجد والفخار، فهنئوه كذلك بخروجه سالما غانما من تلك المعارك، وشكروا له منته العظيمة على الملك والملكة بإنقاذ الأميرة الفخيمة، ثم خاطبه بوليقراط فقال: «أيها البطل المجامل وغدا أقول أيها الصهر الكريم، لقد أعدت للوالد مهجته، ورددت على التاج درته، ومثلك يرجى لهذا ولمثله، وهذا الكنز على عظم قيمته، سوف يقدم لك برمته، فقد أصبحت آمل أن الحكومة والشعب يوافقانني على الاكتفاء بما كان لتقرير القران، وإن نكن قد حصلنا على شرط واحد وبقي شرطان اثنان.»
فقام الأمير على إثر ذلك فقال: «أعد من سعودي أن مولاي الملك قد اختارني للشرف السامي، شرف مصاهرته العلية، وأني بما نلت من جليل ثقته لأسعد، إلا أنه برغمي أن يعلم الملك أن ما مر على الأميرة من الحادثات واختلف عليها من الأهوال لا يزال له أثر خفيف في قواها العقلية، فلقد عهدتها تفقد الصواب في بعض الأحيان فتهذي بوساوس أعجز عن فهمها، وتذكر من الأسماء ما لا وجود له إلا في وهمها، ولكني أبشر الملك بأن هذه الحال، وشيكة الزوال، وأنه لا يمضي على الأميرة أيام، حتى تحصل على الشفاء التام، فقد ذهب عنها الآن معظم ما كانت فيه من الذهول المتاخم للجنون وأصبحت تتماثل، وتنبعث قواها وتتكامل، فكيف اليوم وهي موفورة الراحة والهناء مردود أمرها إلى عناية الأطباء، فما استتم الأمير حتى عاد الكدر فاستولى على الملك بوليقراط، واشتغل سائر أهل المجلس بهذه الحادثة الجديدة، وأخذ الكل يسألون الأميرة عن أمور حدثت لها في صباها، فأجابت أحسن جواب ولم تخرج قط عن دائرة الصواب، حتى جاء ذكر الحادثة التي نحن بصددها فأحسنت الوصف، ووفت الشرح، وما زالت تفصلها للمجلس تفصيلا من ساعة أن وقعت في أسر الأشقياء إلى ساعة أن دخل عليها حماس، فلما نطقت الأميرة بهذا الاسم كاد الملك يجن لذكره، وكاد جنون أورستان يكون أشد وأعظم، فصاحا معا: وهل خرج حماس من بطن الحوت؟ ثم أردف أورستان بأن قال: أما الأمير فلا يخلو من مشابه من حماس، وأما أن يكون حماس حيا يرزق فهذا ما لا أصدق ولو لقيته وجها لوجه وكلمته فما لفم؛ وحينئذ فلا أحسب الأميرة إلا ذاكرة ما كنت أقوله للملك عن حماس وهي حاضرة، فعلقت اسم ذلك البطل، وهي الآن تهذي به في جملة خطراتها.
ثم انتهت الكلمة الأخيرة من بعد ذلك إلى الطبيب الخاص وكان في المجلس، فلم ير في أحوال الأميرة ما يدعو إلى القلق والفزع؛ بل أبدى أن بضعة أيام تكفي لذهاب الروع عنها، فلا تلبث أن تعود إلى ما كانت عليه من تمام صحة العقل والجسم، وعلى ذلك انفض المجلس بعد أن أمر الملك للأمير الفارس بالمقر اللائق بمقامه، ووكل بخدمته من يعتنون بأمره ويبالغون في إكرامه.
قرية الوحش الهائل
لما بلغ حماس الصخرة الصماء وكانت الشمس في رونق الضحى، افتقد اللوح فوجده حيث تركه، ووجد عنده ذاك الزاد وذا الماء، فتأبط من فوره اللوح وحمل ما يكفيه هو والأميرة من الطعام والشراب، وحينئذ ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، وأدرك الفتى أنه أساء إلى لادياس إساءة قد تتناول حياتها بتركه إياها وحيدة فوق طريق اللصوص والوحوش، فندم أعظم الندم ورجع على الفور القهقرى وهو يعدو عدو الظلوم، فلم يكن الظهر حتى وصل المكان المعلوم، وهنالك فتش عن مضجع لادياس فلم يجدها فكاد الموقف يطير بلبه، ودخل في أشبه الحالات بالجنون فذهب بالبحث في غير كنهه، ومضى من بين الصخور يهيم على وجهه، وكان العقل أنه يسلك الطريق الأقصد الأقصر، طريق الدرب الأصفر.
فبينما هو في هيامه يوغل في الصخور إيغالا، ويذهب فيها يمينا وشمالا، سمع زئيرا مادت له الصخرة الصماء، واهتزت له جوانب الفضاء، فما فزع ولا انذعر، بل وقف يتقصى النظر، فإذا هو بأسد هائل كتلة الجسم وقد قصد نحوه يتخطى له الصخر، وهو يهدر كالفحل، فثبت حماس في مكانه، يتراءى للوحش بكل عيانه، ثم اندفع يهتز ويتثنى، ويترنم بهذا الكلام ويتغنى:
إني أنا حماس
لي في الحروب باس
من خير جنس في الورى
تعنو له الأجناس
أريكتي ما أمتطي
وتاجي النحاس
وصولجاني صارمي
والرمح والأتراس
يا من يريد لي الردى
ردت عليك الكاس
وأحصيت منك الحطى
وعدت الأنفاس
ما في حماس حيلة
ولا له مراس
قد تعب الوحش به
وحار فيه الناس
ولست من أكفائه
ولا به تقاس
فطأطئ الرأس له
فما عليك باس
فكانت هذه الصيحات، وما تقدمها من شدة الثبات، وخفة الحركات، كنذير للوحش أن القرن ممن يقام له وزن، ولا يستخف له شأن، فتباطأ في مشيته، وتخلى عن كثير من عزته، حتى صار من بطل الصخرة الصماء وجها لوجه ولم يبق بينهما إلا دائرة النزال، والبعد اللازم للتناوش والقتال.
فبدر حماس إلى الأسد وكان الوحش نادرا في نوعه من؛ حيث الجسامة والضخامة، وطول السواعد وعظم الهامة، حتى كنت تراه بالثيران الوحشية أشبه بالأسود، وكانت له لبد وافية ضافية يحتجب فيها رأسه وتبرز أنيابه من خلالها كأنها المنايا الزرق، وله عينان حمراوان تذيبان الحديد فما بال الإنسان؟ فحين رأى حماس وقد برز له أناف على ساعديه وزأر زأرة رجعت صداها الآفاق، ثم حمل على الفتى حملة منكرة، فتخلى عنها وراغ كالثعلب منه ومنها، فعاد الوحش فثنى وهو يكاد يخرق الأرض ويبلغ عنان السماء طولا من هول دبدبته، وخفته في وثبته، فمرق حماس هذه المرة من تحت بطن الأسد، وهكذا طفق الحيوان يثب تارة ويحوم أخرى، ويجري يمنة ويصول يسرة، ويقوم ويقعد، ويرغى ويزبد، وحماس يغريه ويجننه، ويطمعه ولا يمكنه، حتى خانته قواه، وخذله ساعداه، فوقف وقد فغر فاه، ولم يبق منه حيا إلا عيناه.
وعند ذلك دنا حماس منه فألقمه اللوح فعضه بأنيابه، فنشبت فيه من شدة الغيظ، وإذ أيقن الفتى أن الأسد عجز تعجيزا، وأنه صار كالعير أو أسهل قيادا؛ أقبل عليه يلاعبه ويداعبه، ويتلطف له ويطايبه، كالظافر المعتذر، أو المجامل وهو منتصر، وكأنما أثر كل هذا التعطف في وجدان الليث فأطرق برأسه وجعل يدور حول قاهره ويحتك به ويحتمي فيه، فخطر حينئذ على بال حماس أن يحفظ هذه الهدية الفاخرة ليهديها إلى الملك حال وصوله إلى العاصمة، إلا أنه استنكف عن أن يسحب الأسد، ورأى أن ركوبه إياه أسمى له وأجلب للراحة، فترك اللوح في فمه كما هو، ورفع رجله فصار فوق ظهر الوحش، وإذا هو لا يتأبى ولا ينفر، ومن عادة الليث أن يتشامخ ويستكبر.
ثم حركه فتحرك يمشي به مستعجل الخطو ناشط الأقدام، ولم يكن حماس يعلم أين يؤم بدابته فملكها الزمام، وسامحها في اللجام، وأرسلها تروم به كل مرام، فما زالت تطوي الصخر نحو الصخر، وتخرج من قفر وتدخل في قفر، حتى مر به الليث على غابته، وهنالك بدت من بعد أنثاه، وإلى جانبها شبلاه، وهي كأنها الفرس الكريم في حسن المنظر وتناسب الأعضاء، وكأن صغيريها ليثان كبيران، وما اكتملا حولا من الزمان، فأشفق حماس من هذا العدد، وظنها خدعة من الأسد فاستل خنجره واستعد للقتال راكبا وهو لا يشم أنها مسبعة، وأن فيها أكثر من هذه الأربعة، ثم أقبلت الأم وولداها يتبعانها وهي تواصل الزئير، تتأهب لتغير، حتى اقتربت من الأسد فلم يكن منه إلا أن أدار نحوها الوجه، ونظر إليها نظرة الزاجر الرادع، ففهمت الإشارة ومشت أمامه ذلولا صاغرة، وشبلاها في جانبيها يسيران حيث تسير.
