8

باب في الأرزاق والأسعار

الرزق نعمة من الله تعالى واصلة إلى العبد على حسب ما يعلم من مصالحه، وتلك النعمة حكمها حكم الملك في استقلالها، وكونها مضافة إلى من هي رزقا له، وإن جاز فيها ما يكون إضافته لجملة العباد من دون اختصاص كالمياه وكثير من أعشاب الأرض. ولهذا نقول أنه تعالى خلق جميع الأشياء لمنافع الحي، فكلما لم يتخصص به أحد، هو باق على الأصل في حسن انتفاع كل حي به لكونه مخلوقا لانتفاعهم به. ومعنى قولنا: إضافته لمن PageBegV00P030a هو رزقا له، هو تمكينه منه وجعله تحت يده وقبح منعه من الانتفاع به. ولا يلزم على ذلك أن تكون الكمية غير موزوقة وأن لا يكون لها رزقا لأجل خلوها من العقل لما حصل من المساواة بينها وبين العقلاء في الانتفاع. وإذا صح ذلك صح كون لها رزقا ينتفع به، فيقبح منعها منه كالحال في العاقل. ولا يغرض ذلك كونه ملكا لأنه المرجع فيه إلى الانتفاع، فقد قاتلت البهيمة العاقل في النفع ولم يثبت ثبوت يدها على ما هو رزقا لها كثبوت يد العاقل على رزقه، فلم يطلق عليها لأجل ذلك مالكة. وقلنا أنه رزق، فأطلقنا التسمية في موضع المماثلة، ولم نطلقها في موضع المخالفة. ويفارق الطفل للبهيمة من حيث أنه يؤول أمره إلى ما عليه العاقل، فأضفنا الملك إليه من دون البهيمة، ولا يطلق ذلك على القديم لامتناع الانتفاع عليه، فيوصف بأنه مالك لصحة حصول مالك ليس بمنتفع. فإن قيل: PageBegV00P030b فهل لأحد منع غيره من السبوق إلى المباح؟ كان الجواب أن المباح ما لم يتخصص به أحد، فليس لأحد منع الآخر السابق إليه، ولأجل ذلك حسن منا منع البهيمة من أذى البهيمة، وليس كذلك حسن منعها من الحشيشين والحيوان الميت الغير ملك لجريانه مجرى الحشيش. وهذا الاسم يطلق على كل ما يصل للعبد من النعم من ولد ودار ودابة ومال ومأكولا ومشروبا منكل ما ينتفع به، فقد تقرر في عقل كل عاقل حسن انتفاعه بما لا عليه فيه درك عاجلا أو آجلا ولا على غيره، وهذا أمر قائم في عقل كل عاقل. وإذا ثبت هذا فما اختص به العاقل، صار ملكا له. ولا يجوز لأحد نزعه منه إلا ويكون ظالما له، كما يكون ظالما له في نزعه من يده ما قد وهبه واهب مالك. وما لم يحصل بيده من المباح ويتخصص به فهو وغيره فيه على سواء لرجوعه إلى الأصل، وهو إباحته للكل. والاستملاك بالمعاوضات PageBegV00P031a كالاستملاك بالهبات، وذلك معلوم عقلا، كما علم وجوب البدل فيما أتلف عقلا، والملك بالميراث وجب سمعا. فلو نفينا والعقل لكان مباحا لارتفاع يد من كان يختص به، ورجوعه إلى الأصل في الإباحة، فيعود ملكا لمن سبق إليه، إذ لا فصل عند العقل بين زيد دون عمرو أو طائعا دون عاص. وإن سئل عما يؤخذ ظلما: أهو رزق للظالم؟ كان الجواب أن قولنا متقدما أنه هو ما له الانتفاع به وليس لغيره منعه منه. يخرج ما سأل عنه كونه رزقا له، لأنه ليس له الانتفاع به ولغيره منعه من أخذه، فوضح حصول الفرق فيما بين أخذ المباح وما ليس بمباح وفرق بينهما في الحكم. وتمكين القديم للظالم إلى أن جاز ما ظلم فيه لا يدل على جعله ذلك رزقا له. يدل على ذلك أنا لو مكنا زيدا من مال يحمله إلى من نختاره وأخذه وتصرف فيه كما يختار، لكان ذلك المال ليس له ولا تصرفه فيه حسنا، وإن كنا مكناه منه وجعلناه بيده، وكذلك لو أعطينا زيدا دينارين، أحدهما PageBegV00P031b وهبناه إياه والآخر لم نهبه له، لكان ما وهبناه إياه رزقا له وملكا، والآخر ليس كذلك، وإن حصل بيده وانتفع به، فالصورتانمعقولتان واختلافهما. ولو كان ذلك رزقا له مع ظهور الخطر لارتفع الملك وامتنع أن يعقل للتخصيص حكم، وكان يكون جميع ما بأيدي كل واحد من الناس رزقا له، وكان يقبح منعه، وحسن منعه معلوم عقلا وشرعا. فإن قيل: كيف صورة تحصيل هذا الرزق ومن أي الجهات حصوله؟ كان الجواب: قد ثبت أن الرزق منافع، وأصله من قبله تعالى. فإن قيل: فهل يحسن طلبها منه؟ كان الجواب أنه متى علم الإنسان أو ظن أنه في طلبه الرزق بسعي وكد وتصرف مخصوص قد عرفه العقلاء، لا يلحقه به ضرر، لزمه طلبه لما سبق في العقل من وجوب اجتلاب المنافع واستدفاع المضار، فلذلك حسن من الإنسان استنشاق الهواء وشرب الماء وتناول الغذاء. فالعادات التي أجرى القديم تعالى حصول الرزق عندها معلومة عند العقلاء من نحو PageBegV00P032a التجارة والصياغة والخدم إلى ما يجري هذا المجرى. وقد تطلب أيضا بالدعاء والابتهال، ويكون ذلك وجها في أن يرزق، ولا يلزم قبح الطلب لجواز قبح المطلوب لجواز أيضا أن يكون حسنا، ولهذا يجب الاشتراط في الطلب إن حسن. واعلم أن جميع ما أجرى تعالى العادة به من حصول الرزق عنده إنما هو تعريضا لطلب الرزق وليس هو مقتضيا لحصوله، فقد يقع التعرض ولا يقع الرزق وبالعكس، وهو تعالى متفضلا بتحقيق الأمل ونجاح السعي في الطلب، ونحن في طلبنا منه الرزق إنما نطلب منه أن يفعل ما يحسن منه أن يفعله، لا ما يقبح. فقد أمنا كون مطلوبنا منه قبيحا. فأما الأسعار، فهو بيع الأشياء بقيمة وثمن معلوم، ولهذا يقال: بعتك بسعر كذا وبعتك بقيمة كذا. والغلاء عبارة عن الزيادة في السعر عما كان الشيء يباع به في ذلك الصقع، والرخص هو نقصان في ذلك. وقد يكون الرخص والغلاء PageBegV00P032b من فعله تعالى ومن فعل غيره. فقد تميز هذا من هذا بصحة رفع أحدهما فتعذر رفع الآخر، والله أعلم. ومن حيث انتهينا إلى هذا الموضع فلنختم الكتاب عنده ونوصل الكلام فيما كنا وعدنا به في صدر الكتاب من رسالة في صناعة الاستدلال على طريق الإجمال وإظهار الطريق إلى هذه الصناعة وكشفها للطالب لها إلى حيث يصير قارئ هذه الرسالة، إذا وقف على علم، فتأمله، علم الطريق إليه والمقدمات التي يبنى منها البرهان عليه وعلم الطرق المضللة في كل ما يريد التماسه حتى يصير قادرا على الاستدلال عليه والمحاماة عما لعله يتوجه من الطعن فيه بأقرب طريق وأوجزها، لأنني رأيت الكتب المصنفة في هذا الفن أكثرها لا ينطوي على ما أشار إليه واضعها مع بعد غورها وطول رشاها. وعليه تعالى المعتمد في حراسة القول من الزلل وصونه من الخطل وتوفيقه في القول والعمل، وعليه أتوكل.

صفحه نامشخص