وما هي إلا ساعة سير على هذه الصورة، حتى بدت لحماس من بعد معالم مدينة تتراءى بين المزارع والجبال.
ثم إذا به قد دخل في المعمور، فحين رآه الأهالي ولوا منه فرارا، ضاجين صائحين متفرقين ذات اليمين وذات الشمال، وهو يدعوهم لتطمئن قلوبهم فلا يزيدهم نداؤه إلا هلعا وفزعا، حتى ارتبك في أمره، وخشي أن يعود الحيوان فيثور تلقاء جبن الإنسان، فلم يكن منه إلا أنه ترجل ثم ساق البهائم أمامه، وهو يفتش الطرق والأماكن عن محل يودعها فيه إلى حين.
فمر ببعض الملاعب على الطريق مما كان الأهالي يتخذون للمصارعة، وكان متين البنيان على الجدران فعالج بابه فانفتح، وحينئذ تحيل إلي أن أدخل فيه الوحش وجماعته، وأغلق الباب بعد ذلك كما كان.
وكان الناس ينظرون إلى فعله هذا من بعيد، فلما أيقنوا أن الوحوش أصبحت في الأسر؛ بحيث لا يخشى أذاها، انهالوا عليه من كل جانب وهم بين الارتياب فيه والاستغراب، وآنس حماس ذلك منهم فوقف فيهم خطيبا، فشرح لهم الأمر كما جرى، وأخبرهم كيف تمكن من قهر الوحش ولم يجرد لذلك سلاحا، وكيف بلغ من هيبة الأسد له أنه حمل أنثاه وولديه على طاعته، وكيف كان له مطية ودليلا حتى بلغ به المعمور بعد أن يئس من بلوغه.
فعند ذلك علا تهليل الشعب حتى بلغ عنان السماء، ولم يدر حماس إلا بأكاليل الغار، تجعل على رأسه وبالأزاهر تنثر في طريقه وتحت أقدامه، فاستغرب الأمر واستعلم ممن حوله عن السبب، فأخبروه أن الحيوان الذي جاء به وبصغاره أسرى ليس بالأسد كما زعم، وإنما هو الوحش الهائل، وأن تلك القرية قريته المسماة باسمه، لكثرة ما فتك فيها، وأغار على أهاليها، وأن الملك قد أقطعها من يدمر الوحش ونسله تدميرا، فما بال من يأتي به أسيرا؟ وأن عددا كثيرا من أبطال اليونان، وجند ساموس الشجعان، ذهبوا فريسة هذا الحيوان.
ثم إن الصناع في قرية الوحش الهائل اجتمعوا فقرروا فيما بينهم، أن يصنع قفص من الحديد يسع الحيوانات الأربعة لتجعل فيه، ثم يحمل إلى الملك بوليقراط، وبينما هم يباشرون هذا العمل بما في الوسع إتيانه من السرعة، كان حماس يشتغل بتعهد الوحوش وإطعامها وسقايتها، وهي لا تزاد إلا تعلقا به وألفة له واحتماء فيه.
فلم يجئ اليوم التالي إلا والقفص قد خرج من أيدي الصناع، ولم يبق إلا نقل السباع إليه، فأخذ حماس هذه المهمة على نفسه، فادخل فيه الوحش وأنثاه وصغيريه، وجعل فيه زادها وماءها، ثم اجتمع نحو ألف من أهل القرية فحملوا القفص وساروا به قاصدين نحو العاصمة، وكانت المسافة نحوها يوما كاملا بالسير الحثيث.
زفاف لادياس لبهرام
تركنا لادياس شغلا لوالدها الملك بعد شغل، وهما بفؤاده الرقيق بعد هم، وإن كان الطبيب الخاص قد اجتهد في التخفيف عليه، حتى أقنعه أن الأميرة ليست مهتلسة العقل؛ بل هي كما يقول الأمير بهرام، مضطربة الوجدان من شدة ما قاست في أسر اللصوص.
إلا أن مقالة الطبيب لم تصدق ولا أغنت من حقيقة الحال شيئا، فإن هذيان الفتاة كان يزداد من اللحظة إلى الأخرى، وكان اختلال الشعور، يظهر عليها كل الظهور، وعلى الخصوص كلما وقعت عينها على الأمير بهرام، أو دخلت معه في كلام؛ إذ تتذكر حينئذ حقيقة الحوادث وتشتاق رؤية منقذها، فلا تجد في بهرام منه إلا مشابه طفيفة، لا تأسو جراحها ولا تبل صداها.
وكان الملك يرى ذلك على فتاته فتزداد آلام فؤاده، ويود في نفسه لو كانت هلكت من أول الأمر، ولم ترد إليه كما هي الآن، جسم ولا روح، وروح ولا حياة، وحياة ولا شعور.
ولهذا كانت لا تمر ساعة حتى يدخل عليها، أو يأمر بها فتخرج إليه، فيمتحنها فيجدها في كل ما تقول، وتفعل كما كانت قبل الاختفاء وأعقل، إلا في أمر واحد وهو الاعتراف للأمير بهرام بمنته عليها بالإنقاذ.
أما بهرام فقد خشي من أول يوم ظهور صاحب الحق بغتة، فيعطي حماس كنزه الذي وجده، ولا يعطي هو إلا الفضيحة والعار، فعمد إلى حيلة من أحسن ما يتخذ في مثل هذه الأحوال؛ ذلك أنه أوعز في اليوم الثاني إلى الطبيب الخاص بصوت رنين الذهب الفارسي، أن يشير على الملك بتزويج الأميرة في الحال، لعل الألفة إذا انعقدت بينها وبين خطيبها بصفة فعلية؛ تخرج أعصابها من أسر الأوهام.
فتوجه الطبيب توا إلى الملك واستأذن عليه، ثم بذل له النصيحة مزخرفة مقبولة، فلم يكن من الملك عندئذ وهو في موقف الغريق إلا أن أبقى الطبيب في حضرته، ثم أمر بمجلس الشورى الأعلى للمملكة فانعقد للحين.
فلما تكاملت هيئة المجلس أشار بوليقراط لطبيبه أن يتكلم، فقام فألقى على الملأ خطابه، شرح فيها الداء ووصف الدواء ملحا في طلب الزواج ووجوب تعجيله، حتى أقنع المجلس كل الإقناع، فقرر قبول إشارته بالإجماع، ثم ضرب اليوم الخامس من وصول الأمير والأميرة إلى العاصمة، موعدا للاحتفال بعقد النكاح في الهيكل الأعظم.
وما كاد المجلس ينفض حتى صدرت الإشارة السلطانية، لكل ذي شأن بين رجال المملكة بالعمل الذي يرسم له في مثل هذه الظروف ويفرض عليه.
وانقضى اليومان الباقيان في تهيئة معدات القران، وترتيب حفلات المهرجان، حتى إذا كان صبح اليوم الخامس يوم العقد لبهرام على لادياس، تحرك موكب الزفاف بالعروسين حاشدا فاخرا رهيبا، أوله في أرحاب القصر السلطاني وآخره في ساحة الهيكل الأعظم.
ثم وصلت المركبة العالية فاستقبلها على أبواب الهيكل الملك بوليقراط، وكان قد سبقها إليه يحيط به الكهنة العظام وسائر وجوه الدولة الفخام، وهنالك نزل العروسان يختالان في أبهى الحلل، يغيران بزينتهما الشمس في رونق الضحى، فمشيا يجتازان سور الهيكل وطرقاته، وهي كأنها بيوت النمل من زحمة الشعب عليها.
وكان الملك قد أمر في مساء الليلة التي أسفر صبحها عن يوم القران السعيد، بالإفراج عن المساجين فخرجوا مئات يؤدون شكر هذه المنة بالدعاء لجلالته في الهيكل وخارج الهيكل، ويتيمنون بطلعة من هي السبب في هذه المزحمة الكبرى.
حتى إذا بلغت الحفلة تمامها، وأخذت الرسوم فيها نظامها، ولم يبق إلا صدور الإشارة السلطانية للكهنة بالشروع في العمل، لم يدر الناس إلا بصوت جمهوري مسمع قد خرج من بعض جهات الهيكل، فتفزع الجمع والتفت الملك ومن حوله، فحين آنس صاحب الصوت منهم ذلك قام يتراءى لهم بكل عيانه.
ثم قال: أنا الساموسي كلكاس، أشهد أمام الآلهة والناس، وأعلم أن الشهادة دين، وأن ليس على الآلهة يمين، وأن كتمان الشهادة، جبن وبلادة، وجرم كجرم الكذب وزيادة، فيا أيها الناس لا تغتصبوا حقوق الغير، ولا تنالوا السوي بضير، وأدوا لكل أمانته، وردوا إلى كل بضاعته.
وقال الناس: تكلم أيها الرجل. قل ... أوجز ... أد الشهادة.
قال كلكاس: أيها الناس إن العجلة مذمومة، وإن عواقب التسرع مشئومة، فأمهلوني أخبركم اليقين، وآتكم بالعجب بعد حين.
قال الناس: هذا مجنون ... هذا مهتلس العقل ... خذوه ... أخرجوه.
وكانت الأميرة لما ذكر اسم كلكاس عرتها هزة لم تكن بالعهود، وتحنت على أبيها فطلبت منه أن يستمع مقالة الرجل إلى آخرها، وأن يعلي محل شهادته، فحين برز الجند إلى كلكاس ليخرجوه من الهيكل، أشار لهم الملك أن يكفوا، ثم أمر بالرجل فقدم بين يديه.
وعندئذ حققته الأميرة وعرفه الأمير كذلك فاضطربا، وبدت على الأولى علامات الدهشة والأمل، وعلى الثاني دلائل الحيرة والارتباك.
فسأل الملك كلكاس قائلا: من الرجل، وما عملك، وما تلك الشهادة؟
قال كلكاس: عبد جلالتكم الساموسي كلكاس خادم الأمير بيروس.
قال الملك: بيروس؟ وكيف أفلت من حبالة الحكومة يا خائن؟
قال كلكاس: لأنفعك في مثل هذا اليوم يا مولاي.
قال الملك: وأين نفعك؟ ... هات ... أد الشهادة، وحذار من الكذب.
قال كلكاس: أعلم يا مولاي أن هذا الأمير ليس هو منقذ الأميرة، كما كذب عليك ويكذب الآن على الآلهة.
قال الأمير بهرام: أنت الكاذب لا أنا أيها السوقة النذل.
قال كلكاس: السوقة النذل تعرفه مولاتي الأميرة، فأنا أترك لها الكلام.
قالت الأميرة: بل تكلم أنت يا كلكاس، فما عليك من باس.
قال كلكاس: ولكن منقذ الأميرة الحقيقي هو البطل حماس، الجهنمي حماس، المارد حماس، إني لا أذكره يا مولاي إلا وترتعد فرائصي وأكاد أذوب في ثيابي رعبا.
قال الملك: حماس؟ إذن أنت يا لادياس عاقلة ونحن المجانين، اسمع لما يقول كلكاس يا أورستان.
قال أورستان: إني أكاد أجن دهشا يا مولاي، وأتمنى على الآلهة أن يكون هذا الحديث صدقا.
وفي هذه الأثناء أقبل رجل من أقصى الهيكل يخترق الجمع حتى إذا اقترب من الملك وأورستان، دخل في حديثهما مندفعا فقال: وأنا يا مولاي عبدك الساموسي مندراس، أزكي شهادة كلكاس.
قال الملك: ومن أنت أيضا؟
قال مندراس: أحد أصحاب بيروس يا مولاي والوحيد الباقي منهم، اضطررت أنا وصاحبان لي من العصابة إلى النجاة يوم الموقعة على زورق مثقوب لبعض الصيادين، فنزل رفيقاي في الطريق مفضلين المسير برا إلى بلادهما، وبقيت أنا وحدي في الزورق إلى أن أسرني بحارة الملك، فزججت في السجن، فلبثت فيه أياما ثم أخذت بنصيب من عفو الملك بالأمس عن المسجونين.
قال الملك: وهل تعرف هذا الأمير؟
وأشار إلى بهرام، فدنا الرجل من الأمير وحققه، ثم عاد، فقال: هذا أول عهدي برؤيته يا مولاي.
قال الملك: ولكنه يزعم أنه منقذ الأميرة.
قال الرجل: أسأل الآلهة ألا يسلطوا عليه منقذها الحقيقي فوا رأسك لو شهد هذا الناعم أهوال ذلك اليوم، لشاب قبل أوان المشيب.
وبينما الرجل في الكلام سمعت ضجة عظيمة خارج الهيكل كادت تقلقل دعائمه، ثم تلا هذه الضجة زحام شديد على أبواب الهيكل، فأرسل الملك من يأتيه بخبر ذلك، فاندفع الرسول يشق عباب ذلك الجمع الحاشد، ولكنه ما بلغ الباب خارجا حتى لقيه عليه داخلا رجل غائب الرأس في أكاليل الغار، كأنه القمر المنير بشرا وجمالا، أو الأسد الفتي مهابة وجلالا، فتنحى الرسول حتى تجرد حماس عن سلاحه وكان الناس قد انشقوا نصفين وانقسموا صفين، فتمهد الممر للبطل المصري فقصد نحو بهرام لا يلوي على أحد سواه، حتى إذا صار منه وجها لوجه صاح يقول له: هل تم العقد بعد أيها السوقة النذل؟
قال كلكاس: لقد قلتها له قبلك فلم يصدقني يا سيدي حماس، ولكن ليطمئن قلبك فقد حلت دون تمامه، ولولا ذلك لجئت في الزمن الأخير.
وكانت لادياس قد عرفت حبيبها من أول نظرة، فلا تسل عن فرحها به وشدة سكرها من فرط السرور، ولكنها تركت كلمة الفصل في الموقف لوالدها الملك.
وكان أورستان قد عرف حماس أيضا بمجرد النظر إليه، فهمس في أذن الملك بذلك، ثم دار بينهما حديث قصير كانت نتيجته أن أورستان تقدم حتى استقبل الأميرة، وخاطبها بصوت يسمع الملأ، فقال: باسم مولاي الملك أسألك يا مولاتي الأميرة: هل هذا منقذك حماس؟
الأميرة: نعم هو بعينه.
قال أورستان: وهل ترضين أن يكون قرينك الكريم.
قالت الأميرة: بعد مشيئة جلالة الملك.
قال أورستان: كذلك شاء الملك فتقدموا أيها الكهنة العظام، وأدوا عملكم بيمن وسلام.
قال بهرام: ولكني أيها الوزير لا أزال على دعواي بإنقاذ الأميرة، وإني أنا نجيتها من الغم لا هذا الرجل، وقد وعدني الملك بالقران فلا يفكه من وعده إلا قرار القضاء، إن كان في البلاد شرائع ولها قضاة.
فحين سمع الملك والشعب هذه العبارة حاروا ودهشوا، وتحولت أبصارهم إلى حماس ينظرون ما يكون من جوابه، فالتفت الفتى إلى منازعه وقال: البلاد أيها الأمير عامرة بعدل الملك ملآنة من قضاته العادلين، ولكن مسائل الشرف والشهامة يفصل فيها بطريق الشرف والشهامة، فإن كان ولا بد فإن السيف بيننا وهو خير الحاكمين.
قال بهرام: وأنا قابل حكمه.
قال حماس: إذن فاخرج بنا خارج الهيكل، وهناك تعطي السعادة من تشاء وتمنع من تشاء.
فاستحسن الجميع عمل حماس هذا، وخرج الرجلان توا يتبعهما نفر من ضباط الملك، وخلق كثير من نظار الحروب وعشاق المعارك، وبقي الملك والأميرة وسائر وجوه المملكة في الهيكل ينتظرون المبارزة.
المبارزة
لا يجول في نفس القارئ عند سماع هذا اللفظ ما كان يجول في أنفس الساموسيين؛ إذ هم في الهيكل ينظرون ويسمعون، من أن القتال لا بد أن يسفر عن مصرع بهرام، وانتصار حماس عليه لأول وهلة، وحال الصدمة الأولى. وهذا لأنه لم يعهد في بهرام أنه بطل شديد وكمي صنديد، وأن الذي جعل فيه مشابه خلقية من حماس قد خلقه كذلك على مثاله في ثبات الجأش وشدة البأس؛ بحيث لا يستخف بشأنه، ولا ينزل به كثيرا عن قرنه، والآن نصف المبارزة فنقول: لما صار البطلان خارج الهيكل ولم يعد يؤخذ عليهما حمل السلاح، ومراس النزال والكفاح، اتفقا على أن يجعلا ميدان الهيكل ساحة الملتقى لقربه من محفل الزفاف.
فحين بلغاه اختارا السلاح لا مصريا ولا فارسيا ولكن يونانيا؛ ليكون أقرب للعدل وأجلب لتكافؤ القوى، فوقع الاختيار على الحسام البتار، ثم التف حولهما الشهود كالحلقة المفرغة من فرط الزحام، وشدة الاستحكام، وعندئذ بدأ القتال فترك حماس لمبارزه الوثبة الأولى فحمل عليه بهرام بحد الحسام حملة يجفل عن مثلها الحمام، فتنحى حماس فضاعت وطأتها الثقيلة على الهواء، ثم وقف الأمير يلتقي ويتقي وحماس أمامه كالنمر المغضب يروح ويجيء ويصول ويجول، وهو لا يتمكن منه في حركة من الحركات، ولا يغني عنه منه الثبات في الوثبات، حتى عيل صبره لهذا الحال، وظن أنه غير قادر على خصمه، ورأى الناس عليه ذلك؛ فأوجست الأنفس خيفة ودب الروع في القلوب.
وكان بهرام أول أمره يبارز براز المستقبل المستميت، حتى إذا نظر إلى سواعد الخصم وقد كلت وملت، ورأى الخور يأخذ عليه في القتال مأخذا، عاوده الأمل بالحياة وثاب إليه الرجاء بالمستقبل، فازداد قوة على قوة، واستجمع كالأسد ليعقب الوثبة القاضية.
وفي هذه اللحظة زأرت الأسود في قفصها فملأ دوي زئيرها الآفاق، وجرى ذلك في خروق مسامع الفتى فنفر كالليث الجريح، وترنم يقول بلسان فصيح:
تعيرني الأسود بأن قلبي
يخور ولا يساعد ساعديا
وقلبي لو رأته الأسد يوما
وجسمي في الثرى لرأته حيا
يفوز الخصم بي في كل آن
وكنت بأن أفوز به حريا
فما في صدره ما عند صدري
ولا في كفه ما في يديا
ولكن غادة أخذت فؤادي
لينصرني فرديه إليا
وعلى أثر هذا النشيد تصادم البطلان، والتقى الخصمان، فكانت الدائرة أول الملتقى على حساميهما؛ إذ تحطما من شدة الصدام.
ثم طارا عن أيديهما إلى فضاء بعيد، وكان سكر القتال قد أعماهما وأصمهما فلم يشعرا بما أصاب السيوف، ولا طلبا سواها لاستئناف الضراب بل اكتفيا بالسواعد، وما هي إلا هنيهة حتى تماسا فتمازجا فاتحدا، وكان حماس في هذه الأثناء قد شبك يديه من خلف ظهر الأمير، فلم يدر الناس إلا بهما كليهما قد سقطا متحدين كما كانا في حال القتال.
وعندئذ أقبل الملأ عليهما يحركونهما وهم لا يشكون أنهما فارقا الحياة، أو أن أحدهما بالأقل قد مات، وفي الواقع ما لبث حماس أن خلص جسمه من ذراعي الأمير، وكان كأنه منهما بين ناب الليث والظفر من قوتهما قبل الموت وجمدوها بعده، فنهض الفتى قائما بين تهليل الشعب وهتافه، فكان أول ما أتى على إثر هذه الإفاقة أنه جثا عن رأس القتيل ثم قبله من فوق جبينه البارد، وهو يبله بعبراته ويقول: «إلى الحياة الأبدية أيها البطل العظيم، فوا حرمة الآلهة ما وجدت في البشر نظيرك، ولا عهدت في السباع مثيلك.»
العقد
وكان نبأ انتصار حماس على الأمير بهرام وقتله إياه بالساعد لا بالحسام قد نقل إلى الهيكل في حينه، فسر الملك ومن معه به سرورا لا مزيد عليه، وأنه لم يعدل عشر معشار ما استحوذ على الأميرة من الفرح والحبور.
فصدرت الإشارة حينئذ بعودة البطل حماس إلى الهيكل، فعاد بين خلق لا يحصى ممن شهدوا الموقعة، وهو يكاد ينوء بأكاليل الغار، ويختفي فيما ينثر عليه أينما سار، من ورق الغصون والأزهار، فلما تراءى شخصه آيبا قوبل في الداخل بمثل ما لقي في الخارج من ثناء الناس وإعجابهم، وإشارتهم إليه أينما توجه بالبنان.
حتى إذا اقترب من الملك تقدم بوليقراط فصافحه ثم قبله وهناه على ما نال من عظيم الفوز وباهر الانتصار، وحذا عظماء المملكة بعد ذلك حذو سيدهم فتقدموا واحدا بعد واحد فصافحوا بطل اليوم والأمس وهنئوه بما أوتي من صفات الشجاعة الجلائل.
وبعد ذلك أشار الملك إلى الكهنة أن يعملوا عملهم، فاعترضه حماس قائلا: «إنني أعد مصاهرة الملك من أشرف النعم وأجل السعادات، ولكني أتمنى على جلالته أن يجعلني على وعد منها الآن، حتى أستوفي الشرط الأول من شروط القران، أما العقد فلا يكون إلا في آخر هيكل من الهياكل الأربعين اليونانية، التي سأبنيها لعروسي الفخيمة في بلادي ووطن آبائي وأجدادي.»
فلم يبق في نفس أحد من الحضور تلقاء هذا الشمم العالي شك أن بين جنبي الفتى نفس ملك عظيم، وأن رجلا يكون بهذه الصفات النادرة، وعلى هذا الجانب من شرف الأخلاق، يسير عليه إذا عقد العزم أن يقول ويفعل، إلا أنه لم يسع الملك - على إثر ذلك - إلا قبول إشارة حماس على ما فيها من التطوح في الآمال، والتطرف في الثقة من الحال والمآل، فأجاب صهره بأنه راض بما قضى به، وأن لادياس منذ اليوم وديعة لدى أبيها يطلبها متى شاء.
ثم انفض المجلس وخرج الملك ويده في يد صهره وهما يتحادثان، ثم صعدا في المركبة السلطانية فسارت بهم تشق عباب الجماهير من أهالي ساموس وهم بين المهابة في حماس وإكبار، حتى بلغت القصر، وهنالك هيئت له المقاصير اللائقة بمكانه من نسب الملك، وحمل إليها جميع ما تشتهي النفس من دواعي الراحة وفرط النعيم، ثم عرضت من بعد ذلك عليه أن يقيم بها ما شاء، ويرحل عنها متى شاء، فرغب الفتى في أن تكون مدة إقامته في ضيافة الملك شهرا من الزمان.
كلمة على حماس
كان المصريون قد فقدوا كرامتهم من زمن في أعين الأمة الساموسية وسائر الأمم الأجنبية؛ وذلك بسبب ما اشتهر عن فرعون أبرياس (ملك مصر يومئذ) من نقضه عهده مع الملك سيدياس ملك يهودا من بلاد فلسطين، وكان قد عاهده أن يمده بجيوشه لحماية مملكته من غارة الملك بختنصر، حتى إذا أغار الأشوريون على بلاد سيدياس لم تكن جنود مصر وصلت لتنجد الضعيف على القوي، فوقع بيت المقدس في قبضة بختنصر، فنشأ عن ذلك فقدان كرامة المصريين في أعين الأمم المعاصرة، بعد أن كانوا إلى ذلك الحين المثال المحتذى بين الشعوب في كرم العهد ورعاية الذمام.
على أن خيانة الملك هذه كانت أشد تأثيرا في رؤساء الجنود المصرية أنفسهم منها في الأجانب؛ لأنها إنما تمس كرامة الجيش مباشرة وتوصل الأذى إلى شرفه الرفيع.
وكان حماس من ضباط الطراز الأول في الجيش، وله سطور في سجل الانتصارات المصرية، وكان قد اتصل أخيرا بخدمة الملك الخصوصية، فأتيح له أن يطلع على نوايا أبرياس، نحو الملك سدياس، وما يضمر من خذلانه والتخلي عنه ساعة الشدة، فعارض في ذلك أشد المعارضة، وكان وحده في معية الملك لسان الجيش والمدافع عن شرفه وكرامته، حتى إذا أخفق مسعاه لم يجد بدا من الاستقالة فاستقال.
رأيت ملكا بلا استقامة
لا صدق فيه ولا سلامة
فعفت باب الأمور حتى
خرجت بالعز والكرامة
وكانت أحاديث لادياس في ذلك الحين قد ملأت الآفاق، وأخذ الشجعان في كل البلاد يشتغلون بأمرها وينظرون إليها عن جوهرة في صدف الأخطار، لا يغوص عليها إلا كل مخاطر عنيد جبار.
وإذا كان حماس في جملة من بلغتهم أوصاف الفتاة، وما يعترض دون اقتناصها من الصعوبات، التي تكاد تكون من المستحيلات، لم يلبث أن زينت له البطالة ركوب هذا المسلك الوعر، والتماس المزيد من الشهرة في اصطياد عنقاء ساموس، فاشترى لهذه الغاية مركبا ثم سافر عليها قاصدا الجزيرة، فالتقى في طريقه بمراكب أورستان، وكان من أمره المعروف بعد ذلك ما كان.
هذه كلمة نوردها عن حماس، وهو على أبواب مصر، ليعلم القارئ كيف كانت صفات الفتى، وهو في عنفوان صباه، وما كان عليه من قوة العزيمة، وثبوت الإرادة وشدة الإقدام، إلا أن المدة التي ارتاح إلى أن يقيمها في قصر الملك ضيفا كريما على بوليقراط وأهل بيته ورجال حاشيته، كان من شأنها أن تحدث تغيرا عظيما في أخلاقه وأطواره، لا بد تظهر نتيجته في مستقبل الأيام، فإن التمدن اليوناني وهو أدبي محض كان أجمع لشمل اللذات، وأوعى لصنوف الطيبات، وأسمى بالقوى العقلية لعلى الدرجات، من الحضارة المصرية التي هي بعكس الأولى محض مادية، لم توف قسطها من الفنون الجميلة، ولم يرزق أصحابها هبة الفكر الجليلة.
فكان حماس من قصر الملك في معرض جامع لأسمى مظاهر تمدن اليونان القديم، وأبهى مجالي عزهم والنعيم؛ حيث التفت فوجد حوله عقولا في درجة عالية، وأفكارا في منزلة عظمى، ولغة مملوءة من الحياة قادرة على الغايات، وفنونا جاوزت في الجمال حد الجلال؛ من نقش وتصوير وغناء وموسيقى وشعر وخطابة، إلى غير ذلك مما هو الصبغة الخاصة بالمدنية اليونانية القديمة، فلا غرو أن يكون للفتى من ذلك كله خير مدرسة متممة لما هو عليه من الأخلاق المصرية القويمة.
حتى إذا أوشك الشهر ينقضي، ولم يبق إلا أن يستعد حماس للسفر عائدا إلى بلاده، أمر الملك بثلاث من السفن السلطانية، فهيئت ركابا له تحمله إلى حيث يريد الذهاب.
ولما كان يوم الرحيل ركب في واحدة منها، بين خلق لا يحصى من الشعب الساموسي خاصة، مشيعين ضيفهم العالي بالقلوب والأبصار، ثم تحركت الفلك تشق به العباب وتغالب التيار.
الباب الثاني
الحوادث في مصر
نظرة تاريخية
كان الحاكم على الأقاليم المصرية في الزمان الذي نحن بصدد الكلام عنه، ملك من ملوك العائلة الإحدى عشرية، يقال له فرعون أبرياس.
وكان قليل المهابة ساقط الشأن في الداخل، ميت الذكر في الخارج، لا من الفراعنة المحاربين، ولا من عشاق السلم الممدنين، لكن من فريق يمرون بالعرش مرا، وما أجلسهم عليه إلا الميلاد، ولا نالوه إلا بفضل الآباء والأجداد.
وكانت مخايل السعادة حين ذاك لأمة الفرس، فبينما إفريقية نائمة بنوم مصر ساكنة بسكونها، كنت ترى آسيا تموج وتتحرك، وهي من العناية على وعد، والجواري يجرين لها بالسعد، وقد شرع الدهر يمثل على مسرحها الهائل رواية مما يخرج للناس بين العصر والآخر، علا فيها فوق علياء الفراعنة ودك بغيهم ببغي من مثله، والله للباغين بالمرصاد.
وما بطل رواية الدهر في هذه المرة إلا الملك الأشهر كيروش ملك ملوك فارس وميديا، وكان أول إقباله وبداية فتوحاته مشتغلا بإخضاع البلاد المجاورة التي هي طرق جيوشه الجرارة، وشعاب عارضها الهطل إلى شاسعات الممالك وبعيدات الأمصار.
إلا أن فارس مع ما هي عليه من سعود الطالع ويمن الأمر، والثقة من الدهر، كانت لا تزال تهاب مصر في ماضيها بقدر ما كان ملكها الأشهر كيروش جميل الظن في الحضارة المصرية، شديد الإعجاب بها، مؤملا منها المنفعة لمملكته الناشئة، والخير لأمته الحديثة العهد بالفخار والمجد، وكل من قرأ تاريخ هذا الملك الحكيم، وتأمل معاملته لفرعون مدة حكمه الطويل؛ عرف - لأول وهلة - أنه إنما كان يريد أن تبقى مصر ولو إلى حين، بمثابة مدرسة كبرى للفرس يحذون في المجد مثالها، ويسيرون فيه على نهجها الفاخر الجليل.
إلا أن مثل هذه الحكمة من ملك فاتح مغوار مثل كيروش، لم تكن لتبقى سليمة الخلال، مأمونة الاتصال، إلا إذا قوبلت بأعظم منها من لدن ملوك مصر، وإذ كان فرعون إيرياس دون هذه المهمة رأيا وذكاء، وحذقا في السياسة ودهاء، فقد ظلت مصر في أول أيامه على خطر الوقوع يوما ما في قبضة الفرس.
على أن الدهر وهو قد عود مصر أن يعطيها من حيث يحرم، وأن يؤمنها من حيث يخيف، كان قد أحتاط لملكها فهيأ له من هو أصلح له ومن يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجه إليها، أصلح له ومن يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجه إليها، فإن الجند في مصر ما لبثوا أن سخطوا على الملك وسياسته المبنية على هجر المعالي، معالي الفتح والانتصار، والانكماش في مثل سلوك البهائم حتى أوشك الشرف العسكري المصري أن يؤذى من دوام هذه الحال.
ولم تكن حركة الخواطر في الجيش ضد الملك بأقل منها في سائر جهات الحكومة، وعلى الأخص في دوائر الصناعة التي مات يومئذ بموتها خلق كثير.
إلا أن الفتنة ما زالت نائمة لا يجسر أحد على إيقاظها، حتى اشتدت القلاقل الداخلية فظهر فيها جبن الملك في غاياته، وبدا للناس منه الحمق عند نهاياته، فطمع فيه من طمع، وتجرأ عليه من تجرأ، وأصبح الأمر فوضى، واستعد الجيش والشعب في مصر لظهور جندي سعيد يأخذ التاج غصبا، وهذا الجندي هو البطل حماس - كما سترى بعد.
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
كانت شهرة حماس وأنباء شجاعته الفائقة قد سبقته إلى وطنه، فكان لها أحسن تمهيد من ماضي الفتى في خدمة الجيش، والصفات العالية التي طالما امتاز بها من بين أقرانه.
وإذ كانت أخبار الشجعان في كل أين وآن ، يغالي فيها ويبالغ حتى تبلغ إلى الخرافات، فقد صارت أحاديث حماس في مصر موضع اشتغال الأطفال، فما بال الرجال، وأصبحت هي الحكايات والأمثال، فنشأ عن ذلك تمكن حب الفتى من قلوب الشعب وسريان المهابة له في الأنفس، قبل أن تطأ قدمه تربة الوطن آيبا من جزيرة ساموس.
ولم يكن لحماس حاسد على هذه الشهرة الفائقة سوى الملك أبرياس، إلا أن الغباوة دفعت به إلى تدبير حيلة يبرأ الصبيان منها، وذلك أنه يعيد حماس بمجرد وصوله إلى وظيفته في البلاط، وكان الفتى قد استقال منها قبل سفره إلى جزر اليونان، بلا باعث سوى كونه ضابطا ذكيا حرا يقول الحق ولا يحيد في حال من الأحوال عن الصدق، وللأسباب التي تقدم ذكرها فأراد الملك هذه المرة أن يطفئ نور حماس، باستخدامه في القصر؛ حيث الأيدي مغلولة عن الأعمال، وحيث مظهر الملك والسلطان فوق كل مظهر وشأن.
فلما وصلت السفينة اليونانية المقلة لخطيب لادياس، كانت على الشاطئ حوالي نقراطيس «فوه الآن» خلائق لا يحصى لهم عدد قد أتوا من أقاصي البلاد، لتحية بطل مصر الشاب حال وصوله وعرفانه بالذات، مثل ما عرفوه بالصفات.
وكان الجمع من كثرة العدد وشدة الزحام؛ بحيث لم يكن عسيرا على حماس أن يقوم بعمل عدائي تكون نتيجته وبالا على البيت المالك، وتستحيل شرارته في أقرب وقت إلى جمرة لا طاقة لأبرياس بإطفائها، إلا أن نشوة الشهرة لم تغلب الفتى على حزمه وقوة عقله، فوقف بالآمال عند حده، مكتفيا بهذه الخطوة الأولى العظمى في سبيل المجد والفخار.
حتى إذا ألقت السفينة مراسيها، ونزل حماس عنها تحوطه السفينتان الأخريان، كأنهما لعقاب فلكه جناحان، ضجت الألوف من الناس بالهتاف الشديد الموصول، وكان أول من تقدم فحياه مصافحة رسول الملك أبرياس، وكانت له أيام على الشاطئ ينتظره مع المنتظرين، ويفتش عنه السفين بعد السفين، فحين وقعت عليه عينه خف لاستقباله وبالغ له في الخطاب، ثم أخبره أن أنباء الشجاعة الفائقة كانت ترد على الملك أولا بأول وفي حينها، وأن جلالته كان يسر بها ولا يستكثرها على صفاته العالية المعلومة لديه، وأنه من أجل ذلك كله وتذكارا لخدماته السابقة الجليلة في الجيش قد قلده رتبة القائد، ورقاه لوظيفة حارس أول لذاته الفخيمة.
فتلقى حماس خبر هذا الإنعام بالقبول الحسن والشكر الوافر، وهو في نفسه حذر من الملك مرتاب، ثم قدم له الرسول جوادا كان قد أعده لركوبه، فركب الرجلان وسارا من فورهما قاصدين مدينة ساييس (صان الحجر الآن) لمقابلة الملك في قصره بها.
أين اللوح؟
كان وصول حماس ورفيقه إلى ساييس ليلا؛ أي بعد أن نام الملك وهدأت المدينة، فلم يبق بها من ساكن يخشى تحركه، وكأن هذه أيضا حيلة من أبرياس دبرها في نفسه، ثم أوعز إلى رسوله المرافق لحماس بإنفاذها، فأنفذها على ما يرام.
وفي الواقع كان باب المدينة الذي دخل منه الرجلان لا يزال مفتوحا، مع أن الأصول المتبعة يومئذ لم تكن تسمح ببقاء أبواب المدينة مفتحة إلى مثل الساعة التي وصل فيها حماس من الليل.
ثم إن الفتى لما وصل إلى القصر؛ ليقضي بقية الليل في غرفة منه - كما هو من واجبات وظيفته الجديدة - وجد أبوابه مفتحة كذلك، كأنها تنتظره ريثما يصل ثم تغلق، ولم يكن من الأصول أيضا أن تبقى أبواب القصر مفتحة بعد انصراف الناس منه، ودخول الملك إلى مقاصير الحرم.
فاستنتج حماس من هاتين الحادثتين أن الملك اتفق هو ومندوبه أن يكون وصوله مع حماس في ساعة متأخرة من الليل؛ لكيلا يشعر أحد بقدومه، فتتولد في المدينة حركة لا تحمد عقباها، إلا أن الفتى لم يعر هذا العمل الصغير كبير اهتمام، بل استمر في محادثة رفيقه وملاطفته، حتى صار على باب الغرفة الخاصة بالحارس الأول في القصر، وهنالك شكر للضابط حسن قيامه بتلك المأمورية التي يعدها من الملك تشريفا له لم يكن يستوجبه، ثم تركه ودخل مقصورة نومه لينام، وما كادت المضاجع تطمئن بجنبه حتى أخذه الكرى، فرأى في منامه نفس الرؤيا التي رآها وهو على الدرب الأصفر؛ إذ هو بجانب لادياس، وإذ هما يتوسدان الحصى والرمال، فهب من نومه بحالة المجنون وهو يصيح: أين اللوح؟ أين اللوح؟
وعندئذ لم يدر الفتى إلا برجل يتقدم نحوه في الظلام وهو يقول بصوت منخفض: لا تخف يا سيدي حماس، لا تخف يا سيدي حماس، إنني من أصدق محبيك وأكبر أنصارك، ولولا ذلك ما استهدفت بحضوري في مثل هذه الساعة ودخولي غرفتك على هذه الصورة، فانزل عن سرير نومك وأنا أريك أين اللوح.
فما استتم الرجل حتى كاد حماس أن يطير لبه دهشا واستغرابا، فقال للرجل بلسان معقود بالحيرة: ومن ذا الذي أتى باللوح من ميدان الهيكل، وأنا على يقين أنني تركته نسيا هنالك عندما كنت أبارز بهرام.
قال الرجل: لا، بل هو هنا يا سيدي هنا ... أمامك ... تحت قدميك فانزل وأنا أريك إياه.
قال حماس: لعلك مجنون أيها الرجل أو أنت آت لتفتك بي غدرا، فإن كان لك في الحياة أرب، فاخرج من فورك، وإلا قتلتك شر قتلة.
قال الرجل: بل أنت المجنون يا حماس؛ إذ ليس اللوح على ميدان الهيكل، بل هو أمامك كما قلت لك ... تحت قدميك وليس عليك إلا أن تنزل عن سرير نومك، ثم تخطو خطوة واحدة لتراه، فانزل هات يدك، إنني ما أتيت لأفتك بك كما زعمت ظلما، بل أنا أريد أن أنقذ حياتك.
ثم إن الرجل أخرج من جيبه فتيلا فأشعله، فلما تأمل حماس صورة مفاجئة في الضوء اطمأن واستأنس ونزل عن مضجعه قائلا: وأين ذاك اللوح أيها الرجل؟
قال الرجل: ها هو بين عينيك، تأمل!
فتأمل حماس أرضية الغرفة، وإذا بالتحقيق فيها لوح لا تكاد العين تعرف حدوده منها، إلا إذا وجدت من يهديها له، وهو عظيم يكاد يشغل نصف مساحة الغرفة، وقد دار بسرير النوم من جهاته الأربع، فحين حققه حماس رفع عينيه ثم سأل الرجل قائلا: أوتعني باللوح هذا؟
قال الرجل: وأي لوح يهمك أنت أكثر من هذا، وهو قبرك الذي حفر لك، فبينا أنت عليه في سبات عميق، إذ أنت تحت الثرى في قرار سحيق.
قال حماس: لقد حسبتك تتكلم عن اللوح الإلهي، إذ هو وحده يهمني ولا يهمني سواه، فانطلق الآن لشأنك ودعني ونفسي والأحلام، فقد كفى ما قطعت علي المنام.
قال الرجل: إن الذي أعطاك الإقدام والبسالة، سلب منك عقلك لا محالة، ولو لم أكن أضل منك عقلا لما سعيت في إنقاذك، ولا خاطرت بحياتي من أجلك، والآن فاستعد للقاء حينك، وإني أستودعك النار، وبئس القرار.
ثم إن الرجل عالج الباب بلطف؛ فانفتح فخرج ينسل انسلالا، تاركا حماس وحده في الغرفة، وكأنه لم تجر بينهما تلك المحادثة الطويلة، ولا علم حماس من محدثه؛ لأنه إنما يضطجع في فراش المنية، ويقرب نفسه للهلاك كما تقرب الضحية، بل انثنى إلى المضاجع فانغمس في خزها وكتانها، وقد ذكر باللوح لادياس، وأياما تقضت له في البؤس بسببها، ثم في النعيم بقربها، فتهيج ساكن أشجانه، وتأجج كامن نيرانه، وأخذ يعض بنان النادم الآسف على ما أفات نفسه من نعمة الحصول عليها، ونعيم المقام لديها، على حين قد تهيأت له المنى، وكان له عن كل ذلك الطمع غنى.
وبينما هو في هذه الأحلام، بين اليقظة والمنام، لم يدر إلا باللوح كان وطاء، فصار غطاء، ثم بالسرير يهوى به في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى استوى على مثل اللحد الضيق من الأرض، فاستقر به الهبوط هنالك فنهض حماس واقفا؛ حيث ما في الموت شك لواقف.
ثم التفت فرأى الجند من كل الجهات وقد سددوا نحوه السهام، لا ينتظرون إلا الإشارة ليذيقوه كأس الحمام، فصاح عندئذ قائلا: (أخيانة يا قوم؟) فلم يجبه إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع، فلم يبق في نفس الفتى شك ساعتئذ أن الملك قد اغتاله، وأن منيته قد دنت لا محالة، إلا أنه تجلد للشماتة، ولبس للموقف لبوسه من الاستجماع والوقار، فقال يخاطب الجلادين (إذن فاعملوا عملكم؛ فإني مستعد للقاء الدار الأبدية) فلم يجبه في هذه المرة أيضا إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع.
وكانت هذه الهنيهة بين النشيدين كافية لرد العاشق إلى ادكار معشوقه، والخاطب إلى الفكر في خطيبته، وما وعدها من مستقبل بالحب سعيد، وعيش في الهناء مديد؛ بحيث أصبح دينا عليه أن يحيا لتحيا منها الآمال، وأن يعيش من أجلها على كل حال.
وعلى إثر هذه الخطرات جبن البطل وخذلته نفسه الأبية لأول مرة، فسكبت عيناه الدموع وهو يرفعهما نحو سماء الحب ويقول: (أيها الآلهة العظام ثبتوا برحمتكم أقدامي، وأعينوني على رؤية هؤلاء الجلادين) فجاءه هذه المرة أيضا من الكهنة خلف الجند يشيرون بنشيد الموت المحزن الرائع.
وعندئذ أيقن حماس أن الإشارة صادرة للجند لا محالة، فأمسك عن الكلام، وسدد صدره نحو السهام، كمن يستحث الحمام، وفي هذه الأثناء تنحى الجندي الذي أمام حماس، وقال بصوت جهوري رهيب «الملك».
فحين سمع سائر الجند هذه الكلمة، أمالوا الأسلحة وانحنوا بهيئة تعظيم يستعدون لتحية الملك، حتى إذا تراءى شخصه كان حماس أول مؤد للتحية، فأشار أبرياس للجند أن يبتعدوا ففعلوا، ثم قال يخاطب حماس: أعرفت أين أنت الآن يا حماس، أرأيت كيف أمسيت؟
قال حماس: أسير احتيالك يا مولاي، ورهين اغتيالك، فعجل؛ لعلي أستريح من رؤية هؤلاء الجلادين.
قال الملك: ولكني إلى العفو أميل يا حماس.
قال حماس: وهو منك أحرى يا مولاي.
قال الملك: لكن العفو معلق بشروط ثلاثة، فإن تحققت حصل، وإلا فلا سبيل إليه.
قال حماس: وما هي هذه الشروط يا مولاي؟
قال الملك: أن تعترف أولا أنك استوجبت عقوبة الإعدام، بما صرحت به في ساموس من تعلق آمالك بالملك، وسعيك في اغتصاب تاجي وعرشي، وثانيا أن تكتب إلى بوليقراط بأنك لم تعد تطمع في ملك سيدك ومولاك، بل تكتفي بما بلغت إليه في حكمه من رفيع الرتب وعظيم المناصب، وثالثا أن تقسم بالآلهة وبالشرف العسكري أنك لا تخونني ولا تتصدى لإيذاء عرشي، بل تكون له طول حياتك الخادم الأمين، والناصر في الملمات والمعين، وهذا كله بالكتابة وفي هذه الورقة، قال هذا، وقدم للفتى طرسا وقلما ودواة، فتردد حماس بادئ بدء بين قبول هذه الشروط ورفضها، إلا أن البطل لم يلبث أن انخذل، وناب العاشق فامتثل.
فمد حماس يده وأخذ من الملك أدوات الكتابة، ثم كتب جميع ما أملى عليه ووضع اسمه بعد ذلك في أسفل الورقة، ثم دفعها إلى أبرياس، فتناولها فرحا مسرورا، وقرأها فألفاها كل ما طلب وأزيد، فطواها وجعلها في بعض جيوبه، ثم التفت إلى حماس فقال: الآن عفوت أيها القائد، وأعلم أنه لا تمضي أيام قلائل حتى أكون قد نقلت كبير حرسي إلى وظيفة تليق به في الجيش ثم أجعلك مكانه، فتكون قد رقيت في شهر واحد لرتبتين من أسمى الرتب في المملكة، ووليت منصبين من أرفع المناصب فيها.
قال: وأنا عاجز عن الشكر يا مولاي تلقاء هذا الكرم الباهر، وليس عندي ما أقدمه سوى الدعاء بدوام وجودك، قال: إذن فاطرح نفسك على السرير كما كنت، وهو يخف بك صاعدا حتى يبلغك غرفتك، قال: سمعا وطاعة واضطجع في السرير كالنائم، فتقدم الجند عندئذ وحركوا الآلات فتحرك السرير معها، فلم يكن كلمح البصر حتى صار حماس فوق الأرض بعد أن كان تحتها، فقضى بقية تلك الليلة في هواجس وأوهام، ويقظة ملآنة من الأحلام.
اتفاق غريب
أطاوع في لادياس الزمان
فيوما شجاع ويوما جبان
ويوما أطاع ويوما أطيع
ويوما أعز ويوما أهان
ويوما أراني رخي القياد
ويوما أراني عصي العنان
حلفت لفرعون لا خنته
وقد كان لي ولفرعون شان
ولولاك لم أهو ملك البلاد
ولولاك لم أسل قبل الأوان
يمين لأبريس في ذمتي
وأخرى لكم قبلها في الصيان
وهذي أتتكم بخط الفؤاد
وتلك أتته بخط البنان
فأصبحت إن خنتكم في الهوى
وإن لم أخن عهدكم قيل خان
كانت الأيام على حماس والأشهر تتعاقب عليه وهو في أعلى مكانة من رضوان الملك، بل هو الركن الأعظم في القصر والواسطة في عقد الحاشية، ترد إلى رأيه الآراء، ولا ترد مشيئته إذا شاء، وهو يزيد طاعة وامتثالا، كلما زاده الملك قبولا وإقبالا.
وكانت فرق الحرس وهي يومئذ يونانية مستأجرة، وهي تكاد تتفانى في حبه من دون الملك، وهو إنما جذبها إلي محبة ذكرى وقائعه في بلاد اليونان أولا، وبحسن معاملته لها وسيبه في راحتها ورفاهتها ثانيا.
وكان الملك قد أنجز حماس ما وعد في الليلة المشئومة، فولى كبير الحرس قيادة الجيش الاستعماري في فينيقيا، وجعل مكانه على قيادة الحرس العامة بطل هذه الرواية، فأصبح له بذلك النهي والأمر على أكثر من ثلاثين ألفا من جنود الحرس، والإشراف العام على سائر المعسكرات السلطانية في العاصمة.
إلا إن طاعة حماس لمولاه وبلوغه في الولاء، إلى هذا الحد لم يكونا ناشئين عن خوف ولا رجاء، ولا حب ولا استرضاء، ولكن عن محض تقيد باليمين المعلومة، في الليلة المشئومة؛ بحيث كان يخشى أن تغلبه المطامع على دينه، فيصبح له ولأبرياس شأن، وفي الواقع لم يكن يعوز حماس إلا حادثة تحرك من غرامه ما سكن، وتثير من آرائه ما كمن، لاسيما إن هي أتت من ساموس.
فبينما هو ذات يوم في نزهته بالمدينة يمشي في الأسواق، ويمر بمعالم الصناعة ومعاملها، ومخازن التجارة وحواصلها، وقف به المشي على دكان لرجل ساموسي من باعة الآثار اليونانية، وكان حماس من المولعين بصنائع اليونان وبدائعهم، فلبث هنيهة يتأمل فيما احتوته الدكان من ذلك، وكان لابسا حلته العسكرية اليومية، فعرف البائع منها أنه من عظماء الضباط في الجيش، فدنا منه وكلمه همسا فقال: لقد آل إلي أثر من أنفس الآثار، لا سيما في نظر عظماء الضباط أمثالك يا مولاي.
قال حماس: وما ذاك.
قال التاجر: إكليل من الغار مما فضل عن كبير الحرس القائد حماس، يوم خرج من مبارزة الأمير بهرام ظافرا منصورا.
فما كاد الرجل يستتم حتى اضطرب القائد اضطرابا بدت عليه دلائله، إلا أنه استرد جأشه فسأل الرجل قائلا: وأين هذا الإكليل؟
قال الرجل: في منزلي بالقرب من الدكان، فإن أذن مولاي فلينتظرني هنا لحظة ريثما أحضره.
قال حماس: على ألا تبطئ عني.
قال الرجل: لا تخف يا مولاي وإني مستبشر بوجودك، ولست أول من أقبل علي في هذه الأيام من الأغنياء والسراة العظام بفضل اللوح ... نعم اللوح ... اللوح الإلهي ... اللوح الرازق ... اللوح المسعد ... اللوح المنجي ...
قال هذا وهم بالذهاب، فمسك حماس بيده وسأله بلسان يتعثر من الدهش قائلا: ما هذا اللوح أيها الرجل ... ما حديثه؟
قال الرجل: حديثه غريب يا مولاي، ولكن لا يهمك، فدعني أذهب لأحضر لك الإكليل.
قال حماس: بل أنا أحب سماعه، وربما همني ذلك، فلا تذهب حتى تحدثني إياه.
قال الرجل: أعلم يا مولاي أنني قدمت مصر من سنتين تاركا امرأتي وولدي هذا - وأشار لصبيه - في ساموس، يتعيشان بها من بيع الآثار، كما أفعل أنا في هذه الديار، حتى إذا اطمأن بي المقام في ساييس، وسكنت إلى طول المعيشة فيها، بعثت إليهما أستقدمهما، فقدما بعد أن أشرفا على الهلاك غرقا، وكانت نجاتهما على اللوح الميمون، وحديث ذلك أن امرأتي مشت ذات مرة على ميدان الهيكل في ساموس، فوجدت في طريقها لوحا من الخشب فحملته، وعادت به إلى المنزل، لتجعله حطبا لنار الطبخ، قالت فلما هممت بكسره أحسست كأن يدي تخونني، ثم حاولت ذلك مرارا فلم تطاوعني يدي عليه، فتأملت اللوح فوجدته صالحا لنوم ابني، وكان يومئذ في شدة المرض ففرشته له، فوجد الراحة والعافية عليه.
قال التاجر: ثم أخذ الرزق يتيسر لامرأتي أسبابه والحياة يتسهل محياها، حتى استبشرت باللوح فعظم ظنها به، واشتد حرصها عليه، حتى إذا استقدمتها حملته معها في السفينة التي ركبت فيها للمجيء إلى مصر، فقدر أن السفينة غرقت فهلك جميع من فيها إلا امرأتي وابني، وكانت نجاتهما باللوح وعليه، هذا يا مولاي حديث اللوح، ولا تسل عما شمل أمري من اليمن منذ وجوده في بيتي، فإن الناس يقبلون علي أعظم إقبال، والرزق يأتيني فيربي علي الآمال.
قال حماس: وهل تمكنني من رؤية هذا اللوح؟
قال الرجل: ولم لا يا مولاي؟
قال حماس: إذن فائذن لي أن أذهب معك لأراه.
قال الرجل: على الرحب والسعة، فاتبعني يا مولاي.
فسار التاجر وحماس يتبعه حتى بلغا المنزل، وكان في نهاية الشارع الذي فيه الدكان فدخلاه، وهنالك طلب الرجل من امرأته اللوح ليريه القائد ، فأحضرته فتأمله حماس فعرفه من أول وهلة، فأخذه متلهفا وما زال يضمه ويقبله وعيناه تفيضان من الدمع، حتى رثى الزوجان لحاله، فسأله الرجل عن السبب ملحا فالتفت حماس إليه وقال: هل تبيعني هذا اللوح أيها السيد؟
قال التاجر: لا أبيعه ولو أعطيت فيه خزائن الأرض.
قال حماس: ولماذا وما فائدتك منه؟ فإن كان ما تصيب بسببه من الرزق الواسع، فأنا أجزيه لك كل يوم وأزيد، وإن كان ...
قال التاجر (مقاطعا): لا تتعب نفسك يا مولاي، فإني أفي لهذا اللوح كما وفى لزوجتي وابني، فلو كان لحياتهما ثمن عندي ما تأخرت عن مساومتك فيه.
فأطرق حماس برأسه هنيهة، وقد أقشعر بدنه واضطرب وجدانه، عندما تذكر يمينه للوح، وما شهد من وفاء التاجر له على حين كان الوفاء منه هو أحرى، ثم رفع عينيه وقال: هب إن كان الراغب فيه صديقكم حماس!
قال التاجر: لقد أشرق البيت بنورك، فأهلا بك يا مولاي وسهلا، ولكنني لا أبيعه أحدا ولو أنه الملك أبرياس.
قال حماس: فإن كان في بيعه خير لبلادك وسعادة لقومك، وملك مصر تنهى فيه أميرتكم لادياس وتأمر.
قال التاجر: إذن فهي حياة أعز علي من حياة امرأتي وولدي الواحد، وأنا في هذا الحال لا أبيعه بيعا، ولكن أقدمه تقديما.
قال حماس: وأنا أطلبه منك على هذا الشرط، ولكني أسألك أولا: أن تكتم الأمر كل الكتمان، ثانيا: أن تقبل مني عشرين ألف قطعة من الذهب تأخذ نصفها لك خاصة، وتنفق النصف الآخر في عمل عرش يليق لجلوس الملوك، وتكون قوائمه مصنوعة من خشب اللوح، ثالثا: أن تبقي هذا العرش عندك فلا تقدمه لي إلا إذا علمت أنني في خطر عظيم أو كرب جسيم، قال هذا وناوله قلادة كانت في جيبه تربي قيمتها على المبلغ الذي وعد به، فتناولها التاجر فرحا مسرورا، ثم خرج حماس وهو لا يبصر أين يضع القدم من شدة الاندهاش وفرط السرور.
كلكاس في مصر
كانت حامية منفيس وهي يومئذ الحامية الثانية للبلاد مؤلفة من الجنود الوطنيين الذين لم يكونوا مع الملك في جانب، وإن هم ظهروا في طاعته، واستمروا على الصدق والأمانة في خدمته.
وكانوا يحبون حماس ملء القلوب، ويستعين به قوادهم على قضاء حاجاتهم لدى فرعون وحكومته، وكانت له المراقبة عليهم بمقتضى وظيفته العليا في القصر السلطاني، فكان يذهب إلى منفيس بين الوقت والآخر لإجراء التفتيش العسكري، والنظر في شئون الحامية وانتقاد أحوالها.
فبينما هو ذات مرة في منفيس يباشر عمله هذا، تقدم إليه رجل متلثم، وقال له بصوت لا يجاوزهما سماعه. - أنا يا مولاي عبدك تاجر الآثار بساييس.
قال حماس: وفيم حضورك الساعة وماذا تريد؟
قال الرجل: أريد يا مولاي أن أقص عليك ما أصابني، بسبب العرش الذي صنعته لك من خشب اللوح المعهود.
قال حماس: وماذا أصابك؟
قال الرجل: أعلم يا مولاي، أن النار شبت في الغرفة التي هو مخبوء فيها مرتين، فالتهمت جميع ما فيها من متاع وأثاث، ولم يبق مما تأكل النار في المرتين سوى العرش مع كونه خشبا في خشب، فهو بذلك أول معرض للعطب، وقد لاحظت أنا وزوجتي أن الحريقين حصلا في يومي سرار البدر من الشهرين الماضيين، وكان حصولهما في ساعة واحدة وعلى صورة واحدة، وقد رأت زوجتي منذ ليلتين رؤيا هالتها، وأقلقني أنا أيضا سماعها منها، فعجلت إليك لترى في الأمر رأيك، ولتريحني من وديعتك التي تتهدد بيتي من الأساس إلى السقف، فقد رأت امرأتي أن البيت احترق مرة ثالثة، فغادرته النار تلا من رماد؛ وإذ كنت أعهدها صادقة الأحلام تبعتك إلى هذا البلد، فانظر الآن ماذا تأمر.
فأطرق حماس برأسه، ثم رفع عينيه ليكلم الرجل، وإذا هو بكلكاس قد كشف اللثام، فحين رآه عرفه أول وهلة، فأشفق من رؤيته وصاح يقول: كلكاس ... كلكاس هنا.
قال كلكاس: نعم يا مولاي، وإنه رسول الأميرة إليك ليذكرك وعودك وعهودك، وليقول لك عن لسانها إن السعادات بنات الهمم.
وإن الفرص إذا لم تغتنم، يندم تاركها حين لا ينفع الندم.
قال حماس: وما علاقتك بتاجر الآثار في سييس؟
قال كلكاس: هو أيضا سفير الأميرة في شئون الغرام، ورسولها من قبلي لتحقيق ذاك المرام.
فحين سمع حماس هذه العبارة ازداد دهشا على دهش، وكاد فؤاده أن تلفظه الضلوع من شدة الحنق، لذكر اسم الحبيبة أولا، ولغرابة هذه المفاجأة ثانيا، فقال: أعلم يا كلكاس أنك لا تبرح هذه الديار حتى يكون الأمر قد تم، وتكون أنت أول من يحمل البشرى إلى الأميرة باستقدامها، ولكني أحذرك من الهذي والهذر - كما هو طبعك - وأوصيك بالكتمان الذي لا كتمان بعده، والآن أرى أن تبقى في منفيس تراني ولا أراك، فإذا علمت أني أغادرها آيبا إلى العاصمة، فاحتل على مقابلتي لأطلعك على نتيجة مسعاي.
قال: سمعا وطاعة يا مولاي، وانصرف تاركا حماس في تفكير وتدبير، واحتيال على المراد الغزير.
توفر الشروط
لم يمض يومان على مجيء كبير الحرس إلى منفيس لتعهد حاميتها، حتى نشأت حركة بين الجند في جميع معسكرات المدينة، قلق لها القواد كثيرا، وأخر حماس من أجلها عودته إلى العاصمة، وبسبب ذلك أنه شاع في منفيس أن الجنود الاستعمارية في برقة (غربي الديار المصرية) شقت عصا الطاعة، وأنها غادرت مراكزها في المستعمرة، زاحفة على الوطن لعزل الملك وقلب هيئة الحكم.
وفي الواقع ما سرت هذه الإشاعة حتى وردت على حماس، أوامر الملك بتهيئة جيش منفيس للخروج إلى ملاقاة الثائرين وكبح جماحهم، وتبديد شملهم، قبل توغلهم في البلاد، وأنه هو؛ أي الملك، سيفد على منفيس بجنوده اليونانية ليمده بهم إن مست الحاجة، وليحفظ له خط الرجوع فيها إن دارت على جيشه الدوائر، فشرع حماس من فوره في تنفيذ الأوامر السلطانية بهمة هو بها جدير.
إلا أن السبب في عصيان جيش تونس لم يكن مجهولا لدى سائر العساكر الوطنية في مصر، وهو احتقار الملك للعنصر الوطني في الجيش، وسوء معاملته وتفضيله اليونان المستأجرين عليه، وإذ كان الجند كلهم سواء في هذا الشعور، لم تكن حركة الخواطر بينهم في منفيس، إلا ناشئة عن مشاركة إخوانهم الثائرين فيما يضمرونه من بغض الملك وما يظهرون.
فلم تمض ثلاثة أيام حتى أخذت جنود حماس أهبتها واستعدت، فخرج القائد بها إلى ملاقاة العصاة بين استياء الأهالي وكدر الجند أنفسهم، حتى إذا اجتاز بهم أبواب المدينة أقبل عليه كلكاس فعرفه القائد من لثامه، وأنكر عليه في نفسه هذه الجرأة، فركض جواده ليلاقيه حتى إذا اقترب منه سأله قائلا: هذا وقت الكلام يا كلكاس؟
قال كلكاس: نعم، ووقت العمل يا مولاي؛ فأنت الآن بين طريقين: طريق السلامة لك ولقومك وللأميرة عروسك، وطريق الندامة لك ولجميع من ذكرت، فأما طريق السلامة فالذي أنت تاركه، وأما طريق الندامة فالذي أنت الآن مالكه، فارجع من حيث جئت ولا تترك منفيس؛ فإنها حصن حصين، وركن أمين.
فأطرق حماس برأسه هنيهة، ثم التفت إلى من خلفه من القواد فخاطبهم على مسمع من الجيش قائلا، أتدرون أيها الصحب ما يقول هذا المفاجئ الروحاني؟ قالوا: بلى، قال: يزعم أننا إذا قاتلنا إخواننا المصريين أمطرتنا السماء حجارة لا طاقة لنا بها، ويزعم أيضا أن ثورة الجيش في برقة مكيدة دبرها الملك وأصحابه اليونان ليفنونا عن آخرنا، وما يفنوننا ولكن نفني بعضنا بعضا.
فحين سمع القواد المصريون هذه العبارة، فاضت قلوبهم من الحقد على أبرياس، ونقلوها برمتها إلى الصفوف، حتى إذا لم يبق جندي إلا سمعها انقلب الجيش للحين عاصيا ثائرا، وصاح بلسان واحد يقول: حماس يحمينا ... حماس ينتقم لنا، إلى ساييس ... إلى ساييس ... فلم يسع حماس عندئذ إلا الرجوع بالجنود والمسير بهم إلى ساييس لمقاتلة الملك وجنوده.
وكان الجيش اليوناني قد دنا من منفيس فاشتبك القتال بين الفريقين، واستمر من الضحى إلى الأصيل حتى قتل من الجانبين خلق كثير، وكادت النصرة أن تتم لأبرياس وجيشه الجرار، إذ تراءى على ساحة القتال رجل يحمل عرشا من أنفس ما رقا الملوك، وهو يصيح قائلا: هذا عرش السلام، سخره الآلهة للملك حماس أمازيس، فما كاد الرجل يستتم حتى ألقى اليونان أسلحتهم خاذلين الملك، منفضين من حوله، وأجلس القواد زعيمهم على العرش ثم حملوه على الأعناق، وجعلوا يطوفون على الصفوف من أهالي وعسكر، وقبض على أبرياس، ثم تحرك الجيش معتزا بالملك الجديد، وهو يسير به إلى العاصمة حتى دخلها ليلا، فإذا هي مفتحة الأبواب تستقبل الملك القائم بأكمل ترحاب، وعندئذ أمر حماس بالملك الأسير فسيق إلى القصر مراعى مكرما حتى ينظر في أمره.
إلا أن الشعب تجمع حول القصر يلح في طلب أبرياس، والملك المعزول يسمع تهديده ووعيده حتى يئس من الحياة، فأرسل إلى حماس في الفجر يطلب منه الأمان لبنته الواحدة ولم يكن له من الأهل سواها، فأجابه حماس إلى طلبه، وأنه يحافظ على حياتها ويضمن لها المعيشة اللائقة بها من بعده، فحين ورد هذا الجواب على أبرياس أخرج من جيبه ورقة مختومة وناولها الأميرة وقال لها: احفظي وديعتي لدى الآلهة هذه الورقة، فإنها صك منهم بالانتقام لأبيك من الغادرين، ثم قبلها وموج الدمع يحول بينهما، وخرج بعد ذلك إلى الشعب فلقي منيته للحين، وما اطمأن السرير بأمازيس حتى أرسل كلكاس إلى ساموس في وفد من وجوه المملكة وسراتها يستقدمون لادياس، حتى إذا قدم موكبها الفاخر زفت إلى الملك زفافا مشهورا، ألقى في يومه أساس أربعين هيكلا في الأوطان لمعبودات اليونان، فكملت بذلك الشروط الثلاثة للقران.
تليها رواية دل وتيمان أو آخر الفراعنة، وهي متممة لها ويعرف القارئ منها كيف زال ملك الفراعنة.
صفحه نامشخص